الجزيرة:
2024-07-01@17:11:17 GMT

الحكَّاء (47) | البحث عن المعنى

تاريخ النشر: 29th, June 2023 GMT

الحكَّاء (47) | البحث عن المعنى

(1)

إلى أي درجة يمكننا تحمُّل الألم؟ ماذا إذا وصل إلى ذروته، إلى تلك الدرجة التي لا نطيقها بحال من الأحوال، وعندها تنهار دفاعاتنا بالكلية؟

ماذا إذا قدَّم لنا معالج نفسي الحل؟ وبدلًا من أن يجربه علينا، تشاء الأقدار أن يكون هو -رغمًا عنه- محل التجربة.

يتزوج فيكتور في عام 1942 لكن بعد 9 أشهر من زواجه تلقي القوات النازية القبض عليه، وترسله إلى معسكر أوشفيتز النازي الشهير، لتبدأ رحلته الأقسى والنقطة الفارقة في حياته

(2)

فيكتور فرانكل هو الابن الأوسط لعائلة نمساوية تدين باليهودية، يعتني منذ بدايات حياته بأمور علم النفس، ويولي دراستها وفهمها أهمية كبرى إلى الحد الذي ما إن ينهي يومه الدراسي في مدرسته الثانوية حتى يندسَّ في فصول علم النفس التطبيقي الليلية.

يكبر الفتى ويكبر هيامه بعلم النفس، فيقصد محاضرات سيغموند فرويد الذي كان أهم رواد التحليل النفسي في ذلك العصر وأكثرهم شهرة.

في عام 1923، بعد نهاية الدراسة الثانوية، يبدأ الفتى دراسة الطب بجامعة فيينا، وفي العام التالي ينشر أول ورقة بحثية له في دورية علمية، ليصبح -فيما بعد- من أشهر معارضي مدرسة سيغموند فرويد التي تحصر المشاعر والأفكار العاطفية في قالب محدَّد، ويكون من أبرز روَّاد المدرسة المنتقدة له.

تشهد سنواته التالية في الجامعة توسعًا في دراسة علم النفس، لكنه يظل متمركزًا حول فكرة واحدة بعينها يراها بعين الأهمية، وهي "المعنى في حياة الإنسان"، وكيف يمكن أن يشكِّل وصول الإنسان إلى معنى ذي قيمة في حياته سببًا للتعافي والنجاة والبقاء في أصعب الظروف.

لم يكتف فيكتور بالاحتفاظ بفكرته حبرًا على ورق، وإنما سعى لتحويلها إلى شيء ذي قيمة بالفعل؛ فدرس مع بعض زملائه بدءًا من عام 1928 سبب التزايد الواضح في انتحار الشباب في فيينا، وخاصة من فئة الطلاب، وقرروا إنشاء مركز لدراسة تلك الحالة مقدِّمًا خدماته بالمجان للشباب والطلاب، وتمركزت برامج الدعم فيه على مساعدة الشباب على الوصول إلى معنى حقيقي وذي قيمة في حياتهم، وكانت المفاجأة هي أن العام الذي يليه لم تسجل الوثائق الرسمية أي حالة انتحار بين صفوف الشباب.

يقضي الرجل سنواته التالية في تخصص مواجهة الانتحار، والعمل على إيجاد حلول نفسية حقيقية توقف تفشي هذه الظاهرة، حتى يحلّ عام 1938 وتدخل القوات النازية إلى فيينا فتتوقف أنشطته بسبب يهوديته.

(3)

يتزوج فيكتور في عام 1942 لكن بعد 9 أشهر من زواجه تلقي القوات النازية القبض عليه، وترسله إلى معسكر أوشفيتز النازي الشهير، لتبدأ رحلته الأقسى والنقطة الفارقة في حياته.

يبدي فيكتور اهتمامًا بمتابعة حالة المساجين من حوله، واستخراج أمور ذات معنى منها، فيتكشف له أن المساجين القادرين على البقاء والاستمرار ليسوا بالضرورة الأصحّاء أو الأقوى جسديًّا، وإنما مَن كانوا يحملون في عقولهم أملًا نحو المستقبل، وحلمًا بالخروج من ذلك المكان، فكانت قدرتهم على الوصول إلى معنى الحرية وإمكانية تحققها في يوم ما هو ما يبقيهم على قيد الحياة.

