مفتي الجمهورية في الإمارات: 

نحن أمام تحديات أخلاقية كبرى تفرضها المفاهيم المعاصرة   طبيعة المستجدات العلمية ترفع سقف توقعات المسلمين من علمائهم  اجتهادات الأئمة وفتاويهم تمثل كنزًا حضاريًّا ومصدرَ إلهام لكل من يمارس صناعة الفقه والفتوى صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان جاءت متلازمة مع المرونة والتيسير  دوائر النظر الاجتهادي اتسعت و غيرَ منحصرة في ظواهر النصوص من الكتاب والسنة

 

قال الدكتور شوقي علام، مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم: إن صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان قد جاءت متلازمة مع المرونة والتيسير التي اتَّسمت بها تشريعات ديننا الحنيف كلُّها، وإن قضية التكليف الشرعي هي التي تربط تصرفات الإنسان وأفعالَه في هذه الحياة الدنيا بخالقه سبحانه وتعالى، وهذا هو المبدأ الذي انطلق منه المجتهدون الكرام في جميع مناهجهم الاستدلالية على اختلافها وتنوعها؛ تحقيقًا لمراد الله تعالى ورعاية لحِكمته البالغة.

جاء ذلك خلال كلمة فضيلة المفتي الرئيسية في افتتاح أعمال مؤتمر "الاستيعاب الشرعي للمستجدات العلمية «المنهجية الحضارية، والتطبيقات الواقعية، وأخلاقيات الاستدامة»"، الذي تستضيفه دولة الإمارات العربية المتحدة، وتستمر فعالياته على مدار يومين، تحت رعاية سمو الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان، وزير الخارجية، وبرئاسة العلَّامة عبد الله بن بيه، رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي.

وأوضح فضيلة المفتي أن دوائر النظر الاجتهادي قد اتسعت، وكذا آفاق الاستدلال بالنص الشرعي، اتساعًا جعلها غيرَ منحصرة في ظواهر النصوص من الكتاب والسُّنة، مؤكدًا أن الاستدلال بالمصالح المرسلة عند إمام دار الهجرة الإمام مالك رضي الله عنه والاستدلال بالاستحسان عند الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه، وغير ذلك من مصادر التشريع وأدلته قد انضم إلى ذلك، لأن الشارع الحكيم في نصوصه لم يستوفِ ذكر النوازل كلها منصوصًا عليها، بل ذكر منها أشياء وفتح للعلماء المجتهدين ورثةِ النبي صلى الله عليه وسلم بابَ الاستنباط وآفاقَ الاجتهاد من خلال تلك الأمور التي سكت عليها عن غير نسيان.

وتابع: كان من الممكن عقلًا أن يورد الشارع ألفاظًا مستوعِبة لمراده محددة لمقاصده، تستوعب كل الصور والوقائع، ولا يتصور فيها اختلاف، كما ذكر ذلك الإمام المازري رحمه الله في شرحه للبرهان، وعلل عدم ورود التشريع على هذه الصورة بقوله: «لكنه لم يفعل؛ توسعة على الأمة بالاجتهاد في المسكوت عنه»، مشيرًا إلى أن الاجتهاد هو مناط تحقيق المقصد الشرعي من استيعاب النوازل والمستجدات في كل زمان ومكان، وذلك من خلال المناهج الأصولية العلمية الرصينة التي استخرجها العلماء من أقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم وتصرفاته وفتاواه، وكذا من تتبع مناهج الاستدلال عند الصحابة الكرام.

وأكد فضيلة المفتي خلال كلمته أن تلك المناهج قد سارت من بعد ذلك على أصول الأئمة المجتهدين الذين ضبطوا مناطات الاجتهاد، وحققوا القواعد الشرعية، وفتحوا الباب لمن بعدهم في تطبيق تلك المناهج اجتهادًا وتنزيلًا، حيث يقول الإمام الشاطبي رحمه الله في الموافقات: «وقد قبل الناس أنظارهم وفتاويهم، وعملوا على مقتضاها...وإنما كان كذلك؛ لأنهم فهموا مقاصد الشرع في وضع الأحكام، ولولا ذلك، لم يحل لهم الإقدام على الاجتهاد والفتوى...فالاجتهاد منهم وممن كان مثلهم وبلغ في فهم مقاصد الشريعة مبلغَهم صحيحٌ، لا إشكال فيه»، موضحًا أن ذلك المعنى يتجلى بوضوح فيما نجده بين أيدينا من كتب الفتاوى والنوازل، التي راعى فيها العلماء معاني الشريعة وأحوال المكلفين بقدر مراعاة النصوص والدلالات الشرعية، فصارت اجتهاداتهم وفتاويهم تمثل كنزًا حضاريًّا ومصدرَ إلهام لكل من يمارس صناعة الفقه والفتوى.

