جريدة الرؤية العمانية:
2025-10-20@12:16:06 GMT

أين أهل الشِعر من منابره؟

تاريخ النشر: 7th, November 2023 GMT

أين أهل الشِعر من منابره؟

 

محفوظ بن راشد الشبلي

mahfood97739677@gmail.com

الشِعرُ ديوان العرب، عبر تاريخهم الطويل والممتد على مدى قرون من الزمان، وله مجالسه التي احتوته، ودواوينه التي دوّنته، ومنابره التي صَدحت فوقها حناجرهم، وحروفه التي خطّته أقلامهم؛ بل إن مجالس الشِعر عبر تاريخ العرب كان لها دور مُهم في تنشئة الفتيان منذ الصغر على صقل فن الفصاحة والإلقاء والتحدّث والخِطابة وقوة الشخصية لمواجهة الجَمع والحضور، وهو يتبع مدارس العِلم والتعلّم المختلفة والمتعددة إن لم يكن في طليعتها، والتي تخرّج منها شعراء العرب وعُلماؤهم المُبدعون والمُبتكرون والمُثقفون والمتفقّهون في شتّى علوم الحياة ومجالاتها العِلمية والأدبية الواسعة والمتعددة.

ويكفي دلالة على ذلك قول رسولنا الكريم صلوات اللّه وسلامه عليه عن رواية أُبي بن كعب في صحيح البخاري: "إن من البيانِ سحرا وإن من الشِعر حكمة"، ومعنى "حكمة" هنا الكلام النافع الذي يمنع من السفه، والحكمة هي القول الصادق المطابق للواقع.

وامتد إرث الشِعر والشعراء عبر تاريخ العرب الحديث وتواصل معه ذلك النهج ونشأت من خلاله أنواع ومقامات وتفرعات وبحور حديثة، ويكفينا فخرا كعُمانيين أن العالِم والنحوي الخليل بن أحمد الفراهيدي هو واضع علم العَروض في الشِعر وهو صاحب الخمسة عشر بحرا في الشعر الفصيح، وعبر امتداد التاريخ فإنه مرجع الباحثين في الشِعر يرجعون له وبالأخص لكتابه (العين) الذي ألّفه في القرن الثاني الهجري وعدد صفحاته 2500 صفحة ويُعتبر هو مصدر لجميع المعاجم العربية على الإطلاق.

أمّا في عصرنا الحديث ومع اتساع المفاهيم وتطورها وامتداد رقعة الشعراء في مجالات الشعر وتنوعه وخاصة الشعر الشعبي أو النبطي فإننا نجد للأسف بُعد أو بمعنى عزوف من قبل المهتمين بالشعر في حضور مدارسه وورشه وأمسياته، بل إن الداعمين للشعر والشعراء تجدهم قليلون ومساهماتهم خجولة إذا ما قورنت بباقي العلوم والبحوث الأخرى في الأدب بشتّى أنواعه، وتجد المهتمين بالشِعر يعزفون عن حضور أمسياته على أقل تقدير ودعمهم لزملائهم الشعراء في الأمسيات أو الورش الشعرية.

وما الورشة الشِعرية للشِعر النبطي التي أطلقها مجلس صحار الثقافي في نسختها الأولى من هذا الشهر في جامعة التقنية والعلوم التطبيقية في ولاية صحار والتي حاضر بها في بحور الشعر وتفعيلاته المحاضر والشاعر خليفة بن محمد الشبلي لهي أكبر دليل على عزوف المهتمين بالشِعر وفي تدارسه وكسب معارفه ومفاهيمه ومعانيه، وهُنا لا يقتصر الحضور والتسجيل في تلك الورشة للشعراء فقط؛ بل يشمل المهتمين والمتذوقين له لرفع مخزون ثقافتهم الشِعرية عن قرب والاطلاع على تجارب الآخرين في مجال الشِعر النبطي وبحوره وتفعيلاته، وإن فاتتك أُمسياته ووِرشه السابقة فحاول أيها المهتم بالشِعر والمتذوق له أن يكون لك حضور ومكان في قادم الوقت بين المهتمين به لتُبحر في عالمه الجميل والمُمتع ولتكتشف من خلاله عالم آخر مليء بالتشويق والجمال فالشِعر شعُور قبل أن يكون حروف مكتوبة وموزونة ومن حضر ليس كمن سمع.

