عندما اشتهت السفن.. تجدد الآمال عبر النضال في رحلة من الجزيرة السورية إلى السويد
تاريخ النشر: 27th, June 2023 GMT
يخطو الكاتب السوري الشاب نادر عازر أولى خطوات مشواره الأدبي بروايته البكر "عندما اشتهت السفن" الصادرة حديثا عن دار موزاييك للدراسات والنشر، ويقدّم عازر في روايته -الممتدة على 315 صفحة من القطع المتوسط- حفرا سرديا مطولا في تاريخ النضال السياسي لعائلة مسيحية سورية عبر تتبع حياة الحفيدة "سما" في رحلة لجوئها من سوريا إلى السويد.
ومن نقطة متقدمة زمنيا في عمر الأزمة السورية (السنة الرابعة) تبدأ أحداث الرواية في مدينة الحسكة التي يعاني أهلها من مختلف ضروب الألم والشقاء بسبب الحرب، ووابل الأحداث المأساوية المتعاقبة عليهم كلعنة لا تعرف لأثرها نهاية.
ومع اتخاذ "سما" قرارا بالمضي قدما في رحلة لجوء مليئة بالمخاطر، نجد السرد وقد انفتح على شخوص وأمكنة جديدة مكّنتْ الروائي من حمل القارئ إلى مساحات بِكْر مليئة بالإضاءات الحاذقة لقضايا سياسية واجتماعية معاصرة، وأخرى تاريخية متصلة بسوريا وحياة العائلة المسيحية.
الحسكة التي شبعت من الموت والهجرةتفرش الحرب ظلالها على الفضاء الروائي منذ السطور الأولى؛ حيث لم يعد سماع صوت "إطلاق الرصاص" أو سماع خبر عن "خطف الناس" في مدينة الحسكة سوى "أمور روتينية تشبه هبوب موجات الغبار".
وفي صباح كابوسي من صباحات الحروب تستيقظ سما على صوت مدوّ لرصاصة أطلقت من مسافة قريبة، تقفز الفتاة العشرينية إلى الشباك وإذا بوالد صديقتها "نور" يصرخ ناعيا ابنته التي انتحرت.
ومع هذا الانتحار المفاجئ لنور تكون سما قد خسرت آخر المقربين إليها في البلاد، بعد خسارتها والدتها أنطوانيت الكاتبة الصحفية والمناضلة اليسارية التي انتهت بها الحال إلى الاعتقال ثم أصابها مرض أودى بحياتها. وجدتها، التي كانت تكره السياسة وتنقم على تاريخ العائلة السياسي وتمنع سما من الاطلاع على مدوّنات والدتها وجدها، ماتت هي أيضا متأثرة بجراح خلفتها شظايا من انفجار، وأخيرا جدها الذي توفي تاركا لها شتلات من الزهور، وعددا من الكتب، ورسالة ستغيّر حياتها.
ينقلنا الراوي ببراعة بين الأحداث اليومية لسما التي تحضّر نفسها للتوجه إلى دمشق رغم الواقع الميداني المعقد في البلاد، وبين فضاء مدينة الحسكة التي تحول السرد عندها إلى كاميرا تلتقط جميع التفاصيل المميزة للمدينة بأبنيتها الحديثة وأحواشها التقليدية، وبأسطحها المليئة بصواني البندورة المجففة والحبوب بأصنافها، والسجاد المنشور على الجدران مشكلا لوحات من الرقع الهندسية.
ورغم ذلك الجمال الأصيل للمدينة فإنها تبدو في عيون الراوي "مريضة ويائسة، تنتظر من ينقذها أو يدفنها"، أما الناس فقد تأقلموا مع الحرب "كما كانوا متأقلمين في الماضي مع واقع الهجرة المستمرة لأبناء المدينة إلى دول الخليج"، طلبا للرزق والحياة الكريمة.
ومع تقدم السرد تغدو الحسكة وسما وجهين لألم واحد ولمعاناة واحدة، فالمدينة خسرت مكانتها كبيت كبير وآمن لأهلها، وخسرت سكانها موتا وهجرة وتحولا في نفوسهم جعلهم يفقدون رغبتهم في الحياة، بينما لم يبقَ لسما أحد من أهلها وأصدقائها، وكالحسكة خسرتْ الفتاة بريقها وجمالها الأخاذ بفعل الحرب وويلاتها.
