تقف الأهرامات في محافظة الجيزة شاهدا شامخا على قوة وسلطة ملوك قدماء المصريين، ومن السائد أن هذا البناء العملاق الذي أصبح من عجائب الدنيا قد شيد عن طريق السخرة، ولكن في المقابل تقدم دراسة حديثة رؤى جديدة عن بناء الأهرامات، وتثير الاكتشافات الجديدة الكثير من الأسئلة حول حياة المصريين القدماء.

وتشكل الدراسة المنشورة في دورية "كواترناري ساينس ريفيوز" (Quaternary Science Reviews) في 15 يونيو/حزيران الجاري تحديا كبيرا للنظريات السائدة، حيث كشفت الحفريات النباتية القديمة في منطقة الجيزة تفاصيل نظام الغذاء ومستوى معيشة المصريين القدماء، وتشير الأدلة إلى أن عمال البناء كانوا يتناولون كميات كبيرة من اللحوم والبقوليات بالإضافة للحبوب المستوردة من المواقع الزراعية الأخرى.

وقد أجرى الدراسة فريق دولي من العلماء من مصر وفرنسا والصين وإنجلترا ورومانيا ولبنان وتونس، وتواصلت الجزيرة نت مع هدير شعيشع الباحثة الأولى للدراسة، وهي باحثة في مركز "سيريج" (CEREGE) لعلوم الأرض والبيئة التابع لجامعة أكس-مارسيليا في فرنسا، وأجابت عن تساؤلاتنا، وجاء الحوار كالتالي:

الكشف عن حبوب اللقاح في عينات التربة القديمة (الجزيرة) ما حقيقة نظام الغذاء لبُناة هذه العجائب؟

كشفت الأدلة الجديدة من حفريات النباتات عن بعض الأفكار المذهلة حول أنظمة الحياة والنظام الغذائي للمصريين القدماء. وبفضل الاكتشافات الحديثة؛ لدينا الآن فهم أفضل لنوعية الطعام الذي تناوله عمال بناء هرم خوفو الكبير. وتشير النتائج إلى أن هؤلاء العمال كانوا يتناولون اللحوم بكميات كبيرة، وأنهم كانوا يستهلكون البقوليات التي تحتوي على البروتين بكثرة. كما وجدنا بذور الفواكه، والقمح، والشعير.

وكانت الحمية الغذائية المتوفرة للعمال جيدة نسبيا، ويبدو أن رفاهية الغذاء كانت حافزا قويا للرجال الشباب للانضمام إلى مشروع البناء كعمال، حيث كانت اللحوم والفواكه غير متاحة لكثير من المزارعين في ذلك الوقت. وهذا يتحدى الصورة الرومانسية التي كنا نتخيلها عن المصريين القدماء بأنهم كانوا جميعا أغنياء ومستقلين.

ما أكثر نتيجة مدهشة وجدتموها في بحثكم؟ هل تحدت أي نتيجة افتراضاتكم قبل بدء الدراسة؟

الحقيقة كان سؤالنا في البداية قائم على توقيت صلاحية الجيزة للسكن لأول مرة، وفي العام الفائت اكتشفنا دليلا قاطعا على وجود مجرى ملاحي من خلال الرواسب النهرية ومجمعات النباتات النيلية في المكان، وأحدث بحثنا المنشور في دورية "بناس" العلمية الرصينة ضجة في ذلك التوقيت.

وظل يراودني سؤال: هل كانت الجيزة ميناء نهريا وموقعا لبناء الأهرامات فقط؟ بالتأكيد هناك قصة لم تروَ لقرى كانت موجودة ويعيش فيها ناس عاديون يمارسون الزراعة وهذا لأننا نعلم أن الدولة المصرية كانت قائمة على النشاط الزراعي وقت بناء الهرم.

وبعد تجميع العينات من الموقع وبعد إجراء التحليلات اللازمة، فوجئنا أن موقع بناء الهرم كان مرعى في الأساس، وأن الدليل الحفري أثبت وجود حبوب لقاح لنباتات القمح والشعير والفول أثناء فترة البناء (حوالي 23 سنة) لكن بنسبة صغيرة أقل من 10%، أما باقي التكوين النباتي فقد كان لنباتات برية تنمو على حدود القنوات المائية للنيل، وأكثر من 60% لأعشاب مراعٍ.

