يواجه الواقع السياسي، ومعه الفكر السياسي العربي كذلك، تحديات متعددة في التوصل إلى مقاربات واضحة ومباشرة نحو حل الأزمات العربية وبناء واقع عربي مشترك ومستقل عن المحاور والتحالفات الإقليمية، فضلا عن الدولية، حيث لا تزال كثير من النخب السياسية العربية ملحقة في هذا المحور أو ذلك التحالف في نظرتها للأزمات وتفكيرها في الحلول.



ولا يزال النظام العربي محكوما لظروف سياسية استثنائية من تاريخه منذ عقود، وتتصف هذه الحالة بالضعف والحاجة للاعتماد على قوى إقليمية أو دولية على أمل تحصيل مصلحة عربية منها، رغم أن الشواهد والتجارب التاريخية تؤكد أن الحامل الوحيد الذي يمكنه تحقيق المصالح العربية هو الحامل الذاتي العربي، وأن أي طرف آخر يسعى نحو مصلحته على حساب أي مصلحة عربية، سواء كانت قومية جمعية، أو وطنية قُطرية.

والناظر في سلوك أي من الدول الإقليمية المحيطة بالعالم العربي، سواء كانت إيران أو تركيا أو إسرائيل أو إثيوبيا، يرى أن لكل منها مشروعها الخاص بها، سواء كان مرتبطا بتاريخها وإمبراطوريتها القديمة أو بمصالحها وأمنها وتحالفاتها المعاصرة، الأمر الذي يعني أن العالم العربي ككلّ، وأي دولة وطنية فيه، لا بد وأن تنتبه وتحذر من طبيعة العلاقات مع أي طرف إقليمي أو دوليّ، من حيث بناء العلاقة على أساس تحقيق المصالح العربية أولا، لأن أي تجاوز لهذا التفكير والحرص عليه سيصبّ في مصلحة الطرف الآخر الذي يبذل جهودا مضنية لتعزيز مشروعه وربما أطماعه في المنطقة العربية على حساب المصالح العربية والأمن العربي.

لا يزال النظام العربي محكوما لظروف سياسية استثنائية من تاريخه منذ عقود، وتتصف هذه الحالة بالضعف والحاجة للاعتماد على قوى إقليمية أو دولية على أمل تحصيل مصلحة عربية منها، رغم أن الشواهد والتجارب التاريخية تؤكد أن الحامل الوحيد الذي يمكنه تحقيق المصالح العربية هو الحامل الذاتي العربي
وبكل تأكيد تتفاوت أهداف المشاريع الإقليمية وأطماعها في العالم العربي، وبالتالي تتفاوت أخطارها، الأمر الذي يجب على النخب العربية الحاكمة والمعارضة إدراكه في علاقاتها مع أي من تلك المشاريع؛ فأهداف إيران وأطماعها على سبيل المثال أكثر خطورة من أهداف وأطماع تركيا الحالية في ظل العدالة والتنمية، حيث يعدّ تدخّل تركيا محدودا عسكريا وأمنيا في شمال سوريا أو في ليبيا أو العراق، أما أهداف إيران العملية فتكمن في السيطرة على كامل العراق وسوريا واليمن ولبنان، ولديها أدوات وأذرع يقودها الحرس الثوري والمليشيات المسلحة التابعة له، في حين أن أطماع دولة الاحتلال الإسرائيلي تتعدى كل هذا من خلال اختراق الأمن القومي العربي ككلّ، وتسعى لبسط نفوذها على كامل الشرق الأوسط سياسيا وأمنيا.

ويقل الأمر خطورة عند مراقبة سلوك إثيوبيا وأهدافها في تعاملها مع الشؤون العربية الأفريقية، خاصة المصري والسوداني والجيبوتي، ويتركّز الأمر في جانبين: مياه النيل والتعاون مع إسرائيل. وقد عقد مركز دراسات الشرق الأوسط في عمّان أكثر من خمسة مؤتمرات خلال السنوات الخمس عشرة السابقة لتأسيس المشروع العربي الشامل والاستراتيجية العربية لمواجهة المشروع الصهيوني، وثبّتت تلك المؤتمرات قواعد وسياسات التعاون مع دول الإقليم الإسلامي وبالخصوص إيران وتركيا على هذا الأساس.