متابعة الطريقورغم المخاطر المحدقة بها تابعت سما رحلتها من دمشق إلى السويد، وفي الأثناء اتخذت قرارا بمتابعة رحلة أخرى ولكن من نوع مختلف.
كان جد سما مفكرا يساريا وصاحب تاريخ نضالي كلّفه سنوات من عمره أمضاها في السجون السورية، كتبَ الجد مجموعة من الكتب في الفكر السياسي والاجتماعي التي دوّن أسماءها إلى جانب عدد من الكتب الأخرى في رسالته (وصيته) إلى سما، مشيرا إليها بقراءتها لتختار ما إذا كانت ستكمل طريق النضال العائلي.
وبعد وصولها إلى السويد، وقراءتها للكتب المشار إليها، قررت سما أن تحذو حذو جدها ووالدتها في مقارعة الاستبداد والدفاع عن حقوق الناس، فدرست الصحافة وبدأت نشاطها السياسي مع أحد الأحزاب اليسارية في السويد إلى جانب دعمها لقضايا بلدها الأم سوريا عبر المنظمات الإنسانية الفاعلة.
ومن خلال ما تواجهه سما في رحلتيها (رحلة النجاة الفردية، ورحلة العمل السياسي) نتعرّف إلى تاريخ عائلتها النضالي، وهي عائلة مسيحية يسارية لم تكف منذ منتصف القرن الماضي عن تقديم التضحيات من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية في بلد ينهشه الفساد والاستبداد.
وعن إثارته لقضية معارضة الأقليات للنظام الحاكم في سوريا، يقول نادر عازر للجزيرة نت "إن موضوع الأقليات إشكالي وخاصة في دولنا العربية الخالية من الديمقراطية وحرية التعبير وحقوق الإنسان، والتي كانت وما تزال مؤسساتها وكرا للفساد منذ عشرات السنين".
ويضيف عازر "ولطالما كان هذا الموضوع مُحرّما، وكأنه فتنة لعن الله من أيقظها، وهذا يدل على أن الاختلافات وصراع المصالح والحقوق الاجتماعية في بلداننا لم يتم حلّها ضمن إطار الديمقراطية والقانون واحترام الإنسان، وإنما تم وضعها في صندوق أقفل عليه ومنع فتحه. وهذا الكبت بشكل عام كان أحد الأسباب لانفجار الأوضاع في بلداننا، إلى جانب أسباب كثيرة أخرى بالطبع يطول الحديث عنها".
واختتم الكاتب إجابته قائلا "إن إثارة موضوع معارضة الأقليات في روايتي هو للتأكيد على أن مختلف المكونات في بلداننا ليست متجانسة ولا متساوية تماما كأسنان المشط، وإنما كل له مصالحه وآراؤه وأفكاره، وهذا أمر طبيعي وحق للجميع. وأردت تسليط الضوء أيضا على ما ترغب الأنظمة الشمولية بالتعتيم عليه وترسيخه من أفكار مشوهة، مثلما فعل النازيون بمفاهيمهم حول صفاء الأعراق وتسيّدها".
اليسار المفلس و"الخط الثالث"ومع انخراط سما في العمل السياسي في صفوف أحد الأحزاب اليسارية الثورية في السويد، ومواظبتها على حضور الاجتماعات، اكتشفت الفتاة المتحمسة، المشحونة بأفكار جدها ووالدتها، أن قيادات الحزب لا تفكّر إلا بالمسائل التكتيكية التي تؤمّن للحزب انتصارات متواضعة في هذه المقاطعة أو تلك دون اتباع خطط إستراتيجية تحقق اختراقا حقيقيا للنظم المستغلّة.
ووجدت سما أن اليسار في أوروبا بات يقتصر نشاطه على قضايا كالدفاع عن حقوق مجتمع المثليين، والحفاظ على البيئة، والانحياز لصالح النباتيين ومعاداة آكلي اللحوم، ولم يعد نشاطا ثوريا يسعى إلى الإطاحة بالنظام الرأسمالي وإحلال نظام آخر أكثر "عدالة وشيوعية".
وفي هذه الحلقة من السرد تغدو شخصية سما، بأقوالها وأفعالها، إدانة للحركات والأحزاب اليسارية الأوروبية التي لم تتمكن من إعادة إنتاج نفسها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وإنما دخلت "مرحلة ضياع وجمود فكري أقرب إلى الموت السريري"، على حد وصف عازر في حديثه للجزيرة نت.
