(1)
إلى أي درجة يمكننا تحمُّل الألم؟ ماذا إذا وصل إلى ذروته، إلى تلك الدرجة التي لا نطيقها بحال من الأحوال، وعندها تنهار دفاعاتنا بالكلية؟
ماذا إذا قدَّم لنا معالج نفسي الحل؟ وبدلًا من أن يجربه علينا، تشاء الأقدار أن يكون هو -رغمًا عنه- محل التجربة.
يتزوج فيكتور في عام 1942 لكن بعد 9 أشهر من زواجه تلقي القوات النازية القبض عليه، وترسله إلى معسكر أوشفيتز النازي الشهير، لتبدأ رحلته الأقسى والنقطة الفارقة في حياته
(2)فيكتور فرانكل هو الابن الأوسط لعائلة نمساوية تدين باليهودية، يعتني منذ بدايات حياته بأمور علم النفس، ويولي دراستها وفهمها أهمية كبرى إلى الحد الذي ما إن ينهي يومه الدراسي في مدرسته الثانوية حتى يندسَّ في فصول علم النفس التطبيقي الليلية.
يكبر الفتى ويكبر هيامه بعلم النفس، فيقصد محاضرات سيغموند فرويد الذي كان أهم رواد التحليل النفسي في ذلك العصر وأكثرهم شهرة.
في عام 1923، بعد نهاية الدراسة الثانوية، يبدأ الفتى دراسة الطب بجامعة فيينا، وفي العام التالي ينشر أول ورقة بحثية له في دورية علمية، ليصبح -فيما بعد- من أشهر معارضي مدرسة سيغموند فرويد التي تحصر المشاعر والأفكار العاطفية في قالب محدَّد، ويكون من أبرز روَّاد المدرسة المنتقدة له.
تشهد سنواته التالية في الجامعة توسعًا في دراسة علم النفس، لكنه يظل متمركزًا حول فكرة واحدة بعينها يراها بعين الأهمية، وهي "المعنى في حياة الإنسان"، وكيف يمكن أن يشكِّل وصول الإنسان إلى معنى ذي قيمة في حياته سببًا للتعافي والنجاة والبقاء في أصعب الظروف.
لم يكتف فيكتور بالاحتفاظ بفكرته حبرًا على ورق، وإنما سعى لتحويلها إلى شيء ذي قيمة بالفعل؛ فدرس مع بعض زملائه بدءًا من عام 1928 سبب التزايد الواضح في انتحار الشباب في فيينا، وخاصة من فئة الطلاب، وقرروا إنشاء مركز لدراسة تلك الحالة مقدِّمًا خدماته بالمجان للشباب والطلاب، وتمركزت برامج الدعم فيه على مساعدة الشباب على الوصول إلى معنى حقيقي وذي قيمة في حياتهم، وكانت المفاجأة هي أن العام الذي يليه لم تسجل الوثائق الرسمية أي حالة انتحار بين صفوف الشباب.
يقضي الرجل سنواته التالية في تخصص مواجهة الانتحار، والعمل على إيجاد حلول نفسية حقيقية توقف تفشي هذه الظاهرة، حتى يحلّ عام 1938 وتدخل القوات النازية إلى فيينا فتتوقف أنشطته بسبب يهوديته.
(3)يتزوج فيكتور في عام 1942 لكن بعد 9 أشهر من زواجه تلقي القوات النازية القبض عليه، وترسله إلى معسكر أوشفيتز النازي الشهير، لتبدأ رحلته الأقسى والنقطة الفارقة في حياته.
يبدي فيكتور اهتمامًا بمتابعة حالة المساجين من حوله، واستخراج أمور ذات معنى منها، فيتكشف له أن المساجين القادرين على البقاء والاستمرار ليسوا بالضرورة الأصحّاء أو الأقوى جسديًّا، وإنما مَن كانوا يحملون في عقولهم أملًا نحو المستقبل، وحلمًا بالخروج من ذلك المكان، فكانت قدرتهم على الوصول إلى معنى الحرية وإمكانية تحققها في يوم ما هو ما يبقيهم على قيد الحياة.
أما فيكتور نفسه فقد عمد لإنقاذ نفسه إلى تخيل حوارات كاملة مع زوجته والتحدث إليها وسماع ردودها كأنها حاضرة معه تؤنسه وتشدّ من أزره، قبل أن يعرف لاحقًا أنها ماتت داخل معسكر اعتقال آخر.
