القضيّة الفلسطينيّة وجدليّة الحكومات والجماهير جدليّة قديمة، تارة تتحدّ وتارات تتمايز وتتباعد، وتارة يظهر صوت خطابيّ يوحدها كما حدث عند جمال عبد النّاصر (ت 1970م)، وبعده لم يظهر ذلك الصّوت الّذي وحد الجميع شرقا وغربا، في خطاب عروبيّ موحد، فقد ظهر مفرقا بشكل خافت لاحقا مع الملك فيصل بن عبد العزيز (ت 1975م) وأنور السّادات (ت 1981م) في حرب أكتوبر 1973م قبل كامبّ ديفيد 1976م الّتي ألغت تأريخه، وقضت عليه لاحقا، وياسر عرفات (ت 2004م) عندما كان رمزا نضاليّا، قبل أن تقضي على تأريخه كامب ديفيد، ثمّ أوسلو الأولى والثّانيّة، وصدّام حسين (ت 2006م)، رغم الجراحات الّتي أشعلها مع جارتيه إيران والكويت، مع وجود رموز سياسيّة أخرى أيضا لها تأثيرها كالملك الحسين بن طلال (ت 1999م)، ولكن لم يأت بعد جمال عبد النّاصر من وحد القضيّة الفلسطينيّة، وعشقته الجماهير العربيّة والإسلاميّة، إلّا أنّه ذاته أدخل مصر وجيشها في صراعات خارجيّة كاليمن، وفي صراع داخليّ مع الإخوان المسلمين، ممّا كانت نكسة حزيران 1967م، والّتي كانت أكبر نكسة بعد نكسة 1948م.

لهذا يمكن أن نقرأ تطوّر هذه القضيّة وتجاذبها بين الحكومات والنّخب بأنواعها من جهة، وبين الحكومات والجماهير من جهة ثانية، ابتداء من المرحلة المحذّرة من قيام كيان في المنطقة غير الكيان العربيّ قبل 1948م، حينها العديد من الأقلام السّياسيّة والدّينيّة والثّقافيّة الّتي أدركت ما سيكون ويؤول إليه الأمر، لكن هناك من برّره نخبويّا أيضا، وحاول حاتم عليّ (ت 2020م) أن يختصر هذا المشهد الفلسطينيّ والعربيّ قبل نكسة 1948م في إخراجه للمسلسل السّوريّ الشّهير «التّغريبة الفلسطينيّة».

ثمّ تأتي إلى المرحلة شبه الموحدة بعد نكبة 1948م، وفيها كان التّطوّع النّضاليّ، وشارك فيها متطوّعون من العالم العربيّ والإسلاميّ، ولم توجد حينها شعارات تفرقهم، فقد شاركت فيها رمزيات إسلاميّة ومسيحيّة ودرزيّة، واتّجاهات إسلاميّة ويساريّة، بيد أنّ واقع العالم العربيّ والإسلاميّ حينها مفرق وضعيف جدّا بسبب سقوط الدّولة العثمانيّة من جهة، وبسبب التّمدّد الأوروبيّ والاستعماريّ في المنطقة، من قبل الإنجليز والفرنسيين والطّليان خصوصا، وبسبب الإفاقة المتأخرة في العالم العربيّ على عالم تقدّمهم في النّهضة والتّسليح وتنظيم الجيوش، ثمّ كان هذا بعد الحرب العالميّة الثّانيّة الّتي قوّت دول الحلفاء، وعلى رأسها بريطانيا على دول المحور، وكانت بريطانيا أكبر حليف ومناصر وداعم لهذا الكيان، قبل تسليم الأمر إلى أمريكا، وحينها بعد تراجع دول المحور أصبحت القوّة لهذا الثّلاثي التّحالفي: بريطانيا وأمريكا وروسيا، قبل أن تتراجع بريطانيا عن المشهد.

