طوفان الأقصى.. وأزمة السياسة الأمريكية
تاريخ النشر: 6th, November 2023 GMT
طوفان الأقصى.. اتفقت حوله الكلمة بأنه أخطر حدث هزَّ إسرائيل منذ نصف قرن، وقد جن جنونها في مواجهته، فأمطرت غزة -ولا تزال- بحمم قنابلها المدمرة، واكتسحتها بغاراتها البرية المتوحشة، تحرق البشر وتذيب الحجر، وقد وقفت معها أوروبا، وانضمت إليها الولايات المتحدة الأمريكية منذ اليوم الأول، وتبنت روايتها ضد حماس، ودعمتها بالقرار السياسي في مجلس الأمن، وزودتها بالعتاد الحربي لقتل الفلسطينيين، وأرسلت مجموعة سفن حربية؛ في مقدمتها حاملتا الطائرات «جيرالد فورد» و«أيزنهاور».
طوفان الأقصى.. جاء نصرا للمقاومة، وانتصارا للشعب الفلسطيني. إن أي شعب تُستعمَر أرضه، لا يملك التسليم لخصمه، فالطبيعة البشرية -وليست الحسابات السياسية والعسكرية- تدفعه دفعا إلى التحرر، وإن طال الزمن وقدم تضحيات جساما، فلا يوجد استعمار لا نهاية له، حتمية تأريخية، ولكن لتحققها يجب أن تتضافر الظروف. وإذ تقررت هذه الحتمية، وإن الطوفان نصر حقيقي.. فهل هذا يعني أن تحرير فلسطين أزف وقته؟ حركة التاريخ.. غير خاضعة كلها للظروف المنظورة، بحيث يمكننا أن نقرر حدثا كبيرا كهذا، فلربما هناك أحداث تتفاعل بين البشر تعجّل بسقوط آخر معاقل الاستعمار في الأرض، أو تأخره، ويبقى أمامنا نحن البشر النظر في الأحداث التي تدركها أبصارنا، ولننظر كيف حصل التحرر تأريخيا.
الآن؛ الهيمنة على العالم لأمريكا، تفرضها باسم الإمبريالية عبر: الرأسمالية اقتصاديا، والنيوليبرالية سياسيا، والحروب عسكريا. والدول القوية تتجنب الوقوع تحت قبضتها العتيدة، أما سائر الدول فتعمل مجبرة على التأقلم معها، لتخفف من وطأتها عليها، وتستفيد من معطياتها بقدر الإمكان. ولقد ورثت الإمبريالية الأمريكية من الاستعمار الأوروبي الكولونيالي احتلال فلسطين، فتبنته ودعمته، وجعلته أحد محاور بسط هيمنتها. والتاريخ.. يقول: إن التحرر خاضع للصيرورة التاريخية الكلية، بمعنى أنه لا يتم إلا في ضعف النظام المهيمن، وبالتالي؛ فإن القضية الفلسطينية مرتبطة ارتباطا مباشرا بالوضع العالمي للإمبريالية الأمريكية، وهذا يجعلني أن أقول إن طوفان الأقصى أدخل السياسة الأمريكية في أزمة، وأقصد أنه مؤشر للكشف عن وضع هذه السياسة دوليا.
