يعتقد أستاذ علم الاجتماع في جامعة السوربون الدكتور برهان غليون، أن سر قوة إسرائيل واستمرار تصدرها للمشهد في الشرق الأوسط، يعود إلى الدعم الغربي غير المحدود لها.

وأوضح غليون في هذا الفصل من كتابه "المصير" الصادر مطلع العام الجاري، والذي يختص بتحليل "المسألة الإسرائيلية"، والذي اختار إعادة نشره بالتزامن بين "عربي21" وصفحته على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، أن إسرائيل ليست الطفل المدلل للغرب، كما شاع في أدبياتنا العربية، بل سلاحه الأمضى في الاحتفاظ بعلاقة خاصة مع موارد المنطقة وموقعها.

.

ويشرح ذلك في هذا النص الذي ننشره في جزأين:

توفر إسرائيل، القاعدة الاستراتيجية الرئيسية للهيمنة الغربية في الشرق الأوسط، على الغرب أي حاجة إلى الحوار أو التفاوض الجدي أو حتى الاعتراف بالمصالح الكبرى للشعوب العربية في الصراع لتحقيق ما يعتبره مصالحه الاستراتيجية.

ومن هذه المصالح كما يراها الغربيون، الأمريكيون والأوروبيون، الحد من نزوع هذه الشعوب للتفاهم وبناء منظومة للتعاون الإقليمي، حتى من منطلق براغماتي وخارج الأفكار والأيديولوجيات القومية، وتقييد إمكانيات التقدم العلمي والتقني فيها بقدر الإمكان وحرمانها من الاستثمارات الخارجية. وليست سياسة إسرا ئيل في التمسك بسياسة فرض الأمر الواقع على العرب والفلسطينيين ورفض الدخول في أي حوار جدي معهم إلا الانعكاس الأمين لسياسة الحكومات الغربية التقليدية في فرض سيطرتها ومصالحها، من دون القبول بأي حوار او تفاوض عليها مع شعوب المنطقة، ومن دون أخذ حساب أو اعتبار لأحد، أو الرجوع إلى سند قانوني أو أخلاقي غير سند القوة.

من هنا، لا تزال إسرائيل التي كانت أحد أبرز العوامل في تقويض الحياة السياسية والإقليمية في الشرق الأوسط خلال العقود الطويلة الماضية، صناعة غربية بامتياز، واستخدام القضية اليهودية المحقة المتعلقة بالتمييز ضد السامية لمصالح استراتيجية محضة على حساب شعوب المنطقة ومستقبل الشعب اليه ودي وتطوره الإنساني والأخلاقي. ولا يستطيع أي محلل أن يتجاهل الدور الذي تؤدّيه تل  أبيب، لمصلحة الهيمنة الغربية، في تقرير المصير السيئ والدراماتيكي لدول الشرق الأوسط ولتطور نظمها السياسية ومجتمعاتها. ومن المستحيل كتابة تاريخ هذا الشرق الحديث من دون أخذ ما رافق نشوءها من حروب وما استدعى تأمين بقائها وتفوقها وأمنها من تقويض لاستقرار المنطقة وحرمانها من حقها في تقرير مصيرها.

فقد حولت سياسة فرض الأمر الواقع، واستبعاد أي قاعدة قانونية أو حوار في بناء العلاقات بين دول الشرق الأوسط، منذ ما يقارب ثلاثة أرباع القرن، إلى منطقة فراغ قانوني، يجعلها تعيش في حالة استثناء دائمة، لا تعبأ بالمواثيق الدولية، ولا تنطبق عليها أي معايير إنسانية. كما تطلبت حماية الدولة الجديدة، التي استمرأت أن تبقى في عداء مع جيرانها بدل أن تسعى إلى حل مشكلاتها والتفاهم معهم، وضع شعوبها تحت المراقبة الدائمة والحيلولة دون إحرازهم أي تقدم نوعي، تقنيًّا كان أو علميًّا أو صناعيًّا، وتدمير جهودهم في هذا السبيل كلما نجح أحدهم في تحقيق خطوة على طريق هذا التقدم المنشود.

