في صيف العام 2001، قدّم المخرج الأميركي الشهير ستيفن سبيلبرغ تحفته السينمائية "ذكاء اصطناعي" (A.I. Artificial Intelligence)؛ الفليم الذي تدور قصته في القرن الـ22 حول الطفل ديفيد الذي صممته التكنولوجيا الحديثة ليكون صالحا للتبني لأبوين أميركيين، لكن الأم ترفضه لأنه ببساطة يبدو مصطنعا ومثاليا أكثر من اللازم، وقد يشكل خطرا كبيرا على أسرتها.

سيحاول الطفل أن يكون بشريا، لكن الأمر يبقى صعبا إن لم يكن مستحيلا.

بعد 22 عاما، يبدو خطر الذكاء الاصطناعي أقرب مما تخيل سبيلبرغ، بل إن الخطر اليوم يداهم كتاب السيناريو في هوليود أنفسهم، حيث يواصل أكثر من 11 ألفا من كتاب السيناريو في هوليود الإضراب لأول مرة منذ 15 عاما، بعد فشل محادثاتهم مع أستوديوهات هوليود الكبرى حول أجورهم، ورفضهم استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في الكتابة.

تحالف منتجي الصور المتحركة والتلفزيون ردّ برفض حظر استخدام هذه التقنيات في الكتابة أو إعادة الكتابة، وعرض عقد اجتماعات سنوية لمناقشة تطورات هذه التقنية.

وبينما يتزايد القلق من مخاطرها، حاول البعض من كتاب السيناريو اختبار تقنية الذكاء الاصطناعي فعلا في الكتابة، ومن أشهر هذه المحاولات ما أعلنه مؤلف ومنتج مسلسل "المرآة السوداء" (Black Mirror) تشارلي بروكر قبل إطلاق الموسم السادس مع على منصة "نتفليكس" (Netflix) الأسبوع الماضي.

وكان الموسم الخامس من المسلسل الشهير قد أطلق في يونيو/حزيران 2019، وبعدها قرر المؤلف تشارلي بروكر كتابة الموسم الجديد.

تحالف منتجي الصور المتحركة والتلفزيون رفض حظر استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في الكتابة أو إعادة الكتابة (غيتي) كسر القواعد

يقول تشارلي بروكر، في حديث لمجلة "إمباير" (Empire) البريطانية، إنه حاول اللعب بالذكاء الاصطناعي مستخدما تقنية "شات جي بي تي" (ChatGPT)، حيث أمرها بكتابة حلقة جديدة من مسلسل "المرآة السوداء"، وكانت "النتيجة معقولة عند قراءتها للمرة الأولى، لكن عند قراءتها ثانية كانت مجرد هراء".

ويضيف بروكر أن تطبيق الذكاء الاصطناعي بحث عن ملخص حلقات المسلسل، ومزجها معا، ولم يقدم أي فكرة أصلية على الإطلاق.

يرى بروكر أن المسلسل نفسه لا يضع التكنولوجيا كمشكلة في حد ذاتها، لكن كيف يستخدم البشر هذه التكنولوجيا، ولكي يكتب بروكر الحلقات الجديدة من المسلسل كان لا بد أن يعود لجميع حلقات المواسم الخمسة ليدرسها بعناية، ولكي يضع حبكات جديدة من الموسم السادس، وكي يضع اعتقاده الخاص بما يمكن أن يكون حلقة جديدة من المسلسل، وكان حريصا على أن يكسر القواعد الخاصة بالحلقات السابقة ليقدم شيئا جديدا يصفه بـ"كوب من الماء البارد في الوجه".

على سبيل المثال، تدور أحداث حلقة "تحت الماء" من الموسم الجديد حول مهمة مستحيلة في العام 1969، هي مزيج من ماض بائس مع الحاضر والمستقبل، حيث ولدت لديه فكرة الحلقة في البداية، ثم فكر أن يجعلها تدور في 1969، "سيكون ذلك مزعجا ورائعا".

الموسم السادس

وكانت منصة "نتفليكس" أطلقت الموسم السادس من مسلسل "المرآة السوداء" من 5 حلقات، يحافظ فيها على نمطه العام في تقديم حلقات منفصلة، تدور في أغلبها في عالم المستقبل القريب أو البعيد، يختلف الأبطال وأماكن التصوير في كل حلقة، لكنها كلها تتناول تأثير التكنولوجيا على حياة البشر بطريقة سوداوية أو مأساوية غالبا، وتبلغ مدة كل حلقة نحو الساعة.