وبظهور الحركات اليساريّة والقوميّة، ولم تفرقها حينها الطّائفيّة كما أسلفنا، وكانت النّزعة العروبيّة والقوميّة أكثر شيوعا، لهذا كان النّضال الموحد فكريّا وسياسيّا، ليظهر في هذه الأجواء جمال عبد النّاصر وانتصاراته في حرب السّويس 1956م أو ما تسمّى بالعدوان الثّلاثي على مصر أي بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، بيد أنّ نكسة حزيران 1967م أو نكسة حرب الأيام السّتة أثرت سلبا على الوجدان العربيّ، فسقطت سيناء وقطاع غزة والضّفة الغربيّة والجولان، وقد شارك فيها العراق ومصر وسوريا والأردن، إلّا أنّ الرّوح العروبيّة والنّضاليّة رجعت بعد حرب أكتوبر أو حرب العاشر من رمضان 1973م في عهد أنور السّادات من قبل مصر وسوريا خصوصا، فهيمنت مصر على سيناء مطلقا، وقطاع غزّة عسكريّا، وسوريّة على الجولان، والأردن على الضّفة الغربيّة، وقد انفتح السّادات على الحركات الإسلاميّة، وأخرجها من السّجون، وأعطاها مساحة من الحريّة.

لتأتي بعد هذا إلى مرحلة التّنازل العربيّ، أي بعد كامب ديفيد 1978م، ثم معاهدة السّلام 1979م بين الثّلاثي السّادات ومناحيم بيجن (ت 1992م) وجيمي كارتر، وفيها إقامة سلام من خلال حل الدّولتين على حدود 1967م، هذه لقيت معارضة كبيرة دينيّا وسياسيّا وثقافيّا، وتعتبر أكبر شرخ في الوسط العربيّ والنّضاليّ، وقد قوطعت مصر حينها من غالب الدّول العربيّة، بيد أنّ الدّول العربيّة جميعا لاحقا ستتبنى هذه الرّؤية، خصوصا في بيانات جامعة الدّول العربيّة المتكرّرة، إلّا أنّ غالب الرّأي الدّينيّ والثّقافيّ كان معارضا لهذه الرّؤية، ممّا أثر في الجماهير.

في هذه الأجواء بدأت التّيارات الإسلاميّة تنشط بشكل كبير، وكانت مركزها الخليج العربيّ، حيث هاجر رموزها بسبب الاضطهاد إلى منطقة الخليج، فتزاوجت مع التّيار السّلفيّ، وظهر تشكلات جديدة لها كالسّروريّة والقطبيّة والصّحويّة، وفي المقابل انتصار الثّورة الإسلاميّة في إيران بقيادة الإمام الخمينيّ (ت 1989م) أحدث حراكا سياسيّا دينيّا في الوسط الشّيعيّ، بيد أنّ الصّحوة الدّينيّة -خصوصا السّنيّة- استخدمت سياسيّا في مواجهة الاتّحاد السّوفييتيّ، فنشأت الحركات الإسلاميّة الجهاديّة كالقاعدة، وكان ما يشغلها التّحرر من الأمريكان في الجزء الأفغانيّ خصوصا، بينما إيران أشغلت بحرب مع العراق لثماني سنوات، إلّا أنّها استطاعت أن تكوّن أحزابا سياسيّة مسلحة لها في الخارج، وعلى رأسها اليوم حزب الله في لبنان، الحزب الأكبر الّذي سيتكوّن في المنطقة، ويكون له تأثيره السّياسيّ فيها، مع تراجع الأحزاب اليساريّة والقوميّة بشكل كبير.