خلاصة القول.. إن الشِعر يعدّه علماء الأدب والنحو على أنه تهذيب للنفس وللمنطق وفصاحة للحديث والخِطابة وهو يرفع من مقام وقَدر الفرد وعزّته ومكانته كما نشأ عليه سالف الشعراء وقد أصبحوا به حديث الناس وشِغلهم الشاغل منذُ العصور السالفة وإلى يومنا هذا؛ بل يُعد الشِعر ناهض للهِمم ومُحفّز للذات ومسطّر للأحداث وعنوان للمناسبات، وتُسجّل لنا كُتب التاريخ عبر الزمان بأن معركة (ذي قار) والتي دارت رحاها بين العرب الفرس كان للشِعر شرارتها التي أشعلت هِمم القبائل العربية المتفرقة حينها ووحّدت صفوفهم وجمعتهم على كلمة واحدة وفي صفٍ واحد للوقوف في وجه الفرس ورد طغيانهم وانتصارهم في تلك المعركة الطاحنة، فإن لم تتقن الشِعر وتجهل قيمته ووقعه في النفوس فكن من متذوقيه على أقل تقدير لتستشعر إحساسه وشعوره وقيمته وسَجعه وسَجِيته أيها العازف عن مجالسه والنائي بنفسك وفكرك عن منابره وأمسياته.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

خوارزميات صعود التافهين «2»: ابتداءً من سوق عكاظ

خوارزميات صعود التافهين «2»

ابتداءً من سوق عكاظ

محمد الحسن محمد نور

في المقال السابق، تناولنا الآلية الخوارزمية التي تدفع بـ”التافهين” إلى واجهة المشهد وتتعهدهم حتى يغدوا نجوماً، ثم قادة يسوقون المجتمع بالجهل إلى المجهول وبئس المصير. أما في هذا الجزء، فسنحاول تتبّع الجذور التاريخية لهذه الظاهرة في مجتمعاتنا القديمة، لنفهم الأسباب التي تجعل المحتوى السطحي يلقى رواجًا في مجتمعاتنا أكثر من غيرها.

فالسطحية لم تُولد من رحم وسائل التواصل الاجتماعي وحدها، والتكنولوجيا ليست هي المتهم الأول؛ بل إن التراكم الثقافي منذ الجاهلية قد رسّخ قيمة الشكل على حساب المضمون. ففي الجاهلية كانت الحياة كلها تقريبًا تدور حول سوق عكاظ، حيث كان الشعر والخطابة يتربّعان على قمة الهرم الثقافي.

في ذلك السوق كان الإبهار السمعي هو معيار التفوق، وكان الشاعر النجم الأول والإعلامي الأبرز. هناك تكرّس مجد القول على الفعل، وصار التضخيم والمبالغة سمة الخطاب، واعتمدت البلاغة في تغيير الواقع والحقيقة.

ولكي نستبين الأمر، دعونا نستأنس ببعض النماذج وتأثيرها.

فامرؤ القيس يقول:

 وَإِنَّكَ كَاللَّيْلِ الَّذِي هُوَ مُدْرِكِي ⋆ وَإِنْ خَلَّتِ أَنَّ الْمُنْتَأَى عَنْكَ وَاسِعُ

أنظر كيف يبالغ الشاعر في وصف الملك بما يجافي المنطق، ورغم ذلك يخلد مثل هذا القول الزائف ويبقى حيًا لعشرات القرون حتى يصل إلينا.

وعمرو بن كلثوم يتباهى بقبيلته مبالغةً تصل حد الأسطورة:

 إِذَا بَلَغَ الفِطَامَ لَنَا صَبِيٌّ ⋆ تَخِرُّ لَهُ الجَبَابِرُ سَاجِدِينَا

أما عنترة، فيقلب لحظة الحرب إلى مشهد غزلي باهر:

 وَدِدْتُ تَقَبِيلَ السُّيُوفِ لأَنَّهَا ⋆ لَمَعَتْ كَبَارِقِ ثَغْرِكِ المُتَبَسِّمِ

ثم يأتي نموذج آخر يوظف الشعر ويستعمل الخدعة اللفظية ليغيّر حال قبيلة “أنف الناقة” التي كانت تُحقر باسمها إلى الافتخار بذات الاسم، حيث قال:

 قَوْمٌ هُمُ الأَنْفُ وَالأَذْنَابُ دُونَهُمُ ⋆ فَمَنْ يُسَوِّي بِأَنْفِ النَّاقَةِ الذَّنَبَا

هكذا تم استخدام الشعر متخذًا من قوة البلاغة أداة ووسيلة للتزييف، فصارت المبالغة والتمجيد الكاذب والتضليل بوساطة البلاغة هي ما يشكّل الوعي العربي على أن الكلمة المقفاة تبرر الكذب، وأن التضخيم نوع من الذكاء.

ومع بزوغ الإسلام، بدأ هذا الوعي يتبدل. فقد دعا القرآن الكريم إلى الصدق، وحذّر من القول بغير علم، فاستعاد الكلام معناه.

ثم جاء العصر العباسي الذي ازدهرت فيه الحكمة والعلم، وساهمت الترجمة في نقل الفكر النقدي إلى الثقافة العربية. وأثرت مكتبات مثل دار الحكمة، وظهرت التراجم الأدبية التي كان من أهمها كتاب “كليلة ودمنة” الذي نقله ابن المقفع، مقدّمًا نموذجًا للأدب الهادف إلى تهذيب السلوك وتربية الوعي بأسلوب رمزي فلسفي رفيع.

