هل حدث ذات مرة أن التقطت أذناك -في صخب المدينة المزدحمة وأبواق السيارات- صوتا يصدح لثوانٍ عابرة بأغنية تحبها، هل جربت أن تنسى كل الصخب حولك لتستمتع بتلك الثواني العذبة من الصوت الذي تحبه ناسيا ما يختلط به من أصوات مزعجة؟

 

هل حدث أن كنت في زحام العمارات شاهقة الارتفاع والسيارات المسرعة وعوادمها المتصاعدة فالتقطت عيناك نبتة خضراء تفسح لنفسها مكانا وسط الرصيف الأسمنتي، فتأملت لثوانٍ نقاء تلك النبتة، وبهجة لونها الأخضر؟ قليلون مَن يمكنهم فعل ذلك، لكن هذا ما يفعله بعض اليابانيين في ممارسة تعرف بـ"وابي سابي"، وهي فلسفة لاقتناص الجمال يبدو أن لها تأثير عميق على الثقافة اليابانية.

 

يظهر هذا المفهوم في تنسيق الحدائق والمعمارية وتصميم الديكور، ويدخل في نمط حياة اليابانيين أيضا، وكما سنرى فإن بوسعه مواجهة كثير من مشكلات العصر الحديث مثل "البحث عن الكمال" والاستهلاكية وضغوط العمل والإنجاز. (1)

"وابي سابي" وسط خطر الكوارث الطبيعية تكتسب فلسفة "وابي سابي" اليوم طابعا أيسر يتلخص في تقدير البساطة والتواضع في كل ما يحيط بنا. (شترستوك)

في مجتمع يواجه باستمرار خطر الكوارث الطبيعية المدمر، لا يرى الكثير من اليابانيين الطبيعة باعتبارها مصدر قلق أو خطر كما قد تتصور، إنهم يبحثون داخل كل عناصرها على زاوية الجمال ويقدرونه في أدنى مستوياته، في تلك اللحظات التي يتمكن فيها أحدهم من التقاط زاوية جمال خفية في أي شيء يُتمتم اليابانيون بهذه الكلمة: "لديه وابي سابي"، إنها طريقة غير عادية في مشاهدة العالم وتقدير كل ما يستحق. (2)

 

تبدو الترجمة الحرفية لمصطلح "وابي سابي" صعبة، يعبر عنها أكثر الشعور والمواقف والحكايا؛ إنه تأمل في جمال مشهد طبيعي نعرف أنه سيزول، وهو العثور على زاوية الجمال في تنسيق زهور أو قصيدة أو تعبير، في جانب من حديقة أو مشهد غروب، إنه تقدير البساطة في كل صورها. (3)

 

لن نجد تعريفا واضحا في اليابانية أيضا، فأكثر التعبيرات التي تُستخدم للحديث عن "وابي سابي" تبدو شاعرية، إنها معنى أثراه تاريخ اليابان عبر القرون، وأثَّر في الفنون والعادات فضلا عن فلسفات الحياة فيها. (4)

 

نشأت هذه الفلسفة في الأصل جزءا من الفلسفة الطاوية، ثم انتقلت إلى بوذية الزن، لكنها تكتسب اليوم طابعا أيسر يتلخص في تقدير البساطة والتواضع في كل ما يحيط بنا، تعني (Wabi) "الجمال الأنيق للبساطة"، وتعني (sabi) "التدهور بمرور الوقت"، إنها اقتناص مشهد جمال يأخذ -مثل كل شيء- طريقه نحو الزوال. يشير أندرو جونيبر في كتابه "وابي سابي: حتمية التغيير اليابانية" (Wabi Sabi: The Japanese of Impermanence) إلى أن الدعوة إلى التركيز على ذلك الجمال العابر في الطبيعة يتضمن إدراك أنه غير دائم، وأن الفناء والموت متأصلان في الطبيعة. (5)

 