في هذه الأجواء على المستوى الحكوميّ العربيّ المتفرق، وبسبب إشغال الشّعوب العربيّة والإسلاميّة بحروب خارجيّة مع السّوفييت، وللطّائفيّة الّتي بدأت تتسع داخل الخطابات الإسلاميّة، كانت الأوضاع مهيأة غربيّا لاستمرار مرحلة التّنازل حول القضيّة الفلسطينيّة، فكانت معاهدة أوسلو عام 1993م بين عرفات وبيريز (ت 2016م) وكلينتون، فاعترفت فتح بدولة إسرائيل، بينما إسرائيل لم تعترف بدولة فلسطين، وإنّما اعتبرتها منظمة لا أكثر، ثم كانت أوسلو الثّانية 1995م بين الثّلاثة أيضا، وبمشاركة روسيا، ومصر، والأردن والنّرويج والاتّحاد الأوروبيّ، وفيها قسّمت المناطق الفلسطينيّة إلى (أ) و (ب) و (ج)، وهو أكبر ظلم، حيث لم يكن للسّلطة الفلسطينيّة سيطرة إلا بنسبة ثلاثة بالمائة فقط على الضّفة الغربيّة أمنيّا وإداريّا عدا القدس، وهو (أ)، وإداريّا فقط لا أمنيّا بنسبة خمس وعشرين بالمائة على مناطق أخرى وهي (ب)، وباقي المناطق تحت السّيطرة الإسرائيليّة أمنيّا وإداريّا ليمكنها في التّوسع في بناء المستوطنات وهي (ج).

ورغم تنامي الخطابات الإسلاميّة مع الخطابات اليساريّة والقوميّة الّتي كهلت أحزابها، والرّافضة لفكرة دولة إسرائيل أصلا، وزادها الأمر اجتياح لبنان 1982م وغيرها من المجازر الإسرائيلية، في هذه الأجواء برز خطاب الإخوان المسلمون، فنشأت حماس قبل كامب ديفيد من قبل أحمد ياسين (ت 2004م) باسم المركز الإسلامي وهي عبارة عن جمعيّة خيريّة، وفي عام 1987م تحوّلت إلى حركة لا تعترف بدولة إسرائيل مع قبولها لهدنة حلّ الدّولتين بشروطها، وحماس نشأت من رحم الإخوان المسلمون، وفازت عام 2006م بالسّلطة التّشريعيّة الثّانية ثمّ انقلب عليها.

هنا بدأت الجماهير لطبيعتها في البحث عن رموز خلاصيّة، تعنى بالجانب العاطفيّ، لما تحمله هذه القضيّة من كوامن وجدانيّة ونضاليّة، ونتيجة للمجازر المتكرّرة من قبل الاحتلال الإسرائيلي، فكان من أهم الرّموز حينها أحمد يس، وعبد العزيز الرّنتيسيّ (ت 2004م).

وبعد 2011م، ومحاربة العديد من الأنظمة الدّوليّة والعربيّة للإسلام السّياسي، كما حوربت من قبل الحركات اليساريّة والقوميّة بذات اللّباس، حيث صنفت حماس من قبل بعض الحكومات كمنظمة إرهابيّة، كما صنفت حركة «الإخوان المسلمون» بذلك، بينما كان الوجدان العربيّ والإسلاميّ عموما مع الإنسان الفلسطينيّ، ورأينا تمددّ ذلك في المقالة السّابقة «العالم بلباس غزّاويّ» يمكن الرّجوع إليه.

بيد أنّ الجانب الحكوميّ اليوم ينقسم إلى قسمين أساسيين: القسم القائل بحلّ الدّولتين على حدود 1976م، وإقامة دولة فلسطينيّة عاصمتها القدس الشّرقيّة، غير منزوعة السّلاح، مع رفض التّطبيع قبل تحقّق ذلك، والقسم القائل بحلّ الدّولتين على حدود 1976م مع الموافقة على التّطبيع بدرجات.

أمّا الرّأي النّخبويّ وإن كان في جملته مع القضيّة الفلسطينيّة، إلّا أنّ هناك من أصبح يميل إلى الرّأيين في الجانب الحكوميّ بتفاوت بينهما، كما أنّ بعض الآراء الإسلاميّة واليساريّة كانت رؤيتها تحت منطلق الهدنة، مع ظهور التّيارات الجاميّة الإسلاميّة والثّقافيّة الواقفة والمبررة لرأي حكوماتها.