وفي إطار متَّصل أكَّد فضيلة المفتي أن طبيعة المستجدات العلمية التي فرضت نفسها في هذا العصر، مستمرة في إحداث تغير هائل على المستوى الفكري والنفسي والاجتماعي، وترفع سقف التوقعات التي ينتظرها المسلمون من علمائهم ومؤسساتهم الفقهية والإفتائية، لتوجيه وترشيد مسيرتهم في الحياة في إطار شرعي ومصلحي، وهو ما يرجى أن تثمر عنه مثلُ هذه اللقاءات العلمية في هذا المؤتمر وغيرِه من المحافل العلمية، التي تقوم بدَورها في التأصيل الشرعي نظريًّا وتطبيقيًّا، خصوصًا في ظل التحديات والطموحات التنموية التي تطمح إليها العديد من المجتمعات والدول الإسلامية.

وإنه لمن الضروري في التعامل مع تطورات العصر وآلياته الجديدة، أن يكون الجانب الأخلاقي والبعد القيمي والحضاري حاضرًا ومؤثرًا كما كان كذلك في مناهج المتقدمين رضي الله عنهم، فإننا نجد بعض مصنفات الفقهاء قد افتتحها مؤلفوها، وبصفة خاصة في الفقه المالكي، ببعض قضايا الاعتقاد وختموها ببعض الآداب والقضايا السلوكية، وذلك للفت النظر إلى ضرورة أن تكون صناعة الفقه معبرة عن رؤية الإسلام الحضارية والأخلاقية للكون والوجود.

وأشار فضيلة المفتي إلى أننا أمام تحديات أخلاقية كبرى تفرضها بعض المفاهيم المعاصرة التي لا تنظر إلى الدين والأخلاق بعين الاعتبار، وقد تكون بعضُ مجالات التنمية كالذكاء الاصطناعي وغيرِه من نوافذ المعرفة بابًا لإشاعة تلك المفاهيم التي تضرب بالمنظور الأخلاقي عُرض الحائط، وهو ما يجعل العمل التنموي قاصرًا على الجانب المادي، دون التفات إلى الجوانب التي تغذي روح الإنسان، وتجعل لحياته غاية ومقصدًا فيسمو بأفعاله وتصرفاته، حتى تحقق مقصد وجوده في هذا الكون.

وفي ختام كلمته توجه فضيلة المفتي بالشكر إلى معالي الشيخ الكريم العلامة عبد الله بن بيه- رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي-، مُثمنًا جهوده ومساعيَه الحميدةَ في عقد مثل هذه المؤتمرات العلمية التي تعين على دراسة كيفية الاستفادة من المناهج الشرعية المعتبرة في التعامل مع الوقائع والمستجدات والنوازل، وذلك من أجل إبراز دور الشريعة الإسلامية في الارتقاء بالإنسان مبنًى ومعنى، وتجعل من الأمة الإسلامية شريكًا حضاريًّا في المجتمع الإنساني، وتؤكد مرونة الشريعة الإسلامية وصلاحيتها لكل زمان ومكان، فضلًا عن رسمها خارطة طريق واضحة لمواجهة التحديات الملحَّة التي تشهدها المؤسسات الفقهية والإفتائية.

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي مفتى الجمهورية المفتي الإمارات العربية فضیلة المفتی زمان ومکان

إقرأ أيضاً:

مفتي الجمهورية: دراسة الفلسفة ليست حرامًا فهي من ألوان إعمال العقل والاجتهاد

قال الدكتور نظير عياد، مفتي الجمهورية ورئيس الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم: إن سؤال: "هل دراسة الفلسفة حرام؟" يقتضي الوقوف أولًا على معنى الفلسفة، حتى يتأتى الجواب الصحيح.

مفتي الجمهورية: الإسلاموفوبيا تهديد خطير يستوجب تعاونًا دوليًّا لمواجهتههل يمكن تكرار العمرة في السفر الواحد؟.. مفتي الجمهورية يوضح| فيديو

وأوضح مفتي الجمهورية، خلال حديثه الرمضاني، أن الفلسفة في أبسط معانيها، هي محبة الحكمة، بل يمكن النظر إليها أيضًا على أنها التشبُّه بالأخلاق الإلهية قَدْرَ الطاقة الإنسانية، وبناءً على هذه التعريفات يمكن القول بأن الفلسفة هي عين الحكمة، وهي بذلك لا تتناقض مع الدين ولا تعارضه.