أما فيكتور نفسه فقد عمد لإنقاذ نفسه إلى تخيل حوارات كاملة مع زوجته والتحدث إليها وسماع ردودها كأنها حاضرة معه تؤنسه وتشدّ من أزره، قبل أن يعرف لاحقًا أنها ماتت داخل معسكر اعتقال آخر.

كذلك كان يتخيل نفسه يلقي محاضرات أمام حشود كبيرة من الطلاب والمهتمين وهو يحدثهم عن تجربة نجاته من ذلك المعتقل، إلى أن تختمر في عقله فكرة الكتاب الذي أراد أن يوثِّق من خلاله تلك التجربة، وهو كتاب "الإنسان يبحث عن المعنى".

يتذكَّر فيكتور -حينما منحوا راحة لبضع ساعات له ولزملائه- ذلك الشاب المتمسك بالأمل الذي قفز من بينهم فجأة على الرغم من شدة تعبه؛ ليخبرهم أن هناك فرصة ليتحركوا خلسة نحو حديقة خلفية يمكن أن يروا وهم داخلها الخضرة على الأرض وغروب الشمس وهي تسير نحو الأفق.

يحكي فيكتور أنهم في تلك اللحظة كانوا قادرين على الشعور بمعنى متميز وجميل للحياة؛ فرؤية الجمال الطبيعي واستشعار وجوده والتصديق بالعودة إليه منح كثيرين منهم أملًا كبيرًا في النجاة والعودة في يوم ما، وعدم الخضوع لشعور الضعف والألم الذي يمكنه بكل بساطة أن يقضي على حياة الكثير منهم.

يشاهد الرجل بعينيه رجالًا كثيرين ضخام الجثة وأقوياء البنية ضربتهم حالة اليأس بعدما كانوا يؤملون أنفسهم بالهرب من ذلك الجحيم، ثم فقدوا الأمل تمامًا، فكانت النتيجة أن قوتهم الكبيرة انهارت أمام اليأس، فانتحر منهم مَن انتحر، ومنهم مَن مات كمدًا بعدما أيقن في نفسه أنه لا سبيل للنجاة.

وصلت قدرة فيكتور على التحمُّل دون طعام إلى درجة وصل معها إلى التأقلم على ذلك بصورة مؤلمة، كاد أن يشعر فيها بدنوّ الموت منه بسبب ضعف جسده، لكنه كان عادة ما يشعر بالعودة عند تناول اللقمة التالية، تلك التي ادّخرها وأرغم نفسه على عدم الاقتراب منها إلا حينما يبلغ الجوع ذروته.

(4)

توصَّل مع الوقت إلى أشكال جديدة من الأفكار فيما يخص المعنى في حياة الإنسان؛ فذلك الرجل الذي كان يساعده أحيانًا بالقيام بمهمته بدلًا منه خلف عيون الحراس، كان يفعل ذلك ليشعر بأنه موجود على قيد الحياة يفعل ما هو ذا قيمة وما يمنحه معنى لبقائه حيًّا، حتى هو عندما كان يمنح شخصًا ما على وشك الموت قطعة من رغيفه ليقيم أَوده كان يشعر في داخله بأنه كان سببًا في إنقاذ حياة إنسان آخر ولو بلُقيمة من رغيفه الضئيل.

كانت الأفكار والتحليلات تعصف برأس الرجل من كثرة الظواهر المحيطة به، فمَن حوله ليسوا مجرد طلاب أصابهم اليأس بسبب عدم الحصول على وظيفة، وإنما بشر محرومون من الحياة بأبسط عواملها، وتنتهي حياة كثير منهم بالانتحار.

ولأن الكتابة هي الحل فقد لجأ إلى بعض المهربين ليمنحوه بضع أوراق قليلة وقلمًا مقابل نصف رغيف من طعامه، هذا الرغيف الذي يحصل عليه مرة كل أسبوع، حتى يستطيع كتابة ما وصل إليه وما فكَّر فيه، وبعد مدة طويلة من الكتابة والتدوين استطاع تهريب المخطوطة النهائية لكتابه إلى خارج المعسكر، ذاك الكتاب الذي سماه "البحث عن المعنى".