كذلك كان يتخيل نفسه يلقي محاضرات أمام حشود كبيرة من الطلاب والمهتمين وهو يحدثهم عن تجربة نجاته من ذلك المعتقل، إلى أن تختمر في عقله فكرة الكتاب الذي أراد أن يوثِّق من خلاله تلك التجربة، وهو كتاب "الإنسان يبحث عن المعنى".
يتذكَّر فيكتور -حينما منحوا راحة لبضع ساعات له ولزملائه- ذلك الشاب المتمسك بالأمل الذي قفز من بينهم فجأة على الرغم من شدة تعبه؛ ليخبرهم أن هناك فرصة ليتحركوا خلسة نحو حديقة خلفية يمكن أن يروا وهم داخلها الخضرة على الأرض وغروب الشمس وهي تسير نحو الأفق.
يحكي فيكتور أنهم في تلك اللحظة كانوا قادرين على الشعور بمعنى متميز وجميل للحياة؛ فرؤية الجمال الطبيعي واستشعار وجوده والتصديق بالعودة إليه منح كثيرين منهم أملًا كبيرًا في النجاة والعودة في يوم ما، وعدم الخضوع لشعور الضعف والألم الذي يمكنه بكل بساطة أن يقضي على حياة الكثير منهم.
يشاهد الرجل بعينيه رجالًا كثيرين ضخام الجثة وأقوياء البنية ضربتهم حالة اليأس بعدما كانوا يؤملون أنفسهم بالهرب من ذلك الجحيم، ثم فقدوا الأمل تمامًا، فكانت النتيجة أن قوتهم الكبيرة انهارت أمام اليأس، فانتحر منهم مَن انتحر، ومنهم مَن مات كمدًا بعدما أيقن في نفسه أنه لا سبيل للنجاة.
وصلت قدرة فيكتور على التحمُّل دون طعام إلى درجة وصل معها إلى التأقلم على ذلك بصورة مؤلمة، كاد أن يشعر فيها بدنوّ الموت منه بسبب ضعف جسده، لكنه كان عادة ما يشعر بالعودة عند تناول اللقمة التالية، تلك التي ادّخرها وأرغم نفسه على عدم الاقتراب منها إلا حينما يبلغ الجوع ذروته.
(4)توصَّل مع الوقت إلى أشكال جديدة من الأفكار فيما يخص المعنى في حياة الإنسان؛ فذلك الرجل الذي كان يساعده أحيانًا بالقيام بمهمته بدلًا منه خلف عيون الحراس، كان يفعل ذلك ليشعر بأنه موجود على قيد الحياة يفعل ما هو ذا قيمة وما يمنحه معنى لبقائه حيًّا، حتى هو عندما كان يمنح شخصًا ما على وشك الموت قطعة من رغيفه ليقيم أَوده كان يشعر في داخله بأنه كان سببًا في إنقاذ حياة إنسان آخر ولو بلُقيمة من رغيفه الضئيل.
كانت الأفكار والتحليلات تعصف برأس الرجل من كثرة الظواهر المحيطة به، فمَن حوله ليسوا مجرد طلاب أصابهم اليأس بسبب عدم الحصول على وظيفة، وإنما بشر محرومون من الحياة بأبسط عواملها، وتنتهي حياة كثير منهم بالانتحار.
ولأن الكتابة هي الحل فقد لجأ إلى بعض المهربين ليمنحوه بضع أوراق قليلة وقلمًا مقابل نصف رغيف من طعامه، هذا الرغيف الذي يحصل عليه مرة كل أسبوع، حتى يستطيع كتابة ما وصل إليه وما فكَّر فيه، وبعد مدة طويلة من الكتابة والتدوين استطاع تهريب المخطوطة النهائية لكتابه إلى خارج المعسكر، ذاك الكتاب الذي سماه "البحث عن المعنى".
(5)ليس أكثر إثارة من أن تضع نظرية ما في علم النفس، ثم تشاء الأقدار أن تكون أنت محل التجربة؛ فقد كان دخوله إلى ذلك المعسكر بمنزلة اختبار حقيقي لتلك النظريات التي نادى بها على مرّ سنوات، عبر الخروج بمعنى من الألم والمعاناة، فما الذي يجبر المرء على البقاء حيًّا وعدم الانتحار في تلك الظروف؟
كانت الأيام تمر على فيكتور ورفاقه داخل المعتقل من دون أن يشعروا بمرورها أو حسابها، حتى مرت 3 سنوات على وجوده داخل المعسكر إلى أن سقطت النازية في 1945، وخرج من المعسكر مدهوشًا أنه استطاع القدرة على البقاء كل هذه المدة في تلك الظروف دون أن يستسلم للشعور بالموت والانهيار، رغم أن كل ما حوله كان يؤهّله لذلك.