ليتضح الوضع.. علينا أن نرجع البصر إلى الحقبة الكولونيالية الأوروبية، التي دامت حوالي ستة قرون، فقد بدأت بالاستعمار البرتغالي للشرق عام 1415م، وطوت آخر ذيولها بنهاية القرن العشرين، لكن ملامح غروبها ظهرت مع الحرب العالمية الأولى (1914-1918م). وللانتقال من الكولونيالية إلى الإمبريالية عانت البشرية كثيرا، فقد شهدت حربين عالميتين، وفتكت بالبشر قنبلتان ذريتان ألقيتا على هيروشيما وناجازاكي باليابان عام 1945م، وقامت منظمتان دوليتان «عصبة الأمم» فـ«الأمم المتحدة»، وشهدت أربع ثورات كبرى: البلشفية والنازية والفاشية والقومية العربية. هذه الأحداث العظيمة وتداعياتها أدت إلى غروب الكولونيالية الأوروبية وحلول الإمبريالية الأمريكية. ومن المفترض أن تكون فلسطين مشمولة بالتحرر لأنها صنيعة الاستعمار الأوروبي، إلا أنها دخلت ضمن حسابات الإمبريالية، والسيرورة التاريخية تنبئ بأن تحرر فلسطين هو انتهاء هذه المرحلة، ودخول العالم مرحلة جديدة. ولكن هذا يستلزم أيضا تغيرات عالمية كبرى.
طوفان الأقصى.. خطورته ليست على إسرائيل وحدها، وإنما على النظام الإمبريالي، وعلينا أن نضع هذا الحدث في سياق التغيرات العالمية، وبالذات؛ نهوض التنين الصيني والدب الروسي، اللذين قطعا شوطا في إثبات وجودهما على حساب الهيمنة الأمريكية. ورغم التنافس بين إيران وتركيا والسعودية في المنطقة، إلا أن هناك تقاربا ملحوظا الآن بينها، وهو تقارب لا يصب في صالح الإمبريالية، فأمريكا.. لم تعد قادرة بسهولة أن تمرر قراراتها بطرقها المعتادة، فتركيا والسعودية.. أصبحتا تتعاملان مع السياسات الأمريكية وهما مدركتان أن هناك تحولا عالميا باتجاه الشرق. وهذه الدول الثلاث مع الصين ورسيا لها دور كبير في مصير القضية الفلسطينية. وبذلك؛ نفهم أن الطوفان ضربة موجعة في صلب النظام الإمبريالي، ولا نستغرب أن تنزل أمريكا بثقلها لمواجهة الفلسطينيين، فعدم القضاء على حماس يعني أن معركة مصيرية خسرتها إسرائيل لأول مرة منذ قيامها، وأن السكوت عنها قد يفضي إلى إعادة تشكل جديد للنظام العالمي.
لقد حركت أمريكا قواتها العسكرية، وعملت على تدمير غزة، لأنها تعرف أن الحرب ليست ضد غزة وحدها، بل هي رسالة للعالم بأنها ما زالت شرطيه. فالنظام العالمي الجديد.. الذي أقرته أمريكا عمليا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي بداية التسعينات، من استراتيجية وجوده استمرار الحرب في العالم، وعلينا أن نلحظ بأن أمريكا تترك الأحداث الدولية تتفاعل مع بعضها، وتقوم هي بتوجيه بوصلتها لصالحها، بطريقة مباشرة مثلما حدث في أفغانستان، أو غير مباشرة كما أوحت للعراق باجتياح الكويت، مع تبرير ذلك بقرارات وقوانين الأمم المتحدة. لكن الشعوب تتعلم ولا تنسى، ولذا؛ نرى خروج العالم في مظاهرات ضد الحرب الإسرائيلية؛ المدعومة أمريكيا وغربيا ضد غزة، وأيضا؛ هناك استغلال دولي للصاعدين الجدد واللاعبين في المنطقة كروسيا والصين.
وأمريكا تحرك قواتها في العالم كلما واتتها الفرصة؛ لكون الحروب إحدى أدوات الرأسمالية، وليست كالحروب أداة فاعلة لتحريك المال عالميا، هذا المال الذي يدور على عمود الدولار، فالركود الاقتصادي إضعاف للدولار، في حين أن الحروب تحرك كل مفاصل دولاب الاقتصاد والتجارة العالمي. صحيح؛ أنها ترفع معدلات التضخم بسبب زيادة أسعار الوقود والطاقة، لكن في علم الاقتصاد، تعتبر هذه دورات مهمة حتى يعاود الاقتصاد نشاطه بإعادة صياغة سلسلة الإنتاج وتسويقها عالميا. بيد أن طوفان الأقصى يشكل أزمة لأمريكا فهو يستنزفها كثيرا مباشرة، أو نتيجة الخلل الاقتصادي الذي يصيب إسرائيل، مما يلزم أمريكا دعمها لسد هذا الخلل، وهناك اقتصادات كبرى تترصد هذه الأزمة، كالاقتصاد: الصيني والروسي والخليجي والهندي، التي لم تعد ضعيفة كما كانت في التسعينات عند انهيار الاتحاد السوفييتي.