(5)

ليس أكثر إثارة من أن تضع نظرية ما في علم النفس، ثم تشاء الأقدار أن تكون أنت محل التجربة؛ فقد كان دخوله إلى ذلك المعسكر بمنزلة اختبار حقيقي لتلك النظريات التي نادى بها على مرّ سنوات، عبر الخروج بمعنى من الألم والمعاناة، فما الذي يجبر المرء على البقاء حيًّا وعدم الانتحار في تلك الظروف؟

كانت الأيام تمر على فيكتور ورفاقه داخل المعتقل من دون أن يشعروا بمرورها أو حسابها، حتى مرت 3 سنوات على وجوده داخل المعسكر إلى أن سقطت النازية في 1945، وخرج من المعسكر مدهوشًا أنه استطاع القدرة على البقاء كل هذه المدة في تلك الظروف دون أن يستسلم للشعور بالموت والانهيار، رغم أن كل ما حوله كان يؤهّله لذلك.

(6)

تعرَّض كتاب فيكتور للانتقاد من البعض؛ بوصفه يلوم الضحية ولا يلوم الجاني، ويطلب من الضحية أن ينجو بنفسه ويتحمَّل وحسب، بينما استمرت مدرسته في النمو والازدهار، فعاد الرجل إلى نشاطه؛ طبيبًا ومحاضرًا للطلاب، وصارت رحلته الأقسى والأصعب من العلامات البارزة في قدرة الإنسان على استخلاص المعنى من قلب المحن القاسية والنجاة بها.

 

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معناوظائف شاغرةترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssجميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

إقرأ أيضاً:

محركات البحث البشرية.. كيف كان البحث عن المعلومات قبل ظهور الآيفون؟

في وقتنا الحالي، بات الحصول على إجابة أي سؤال يحتاج منك لمجرد بضع نقرات على هاتفك لتصل إلى محرك بحث غوغل؛ حيث يمكنك الوصول إلى قدر هائل من المعارف الإنسانية بمجرد طلب بسيط من محركات البحث، والآن أصبح لدينا روبوتات محادثة تعتمد على الذكاء الاصطناعي.

لكن قبل ظهور الهواتف الذكية، مع إمكانية الاتصال بالإنترنت بأسعار رخيصة، كان الوصول إلى إجابة تلك الأسئلة يعتمد على أشخاص حقيقيين لتقديم تلك الإجابات، ويمكننا أن نطلق عليهم محركات البحث البشرية، كما أشار تقرير من موقع وايرد.

محركات البحث البشرية

ظهر الإنترنت على الهواتف المحمولة أول مرة عام 1996، لكن استخدام تلك الخدمة كان مكلفا، إذ كانت خطط بيانات الاتصالات المتوفرة حينها باهظة الثمن، كما يشير التقرير. وبحلول أوائل العقد الأول من القرن الـ20، كانت تكلفة الوصول إلى أي موقع على الإنترنت مرتفعة، وهو ما دفع الكثيرين إلى تجنب استخدام الإنترنت في أثناء التنقل على هواتفهم.

خلال تلك الحقبة الزمنية، ظهرت مجموعة من الخدمات لسد الفجوة بين انتشار الفضول الإنساني ونشر المعرفة. وكان بإمكان المستخدم الأميركي الاتصال بخدمة "غووغ-411" (GOOG-411) للعثور على الشركات المحلية بين عامي 2007 و2010. ومنذ عام 2006 إلى عام 2016، كان بإمكانهم إرسال رسالة نصية إلى الرقم 242-242 للحصول على إجابة لأي سؤال من شركة كانت تعرف باسم "تشاتشا" (ChaCha).

بينما في المملكة المتحدة، كانت الخدمات المماثلة تشمل الاتصال على رقم 118-118، أو إرسال رسالة نصية على خدمة "إيه كيو إيه" (AQA) على الرقم 63336، تلك الخدمات لم تعمل بواسطة الذكاء الاصطناعي، بل كان وراءها أشخاص حقيقيين.