وتناول المسلسل في مواسمه السابقة ثيمات (مواضيع) مختلفة من عالم الخيال العلمي والفانتازيا، من الرجال الآليين وأنظمة المراقبة والتطبيقات الشريرة وألعاب الفيديو، وترفع كل حلقة علامات تحذير عما يمكن أن تسببه التكنولوجيا الحديثة في إفساد حياة البشر وتدمير العلاقات الإنسانية.

كما قدم حلقة تفاعلية خاصة بعنوان "باندرسناتش" (Bandersnatch) جعلت المشاهد يتحكم في مصير الشخصية الرئيسية، ويلعب دورا في اختيار أبسط الأشياء في حياته وحتى قراراته المصيرية، في حلقة أثارت اهتمام الجمهور رغم الجدل حول إتقانها في تقديم هذا النوع الجديد من الدراما التلفزيونية التفاعلية.

نقطة بداية وليست نهاية

يرى الكاتب فابيو مونتاناري -صاحب أعمال على منصات نتفليكس و"أمازون" (Amazon) و"إتش بي أو" (HBO)- أن التقنيات الجديدة طالما قدمت أشكالا إبداعية جديدة، مثلا عندما تم اختراع التصوير الفوتوغرافي أثر ذلك على شكل وأسلوب الرسم، والذكاء الاصطناعي هو أحدث ما تقدمه التكنولوجيا، معتبرا إياه جزءا من واقعنا الحالي، بالإضافة إلى اعتباره تهديدًا، يمكن أن نراه أداة ليس للقيام بالكتابة نيابة عنا -كما نسمع أحيانًا- ولكن كمساعد، يمكن أن يساعد في تسجيل الاجتماعات، وتوفير الوقت في عمل البحث اللازم، وتلخيص المعلومات وقصص الأفلام.

ويؤكد فابيو أنه حاول شخصيا تبادل الدردشة مع تطبيقات الذكاء الاصطناعي، وجاءت النتائج محبطة للغاية، رغم أن كتابا آخرين قد تكون لديهم تجارب مختلفة، مضيفا "لقد وجدت أن أدوات الذكاء الاصطناعي مفيدة كنقطة بداية وليس كخط نهاية".

كل شيء قد يتغير قريبا

وعن التحديات التي تواجه كتابة القصص باستخدام هذه التقنية، يرى فابيو أنه من الضروري أن نكون على دراية بجميع المميزات التي قد يقدمها الذكاء الاصطناعي، "ففي النهاية، يجمع المعلومات من البيانات التي تم إدخالها عبر الإنترنت، كما أنه يشكل خطرا عندما يتعلق الأمر بتعكير صفو ظروف العمل الهشة بالفعل للكتاب"، هذا هو أحد المطالب المشروعة التي يدعو إليها إضراب كتاب السيناريو في هوليود.

ويضيف أن الأمر قد يدخل مرحلة يتم فيها التفكير في تعويض مبتكري الأفكار ماليا التي تغذي نظام الذكاء الاصطناعي، بعد أن تكون كل هذه المواد المبتكرة هي مفتاح عمل الذكاء الاصطناعي، ومع ذلك إذا كانت الصناعة ستعتمد على الذكاء الاصطناعي لإنتاج أفلام جديدة، يعتقد أنها ستؤدي إلى أفكار جيدة التنفيذ للغاية ولكنها غير أصلية. "مرة أخرى، قد يتغير كل هذا بعد 6 شهور من الآن، خاصة أننا نتحدث عن تقنية دائمة التطور".

معنى وشعور بالهوية

ويضيف فابيو -الذي يعمل أستاذا جامعيا لمادة كتابة السيناريو في جامعة يورك الكندية- أنه يؤمن بالقدرة الذاتية للفنانين على قراءة ما نعيشه وترجمته إلى فن، والتي تنتج حركات إبداعية وتمد الفنانين بمعنى وشعور بالهوية، وهذه أمور لا يُعرف ما إذا كان الذكاء الاصطناعي قادرًا على فعلها، مؤكدا "مع ذلك، بالنسبة لطلابي في مادة كتابة السيناريو، كنت أحاول تحفيزهم على كتابة قصص لن يكررها الذكاء الاصطناعي على الأرجح، من حيث النوع والمحتوى".

تقنيات الذكاء الاصطناعي ليست لديها خبرات إنسانية خاصة (شترستوك) لم يقع في الحب

وقد حاول أحد كتاب هوليود المشهورين المشاركين في إضراب كتاب هوليود استخدام تقنية "شات جبي بي تي" لكتابة لافتات ساخرة للإضراب، فجاءت النتيجة سيئة للغاية.