لذلك، على العكس مما حصل في جميع بقاع العالم، لم تتطور في المنطقة أي حياة إقليمية سلمية وسليمة وإيجابية، ولم تتقدم أي حياة سياسية صالحة ومرضية تطمئن الجماعات القومية والأفراد والشعوب وتشجعها على التعاون والتفاهم واحترام الحقوق المتبادلة وكرامة الفرد وقدسية الحياة. وسار المشرق حثيثًا بعد إفشال ثوراته ومحاولاته لتغيير أوضاعه، نحو الفوضى، بما تعنيه من توطن الحروب الإقليمية والنزاعات الأهلية الداخلية.

فما بدأ، في منتصف القرن الماضي، استثناء من حكم القانون والشرعية الدولية لصالح قيام إسرائيل وحدها، سرعان ما تحول إلى قاعدة عامة فرضت استثناء المنطقة وشعوبها ودولها من حكم القانون أيضًا، وأباح لحاكميها أن يتصرفوا بحقوق مواطنيهم ويعاملونهم مثلما تعامل إسرا ئيل "فلسطينييها". صارت المنطقة المشرقية بأكملها مستثناة من حكم القانون كما أصبحت الحكومات والنظم السياسية التي تستمد شرعيتها من مصادقة الدول الغربية على وجودها تتصرف على أن وجودها فوق القانون والشعب الذي يخضع له. وأصبح انتهاك القانون أو الاستهتار به، الدولي والسياسي، مبدأ نظام الشرق الأوسط الحاكم للعلاقات داخل الدولة بين السلطة والشعب وفي ما بين الدول.

لا توجد أي مصلحة للغرب في الفصل بين القضية اليهودية والمصالح الغربية الاستراتيجية. كما أن مثل هذا الفصل يفقد إسرائيل أهميتها ونفوذها في الغرب والعالم.وبعد أن كانت إسرا ءيل وحدها التي تحظى بامتياز إعفائها من حكم القانون، أي من المساءلة والمحاسبة والعقاب على انتهاكه أيضًا، تحوّل سلوكها إلى نموذجٍ يُحتذى، ويعبر عن التحكّم والقوة، وصار الاستهتار بمبادئ الحق والقانون، والاستهانة بالعقوبات المحتملة نتيجة خرقه، هو مصدر السطوة والسيطرة في العلاقات الاجتماعية والسياسية داخل الدول، وفي ما بينها. صارت القوة بما تعنيه من العنف وإيقاع الأذى بالآخر مبدأ نظام الشرق الأوسط والناظم لعلاقات أطرافه من دول ومجتمعات ونخب.

فكما أن ما من أحد يستطيع أن يمنع إسرائيل من أن تفرض حدودها بالقوة المجرّدة، وتنتزع أراضي الفلسطينيين، وتعيد هندسة المناطق بزرع المستعمرات والمستوطنات وإقامة الجدران العازلة، وتسمح لنفسها بالضرب عرض الحائط بأي قرار دولي، تعتقد طهران، أو أي عاصمةٍ أخرى، أن من حقها أيضًا أن تجعل من العراق مقاطعةً إيرانية، وترحل ما استطاعت من سكانه المناوئين لسيطرتها، وتحلم أن تكون خطوط دفاعاتها الاستراتيجية، على الشاطئ السوري أو اللبناني أو بحر عدن. وما دامت القوة هي المبدأ الذي يقرر مصائر الشعوب والأفراد، فلماذا يحرم الرؤساء أنفسهم من الاحتفاظ بالسلطة، والتمديد لأنفسهم طالما كانوا قادرين على ذلك بل وتوريثها لأبنائهم من بعدهم؟

ذلك كله جعل من الصعب على العرب أن ينظروا إلى الدولة الإسرا ئيلية بوصفها دولة يه ودية فحسب، ويتجاهلوا وظيفتها الجيوسياسية والدور الذي أراد لها الغرب أن تؤدّيه كامتداد لسيطرته الاستعمارية التقليدية. كما جعل من الصعب على الإسرا ئيليين أن يروا إمكانية بقائهم في دولة مستقلة من دون التماهي مع الغرب والعمل على أجندته الإقليمية. وهذا ما يفسر استمرار المسألة الإسرائيلية مطروحة من دون تغيير كما كانت منذ ولادتها، ودفن المبادرات كلها التي طرحت للحوار والتوصل إلى تسوية عربية ـ إسرائيلية. وهذا ما أدان المنطقة بالعيش في حالة حرب دائمة، لا يشكل السلامَ فيها إلا هدن مؤقتة.