مثلا بدأت خدمة 118-118 في المملكة المتحدة كخدمة لاستعلامات دليل الهاتف، كانت تستخدم للحصول على أرقام مطاعم البيتزا في المنطقة، أو لطلب سيارات الأجرة. ثم سرعان ما توسعت لتجيب عن جميع الأسئلة، ويشير التقرير إلى تلقي الخدمة مجموعة متنوعة من الاستفسارات، بداية من "كم يبلغ محيط العالم" إلى "كم عدد السيارات الصفراء على الطريق". كما كان الأشخاص العاملون في هذه الخدمة يستخدمون قاعدة بيانات بسيطة للإجابة عن تلك الأسئلة.

في عصر بدأت تهيمن عليه نماذج الذكاء الاصطناعي والردود الآلية، قد تذكرنا محركات البحث البشرية بقيمة التفاعل البشري (شترستوك)

على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، كان العاملون في خدمة "إيه كيو إيه" يتلقون طلبات مشابهة، وهي خدمة أسسها بول كوكرتون في عام 2002، ويشير هذا الاختصار إلى "الإجابة عن أي سؤال" (any question answered). في البداية، كان يعمل بول مع فريقه الصغير ليجيبوا عن الأسئلة باستخدام الكتب والموسوعات والبحث على الإنترنت، مع التأكد من الرد على كل رسالة نصية في غضون 10 دقائق. كان منهج تلك الخدمة هو تقديم إجابة دائما، حتى إن كان السؤال يتعلق بأمور شخصية مثل ما إذا كان ينبغي على الشخص أن ينفصل عن شريك حياته.

وفي ذروة نشاطها، وظفت الخدمة نحو 1400 باحث، ومنهم الطلاب والأمهات المقيمات في المنزل ليعملوا مقابل أجر للرد على كل رسالة، كما أنشأت الشركة قاعدة بيانات من الأسئلة والأجوبة الشائعة.

هاتف الآيفون

في عام 2007، قدمت آبل أول هواتفها الذكية وهو هاتف آيفون، وجاء الهاتف بشريط بحث مدمج لمحرك بحث غوغل، وهذه كانت بداية النهاية لمحركات البحث البشرية. فبحلول عام 2009، ومع تراجع تكلفة الإنترنت على الهواتف المحمولة وانتشار الهواتف أكثر، بدأت تراجع خدمات مثل "إيه كيو إيه"، وحينها باع كوكرتون وشركاؤه الشركة في عام 2010، كما أشار التقرير.

بينما لا تزال خدمات استعلامات الدليل مثل خدمة 118-118 موجودة حتى الآن، إلا أن دورها يقتصر على تقديم العناوين وأرقام الهواتف فقط.

وقدمت حقبة محركات البحث البشرية أكثر من مجرد معلومات، إذ يمكن اعتبارها أنها وسيلة للتواصل البشري. سواء كان الشخص يبحث عن تاكسي أو شخص وحيد يسعى للمحادثة، قدمت تلك الخدمات لمسة إنسانية لا يمكن أن تضاهيها الردود الآلية حاليا، كما يشير تقرير وايرد.

وفي عصر بدأت تهيمن عليه نماذج الذكاء الاصطناعي والردود الآلية، قد تذكرنا محركات البحث البشرية بقيمة التفاعل البشري.

مقالات مشابهة

  • أبعاد.. موقع الجزيرة نت يطلق صفحة جديدة للصحافة المعرفية
  • غرق في كفرعبيدا.. أعمال البحث عن أحمد مستمرة
  • البحث عن شاب سوري فقد مقابل شاطئ صيدا
  • الأهلي يرصد 130 مليون يورو لضم” فيكتور أوسيمين”
  • «التخصصات الصحية»: إلزام اجتياز الرخصة المهنية لتخصص علم النفس بداية سبتمبر المقبل
  • تغير المناخ يرغم منتجي زيت الزيتون على البحث عن حلول
  • تعذيب الأطفال لأجل العلم.. التاريخ المظلم لعلم النفس وتجاربه غير الأخلاقية
  • التخصصات الصحية: إلزامية اجتياز اختبار الرخصة المهنية لتخصص علم النفس
  • عودة: ما يحصل يوميا من عنف وتدمير ووحشية يندى له الجبين
  • محركات البحث البشرية.. كيف كان البحث عن المعلومات قبل ظهور الآيفون؟