النيوليبرالية.. العقيدة السياسية للإمبريالية، هي الأخرى تعاني أزمة، وقد وصلت الاحتجاجات إلى عقر أمريكا، بدايةً؛ باحتجاجات «احتلوا وول ستريت» في نيويورك بتاريخ: 17/ 9/ 2011م، لتمتد إلى أكثر من ألف مدينة في 15 دولة، وهذه الاحتجاجات جاءت متأثرة بأحداث الربيع العربي، الذي اشتعلت أول شرارة له في تونس قبل تسعة أشهر من «أحداث وول ستريت»، مما جعلت أمريكا تسارع في الضغط على الدول العربية للتطبيع مع إسرائيل، إذ إن الربيع بفجائعه على الوطن العربي لم تكن محصلته لصالح النيوليبرالية، فعجلت أمريكا بحركة التطبيع لعلها تؤدي إلى مخرج من الأزمة التي تعيشها النيوليبرالية. وقد أتى طوفان الأقصى ليعرقل التطبيع، بل أدى إلى إصرار الشعوب العربية والإسلامية على رفضه، مما يزيد من أزمة أمريكا.
لقد أوقع طوفان الأقصى أمريكا في أزمة حقيقية.. ولذا؛ تشن حربها على غزة، من باب اضرب الضعيف ليهاب القوي، ولكن إن هاب الأقوياء فإن الشعب الفلسطيني له قانون آخر، هو قانون المقاومة، وقد خصصت له مقالا قادما. ويبقى القول: إن على العرب أن ينتبهوا للتحولات العالمية، فقد يستمر الوريث القادم في تبني إسرائيل إن ضعفت قبضة الإمبريالية قريبا، فتطول معاناة الشعب الفلسطيني، كما يستمر الوهن العربي، فتحرر فلسطين دليل على قوة العرب. وهذه الأزمة.. هي أنسب وقت للعرب للانعتاق من النيوليبرالية، ولا يكون ذلك إلا بصناعة جبهة متحدة بإحياء دور جامعة الدول العربية.
خميس بن راشد العدوي كاتب عماني مهتم بقضايا الفكر والتاريخ ومؤلف كتاب «السياسة بالدين»
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: طوفان الأقصى
إقرأ أيضاً:
من أوكرانيا إلى فلسطين: العدالة الغائبة تحت عباءة السياسة العربية
محمد عبدالمؤمن الشامي
في المحاضرة الرمضانية الـ 12 للسيد القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي، أشار إلى حقيقة صارخة لا يمكن إنكارها: الفرق الشاسع بين الدعم الغربي لأوكرانيا في مواجهة روسيا، وبين تعامل الدول العربية مع القضية الفلسطينية. هذه المقارنة تفتح الباب على مصراعيه أمام تساؤلات جوهرية حول طبيعة المواقف السياسية، ومعايير “الإنسانية” التي تُستخدم بمكيالين في القضايا الدولية.
أُورُوبا وأوكرانيا: دعم غير محدود
منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، سارعت الدول الأُورُوبية، مدعومةً من الولايات المتحدة، إلى تقديم كُـلّ أشكال الدعم لكييف، سواء عبر المساعدات العسكرية، الاقتصادية، أَو حتى التغطية السياسية والإعلامية الواسعة. لا تكاد تخلو أي قمة أُورُوبية من قرارات بزيادة الدعم لأوكرانيا، سواء عبر شحنات الأسلحة المتطورة أَو المساعدات المالية الضخمة التي تُقدَّم بلا شروط.