هنا أيضا في هذه المسألة يخطئ من يعتقد أن التكفير عن المحرقة هو الدافع الرئيسي للتعاطف مع اليهود وللدعم غير المشروط الذي تتمتع به إسرا ئيل من الغرب ولصرف النظر عن مشروعاتها الاستيطانية التي تهدف إلى قطع الطريق على ولادة أي دولة فلسطينية تذكر بفلسطين. فما يهم الغرب من إسرا ءيل ليس مصير اليهود كجماعة دينية أو إثنية لكن ما تمثله من قوة عسكرية واستراتيجية تخترق قلب العالم العربي وتشكل حليفًا موثوقًا للغرب في تطبيق سياسته العربية وفي مقدمها الحيلولة دون خطر إعادة تركيب المنطقة وتعاون شعوبها وتشكيل قوة استراتيجية مستقلة جنوب المتوسط. يلتقي هذا أيضًا مع ما لا يخفيه الوعي الغربي السائد من عداء دائم وشائع لفكرة العروبة، وسعيه إلى إنكار الهوية العربية ومحوها وإبراز التمييز ضد العرب والثقافة العربية كلما كان ذلك ممكنًا.

وهذا يعني أن إسرائيل، قبل أن تكون دولة يهودية، هي العصا الغليظة التي يستخدمها الغرب لكسر شوكة خصومه والدفاع عما يسميه مصالحه الاستراتيجية. وهذا ما فعلته هي أيضا وأظهرت حماسة وفعالية فيه منذ ولادتها. ولو أرادت الحكومات الإسرا ئيلية أن تحل القضية الفلسطينية، لمنعها التحالف الغربي من ذلك. ولا اعتقد ان اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إسحاق رابين (4 نوفمبر 1995) بعيدا عن هذا التوجه. هذه الوظيفة الجيواستراتيجية الاستثنائية في الشرق الأوسط هي التي دفعت الغرب الى الاستثمار في القوة الإسرا ئيلية وشجعتها على الاستمرار في تحدي الأعراف والشرائع الدولية وهي التي تفسر انحسار اليسار الإسرا ئيلي والقوى الديمقراطية الداعية إلى السلام والتسوية الإقليمية لصالح صعود قوى اليمين واليمين العنصري والمتطرف في المجتمع الاسرائيلي.

باختصار، تشكل إسرائيل أعظم استثمار للغرب في الشرق الأوسط، للحفاظ على نفوذه وسيطرته فيه. وهو الذي زودها بالسلاح النووي، ومول جميع مشاريعها العسكرية وتقدمها التكنولوجي حتى لم يعد الهدف حماية إسراءيل وضمان أمنها، بل تفوقها الساحق على جميع الدول الشرق الأوسطية منفردة أو مجتمعة. فصارت المارد العسكري والاستراتيجي الذي لا يقاوم والذي لا يمكن الدول الأخرى إلا أن تتحول أمامه إلى أقزام والشعوب إلى طرائد والنخب التابعة له إلى أسود ضارية. وهذا ما يفسر حرص الحكومات الشرق الأوسطية، كلما شعرت بمخاطر داخلية أو خارجية إلى التقرب من إسرائيل بمقدار حرصها على ملاقاة السيطرة الغربية التي تمثل إسرائ يل منصتها الرئيسية في الشرق الأوسط.

هل يمكن العرب أن يعترفوا بإسرائيل ويقبلوا بوجودها، دولة يهودية، إذا تخلت عن دورها في خدمة السيطرة الغربية واستقلت عن أجندة الهيمنة الاستعمارية؟لذلك، لا توجد أي مصلحة للغرب في الفصل بين القضية اليهودية والمصالح الغربية الاستراتيجية. كما أن مثل هذا الفصل يفقد إسرائيل أهميتها ونفوذها في الغرب والعالم. وما دامت هذه المصالح ذات طابع استثنائي، سوف تبقى العلاقة أيضًا بين التكتل الغربي وإسرا ءيل استثنائية، ولن تكون هناك إمكانية للتوصل إلى تسوية عربية-إسرائيلية أو إسرائيلية-فلسطينية. ولن تقوم علاقات ندية بين الدول العربية وإسرا ءيل ما لم تقم مثلها بين العرب والغرب ويتقدم مفهوم الحوار والمصالح المتبادلة على مفهوم الإملاء أو الحماية أو الوصاية والتعامل مع المنطقة كحقل صيد لا كشريك محترم وصاحب مصالح وقرار.