إلّا أنّ حادثة 7 أكتوبر اليوم غيّرت المعادلة جماهيريّا، وأرجعت القضيّة الفلسطينيّة عموما إلى النّقطة الأولى، فهذا الجيل أصبح مدركا لحقيقة القضيّة، وأنّ مدارها الحقّ والباطل، وأنّ الظّلم الّذي حاول العالم إخفاءه وإلهاء النّاس عنه؛ أصبح ظاهرا مكشوفا اليوم، لتظهر رمزيّة نضاليّة (أبو عبيدة)، رغم أنّه مجهول اسمه وتأريخه، بل ومعرفة شكل وجهه، إلّا أنّه الرّمزيّة الخلاصيّة اليوم في وجدان الجيل الجديد، أمام مرأى من الدّماء والأشلاء والدّمار في فترة وجيزة جدّا، وسكوت سياسيّ عالميّ مهيب، بين شجب وتنديد، بل وتبرير في مواقع أخرى، لهذا العالم يتجه إلى تكهنات مستقبليّة حول القضيّة إيجابا وسلبا، بيد ما ندركه جميعا أنّ الحقّ سيعود لأصحابه، وأنّ الوضع الفلسطينيّ اليوم رغم الآلام بدأ يرجع إلى عنصر قوّته من جديد، وأنّه اليوم على المستوى الشّعبيّ على الأقل أصبح متمدّدا بشكل كبير، وأصبح العالم مدركا لهذه المظلوميّات، ولا شك سيكون لهذا تأثيره على الوضع السّياسيّ مستقبلا.

بدر العبري كاتب مهتم بقضايا التقارب والتفاهم ومؤلف كتاب «فقه التطرف»

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: القضی ة الفلسطینی ة فی هذه الأجواء الإسلامی ة الس یاسی العربی ة سیاسی ا ة ال تی إل ا أن من قبل

إقرأ أيضاً:

مسئولة بالهلال الأحمر الفلسطيني: الاحتلال يحول غزة إلى مقبرة للأطفال

صرحت نبال فرسخ، مسؤولة الإعلام في الهلال الأحمر الفلسطيني، بأن الاحتلال الإسرائيلي حول قطاع غزة إلى "مقبرة للأطفال"، باستهدافه المدنيين في منازلهم، خيام النزوح، وحتى المناطق التي تم الإعلان عنها كمناطق إنسانية آمنة.

وأوضحت فرسخ، خلال مداخلة في برنامج TEN News على قناة TEN، أن القصف المستمر على مدار الساعة لم يؤدِ فقط إلى فقدان الأطفال حياتهم، بل أثر بشكل عميق على صحتهم النفسية. وأشارت إلى أن آلاف الأطفال في غزة فقدوا عائلاتهم ومصادر الأمان الخاصة بهم، ما خلق لهم واقعًا نفسيًا مأساويًا.

وأضافت أن الأطفال في القطاع يعانون من دروس قاسية وصعبة للغاية، حيث يستهدف الاحتلال المدنيين دون تمييز في جميع الأماكن، مما يزيد من معاناتهم الإنسانية ويضع مستقبلهم تحت تهديد دائم.

مقالات مشابهة

  • مسئولة بالهلال الأحمر الفلسطيني: الاحتلال يحول غزة إلى مقبرة للأطفال
  • رئاسة كوردستان تؤكد دعمها لحقوق الشعب الفلسطيني
  • حفيد موسوليني يسجل هدفا والجماهير تحتفل بالتحية الفاشية
  • حصاد 2024.. القطاع العقاري يدفع العديد من الحكومات للتعاون مع مصر
  • عائلة واحدة.. أول تعليق من الأهلي بعد واقعة اللاعبين والجماهير
  • مصدر بالأهلي: العلاقة بين النادي والجماهير لا تقبل المساس
  • السلاح الفلسطيني ... سحب أم إعادة انتشار؟
  • اليوم التالي الفلسطيني في غزة
  • أمير هشام: يجب تدارك الأمور بين الأهلي والجماهير قبل مواجهة المصري
  • أزمة بين لاعبي الأهلي والجماهير بعد الفوز الكبير على بلوزداد