لذلك قررت سما أن تمضي بمشروعها السياسي الخاص، والذي حمل عنوان "الخط الثالث"، راجية أن يكون تتمة لمشروع جدها ووالدتها، وأن يعكس رؤيتها لإعادة الدور "الفعلي" لليسار في الدفاع عن حقوق المستضعفين والمستغَلين.
التوثيق سرداوإلى جانب الوظيفتين الجمالية والدلالية، يضطلع السرد في رواية "عندما اشتهت السفن" بوظيفة توثيقية تسعى للإحاطة بمختلف أوجه المعاناة التي قاساها السوريون خلال الحرب داخل حدود وطنهم وخارجه.
فعمد الكاتب إلى جعل كل شخصية فاعلة في السرد بمثابة مَطل على فصل من فصول الحرب السورية، وما أفرزته من آلام إنسانية مُركبة ملأت صحف وشاشات العالم بأسره.
فنقرأ عن الغرقى من اللاجئين في "رحلات الموت"، وعن الخطف الذي طالهم في الصحاري الأفريقية مقابل الفدية، وتنامي خطاب العنصرية ضدهم في أوروبا مع صعود اليمين في عدد من بلدان اللجوء، وعن معاناتهم اليومية في التأقلم مع المجتمعات الجديدة بعد اقتلاعهم من جذورهم، وغيرها من أوجه معاناتهم التي ما تزال مستمرة منذ 12 عاما.
وعن علاقة السرد بالتوثيق يقول عازر "إن الأعمال الأدبية جزء مهم من تأريخ المراحل والغوص فيها بطريقة سردية سلسة يتقبلها القارئ في كل زمان ومكان، وهي مُكمّلة لكتب التاريخ والتوثيق الحديث بكافة أشكاله. فعلى الكاتب أن يكون كالنسر الذي يرى المشهد بأكمله من علو، وأيضا كدودة الأرض التي تلامس أدق التفاصيل".
ويضيف "حاولت قدر الإمكان الابتعاد عن الرومانسية وتمجيد الأشياء، مقابل التقرّب من الموضوعية، فلا شخصية كاملة ولا مجتمع كامل ولا بلد كامل لا في الغرب ولا الشرق. كلٌّ له إيجابياته وسلبياته. ويبقى التفسير والحكم على هذه الأعمال الأدبية للأجيال المعاصرة والمقبلة".
وبالرغم من إيمان الكاتب بأن "ما تحميه الأنظمة الاستبدادية هو نفسها ومصالحها فقط، ولا يهمها أي شيء آخر، لا أقلية ولا أكثرية، ولا حتى وطن"، فإنه اختار لروايته نهاية ملؤها الإرادة والتصميم على إحداث التغيير رغم ما طال شخوصه من انكسارات مع انغلاق آخر حلقات السرد.
المصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
ما هي الأسباب التي تعزز فرص الهجوم الإسرائيلي على إيران؟
تناولت صحيفة "غلوبس" الاقتصادية العبرية التقارير الأجنبية عن "هجوم إسرائيلي مُخطط على إيران"، ونقلت تحليل معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي بشأن تلك القضية، موضحة أن طهران تحاول إخفاء وضعها الاقتصادي البائس.
وقالت "غلوبس" تحت عنوان "الانهيار الاقتصادي الإيراني يشعل فتيل البرنامج النووي.. على الورق على الأقل"، إن التقارير الأجنبية بشأن النووي الإيراني أثارت استغراب الكثيرين في إسرائيل، وجاء في أحدها بصحيفة "ذا تلغراف" البريطانية، أن إيران رفعت مستوى التأهب في نظام الدفاع الجوي بمنشآتها النووية، خوفاً من هجوم إسرائييل أمريكي، مشيرة إلى أنه على الورق، يبدو توقيت مثل هذا الهجوم مثالياً من حيث الأمن الإقليمي، لأن حركة حماس الفلسطينية ضعفت بشكل كبير، وأصبح حزب الله في وضع حرج، وفي الوقت نفسه سقط نظام بشار الأسد في سوريا، وتعطلت سلاسل الإمداد الإيرانية بالأسلحة والأموال.
