إفراغ قطاع غزّة والخيارات الصعبة
تاريخ النشر: 7th, November 2023 GMT
تشيرُ يومياتُ المحرقة الصهيونيّة الجارية ضدّ الشعب الفلسطينيّ في قطاع غزّة منذ شهر، في أعقاب "طوفان الأقصى"؛ إلى أنَّ هناك أمرًا كبيرًا يجري في الأروقة السياسيّة الغربية والعربية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، التي تعمل على تحقيقه جنبًا إلى جنب مع الحكومة الصهيونيّة، هذا الأمر هو إفراغ قطاع غزّة من سكّانه، وضمّه إلى دولة الكيان الصهيونيّ، كمرحلة أولى سيتبعها ضمّ الضفة الغربية، أو وضع صيغ جديدة تنسجم مع المصالح الأميركية والصهيونية والعربية في المرحلة القادمة.
خصَّصت الإدارة الأميركيّة تمويلًا يصل إلى 10 مليارات دولار لدعم النازحين وتلبية متطلبات الاحتياجات المتطوّرة خارج غزة، بما في ذلك إسرائيل والضفة الغربية ولبنان والأردن وسوريا ومصر
تصحيح وعد بلفورقبل أيام مرّت الذكرى 106 للوعد البريطانيّ المشؤوم المعروف بـ "وعد بلفور"، الذي منحت الحكومة البريطانية بموجِبه الشعبَ اليهوديَّ حقَّ إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
ما يجهله معظم الناس أنّ معظم النصوص السابقة للنصّ النهائي لهذا الوعد، نصّت على تحويل فلسطين إلى دولة لليهود، كما وردَ في الصيغة قبل النهائيّة لوعد بلفور، والتي جاء فيها: "وجوب إعادة قيام فلسطين كوطن قوميّ للشعب اليهوديّ"، نزولًا عند طلب الاتحاد الصهيونيّ البريطاني. وقد تمّ تعديل هذه العبارة في الصيغة النهائية بعبارة: (وطن قومي لليهود في فلسطين)؛ مراعاة لظروف المنطقة العربية التي تعاونت مع الاستعمار البريطانيّ في الحرب العالميّة الأولى ضد الإمبراطورية العثمانية.
وقد ختمَ وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور (1848-1930م) خطابه إلى اللورد البريطاني اليهوديّ "ليونيل والتر روتشيلد" (1868-1937م) بتاريخ 2/11/1917م؛ قال: "سأكون ممتنًا إذا ما أحطتم الاتحاد الصهيونيّ علمًا بهذا التصريح"، يقصد وعد بلفور. وكان على رأس الاتحاد الصهيوني البريطانيّ آنذاك، حاييم وايزمان (1874-1952م)؛ أوّل رئيس لدولة الكيان الصهيوني في الفترة (1949-1952م)، والذي قالَ بعد وعد بلفور مقولته الشهيرة: "إنَّ فلسطين ستكون لليهود، مثلما أنّ بريطانيا للبريطانيين". وهو ما فعله رئيس الوزراء الصهيونيّ بنيامين نتنياهو عندما عرض خريطة دولته في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/ أيلول الماضي على كامل الأراضي الفلسطينية بما فيها الضفة الغربية وقطاع غزّة والقدس الشرقية.
كانت مكانة بريطانيا في ذلك الوقت لدى الدول العربية، أشبه بمكانة الولايات المتحدة حاليًا، الجميع يخطب ودّها، ويخشى غضبها، ولا يرفض لها طلبًا، وإن لزم الأمر، تكون الموافقة في السرّ والرفض في العلن مجاراة لمشاعر الشعوب الهائجة، كما يرجو دعمها في الطعام والدواء والمال والسلاح والتحديث والتنظيم والتطوير..، أو يتطلع إلى الاستقلال ضمن الكيان السياسي الذي تم تحديده وَفقًا لاتفاقية سايكس-بيكو بين بريطانيا وفرنسا.