ومن الجدير ذكره في هذا السياق أن العرب قادرون على إدارة الشأن العربي بدون تركيا أو إيران أو إسرائيل، وكذلك الحال دون الولايات المتحدة أو بريطانيا أو فرنسا أو الصين أو روسيا، لكن هذا لا يمنع من التعاون مع تركيا أو إيران فيما يخدم الأمن القومي العربي والمصالح العربية العليا، ومواجهة المشروع الصهيوني، والهيمنة الاستعمارية الغربية أو الشرقية لا فرق، وعلى أساس التعاون معهما (تركيا وإيران) على قدم المساواة، ووفق مصالحنا القومية وبما يحقق المصالح المشتركة، وفي بناء المشروع النهضوي الحضاري العربي الإسلامي.

تحتاج هذه المسارات إلى إعادة التفكير الجاد والعملي من قبل النخب السياسية العربية في مسلّمات خاطئة ما زالت سائدة منذ عقود، والعودة إلى جذر المشروع العربي الحقيقي الذي به تقوم الأمة بعد ضياع وتشتت بين الكبار الدوليين ومؤخرا لدى الكبار الإقليميين، خاصة أن بعض النخب السياسية العربية تنظر لذاتها صغيرة أمام الآخر الإقليمي أو الدولي وأنه يشكل لها ضمانة للبقاء والاستمرار
كما لا يتنافى هذا مع علاقات استراتيجية اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، مع كل من إيران أو تركيا أو الصين أو روسيا، بما يلزم لإعادة الاعتبار للواقع العربي، وإعادة إعمار بلادنا، وتنمية اقتصادها وحفظ أمنها ووحدة وسيادة أراضيها وحريتها، وما يلزم ذلك من إبرام مصالحات وطنية شاملة تنهي حقبة من الاقتتال والإرهاب والحروب الأهلية في بعض الدول، وما يلزم من مصالحات عربية رسمية تفضي إلى تعاون ينهي التنازع، وتتأهل الأمة العربية بذلك لدور إقليمي ودولي شامل، بما في ذلك المضي في الاستراتيجية العربية اللازمة للتعامل مع الصراع العربي- الإسرائيلي نحو تحرير فلسطين وتطبيق عودة اللاجئين، واحتواء المشروع الصهيوني أو خطاره وتحقيق هزيمته.

وتحتاج هذه المسارات إلى إعادة التفكير الجاد والعملي من قبل النخب السياسية العربية في مسلّمات خاطئة ما زالت سائدة منذ عقود، والعودة إلى جذر المشروع العربي الحقيقي الذي به تقوم الأمة بعد ضياع وتشتت بين الكبار الدوليين ومؤخرا لدى الكبار الإقليميين، خاصة أن بعض النخب السياسية العربية تنظر لذاتها صغيرة أمام الآخر الإقليمي أو الدولي وأنه يشكل لها ضمانة للبقاء والاستمرار.

وقد شهد العالم العربي خلال عام 2023 محاولات متعددة لاحتواء عدد من الأزمات العربية، وسحبا للبساط من تحت الاستنزافات الإقليمية مع إيران وتركيا، إلا أن السلوك الإيراني ما زال يراوح مكانه في كل من العراق واليمن ولبنان، وسوريا على وجه الخصوص، حيث يسعى جاهدا لإفشال السعي العربي والسوري على حد سواء لإعادة سوريا للحضن العربي، واستعادة دورها القومي، بل ويمارس من داخلها سياسات ويتخذ إجراءات تضر بأمن سوريا وجوارها، وخاصة تجاه الأردن ودول الخليج العربي.