نستنتج من هذا التحليل أن إسرائيل ليست الطفل المدلل للغرب، كما شاع في أدبياتنا العربية، بل سلاحه الأمضى في الاحتفاظ بعلاقة خاصة مع موارد المنطقة وموقعها. وهذه هي الحال أيضًا بالنسبة إلى الموقف من العرب والمسلمين في الشرق الأوسط. فليست ثقافتهم أو ديانتهم ولم تكن هي المشكلة، بل ما تضمره وحدتها من فرص لتقريب شعوب المنطقة من بعضها بعضًا واحتمالات تشكيل تحالف أو تعاون جدي أو اتحاد يعيد رسم خطوط القوة في المتوسط ويغير التوازنات الجيواستراتيجية أيضًا، وما ينطوي عليه من إمكانيات التقدم والتنمية التقنية والعلمية والعسكرية. وما كان هذا الموقف سيتغير لو كان ما يجمع شعوب المنطقة جنوب المتوسط ثقافة واحدة يونانية أو أفريقية أو يهودية.

ومعرفة كيف سيكون المستقبل، وما إذا كانت المنطقة ستجد الحل في أجل قريب أو بعيد لهذه المسألة التي ارتهنت لها منذ قرن، تكمن في الإجابة عن ثلاثة أسئلة:

الأول ـ هل يمكن لإسرائيل أن تعيش من دون التحالف مع الغرب والعمل على أجندته وبناء أجندة إقليمية ـ إسرائيلية مستقلة تهدف إلى اندماجها في منطقتها الجغرافية وبيئتها الإقليمية الجيوسياسية والاقتصادية والاجتماعية، والعمل مع سكانها بروح إيجابية لإحيائها وإنعاشها اقتصاديًّا وتقنيًّا وعلميًّا؟

والثاني ـ هل يمكن الغرب الراهن أن يتخلى عن استخدام إسرا ءيل شوكة في ظهر الشعوب العربية من دون أن يغير هو نفسه من سياسته الشرق الأوسطية والدولية ويعيد بناء علاقته بشعوب المنطقة على أسس الندية وتبادل المصالح والتعاون المثمر والمفيد للطرفين، وفي هذا السياق، التخلي عن النظرة العنصرية والإسلاموفوبيا الموجهة أساسا ضد العرب ومشاعر الكراهية التي تغذي العلاقات المتوترة والعدائية؟

والثالث ـ هل يمكن العرب أن يعترفوا بإسرائيل ويقبلوا بوجودها، دولة يهودية، إذا تخلت عن دورها في خدمة السيطرة الغربية واستقلت عن أجندة الهيمنة الاستعمارية؟

والجواب المتفائل أن هذا ليس من المستحيلات. وهناك عوامل في الأفق تسمح بذلك. فقد وصلت سياسة السيطرة وإعاقة التقدم والتنمية المستقلة التي رعاها الغرب في بلدان الجنوب، خصوصًا الغنية بالموارد الطبيعية وذات الموقع الجيوسياسي والاستراتيجي المهم، إلى طريق مسدود. فهي لم تعد منذ الآن كارثة على شعوب الجنوب وحدها، بل أصبحت وسوف تصبح بشكل أكبر كارثة على الغرب الذي أصبح منذ الآن الجنة الموعودة لملايين اللاجئين الهاربين يوميًّا من الجحيم. وسوف تستمر مراكب الهجرة تعبر المتوسط، وتزداد عددًا يومًا بعد يوم. وأكثر فأكثر تدرك الأجيال الجديدة في الغرب إلى أي مدى كان توظيف المسألة اليه ودية في خدمة مشاريع السيطرة الغربية الإمبريالية دليلًا واضحًا على استهتار السياسات الغربية السابقة بمصالح الشعوب وبالسلام وبمنطق القانون وحقوق الإنسان ومستقبل الجماعة البشرية.

إقرأ أيضا: قرنان من صراع العرب من أجل السيادة والحرية.. في فهم سر قوة إسرائيل (1من2)

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير الصراع الفلسطينيين احتلال فلسطين رأي صراع آفاق أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة السیطرة الغربیة فی الشرق الأوسط شعوب المنطقة للغرب فی هل یمکن وهذا ما فی هذا من دون

إقرأ أيضاً:

الصراع بين الكنيسة المصرية ومخطط الشرق الأوسط الجديد

منذ العصور القديمة، كان الشرق الأوسط مركزًا دينيًا وثقافيًا شكّل هويته الفريدة.