لم تقمْ دولة الكيان الصهيوني مباشرة بعد صدور وعد بلفور، فقد استغرقَ الأمر 30 عامًا حفلت بدعم غربي عسكري وسياسي واسع النطاق، ومذابح عديدة لإجبار الشعب الفلسطينيّ على مغادرة أرضه، مع تخاذُل عربي رسمي مشين، انتهى بشنّ القوات الصهيونية حرب النكبة عام 1948م وإعلان دولة الكيان (إسرائيل)، التي وُوجِهت باحتجاجات عربية وإسلامية دبلوماسية وشعبية واسعة النطاق، وعسكرية محدودة.
وزير الخارجية الأميركي: "لسنا واهمين بشأن صعوبة تحقيق حلّ الدولتين. ولكن لا يسعنا التخلي عن السلام على غرار تعبير الرئيس بايدن، وعلينا أن نكافح أكثر في الأوقات القاتمة المماثلة لنحافظ على مسار بديل ونبين للناس أنّه من الممكن تحسين حياتهم بشكل ملموس"
استكمال وعد بلفورتقوم الولاياتُ المتحدة حاليًا بالدور نفسه الذي كانت تقوم به بريطانيا قبل أكثر من قرن من الزمان في خِدمة الكيان الصهيونيّ، وتعمل على مساعدته لإتمام الجزء الثاني من وعد بلفور، الذي لم تصرّح به بريطانيا حينها، عن ضمّ الأراضي الفلسطينية إلى دولة الكيان الصهيونيّ، بدءًا بقطاع غزة وانتهاءً بالضفة الغربية، وذلك في ضوء العديد من المؤشرات والإجراءات المصاحبة لهذه الحرب، وفي مقدمتها:
دخول الولايات المتحدة سياسيًا وعسكريًا ودبلوماسيًا وماليًا جنبًا إلى جنب مع الكيان الصهيوني في هذه الحرب، والإشراف على إدارتها في كافّة هذه المجالات، وهو ما لم يحدث من قبلُ، وتهديدها كافة الدول الإقليمية من مغبة الدخول في هذه الحرب. تبرير الولايات المتحدة جرائم الإبادة التي يقوم بها الكيان الصهيوني، ومشاركتها في التخطيط والإدارة والمعلومات، وإصرارها على عدم إيقاف الحرب حتى القضاء التام على حركة حماس، وغضّ الطرف عن كافة الانتهاكات التي تجري بالمخالفة للقانون الدوليّ والإنسانيّ. تكثيف القصف ضدّ المدنيين في مدينة غزة وسائر مدن القطاع وهدم المنازل على رؤوس ساكنيها، وضرب المدارس والمستشفيات والمساجد والمخابز، لإجبار الناس على النزوح خارج القطاع. الترتيب لفتح ممرّ إنسانيّ آمن تحت إشراف دولي لخروج المرضى والنازحين من قطاع غزة إلى الحدود مع مصر، داخل الأراضي الفلسطينية أو خارجها، وسيكون نزوحًا مؤقتًا لحين ترتيب إجراءات استيعابهم إقليميًا ودوليًا. حاجة دولة الكيان الصهيوني الماسّة للانتصار الكامل في هذه المعركة بالقضاء على حركة حماس؛ لأن الفشل في ذلك ببساطة يعني هزيمتها عسكريًا بصورة كاملة، وسيكون لذلك تداعيات عديدة إقليميًا ودوليًا لن تتمكن من معالجتها لعقود قادمة، كما ستوجّه هزيمتها ضربةً قويةً جدًا لفكرة الدولة اليهودية في أوساط الجاليات اليهودية في العالم. حاجة بنيامين نتنياهو أكثر من غيره إلى الانتصار في معركته ضد حماس، وضمّ قطاع غزّة لدولة الكيان الصهيونيّ، من أجل استعادة اعتباره السياسي، والتهرُّب من الاتهامات التي تنتظر فتح التحقيقات بعد توقف الحرب. تجاهل الحديث عن حلّ الدولتين، باعتباره حلًّا غير قابل للتطبيق، وقد ردّد ذلك الرئيس الأميركيّ جو بايدن مرارًا، وكرّره من بعده وزير خارجيته أنتوني بلينكن، وأكتفي بنقل ما جاء في كلمته أمام الاجتماع الوزاري في مجلس الأمن يوم 24/10/2023م، حيث قالَ: "لسنا واهمين بشأن صعوبة تحقيق حلّ الدولتَين. ولكن لا يسعنا التخلّي عن السلام على