وفي هذه الفترة تحوّل الشعر إلى شعر الحكمة، فظهر أبو العتاهية ليقول:

 نأتى إلى الدنيا ونحن سواسية

طفل الملوك هنا كطفل الحاشية

ونغادر الدنيا ونحن كما ترى،

متشابهون على قبور حافية،

أعمالنا تعلى وتخفض شأننا،

وحسابنا بالحق يوم الغاشية.

كان كتاب كليلة ودمنة ثورة فكرية، لأنه استخدم القصة لتقويم الأخلاق والسياسة عبر رمزية الحيوانات، فحرّر الخطاب من المديح الزائف إلى الحكمة والموعظة. ومن هذا المناخ الثقافي استلهم أبو العتاهية نزعة الزهد والصدق والبساطة في شعره، موجّهًا حديثه إلى عامة الناس بلغة واضحة لا تزييف فيها. لقد كانت تلك لحظة استعادة مؤقتة للمعنى بعد قرون من الانبهار باللفظ.

لكن الارتداد لم يتأخر، فما أن أطلّ القرن الرابع الهجري وبدأت الثقافة في الاضمحلال، حتى استعادت المبالغة مكانتها مرة أخرى، وبدأ انتشار حكايات ألف ليلة وليلة، فعاد الخيال إلى المبالغة، وعادت البلاغة إلى وظيفتها القديمة في تسلية العامة بدلًا من تنويرهم. كانت كليلة ودمنة نداءً للعقل، فجاءت ألف ليلة وليلة نداءً للخيال الهارب من الواقع. فبدأ المعنى يضعف من جديد، ليحل محله البهرج والإسفاف.

ومع دخول العصر الحديث، تكرّرت الظاهرة في شكل جديد، مدعّمة بالصوت والصورة الثابتة والمتحركة. فكما كان الشعر وسيلة للتكسب عبر مدح الملوك، أصبح الإعلام والتسويق أداةً لمدح المنتجات والسياسيين والمشاهير على السواء.

استُبدل “مديح الخليفة” بـ”مديح الماركة”، و”قصيدة الولاء” بـ”إعلان مدفوع”. المؤثر اليوم هو الشاعر القديم في نسخة رقمية؛ يبيع المصداقية لقاء المشاهدات، ويتفنن في صناعة الإعجاب كما تفنّن القدماء في صناعة القوافي.

ولأن المنصات الحديثة وفّرت جمهورًا لا نهائيًا وآليات فورية للتصفيق- إعجابات، مشاركات، مشاهدات- صار العرض غاية في ذاته، وصار الاهتمام غنيمة. ومن هنا نشأت ذهنية “الترند” التي لا تختلف عن ذهنية “المفاخرة” في أسواق العرب إلا في الوسيلة.

هكذا تضافرت الموروثات القديمة مع الآليات الجديدة لتصنع وعينا المعاصر: وعيًا مشدودًا إلى السطح، مأخوذًا بالبريق، يخاف العمق ويخشاه.

لقد احتبس الفكر بين المبالغة القديمة والإيقاع الرقمي الحديث، فصار الشكل كل شيء، وصار المضمون غائبًا إلا بمقدار ما يخدم التفاعل.

إننا ببساطة لم نغادر الماضي، بل رقمنّاه “تخلفنا”. ولا فكاك لنا إلا بالعودة إلى المعنى بالعمل الجاد في إتجاه التوعية الجماهيرية التي تقودها طلائع مسؤولة.

17 أكتوبر 2025

خوارزميات صعود التافهين وإدمان الضحالة

الوسومألف ليلة وليلة الإنترنت التكنولوجيا العصر العباسي امرؤ القيس خوارزميات سوق عكاظ عمرو بن كلثوم عنترة بن شداد كليلة ودمنة محمد الحسن محمد نور وسائل التواصل الاجتماعي

مقالات مشابهة

  • احصلي على شعر ناعم وصحي بـ3 مكونات من المنزل
  • ماذا قال الشعراء عن الشتاء؟
  • عـن جـائـزة نـوبـل
  • كيف يساعد زيت الكاجو على ترطيب الشعر؟
  • رئيس اتحاد كتاب مصر: فلسطين ستبقى القضية المركزية للمثقفين العرب
  • «فاروق شوشة» عمر من الإذاعة والثقافة
  • افتتاح المؤتمر السنوي الثاني لدارة الشعراء الأردنيين تحت شعار “دورة الشاعر الراحل عبدالمنعم الرفاعي”
  • زيت البندق.. سر النعومة ولمعان الشعر والبشرة
  • عبد الجواد العوفير: لا توجد أستاذية في الشعر.. ولا آباء لي!
  • خوارزميات صعود التافهين «2»: ابتداءً من سوق عكاظ