ومع بداية الألفية الجديدة، بدأت القوى الغربية، التي تحركها الصهيونية العالمية، في تبني سياسات تهدف إلى إعادة رسم حدود المنطقة من خلال مخطط يسعى إلى طمس الهويات التاريخية العميقة التي تشكل نسيجها الثقافي والديني.

ومن بين هذه الهويات، تبرز الهوية المسيحية الشرقية، وفي قلب هذا الصراع، تقف الكنيسة المصرية كحجر عثرة أمام محاولات إعادة تشكيل مكونات الهوية الدينية والثقافية للمنطقة.

تبنت القوى الغربية المتحالفة مع الصهيونية سياسة "الفوضى الخلاقة" كوسيلة لإعادة تشكيل الشرق الأوسط، بهدف تفكيك الأنظمة السياسية وزرع الفوضى، مما أدى إلى تصاعد الجماعات الإرهابية، وانتشار النزاعات الطائفية، وتهجير المسيحيين من العديد من دول المنطقة. وكان لهذا التدمير الممنهج أثر بعيد المدى على هوية المنطقة، حيث سعت تلك القوى إلى فرض مشروع "مسار إبراهيم" كرمز ديني ثقافي يربط بين اليهودية والمسيحية والإسلام. وتجسد ذلك في "بيت العائلة الإبراهيمي"، الذي رفضت الكنيسة المصرية الانضمام إليه، باعتباره محاولة لتكريس واقع جديد يخدم أهدافهم.

محاولة الترويج لمسار إبراهيم كمرجعية دينية وثقافية تجمع الديانات الثلاث ليست سوى وسيلة لتحقيق مشروع "إسرائيل الكبرى"، الممتد - وفقًا لتصورهم - من النيل إلى الفرات، مستندين إلى رحلة النبي إبراهيم التي شملت عدة دول في المنطقة وصولًا إلى مصر.

يهدف هذا المشروع إلى تحقيق حلم إقامة "مملكة داوود"، استنادًا إلى الإيمان اليهودي بقدوم "المسيح الملك الأرضي"، الذي سيقيم ملكوته على الأرض ويقود "مملكة داوود".

ويتماشى هذا التصور مع الفكر المسيحي المتصهين للكنيسة البروتستانتية، التي تؤمن بمفهوم "حكم الألفية"، أي نزول المسيح في آخر الزمان لحكم العالم لمدة ألف عام. وكليهما يتفقان على أن كرسي حكم هذا الملك هو هيكل سليمان، وهو ما يتناقض تمامًا مع العقيدة المسيحية الشرقية، خاصة الكنيسة القبطية المصرية، التي ترفض هذا الفكر.

المواجهة الحقيقية بين الكنيسة المصرية والمشروع المتفق عليه بين المسيحية المتصهينة والمعتقد اليهودي تتجلى في صراع المسارات، بين "مسار إبراهيم" و"مسار العائلة المقدسة".

فوفقًا للتاريخ المسيحي، هرب السيد المسيح وأمه العذراء إلى مصر هربًا من بطش هيرودس، وتوقفت العائلة المقدسة في عدة مناطق مصرية، مما يجعل مصر نقطة محورية في تاريخ المسيحية.

هذا الأمر يتناقض مع الفكر المسيحي المتصهين والمعتقد اليهودي، اللذين يسعيان إلى ترسيخ الاعتقاد بأن القدس وحدها هي المركز الديني الأوحد وكرسي حكم "مملكة داوود" من داخل هيكل سليمان، وتهيئة الأجواء لقدوم "المسيح الملك" عبر مسار إبراهيم.

وهنا يطرح السؤال نفسه: لماذا لم يتم حتى الآن تفعيل "مسار العائلة المقدسة" كحج مسيحي عالمي رغم أهميته في تاريخ المسيحية وذكره في الإنجيل المقدس؟ الإجابة تكمن في أن أصحاب مشروع "مملكة داوود" يسيطرون على شركات السياحة العالمية ويوجهونها بما يخدم مخططاتهم، كما أنهم نجحوا في اختراق عدد من المؤسسات الدينية في الغرب، مما جعل بعض الكنائس الغربية أداةً في خدمة هذا المشروع، متجاهلين الدور التاريخي لمصر في المسيحية.