ونقلت عن معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، أنه منطقياً وعسكرياً، هذا هو الوقت المناسب لضرب إيران، ولكن يبدو أن طهران تسيء تفسير نوايا إسرائيل التي لن تهاجم وحدها، مشيراً إلى أن الرئيس الأمريكي يفرض عقوبات في وقت ينفتح فيه على المفاوضات مع طهران.
في أول تعليق له.. محمد جواد ظريف يكشف كواليس استقالتهhttps://t.co/jFwmRVqVik
— 24.ae (@20fourMedia) March 3, 2025 تأثير العقوبات الأمريكيةوتقول الصحيفة الإسرائيلية إن سياسة العقوبات التي ينتهجها دونالد ترامب تسير على قدم وساق، مشيرة إلى أنه قبل نشر تقرير "ذا تلغراف"، فرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات على أكثر من 30 تاجراً ومشغلا لناقلات النفط وشركات الشحن المشاركة في أسطول الظل الذي يخدم صناعة النفط الإيرانية، وتشمل القائمة عقوبات على تجار النفط في عدد من الدول، بالإضافة إلى مدير شركة النفط الوطنية الإيرانية، ومديري ناقلات النفط من الصين.
وتحدثت الصحيفة عن تأثير عقوبات النفط على الوضع الاقتصادي في إيران، التي يعيش أكثر من ثلث سكانها تحت خط الفقر، في الوقت الذي يقدم النظام الإيراني أكثر من 10 آلاف دولار لأسر أعضاء حزب الله الذين أصيبوا في الحرب، فيما ظلت المكاتب الحكومية والبنوك والمدارس في 22 من محافظات إيران البالغ عددها 31 مغلقة اليوم الإثنين بسبب عدم توفر الكهرباء اللازمة لتشغيلها.
تقدم البرنامج النووي
وعلى النقيض تماماً من حالة الاقتصاد المحلي، فإن البرنامج النووي الإيراني أصبح الآن في أكثر مراحله تقدماً على الإطلاق، وفقاً لتقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
ونقلت غلوبس عن المعهد أنه "من الممكن أن يكون هذا نابعاً من مصلحة داخلية في إيران لإظهار قدرتها على الصمود في الخارج، بعد التصريحات الإسرائيلية بشأن القضاء على الدفاع الجوي الإيراني، وليس من المستحيل أن يرغب النظام، بسبب الوضع الاقتصادي الصعب في البلاد، في إيصال رسالة مفادها أنه على الرغم من أن الوضع الداخلي رهيب، فإن التهديد الخارجي أعظم، كما كانت الحال خلال الحرب الإيرانية العراقية في ثمانينيات القرن العشرين".
في السياق ذاته، أجرت صحيفة "معاريف" الإسرائيلية حواراً مع بيني سباتي، الباحث البارز في برنامج إيران في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، والذي عكس في حديثه صورة قاتمة عن إيران، مؤكداً أن الأزمة الحالية أكثر خطورة من الحرب الإيرانية العراقية.
هل يُسقط تعدين البيتكوين النظام الإيراني؟https://t.co/tepd2E95XR
— 24.ae (@20fourMedia) February 28, 2025 إقالة دون تأثيروعلى الرغم من أن إقالة وزير الاقتصاد الإيراني عبد الناصر همتي تثير تساؤلات حول قدرة الحكومة على التعامل مع الأزمة الاقتصادية المستمرة، إلا أن سباتي يقول إن هذه الإطاحة لن يكون لها أي تأثير تقريباً، وأن "حكومة هذا الرئيس لا تتخذ القرارات حقاً، ولا تتمتع بأي تأثير حقيقي، ولكن من يتمتع بتأثير حقيقي هو الزعيم، في إشارة للمرشد علي خامنئي، ومستشاريه، وغالبيتهم من الحرس الثوري.
وبحسب سباتي، فإن إشارة الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان إلى أن الوضع الحالي أكثر خطورة من الحرب الإيرانية العراقية، تكشف عن الضعف الإيراني.
ورأى أن رفض خامنئي استئناف المحادثات مع الولايات المتحدة الأمريكية يسبب أضراراً جسيمة، لأنه يحط من قدر الدولة الإيرانية والاقتصاد الإيراني، والمجتمع أيضاً، ويذهب بكل شيء نحو الهاوية على شكل كرة من الثلج.