ويعدّ تراجع مستوى التهديدات المسلحة في المنطقة العربية فرصة سانحة يجب على النخب السياسية العربية اقتناصها لمعالجة تداعيات المرحلة السابقة منذ عقد تقريبا، ومحاولة لمّ الشعث العربي وصولا إلى اشتقاق طريق واعد بفكر ومنطق وتخطيط وحوار عربي ذاتي، وخاصة مع استئناف علاقات السعودية مع إيران، ومحاولة تبريد الملفات الساخنة، وخاصة في اليمن، آخذا بالاعتبار البطء، بل والتردد الإيراني في التراجع عن التدخل في كل من اليمن والعراق وسوريا وسياسات تصدير الثورة.

وإن التفكير القومي والوطني العربي الخاص، يشكّل ضمانة قوية للنخب السياسية العربية للبقاء والقوة والدور عربيا، بينما الخوف والتردد والاعتماد على طرف إقليمي هنا ودولي هناك تشكل جميعا تهديدات واسعة جدا قادمة، وتزيد من هشاشة الواقع العربي وتبقي المنظومة العربية عند واقع محدود التأثير في الإقليم وفي المضمار الحضاري والدولي، الأمر الذي يستلزم التوصل إلى رؤية استراتيجية عربية موحدة تجاه بناء العلاقات والتحالفات الإقليمية والدولية، والتعامل مع الأزمات والقضايا القومية والقُطرية، ويرسم مسار العرب في حسم الصراع مع إسرائيل والمشروع الصهيوني.

ويمكن لهذا المسار التبلور والتقدم للنجاح عندما يدرك النظام العربي والنخب السياسية والفكرية العربية أن تحقيق المصلحة العربية يكمن بيد العرب أنفسهم، وأنهم يمتلكون أدواتها فكريا وحضاريا وبشريا ومادّيا، وأن غيرهم من الأطراف الإقليمية لا يمتلكون ما يمتلكه العالم العربي عند النظر بدقة للواقع والتوازنات القائمة، فقط بإرادة عربية حرة وجادة، وأفق واعد للمستقبل، وبتحييد كل الصراعات الداخلية وبين الدول، وتحقّق الإيمان بالمصالح العربية المشتركة دون إقصاء أو اتهام أو تهميش لأي جماعة أو فكر أو تيار فكري أو سياسي عربي.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه المصالح المشاريع الشرق الأوسط الشرق الأوسط مشاريع مصالح العالم العربية سياسة سياسة سياسة صحافة مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة المشروع الصهیونی العالم العربی ترکیا أو منذ عقود

إقرأ أيضاً:

التحديات التي تقف عائقاً أمام طريق التنمية في العراق

يونيو 27, 2024آخر تحديث: يونيو 27, 2024

محمد حسن الساعدي

بات التأثير الذي سيولده طريق التنمية واقعاً على البلدان الجارة للعراق بالتساوي مع الدول العظمى على حد سواء، حيث سيؤثر بصورة سلبية على ديناميكية القوة والتأثير بين العراق والجمهورية الاسلامية الايرانية، إذ بدأت هذه الدول بالتنافس على شبكات النقل على الطريق التنموي حيث ستحظى إيران بموقع استراتيجي مهم يتيح لها أن تسيطر على شبكة النقليات(السكك الحديدية) ولكن وسط العقبات السياسية والتحديات التي تتعرض لها منطقة الشرق الاوسط، والعقوبات الدولية تجاه طهران تجعل العراق يحظى بفرصة أكبر وأهم من إيران لربط هذا المشروع مع العالم.

يبرز العراق بسرعة كبديل عن إيران كونه مجهز بأحداث المنشآت الحيوية كميناء الفاو والذي سيسمح للعراق بأن يصبح واجهة رئيسية للسلع الدولية، وعلى الرغم من كون العراق وإيران ليسوا الاعبان الاساسيان في إعادة تشكيل البيئة اللوجستية في الخليج، إذ أدى التنافس المتزايد بين تركيا وإيران الى دعم أنقرة علناً لميناء الفاو مما يقوض بشكل مباشر هيمنة إيران على حركة الملاحة في الخليج.