غرار تعبير الرئيس بايدن، وعلينا أن نكافح أكثرَ في الأوقات القاتمة المماثلة لنحافظ على مسار بديل ونبيّن للناس أنّه من الممكن تحسين حياتهم بشكل ملموس، بل هو أمر ضروريّ". ومع ذلك لا تنفك الإدارة الأميركية تشير إشارات سريعة من حين إلى آخر إلى حلِّ الدولتَين من باب ذرّ الرماد في العيون. لم تحدد حكومة الكيان الصهيوني حتى الآن أي تصور لما سيكون عليه الوضع في قطاع غزة بعد القضاء على حماس. وهذا فتح المجال أمام تكهنات الأوساط الإقليمية والدولية حول نوايا الحكومة الصهيونية بهذا الصدد. الطلب الذي تقدم به الرئيس بايدن إلى الكونجرس للحصول على تمويل تكميلي للسنة المالية 2024م، لسدّ احتياجات الأمن القومي الطارئة بسبب الأحداث الجارية في كلّ من أوكرانيا و(إسرائيل)؛ ويتضمن 14 مليار دولار لدولة إسرائيل، لتمويل الاحتياجات العسكرية والأمنية والدبلوماسية حتى عام 2026م. هذا الطلب احتوى على مبلغ 9.7 مليار دولار لتمويل الجوانب الإنسانية الناجمة عن الحرب في أوكرانيا و(إسرائيل)، وخاصة الشعب الفلسطيني الذي سيخرج من قطاع غزة، وقد جاء في ص 40 من الطلب: (تكاليف البنية التحتية الإنسانية الحرجة المحتملة اللازمة للاجئين لتوفير إمكانية الحصول على الدعم الأساسي الذي يحافظ على الحياة. ويمكن أن تؤدي هذه الأزمة إلى النزوح عبر الحدود، وارتفاع الاحتياجات الإنسانية الإقليمية، وقد يستخدم التمويل لتلبية متطلبات الاحتياجات المتطورة خارج غزة). كما جاء في ص49: (ويمكن استخدام التمويل لتلبية متطلبات الاحتياجات المتطورة خارج غزة، بما في ذلك إسرائيل والضفة الغربية ولبنان والأردن وسوريا ومصر).إنَّ هذا المخطّط يحتاج تحقيقه إلى وقت طويل، سنشهد أثناءَه الكثيرَ من الإجراءات والاحتجاجات والمؤتمرات والبرامج الإقليمية والدولية، ولكنه سيسعى لفرض نفسه في نهاية المطاف ليصبح أمرًا واقعًا بفعل الهيمنة الأميركية، وهو حاليًا يسير بخطى متلاحقة، ستزداد وضوحًا بعد استكمال إجراءات فتح الممر الإنساني الآمن، وبدء تدفق مواطني غزة عبره للنجاة من جحيم الدمار والقتل المحيط بهم من كل جانب، دون تفكير بالمصير الذي سيواجهونَه بعد ذلك، والتغريبة الفلسطينية الجديدة التي ستتلقفهم على أبواب المنفى الجديد. فهل سينجح هذا المخطط الاستعماري، أم سيواجه معوقات صلبة تحول دون ذلك؟ وهل سيقع مواطنو قطاع غزة في هذا الفخّ الإجرامي؟ أم أن لديهم خيارات أخرى يلجؤون إليها؟
هذا ما سنتناوله في المقال القادم بإذن الله.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+
تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssجميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: دولة الکیان الصهیونی ة الکیان الصهیونی الولایات المتحدة الشعب الفلسطینی ة الغربیة وعد بلفور قطاع غز ة قطاع غزة جاء فی فی ذلک
إقرأ أيضاً:
شرطة غزة: أكثر من 1400 شهيد و1950 إصابة من منتسبينا جراء العدوان الصهيوني
الثورة نت/
قالت الشرطة في قطاع غزة الثلاثاء إن “جيش” العدو الصهيوني قتل أكثر من 1400 من قادة وضباط ومنتسبي الجهاز وأصابت ما يزيد عن 1950 آخرين، واعتقلت نحو 211 على مدار أكثر من 15 شهرا من الإبادة الجماعية قبل دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ صباح الأحد.