تقول الأسطورة إن فكرة "وابي سابي" نشأت عندما ذهب الشاب ريكيو إلى سيد الشاي تاكينو جو (أحد مَن يقيمون حفلات الشاي في اليابان، وهي تحظى هناك بمكانة خاصة) ليتعلم طقوس الأجداد في إعداد حفل الشاي، أراد السيد تاكينو التعرف على قدرات تلميذه الجديد فطلب منه رعاية الحديقة، قام ريكيو بتنظيفها وإعدادها بشكل مثالي، وقبل حضور سيده هز شجرة الكرز فسقطت أزهار الساكورا (أزهار الكرز كما تُنطق في اليابانية) على الأرض بشكل عشوائي، فأضفت اللمسة على المشهد جمالا خاصا يكمن في عدم اكتماله. (6)

 

عن قصة النشأة يذكر أندرو جونيبر أيضا أن المعابد البوذية في اليابان كانت تعاني في حقب تاريخية مختلفة من أزمات مالية في أوقات مختلفة من تاريخ البلاد، وفي تلك الأثناء التي افتقرت فيها إلى الأثاث الجيد والقطع الفنية الفخمة التي تزينها، كان على الرهبان استضافة الضيوف بالترحاب وكرم الضيافة المعهود، لذا استخدموا متعلقات بسيطة من الطبيعة تُضفي جمالا مبهجا على المكان وإن بدا متواضعا وآخذا نحو الزوال، واكتشف الرهبان حينها ذلك الجمال الفطري للطبيعة. (7)

 

لا تبحث عن الكمال لا تحظى الأشياء التي جرى إصلاحها بالتقدير، ونسعى للحصول على كل ما هو جديد لم يُخدش، لكن كينتسوجي يعلمنا التسامح مع بعض النقص والعيوب لتقليل النفايات. (شترستوك)

منذ نحو خمسة قرون مضت ظهرت بداية تطبيق "وابي سابي" في الفن بظهور "كينتسوجي" (kintsugi)، وتكمن فكرته في أن التغاضي عن العيوب ومحاولة إصلاحها قد يُنتج قطعة أجمل، دون أن نفقد القطعة الأصلية بما كانت عليه من مزايا، وبما قد تحمله من ذكريات، إنه استعارة لما يحدث في نفوسنا، وما يصيبنا من شعور بالإحباط لأننا أضعنا شيئا ما، يخبرنا هذا الفن أن سد الشقوق يمكن أن يكون بالذهب فيجعل أرواحنا أجمل.

 

ظهر فن كينتسوجي في القرن الخامس عشر الميلادي في اليابان، حين كسر الحاكم شوغون قدح الشاي المفضل لديه، وكان فريدا من نوعه ويصعب تعويضه، لذا أرسله إلى الصين لإصلاحه، تم إصلاح القدح بالفعل بطريقة كانت شائعة في الصين وأوروبا لإصلاح القطع القيمة، بتثبيت دبابيس معدنية، لكنها لم ترق للحاكم، إذ رأى أنها أفقدت قطعته الفريدة جمالها المميز. (12)

 

حاول حرفيون يابانيون البحث عن طريقة أخرى تحفظ جمال القطعة وفرادتها، فظهر إلى الوجود فن كينتسوجي، وفيه يُعاد جمع القطع المكسورة بملء الشقوق بصمغ الأوروشي (urushi) الذي يُستخرج من عصارة بعض الأشجار، وتُطلى بالذهب لتُصنع قطعة جميلة لا تُخفي الكسور. هكذا تتحول مرحلة الانكسار إلى جزء من تاريخ القطعة، إنها نوع مختلف من الجمال يجبر الكسور دون أن يخفيها تماما، هذا ما يمكن أن يحدث لنا، العيوب قد تحولنا حين نحاول التغلب عليها إلى شخصيات فريدة حتى حين نعجز عن إخفائها.

 

في مواجهة الضغوط الهائلة لتلبية توقعات عائلاتنا وأصدقائنا والمجتمع، ينظر كثيرون إلى الماضي بشعور من خيبة الأمل، إننا نراكم على طول الحياة إخفاقات لا بد منها، تبتعد أحلامنا أحيانا، ونعدّل مسار حياتنا أحيانا، لكن القبول بتلك الإخفاقات يسمح لعقولنا بمواصلة الإبداع والتدفق، وفن كينتسوجي يعبر عن المعنى بشكل مثالي.