كل ذلك يتم تحت شعار “الدفاع عن السيادة والحق في مواجهة الاحتلال”، وهو الشعار الذي يُنتهك يوميًّا عندما يتعلق الأمر بفلسطين، حَيثُ يمارس الاحتلال الإسرائيلي أبشع الجرائم ضد الفلسطينيين دون أن يواجه أي ضغط حقيقي من الغرب، بل على العكس، يحظى بدعم سياسي وعسكري غير محدود.
العرب وفلسطين: عجز وتخاذل
في المقابل، تعيش فلسطين مأساة ممتدة منذ أكثر من 75 عامًا، ومع ذلك، لم تحظَ بدعم عربي يقترب حتى من مستوى ما قُدِّم لأوكرانيا خلال عامين فقط. الأنظمة العربية تكتفي ببيانات الشجب والإدانة، فيما تواصل بعضها خطوات التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، في تناقض صارخ مع كُـلّ الشعارات القومية والإسلامية.
لم تُستخدم الثروات العربية كما استُخدمت الأموال الغربية لدعم أوكرانيا، ولم تُقدَّم الأسلحة للمقاومة الفلسطينية كما تُقدَّم لكييف، ولم تُفرض عقوبات على “إسرائيل” كما فُرضت على روسيا، بل على العكس، أصبح التطبيع سياسة علنية لدى بعض العواصم، وتحول الصمت العربي إلى مشاركة غير مباشرة في استمرار الاحتلال الصهيوني وجرائمه.
المقاومة: الخيار الوحيد أمام هذه المعادلة الظالمة
في ظل هذا الواقع، يتجلى الحل الوحيد أمام الفلسطينيين، كما أكّـد السيد القائد عبد الملك الحوثي، في التمسك بخيار المقاومة، التي أثبتت وحدها أنها قادرة على فرض معادلات جديدة. فمن دون دعم رسمي، ومن دون مساعدات عسكرية أَو اقتصادية، استطاعت المقاومة أن تُحرج الاحتلال وتُغيّر قواعد الاشتباك، وتجعل الاحتلال يحسب ألف حساب قبل أي اعتداء.
وإن كانت أوكرانيا قد حصلت على دعم الغرب بلا حدود، فَــإنَّ الفلسطينيين لا خيار لهم سوى الاعتماد على إرادتهم الذاتية، واحتضان محور المقاومة كبديل عن الدعم العربي المفقود. لقد أثبتت الأحداث أن المقاومة وحدها هي القادرة على إحداث تغيير حقيقي في مسار القضية الفلسطينية، بينما لم يحقّق التفاوض والتطبيع سوى المزيد من التراجع والخسائر.
المواقف بالأفعال لا بالشعارات:
عندما تُقاس المواقف بالأفعال لا بالشعارات، تنكشف الحقائق الصادمة: فلسطين تُترك وحيدة، بينما تُغدق أُورُوبا الدعم على أوكرانيا بلا حساب. هذه هي المعادلة الظالمة التي كشفها السيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي، حَيثُ يتجلى التخاذل العربي بأبشع صوره، ما بين متواطئ بصمته، ومتآمر بتطبيعه، وعاجز عن اتِّخاذ موقف يليق بحجم القضية.
إن ازدواجية المعايير لم تعد مُجَـرّد سياسة خفية، بل باتت نهجًا مُعلنًا، تُباع فيه المبادئ على طاولات المصالح، بينما يُترك الفلسطيني تحت القصف والحصار. وكما أكّـد السيد القائد عبد الملك الحوثي، فَــإنَّ المقاومة وحدها هي القادرة على إعادة التوازن لهذه المعادلة المختلة، مهما تعاظم التواطؤ، ومهما خفتت الأصوات الصادقة.