ويرى الكاتب -الذي رفض ذكر اسمه خلال اليوميات المنشورة- في حديث مع "هوليود ريبورتر" (Hollywood Reporter)، أنه من الواضح أن تقنية الذكاء الاصطناعي ستتحسن، ستكون قادرة في النهاية على فهم الفروق الدقيقة والسياق، وستكون أكثر قدرة على ضبط واتباع التوجيهات واتخاذ خيارات إبداعية، لكنها ستبقى في نهاية الأمر كأنها نابعة ممن شاهد مجموعة من الأفلام وبرامج التلفزيون، وفهم فكرتها العامة وهيكلها، لكن ليس لديه ما يقوله مطلقا، لا تهتم بشيء، ولا توجد لديها هواجس وأفكار خاصة.

ويضيف الكاتب أن تقنيات الذكاء الاصطناعي ليست لديها خبرات إنسانية خاصة، لم تقع في الحب، لم ينكسر قلبها، لا قصص شخصية لديها، لم تعان من الغيرة، لم تختبر المشاعر الإنسانية.

ومن واقع تجربته مع التقنية في محاولة كتابة مزحة ساخرة حول إضراب كتاب السيناريو، عندما طلب منها أن تكون "قاسية"، ردت التقنية "من المهم التعامل مع أي إضراب أو احتجاج باحترام ومهنية وتركيز على التغيير الإيجابي"، وإذا لم تكن هذه التقنية قادرة على أن تكون قاسية أو ساخرة، فستبقى تلتزم فقط بالقوانين والقواعد.

المصدر: الجزيرة

إقرأ أيضاً:

هل يمكن أن يطوّر الذكاءُ الاصطناعي خوارزمياته بمعزل عن البشر؟

في عقود زمنية خلت، تصدرت سرديات الخيال العلمي سيناريوهات أقرب تشبيها إلى ما صار العلم يعرفه في وقتنا الحالي بـ«الذكاء الاصطناعي العام أو الخارق»؛ حيث يمتلك النظام الحاسوبي قدرةً على فهم أوسع لمختلف المجالات والمهارات البشرية؛ فتكون لديه ملكة التعلّم والتحسين الذاتي بشكلٍ مطلقٍ أو شبه مطلق، ويصل الأمر في بعض التصوّرات إلى ظهور ما يُدعى بـ«الانفجار التقني» أو«التفرّد التقني» -Technological Singularity-؛ حيث يصبح الذكاء الاصطناعي قادرًا على تحسين قدراته بنفسه بوتيرة متسارعة تؤدي في النهاية إلى تجاوز مستوى الذكاء البشري بمراحل. مع التطور التقني المتسارع، تجاوز مفهوم «الذكاء الاصطناعي العام» أبجديات الخيال العلمي وسردياته اللاواقعية؛ ليكون في بعض أجزائه النظرية والعملية واقعا ملموسا؛ فنلمح تقدما علميا بارزا مثل قدرة نظم الذكاء الاصطناعي على ابتكار خوارزميات فريدة أسرع وأكفأ، ولكن -للأمانة العلمية- فإن الوصول إلى «التفرّد التقني» ما زال افتراضًا نظريًا لم يجد طريقه العملي، ولكن التطور آخذ في الصعود؛ فهناك مظاهر أولية لهذا الاتجاه مثل الأنظمة التي تنتج رموزًا برمجية وتتعلّم من أخطائها؛ ففي تطور علمي غير معهود يمكن اعتباره قفزةً علميةً في مجال الذكاء الاصطناعي، أعلنت شركة «DeepMind» في يونيو 2023 عن نجاح نظامها «AlphaDev» في ابتكار خوارزمية فرز «Sorting Algorithms» بيانات جديدة أسرع بنحو 70% من أفضل الخوارزميات التي طورها البشر سابقا -وفقَ الخبر الذي نشره موقع «Deepmind» في 7 يونيو 2023-؛ ليعكس هذا الإنجاز العلمي الفريد خطوةً كبيرةً في عالم التقنية وتحديدا الذكاء الاصطناعي، ويعكس قدرة الأنظمة الذكية الحديثة على تخطي حدود التفكير البشري التقليدي.