وبعد أن استخدمنا نوعا آخر من الحفريات يعتمد على تعريف أنواع مميزة من الفطريات التي تنمو على البقايا الحيوانية والتربة المجرفة والمحروقة، كانت المفاجأة أننا وجدنا مخلفات ماشية وخنازير في كل سنتيمتر من طبقات الأسرة الرابعة، والتي فاقت كثيرا التمثيل الأحفوري للزراعة والمحاصيل في الموقع وتأكد لدينا أن أهل منطقة الجيزة في وقت بناء الهرم كانوا رعاة في الأساس، ويمارسون القليل من الزراعة.

معاملات كيميائية لعينات التربة لاستخراج الحفريات النباتية في المختبر (الجزيرة) كيف يغير هذا البحث فهمنا لكيفية بناء الأهرامات وتنظيم العمالة؟ وماذا كان نظام إطعام بناة الأهرامات؟

تغير النتائج فهمنا عن عملية بناء الأهرامات على أنها نوع من السخرة القاسية، وعلى العكس من ذلك فقد تغيرت الصورة تماما بعد كشف نوعية الأغذية في الموقع، إضافة لما نعرفه من نتائج فريق "مارك لينر" عن تخطيط الجدران في مدينة حيط الغراب وما تكشفه نتائج "ريتشارد ريدينغ" لبقايا العظام في مساكن العمال، إذ تظهر كل التحليلات معا حياة عالية الجودة لفرق العمال الذين كانوا يسكنون في أماكن يمكن وصفها باللائقة إن لم نقل مرفهة، حيث تشير الأدلة على سكن جيد واعتماد نظام غذائي مكون من لحوم وبقول وفاكهة، باختصار تشير النتائج إلى أن بناة الأهرام كانوا من الصفوة.

ما مدى أهمية الأنشطة الرعوية وتربية الماشية لتطور الحضارة المصرية في وقت مبكر؟

كان لعلاقة الإنسان ببيئته وفهمها والتكيف مع مواردها بكل الأشكال دور كبير في نشوء المجتمع المصري المبكر. فالمصريون كانوا يمارسون الرعي وصيد السمك كنشاط أولي في عصر ما قبل الأسرات والأسرات المبكرة، وبالطبع كان ذلك عندما كانت الأرض غنية حيويا، وبعد ذلك، ومع الجفاف المتزايد بدأ الضغط على الموارد، ثم تلاه تقسيم الأرض والزراعة لتلافي نقص إمدادات الصيد ورعي الماشية والخنازير ثم بدأت تظهر الطبقية ومجتمعات الصفوة في الأماكن التي كانت لا تزال تتمتع بأرض زراعية غنية حيويا. ومع التعقيد الاجتماعي المرتبط بالجفاف يبدو أن المصريين اختاروا طواعية أن يمارسوا الزراعة بشكل متصاعد رغم استمرارهم في امتهان الرعي في عدة مواقع. من هنا يمكننا فهم مكانة الحيوان في ثقافة المصري القديم.

كيف سيعزز هذا البحث معرفتنا بالزراعة القديمة وأنظمة الغذاء؟ وما الأسئلة التي يثيرها هذا البحث ولا تزال تحتاج للإجابة؟

كل يوم نكتشف أسرارا جديدة عن أجدادنا المصريين، مما يغير الأفكار السائدة حاليا، فقد وفد قدماء المصريين للدلتا والوادي من الصحراء محملين بميراثهم الرعوي والصيد وأصروا على ممارسته بجانب الزراعة، وكان هذا نشاط جديد نقله المهاجرون الفلسطينيون لمصر.

ولا يزال لدينا الكثير من الأفكار البحثية، لأن كل ما لدينا من معلومات جاء من النقوش الجنائزية أو سجلات الضرائب وما تكتبه السلطة والسجلات الحكومية في حينها، فقد تجد الحفريات أدلة على حدوث مجاعة في عصر ما، ولكن لم تدون في السجلات لأسباب منها أن هذا دليل على ضعف الحاكم.

ولا نزال نريد الإجابة عن تساؤلات خاصة بنوعية الطعام والبيئة وشكلها وتغيرها وتغير المجتمع في فترات ما قبل التاريخ، وكيف كان منسوب النيل والتطور البيئي والاكتفاء الغذائي في العصر الذهبي (الممالك القديمة المتوسطة والحديثة).

ما الخطوات التالية في بحثكم؟ هل تخططون لتمديد السجل الأثري والبيئي للحصول على منظور أطول بكثير؟

بدأت مؤخرا في العمل على مشروع جديد مع معهد الدراسات الشرقية في جامعة شيكاغو، وسيكون الخط الأساسي للدراسة عن الموانئ الفرعونية، وبصفة خاصة اختيار أماكنها والبيئة المرتبطة بالمدن، وتطورها وتدهورها، لأن قصة الموانئ هي قصة النيل وهي قصة مصر القديمة.