مشروع التنمية يهدف الى تحويل الاتصال الاقليمي والخدمات اللوجستية من خلال رفض طرق التجارة القائمة مثل مبادرة الحزام والطريق الصيني وكذلك الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الاوسط واوربا لصالح علاقات اقتصادية وتجارية بين العالم ودول المنطقة، ولقد أبدت دول مجلس التعاون الخليجي مقل قطر والامارات رغبتها الشديدة في الانضمام الى هذا الطريق، وقدمت كل الامكانيات اللوجستية والمالية من أجل إنجاح هذا المشروع الحيوي الذي سيساهم بشكل مباشر في إبراز طريق التنمية الدولي أمام المبادرات الاخرى، وترسيخ مكانته كمركز عبو أقليمي يهدف الى إظهار المنطقة عموماً والعراق تحديداً أهميته الاستراتيجية للتجارة العالمية.

بالرغم من المعطيات على الارض والتي تؤكد أهمية العراق بان يكون موقع استراتيجي للطريق إلا أن هناك عدة عوامل تعيق طموحات العراق بدءاً من البنية التحتية التي تحتاج الى نهضة تنموية بالإضافة الى طرق النقل المتهرئة والتي لا تقارن بطرق النقل الاقليمية الحالية كتركيا والامارات، ولعل الامر الاهم هو التنافس الجيوسياسي بين الصين والولايات المتحدة، حيث سعت واشنطن الى إقامة علاقات وثيقة مع السعودية وذلك من أجل إيجاد التوازن المطلوب في المنطقة.

ربما سيجد العراق صعوبة في تنمية اقتصاده وسط لعبة الشد والجذب الذي تمارسه القوى المتصارعة، إذ سيحتاج الى التفاوض على كل العقبات التي ستعترض طريق التنمية، كما هو الحال بالنسبة لإقليم كردستان وطبيعة الجغرافيا ووعورة الجبال الأمر الذي من شأنه إطالة الاطر الزمنية للمشروع وربما ارتفاع تكاليف أنشاءه، وعلى فرض استبعاد أقيم كردستان فأنه قد يثير تساؤلات كثيرة ومهمة عن اهمية الرسائل السياسية للمشروع وتداعياته الاقتصادية، وبنفس الوقت يجده الاكراد تحايل على حكومة الاقليم ومعاقبة للأكراد واسترضاء للأتراك.

على الرغم من كون طريق التنمية ما زال في بداياته إلا أنه يمثل فرصة كبيرة الفوائد ويواجه مجموعة من التحديات الشديدة المحتملة والتي يمكن أن تعق نجاحه، لأن المشروع يتطلب ضخ اموال كبيرة لكي ينجح وأن مشاركة الدول المجاورة للعراق وخاصة تركيا أمر بالغ الاهمية لنجاح هذا المشروع، وان على العراق أن يعالج الاضطرابات السياسية والقضايا الامنية التي لاتزال تشكل عائقاً أمام إنشاءه، الاضافة الى محاربة الفساد المستشري في مؤسسات الدولة كافة، مما يحتاج الى تغييرات شاملة تعزز المساءلة وتحسن الشفافية وتعزز انظمة الحكم في البلاد.

 

 

مرتبط

مقالات مشابهة

  • نجوم العالم العربي في "بيت السعد" مع أحمد وعمرو سعد
  • من هو مسعود بزشكيان الإصلاحي الذي صعد مفاجئًا إلى صدارة انتخابات إيران؟
  • دعوة ملغومة للحلفاء العرب
  • ما بعد الانتخابات السنغالية: أبعاد وفرص التعاون مع العالم العربي
  • الجناح الوطني في بينالي البندقية يقدم رحلة ثقافية لصقل المهارات وتطوير الذات
  • مفتي الجمهورية لسفير فرنسا: الإسلام يحترم عادات وثقافات الآخر
  • التحديات التي تقف عائقاً أمام طريق التنمية في العراق
  • الطيب: المنهج الأزهري صمام الأمان والسلام للعالم العربي والإسلامي
  • الإمام الأكبر: المنهج الأزهري صمام الأمان والسلام لكل دول العالم العربي والإسلامي
  • المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس كرم المكاري واعلاميين وفنانين