 

يمكن تأمل هذا التشابه البصري بين شقوق كينتسوجي وشقوق الزلازل، هناك تأثير ثقافي واضح، وما يمكن التوقف عنده أكثر هو التشابه "العاطفي" والشعور بما يمكن اعتباره قوة الانكسار التي يتوسطها ظهور التشققات.

 

يواجه هذا الفن أيضا الاستهلاكية التي تميز مجتمعات اليوم، أول ما يتبادر إلى الذهن حين ينكسر أو يتعطل شيء ما هو التخلص منه تماما واستبداله على الفور، لا تحظى الأشياء التي جرى إصلاحها بالتقدير، ونسعى للحصول على كل ما هو جديد لم يُخدش، لكن كينتسوجي يعلمنا التسامح مع بعض النقص والعيوب لتقليل النفايات، وهو أمر أصبحنا في أمس الحاجة إليه اليوم. (13)

"وابي سابي" في حياتك يضفي وابي سابي على علاقتنا بذواتنا معنى مختلف يتلخص في تقبل الإخفاقات أحيانا، والسعي للتغلب عليها دون ضغوط. (شترستوك)

حين يمكنك التوقف لدقائق للشعور بالامتنان للجهد المبذول في إعداد طبق طعامك، بداية من زراعته وحتى وصوله إلى مائدتك، وحين تُقدِّر أيضا خطوط التجاعيد الخفيفة التي تتكون في وجهك، وتُقدِّر جمال الشيخوخة في وجوه الآخرين، فإنك بالفعل تمارس هذه الفلسفة. إنه فن ملهم للتغلب على تحديات الحياة، والثقة بأن بالإمكان دائما إصلاح الندبات، والتغلب على الخسائر بمرونة، كما أنه يعلمنا تقدير اللحظة الحالية والتحرر من اجترار الماضي والندم عليه، وكذلك القلق بشأن المستقبل، والتأكد من أن اللحظة الحالية بجمالها أو ألمها ستمضي. (14)

 

إنه تقبل معنى الحياة الحقيقي في التبادل بين اللذة والألم، وتقبل كون المعاناة جزءا حتميا من التجربة الإنسانية، وبالتالي تقبل هشاشتنا ونقصنا في لحظات ما، هذا الضعف يمنحنا القدرة على التعاطف مع الآخرين ويساعدنا على بناء علاقات جيدة معهم.

 

هذا باختصار هو مغزى فلسفة "وابي سابي"، التي تدعونا تقبل الإخفاقات أحيانا، والسعي للتغلب عليها دون ضغوط، كما تعلمنا شكلا من أشكال تقدير الذات يُبنى على التقبل والتواضع، لا تضمن لنا الحياة تلك المثالية في كل شيء، "وابي سابي" تعلمنا تقدير النجاحات مهما كانت صغيرة، تقدير ما حققناه في سعينا إلى هدف كبير، وإن لم نصل.

——————————————————————————————–

المصادر Wabi Sabi Philosophy: Nothing Lasts, Nothing Is Finished, Nothing Is Perfect Japan’s unusual way to view the world What is Wabi Sabi? The Elusive Beauty of Imperfection Escape the perfectionist trap with the Japanese philosophy of “wabi sabi” Japan’s unusual way to view the world What is Wabi Sabi? The Elusive Beauty of Imperfection Escape the perfectionist trap with the Japanese philosophy of “wabi sabi” Wabi Sabi Philosophy: Nothing Lasts, Nothing Is Finished, Nothing Is Perfect The Wabi Sabi Lifestyle: How to Accept Imperfection in Life Value of the global anti-aging market 2021-2027 The Wabi Sabi Lifestyle: How to Accept Imperfection in Life How the philosophy behind the Japanese art form of kintsugi can help us navigate failure Kintsugi and the art of ceramic maintenance The Wabi Sabi Lifestyle: How to Accept Imperfection in Life Escape the perfectionist trap with the Japanese philosophy of “wabi sabi”