جاء ذلك خلال مؤتمر صحفي عقده مدير المكتب الإعلامي في الجهاز محمد الزرقا، على أنقاض مدينة عرفات للشرطة بغزة.
وأضاف الزرقا “ننعى إلى أبناء شعبنا الفلسطيني أكثر من 1400 شهيد من قادة وضباط ومنتسبي جهاز الشرطة وفي مقدمتهم مدير عام الشرطة في قطاع غزة اللواء الشهيد محمود صلاح، الذين ارتقوا وهم على رأس عملهم يحملون همّ وطنهم، ويقدمون الخدمة لشعبهم، ولم يثنهم الاستهداف الممنهج عن أداء واجبهم”.
وتابع “بالإضافة إلى ما يزيد عن 1950 مصابا، و211 أسيرا لدى الاحتلال الإسرائيلي”.
وأوضح أن جميع المقار والمراكز الشرطية في القطاع تعرضت للتدمير إلى جانب حرق وتدمير المئات من المركبات والمقدرات التابعة للجهاز؛ وفق الزرقا.
وبحسب الزرقا، فإن الاستهداف الصهيوني لمنتسبي ومقدرات جهاز الشرطة هدف لـ”إرباك الساحة الداخلية وإشاعة الفوضى والفلتان، وتجويع أبناء شعبنا عبر قصف عناصر تأمين إدخال المساعدات”، قائلا إن إسرائيل “فشلت في ذلك أمام صمود ووعي الشعب”.
وفي السياق، قال الزرقا إن الأيام القادمة ستشهد المزيد من الإجراءات في القطاع بما يكفل أمن المواطنين واستقرارهم بعدما نفذ الجهاز خطة انتشار في جميع المحافظات منذ اللحظات الأولى لسريان وقف إطلاق النار صباح الأحد.
وبيّن أن ذلك يأتي لـ”بسط الأمن والنظام العام ومساندة المواطنين وحماية ممتلكاتهم ولاستعادة مظاهر الحياة في القطاع”، داعيا المواطنين لـ”التعامل الكامل مع الأجهزة المختصة والالتزام بتعليماتها حرصا على سلامتهم والمصلحة العامة”.
كما أطلق خلال المؤتمر تحذيرا بسبب “المخاطر الكبيرة المحدقة بحياة المواطنين نتيجة انتشار مخلفات الاحتلال الحربية وأجسام مشبوهة بين ركام وأنقاض المباني والمنازل المدمرة على امتداد محافظات قطاع غزة”.
وأضاف حول ذلك أن “طواقم هندسة المتفجرات تعمل مع الجهات المختصة والشريكة، على تفقد الأماكن التي ما زالت تحتوي على مخلفات القذائف غير المنفجرة والأجسام المشبوهة في جميع المحافظات”.
ودعا المواطنين إلى “عدم العبث بأية أجسام أو قذائف، وإبلاغ الجهات المختصة من أجل القيام بواجبها في إزالتها وتحييدها”.
كما دعا إلى “تزويد جهاز الشرطة بغزة بالمعدات اللازمة للتعامل مع هذا الكم الهائل من مخلفات العدوان الصهيوني بما فيها القنابل غير المنفجرة”.
وطالب في ختام المؤتمر المجتمع الدولي بـ”الضغط على الاحتلال للتوقف عن سياسة تدمير واستهداف جهاز الشرطة باعتباره جهاز حماية مدنية يؤدي خدمة إنسانية للمدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة”.
والأحد، بدأ سريان وقف إطلاق النار بين حماس والكيان الصهيوني الغاصب، ويستمر في مرحلته الأولى لمدة 42 يوما، يتم خلالها التفاوض لبدء مرحلة ثانية ثم ثالثة، بوساطة مصر وقطر والولايات المتحدة.