(6)تعرَّض كتاب فيكتور للانتقاد من البعض؛ بوصفه يلوم الضحية ولا يلوم الجاني، ويطلب من الضحية أن ينجو بنفسه ويتحمَّل وحسب، بينما استمرت مدرسته في النمو والازدهار، فعاد الرجل إلى نشاطه؛ طبيبًا ومحاضرًا للطلاب، وصارت رحلته الأقسى والأصعب من العلامات البارزة في قدرة الإنسان على استخلاص المعنى من قلب المحن القاسية والنجاة بها.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معناوظائف شاغرةترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+
تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssجميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
اليمنُ الذي لم يحسبوا حسابَه
محمود المغربي
أغلب صهاينة الكيان يؤمنون بضرورة إقامة دولة “إسرائيل الكبرى” ويعملون طوالَ الوقت لتحقيقها، وهم يرفضون قرارات الأمم المتحدة بخصوص التقسيم وإقامة دولة فلسطين، وَلا يلتفتون إلى اتّفاق أوسلو الذي أوجد السلطة الفلسطينية، التي أصبحت شرطي حراسة للكيان وتنفّذ الأعمال القذرة في التجسس على المقاومة وتعتقل كُـلّ من يشكل خطراً على آمن الكيان، وتحبط أي عمل مقاوم للاحتلال.
وقد وضعوا سيناريو خبيثاً منذ زمن طويل ويتم تهيئة الأجواء لتنفيذه وينتظرون الوقت المناسب لذلك، وقد وجدوا في المحنة التي تسببت بها عملية 7 أُكتوبر منحةً وفرصةً للشروع في تنفيذ المخطّط، خُصُوصًا أن التفاعل العربي والإسلامي مع العملية كان محبطاً، ولم يستثمر العرب والمسلمون عظمةَ ونتائج العملية التي جعلت الكيان يترنح ويوشك على السقوط وكشفت ثغرات وهشاشة الكيان وضعفه، وكان بالإمْكَان البناء عليها لمحو الكيان الصهيوني، إلا أن صهاينة العرب سارعوا إلى إنقاذ الكيان ومنعوا سقوطه ومعالجة تداعيات الـ 7 من أُكتوبر السلبية على الكيان وتم منحها الدعم والضوء الأخضر لمعاقبة غزة وأبنائها أسوأ عقاب، وشيطنة ومحاربة كُـلّ من دعم وساند ودافع عن غزة، ومنح الجناح المتطرف والمتصهين بقيادة نتن ياهو الدعم والتغطية لتنفيذ ذلك المخطّط وإطلاق العنان للنازية الصهيونية المتعطشة للدماء والمجازر ولإبادة أبناء غزة ولسحق محور المقاومة، وقد رسموا وخططوا بدقة وعملوا حسابًا لكل شيء، فلسطين ولبنان وسوريا وهناك المزيد.
لكنهم لم يعملوا حساب اليمن، وربما طرح أحدهم سؤالاً بخبث أَو سخرية وماذا عن اليمن؟ فيضحك البعض ويرد البعض وماذا بوسع اليمن أن يعمل بعد أن تم تدميره وأصبح مثقلاً بالصراعات والانقسامات والفقر والبطالة والمعاناة ومشغولاً بنفسه، وغفلوا أن اليمن قد جعل من القضية الفلسطينية قضيته الأولى والمركزية، وبأنه قد كسر وهزم عدواناً عالميًّا كانوا شركاء فيه، وحقّق المعجزات وأشعل أرامكو السعوديّة وجعل النظام السعوديّ يتوسل هدنة، ولم يعلموا أن اليمن هو القشة التي سوف تكسر ظهر البعير، والصخرة التي سوف تتكسر عليها المؤامرات والمخطّطات والأحلام الصهيونية والأمريكية.