الكنيسة القبطية لا تعترف بمفهوم "الملك الألفي" الذي تروج له المسيحية الصهيونية، حيث يتناقض مع الإيمان الأرثوذكسي بالمجيء الثاني للمسيح، وهو ما تم تأكيده في مجمع نيقية عام 325م ومجمع القسطنطينية عام 381م. حيث جاء في العقيدة المسيحية أن المسيح سيأتي في مجده ليدين الأحياء والأموات، وليس كملك أرضي يحكم العالم. كما أن الكنيسة القبطية تدحض المعتقد اليهودي الذي لا يعترف بالمسيح الذي جاء بالفعل، إذ لا يزال اليهود في انتظار "المسيح الملك الأرضي" القادم لإقامة مملكتهم.

كان للبابا شنودة الثالث بُعد نظر استراتيجي ورؤية واضحة حول المخطط الصهيوني، فاتخذ موقفًا حازمًا ضد أي تطبيع مع إسرائيل، وأصدر قرارًا تاريخيًا بمنع الأقباط من زيارة القدس تحت الاحتلال الإسرائيلي، مؤكدًا أن "القدس لن يدخلها الأقباط إلا مع إخوانهم المسلمين". وقد جعل هذا الموقف الكنيسة القبطية في مواجهة مباشرة مع المشروع الصهيوني الذي يسعى إلى تحقيق "مملكة داوود".

ومع تولي البابا تواضروس الثاني قيادة الكنيسة المصرية، استمرت هذه السياسة الوطنية، وبرز ذلك في مقولته الشهيرة: "وطن بلا كنائس خير من كنائس بلا وطن"، وهي رسالة قوية تؤكد أن الكنيسة المصرية لا يمكن أن تكون جزءًا من مشروع يهدف إلى طمس الهوية الوطنية المصرية.

كما لعب البابا تواضروس دورًا مهمًا في تعزيز علاقات الكنيسة بالأقباط في الخارج، ودعم دورهم كصوت وطني مدافع عن مصر في مواجهة محاولات التشويه والتأثير الخارجي. لم تقتصر مواقف البابا تواضروس على الجاليات القبطية في الخارج فقط، بل عمل على تصحيح المفاهيم المغلوطة حول أوضاع الأقباط في مصر، مؤكدًا أن ما يتم الترويج له بشأن "اضطهاد الأقباط" هو مجرد افتراءات تهدف إلى زعزعة استقرار الوطن.

وقد أظهر الرئيس عبد الفتاح السيسي تقديره الكبير للكنيسة المصرية وللبابا تواضروس في عدة مناسبات، أبرزها حضوره احتفالات عيد الميلاد المجيد في الكاتدرائية، مما يعكس العلاقة القوية بين الكنيسة والدولة في مواجهة المخططات الخارجية التي تستهدف مصر وهويتها الوطنية.

مقالات مشابهة

  • لغز بلا أدلة.. رصاصة فى الظلام تنهى حياة صحفى بريطانى فى القاهرة 1977
  • «مجموعة السبع» تصدر بياناً بخصوص الأوضاع في الشرق الأوسط
  • خلافات أمريكا وأوروبا.. هل هي بداية انقسام حضارة الغرب وماذا سيفعل عندها العرب؟
  • الصراع بين الكنيسة المصرية ومخطط الشرق الأوسط الجديد
  • أمريكا والإرهاب في الشرق الأوسط.. اليمن نموذج لمقاومة الهيمنة والفوضى
  • الهلال في صدارة التصنيف.. «التفاصيل الكاملة» لقرعة «النخبة الآسيوية»
  • معهد التخطيط القومي ودراسات الشرق الأوسط يوقعان مذكرة تفاهم لتعزيز الشراكة في البحث العلمي
  • معهد التخطيط والقومي لدراسات الشرق الأوسط يوقعان مذكرة تفاهم لتعزيز الشراكة
  • تمارا حداد: إسرائيل قد لا تكون قادرة على الدخول فى حرب ثانية
  • الاتحاد الأوروبي: حل الدولتين السبيل الوحيد لتحقيق السلام الشامل في الشرق الأوسط