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: التی ت

إقرأ أيضاً:

“الغذاء والدواء” تعقد اجتماع الطاولة المستديرة مع الشركات اليابانية

المناطق_واس

عقدت الهيئة العامة للغذاء والدواء اجتماع الطاولة المستديرة مع مجموعة من الشركات في اليابان، بحضور معالي الرئيس التنفيذي للهيئة الأستاذ الدكتور هشام بن سعد الجضعي، إلى جانب عدد من ممثلي الشركات اليابانية العاملة في قطاعات الغذاء والدواء والأجهزة والمستلزمات الطبية.

واستعرضت الهيئة خلال الاجتماع دورها في تنظيم ورقابة المنتجات الغذائية والدوائية والأجهزة الطبية، إضافةً إلى البرامج والمبادرات التي تقدمها لدعم وتمكين المستثمرين المحليين والدوليين، وتحفيز بيئة الاستثمار في المملكة، تماشيًا مع مستهدفات برنامج تحول القطاع الصحي أحد برامج رؤية المملكة 2030 في تعزيز الشراكات الدولية وجذب الاستثمارات النوعية.

أخبار قد تهمك “الغذاء والدواء” تحذّر من منتج مرقة الدجاج للعلامة التجارية (maragatty) وتدعو المستهلكين إلى التخلص منه 28 فبراير 2025 - 1:26 مساءً “الغذاء والدواء” تطلق ثلاث مبادرات جديدة لتعزيز النمط التغذوي الصحي للمجتمع 27 فبراير 2025 - 4:11 مساءً

وشملت المناقشات استعراض الفرص الاستثمارية الواعدة في المملكة، خاصة في ظل الحراك التنموي الشامل الذي تشهده القطاعات الحيوية والجديدة، ذات العلاقة بعمل الهيئة.

وأكد الرئيس التنفيذي للهيئة خلال الاجتماع أهمية تسهيل الإجراءات، مشيرًا إلى التزام “الهيئة” بدعم الاستثمار وتحفيزه في مجالات اختصاصها من خلال تحسين البيئة التنظيمية، وتطوير السياسات الداعمة، وتقديم خدمات تسهيلية تضمن سهولة دخول المنتجات إلى المملكة وفق أعلى المعايير الدولية.

ويأتي هذا الاجتماع على هامش زيارة وفد الهيئة إلى اليابان للمشاركة في الاجتماع السنوي السابع والعشرين للمنتدى الدولي لمنظمي الأجهزة الطبية (IMDRF)، وامتدادًا للعلاقات الثنائية بين المملكة العربية السعودية واليابان، التي تشهد تطورًا ونموًا مستمرًا في مختلف المجالات، بما في ذلك التعاون الصحي والتقني والاستثماري.

مقالات مشابهة

  • ما فلسفة المواريث في الإسلام؟ وما معايير تقسيمها لدى الشارع؟
  • “الغذاء والدواء” تعقد اجتماع الطاولة المستديرة مع الشركات اليابانية
  • سميرة الجزار تتقدم ببيان عاجل لوقف التعدي على محمية وادي الجمال حماطة بمرسى علم
  • ارتفاع مؤشرات الأسهم اليابانية
  • طلب إحاطة بشأن التعديات على محمية وادي الجمال بمنطقة رأس حنكوراب
  • البيئة تكشف حقيقة تضرر منطقة خليج حنكوراب بمحمية وادي الجمال
  • نيسان اليابانية تختبر مركبات ذاتية القيادة في شوارع طوكيو المزدحمة
  • غلق باب التقديم في وظائف المدارس المصرية اليابانية 2025 .. اليوم
  • إحنا معانا ذات الجمال النرويجي .. رامز جلال يغازل ريم مصطفى
  • غلق باب التقديم في وظائف المدارس المصرية اليابانية غدا |سجل بياناتك الآن