المصدر: الجزيرة

إقرأ أيضاً:

وقفة شعبية في خان شيخون بريف إدلب حداداً على ضحايا مجزرة الكيماوي التي ارتكبها النظام البائد قبل ثمانية أعوام وارتقى فيها عشرات الشهداء

وقفة شعبية في خان شيخون بريف إدلب حداداً على ضحايا مجزرة الكيماوي التي ارتكبها النظام البائد قبل ثمانية أعوام وارتقى فيها عشرات الشهداء 2025-04-04SAMERسابق وفاة طفل غرقاً في مياه نهر الفرات ‏آخر الأخبار 2025-04-04وفاة طفل غرقاً في مياه نهر الفرات ‏ 2025-04-04سوريا ترحب بقرار مجلس حقوق الإنسان الأول منذ سقوط نظام الأسد 2025-04-04الوزير الشيباني يرحب بأول قرار لمجلس حقوق الإنسان بعد سقوط النظام البائد 2025-04-04الجامعة الافتراضية تؤجل امتحانات طلاب مركز اللاذقية 2025-04-04وزير الأوقاف لـ سانا: تعزيز السلم الأهلي جزء من ‏العمل الدعوي خلال الفترة ‏المقبلة 2025-04-04جامعة طرطوس تنقل امتحانات يومي الأحد والإثنين من كليتي طب الأسنان والصيدلة إلى كلية الآداب 2025-04-04وقفات احتجاجية في درعا تنديداً بالاعتداءات الإسرائيلية 2025-04-04الوزيرة قبوات خلال زيارة دار لرعاية المسنين: تقديم أفضل ‏الخدمات للأيتام والمسنين ‏وذوي الإعاقة أولوية 2025-04-04مراسل سانا في حلب: قوات الجيش العربي السوري تصل إلى محيط مناطق قوات سوريا الديمقراطية في مدينة حلب وتؤمّن الطريق الذي سيسلكه الرتل العسكري المغادر من حيي الشيخ مقصود والأشرفية باتجاه شرق الفرات 2025-04-04الخدمات الصحية تتصدر نقاشات المؤتمر السنوي الأول للرعاية ‏الصحية الأولية في سوريا‏

صور من سورية منوعات أول دراسة سريرية بالعالم… زراعة الخلايا الجذعية تحسن الوظائف الحركية لمرضى الشلل 2025-03-26 جامعة ناغازاكي تطور “مرضى افتراضيين” لتدريب طلاب كلية الطب 2025-03-24فرص عمل وزارة التجارة الداخلية تنظم مسابقة لاختيار مشرفي مخابز في اللاذقية 2025-02-12 جامعة حلب تعلن عن حاجتها لمحاضرين من حملة الإجازات الجامعية بأنواعها كافة 2025-01-23
مواقع صديقة أسعار العملات رسائل سانا هيئة التحرير اتصل بنا للإعلان على موقعنا
Powered by sana | Designed by team to develop the softwarethemetf © Copyright 2025, All Rights Reserved

مقالات مشابهة

  • يجب استهداف الأماكن التي تنطلق منها المسيّرات المعادية في أي دولة كانت
  • سلامة الغذاء تسجل 36 منشآت جديدة وتعزز الرقابة على القطاع الغذائي
  • ”الأمن الغذائي“: غالبية شركات الغذاء لا تتجاوب مع متطلبات نظام الإنذار المبكر
  • من عامل بناء بالمملكة إلى برلماني.. كوري: السعودية أرض الأمل التي دعمتنا بسخاء
  • تقنية جديدة تحوّل إشارات الدماغ إلى كلام طبيعي في أقل من ثانية
  • الحرب العالمية التجارية التي أعلنها ترمب لا تخصنا في الوقت الراهن
  • خبر سعيد للباحثين عن الحياة لـ100 سنة.. التزموا بهذه النظام الغذائي
  • تحريات أمن الجيزة تكشف ملابسات مصرع طفل في حدائق أكتوبر
  • وقفة شعبية في خان شيخون بريف إدلب حداداً على ضحايا مجزرة الكيماوي التي ارتكبها النظام البائد قبل ثمانية أعوام وارتقى فيها عشرات الشهداء
  • عاجل | السيد القائد: المنظمات الدولية تشهد على المجاعة في قطاع غزة ونفاد القمح والطحين من المخابز التي كانت توزع الخبر لأبناء الشعب الفلسطيني