وأضاف أن الحكمة –وهي غاية الفلسفة– تعني الإصابة في القول والعمل، وقد نص القرآن الكريم على هذه الحكمة في غير موضع، منها قول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة: 2]، وقوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]، وقد فسِّر العلماء الحكمة بالسُّنة، وبعضهم فسَّرها بإصابة القول والعمل.

وأكَّد مفتي الجمهورية أن العلاقة بين الفلسفة وبين العلوم الشرعية علاقة وثيقة، بل يمكن القول إنها علاقة تآخٍ وتعاضد وتكامل، لا تعارض ولا تناقض، موضحًا أن علماء الحضارة الإسلامية في عصورها الزاهرة نظروا إلى الفلسفة على أنها إعمال للعقل، وهو من الأمور التي دعا إليها الدين وحث عليها القرآن الكريم في مواضع كثيرة، كقوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ} [الروم: 42].

وتابع: "إذا كانت الفلسفة تسعى إلى الحكمة، وهي غاية نبيلة مشتركة بينها وبين النص الديني، وكانت ناتجة عن إعمال العقل، والعقل مخلوق من مخلوقات الله، فكيف تكون محرمةً؟ بل إن بعض العلماء سعى إلى التوفيق بين الفلسفة والدين من خلال وحدة المصدر، فالدين من عند الله، والعقل من خلق الله أيضًا".

وأشار مفتي الجمهورية إلى أن هناك أيضًا وحدة في الغاية، فكلاهما يسعى إلى الكمال في القول والعمل، وهذه العلاقة أنتجت نوعًا راقيًا من التفكير، ورؤية اجتهادية متكاملة جمعت بين المنهج الفلسفي المنظم والرؤية الشرعية الواسعة.

واستعرض مفتي الجمهورية نماذج من علماء المسلمين الذين جمعوا بين الفقه والفلسفة، ومنهم الإمام الغزالي، الذي وُصف بأنه فقيه وفيلسوف ومتكلم وأصولي، وترك تراثًا علميًّا يعكس هذه المَلَكة الشرعية والهبة العقلية، خاصة في كتابه "المستصفى"، وكذلك ابن رشد الفقيه المالكي والفيلسوف الأندلسي، الذي ألَّف كتاب "بداية المجتهد ونهاية المقتصد"، وجمع فيه بين التحرير الفقهي والرؤية الفلسفية.

ولفت الانتباه إلى أن ابن رشد عبَّر عن هذه العلاقة بقوله إن الحكمة هي الأخت الشقيقة للشريعة، موضحًا أن الشريعة نفسها هي التي دعت إلى التفلسف وأوجبت النظر العقلي، ولكن بشروط، من أهمها: الهبة الفطرية (الذكاء)، والعدل والموضوعية.

وختم مفتي الجمهورية حديثه بالتأكيد على أن دراسة الفلسفة من الأمور المباحة، بل هي -في هذا العصر- من أوجب الواجبات، في ظلِّ هذا الانفتاح الفكري وتعدد المذاهب والاتجاهات، مشددًا على أن رد الشبهات، وتقويم الأفكار، والاستفادة من الإيجابيات لا يتأتى إلا بفهم الفلسفة، التي هي لون من ألوان إعمال العقل والاجتهاد

مقالات مشابهة

  • مفتي الجمهورية يلقي درس التراويح بالجامع الأزهر حول غزوة بدر الكبرى
  • مفتي الجمهورية يلقي درس التراويح في الجامع الأزهر حول غزوة بدر الكبرى
  • نسيان التشهد الأول في الصلاة .. مفتي الجمهورية يوضح الحكم الشرعي
  • مفتي الجمهورية: استشارة النبي لأصحابه في بدر درس في القيادة الرشيدة
  • مفتي الجمهورية: القول بأن الشريعة الإسلامية غير مطبقة مغالطة كبرى
  • مفتي الجمهورية: كل ما في حياة الإنسان أمانة يُسأل عنها يوم القيامة
  • مفتي الجمهورية: الشريعة إلهية ثابتة .. والفقه اجتهاد بشري متغير
  • مفتي الجمهورية : يوم المرأة المصرية تكريمٌ لها ولدورها في بناء الوطن
  • حكم الطلاق عبر الهاتف ووسائل التواصل الحديثة .. مفتي الجمهورية يجيب
  • مفتي الجمهورية: دراسة الفلسفة ليست حرامًا فهي من ألوان إعمال العقل والاجتهاد