لم يدركوا أن يمنَ الإيمان والحكمة الذي أغفلوه، ولم يعملوا له أي حساب بعد أن أفقروه وقتلوا أبناءه ودمّـروه بعدوان عالمي لثماني سنوات وفتن وصراعات سوف يفاجئ ويذهل الجميع، ويقلق مضاجعهم ويحرم عيونهم النوم، ويشكل بتدخله في أحداث غزة مفاجأة كبيرة وغير سارة أَو متوقعة لهم ولمن كتب سيناريو شرق أوسط جديد، وبأنه يمتلك أهم الأوراق بعد إيمان وثقة لا تتزعزع بالله، ومشروعًا قرآنيًّا وشعبًا عمرُه عشرة آلاف عام، تعود خوض الحروب والانتصار فيها ودفن الغزاة وقهر الصعاب وتجانس مع طبيعة وتضاريس اليمن الصعبة والقاسية فأصبح أقوى منها، وهو يتشوق وجاهز لمواجهة أمريكا والكيان الصهيوني، وينتقمُ للدماء الطاهرة التي سُفكت بالطائرات والصواريخ والقنابل الأمريكية.
هكذا فاجأ اليمن الجميع بقرار تاريخي غير متوقع وفعل بإغلاق باب المندوب والبحر الأحمر أمام السفن المتجهة إلى الكيان نزل على العدوّ والصديق كالصاعقة، أما مرتزِقة اليمن فقد تعاملوا مع القرار بسخرية وهستيريا خُصُوصًا أنهم قد جعلوا من أمريكا والكيان رباً يعبد، إلا أن الأحداث المتعاقبة للقرار قد جعلت حالة الصدمة والسخرية تتلاشى وتتحول إلى رعب بعد أن ثبت لدى الجميع أن اليمن لا يمزح، بل هو جاد ويدرك ماذا يفعل، وهو ذاهب إلى أبعد من هذا القرار وأبعد مما تتخيل عقول الخبراء والمحللين والعبيد، الذين يؤمنون بأن الكيان لا يقهر، وأن أمريكا على كُـلّ شيء قادرة، وأحمق من يفكر مُجَـرّد التفكير بمخالفة الرغبة الأمريكية فكيف بمن يدخل معها في مواجهة مباشرة، بل هو فاقد عقله ومجنون، ومن ذا الذي يستهدف سفن وبوارج وأساطيل أمريكا التي لم يتجرأ الروس أَو الصينيون على ذلك.
لكننا نتحدث عن حالة استثنائية، عَمَّن صنعوا المعجزات، عن بلد الإيمان والحكمة، وعن قيادة ربانية منهجها القرآن وإمامها حيدرة الكرار، اليمن الذي قال كلمته وبادر إلى إغلاق أهم معبر وطريق بحري عالمي أمام السفن المتجهة إلى الكيان وأمام سفن أي بلد يتعامل مع الكيان مهما كان، ولم يكن ذلك القرار إلا البداية، ولم يشاهد العالم من الجمل إلا أذنه.
أما أُولئك العبيد وصهاينة العرب فقد دخلوا في غيبوبة وانفصلوا عن الواقع بعد تلك السخرية والهستيريا التي تعاملوا بها مع موقف اليمن العظيم والإنساني والأخلاقي، وبعد وصفهم لما يحدث بالمسرحية فإذا هم أمام فلم رعب واقعي وحقيقي، وبدلاً من العودة إلى الواقع وإلى الحق والعدل وتذوق لذة الشعور بالعزة والكرامة والفخر والانتماء إلى رجال الرجال، الذين رفعوا اسم اليمن فوق السحاب وسجلوا أعظم موقف، إذَا بهم قد فجروا بالخصومة، وتنكروا لدينهم وعروبتهم وأوطانهم، وذهبوا للتبرع بأنفسهم ليكونوا عوناً وسنداً وخط دفاع عن عدو الله ورسوله والأمة والبشرية، ويتسابقون على من يحصل على رضا واختيار أمريكا والكيان ليكون عميلاً وخادماً وعبداً لهم، لكنهم أعجز من أسيادهم ولن يحصدوا إلا الذل والخزي والعار والهزيمة بإذن الله وتوفيقه ونصره، ولن يكون بوسعهم أَو بوسع غيرهم إيقاف البركان اليماني، لن يوقفوا أعمال القوات المسلحة اليمنية المساندة والمدافعة عن أطفال ونساء غزة، ولن تتوقف الطائرات والصواريخ اليمنية عن إقلاق مضاجع النتن ياهو والصهاينة وإدخَال الرعب والخوف في نفوسهم، ولن يسمح اليمن بإبادة أبناء غزة وتصفية القضية الفلسطينية وتنفيذ المشاريع الأمريكية.