كيف نفهم هذا النوع من التطور الخوارزمي الذاتي؟

لفهم أهمية مثل هذا التطور العلمي غير التقليدي، سنحتاج إلى إلقاء نظرة معمّقة فيما يخص آلية هذا التطور وكيفية حدوثها؛ فنشرت مجلة «Nature» العلمية دراسة تفصيلية -في عددها المسجّل بـ 618, 257–263 (2023)، وجاءت بعنوان « Faster sorting algorithms discovered using deep reinforcement learning» « اكتشاف خوارزميات فرز أسرع باستعمال التعلّم التعزيزي العميق»- عن نظام AlphaDev» الذي طُوّر عن طريق تقنيات التعلّم التعزيزي Reinforcement Learning الذي يعتبر فرعا من فروع التعلم الآلي، ويعمل على تعزيز النظام الذكي عبر عملية التجربة والخطأ وتلقي المكافآت على القرارات الصائبة. تُعدّ خوارزميات الفرز من العناصر الرئيسة في علم الحاسوب من حيث قدرتها على التحكم في طريقة معالجة البيانات وتصنيفها؛ فيؤثر بشكلٍ مباشرٍ على سرعة تنفيذ المهام الحاسوبية في شتى المجالات، بدءًا من الترتيب البسيط للبيانات في قواعد المعلومات وانتهاءً بالخوارزميات المعقّدة المستعملة في الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي، وعلى مدار العقود الماضية، اكتُشفت العديد من خوارزميات الفرز وطُوّرت مثل: خوارزمية «الفرز السريع» (Quicksort) التي طورها «توني هور» في عام 1960، وخوارزمية «الفرز الدمجي» «Mergesort»، وبالإضافة إلى خوارزميات أُخرى تُعد كلاسيكيةً من حيث المبدأ العلمي لعلوم الحاسوب، وواصلت هذه الخوارزميات تطويراتها حتى وصلت إلى مستويات بالغة الدقة من حيث التعقيد الرياضي، وظلت لفترة طويلة بمثابة الأمثلة الأبرز للتميّز الرياضي والبرمجي. في هذا الإطار، لم يقم نظامُ «AlphaDev» بابتكار خوارزمية جديدة فحسب، ولكنه قام ببناء هذه الخوارزمية على مستوى لغة التجميع «Assembly Language»، وهي لغة منخفضة المستوى تتعامل مباشرة مع تعليمات المعالج المركزي؛ ليسمح باكتشاف طرق مختصرة غير تقليدية لتحسين كفاءة عمليات الفرز.

كما أشرنا آنفا؛ فإن مجلة «Nature» العلمية المرموقة نشرت تفاصيل هذه الدراسة في يونيو 2023؛ حيث وضّح البحث المنشور في المجلة بالتفصيل آلية عمل «AlphaDev» وكيفية توصله إلى هذه النتائج غير المسبوقة، وأشارت الدراسة إلى أن «AlphaDev» استعمل أسلوب التعلم التعزيزي الاستراتيجي؛ فأقدم النظام الذكي على ملايين المحاولات لإعادة ترتيب العناصر بطريقةٍ تحسّن من سرعة عملية الفرز مع الحفاظ على صحة النتائج ودقتها، وفي كل محاولة كان النظام يتعلم من أخطائه ويُعدّل من إستراتيجيته؛ ليقترب تدريجيًا من أفضل نتيجة ممكنة.

ما يميز ابتكار «AlphaDev» أنه وجد طرقًا مختصرة وغير تقليدية لفرز البيانات، وبمعنى آخر، اكتشف طرقًا لم تكن واضحةً أو متوقعةً لدى خبراء الذكاء الاصطناعي البشر. لم يقف الأمر عند حدود النشر العلمي النظري، ولكن باتت هذه الخوارزمية الجديدة جزءا فاعلا في مكتبة «C++» القياسية؛ فجعلها متاحةً للمطورين في جميع العالم بشكل مباشر، وبدأت العديد من التطبيقات بالفعل باستعمال هذه الخوارزمية المتطورة، وهذا ما يمكن أن يساهم في تحسين كفاءة البرمجيات وتسريع الأداء في مختلف المجالات التقنية، بدءًا من التطبيقات البسيطة ووصولًا إلى الأنظمة الحاسوبية العملاقة بما فيها الكوانتمية التي سبق أن استعرضنا حديثا عنها في مقال علمي سابق نشرناه في الملحق العلمي لجريدة «عُمان »عدد أكتوبر 2023.

المنافع المتوقعة

إنّ الفوائد المتوقعة من هذا الإنجاز لا تقف عند حدود فرز البيانات بشكلٍ أسرع؛ ولكنها تمتد إلى تحسين النظم الحاسوبية في مجالاتٍ عدة مثل قواعد البيانات العملاقة، وتحليل البيانات الكبيرة «Big Data»،

ونماذج التعلم الآلي التي تعتمد كثيرًا على عملياتٍ متكررةٍ من الفرز والبحث والمقارنة، ومع دخول التقنيات الحاسوبية في كل جوانب الحياة العملية التي تشمل تطبيقات التجارة الإلكترونية وتطبيقات الطاقة والمناخ؛ فإنّ تخفيض الوقت المستهلك في مثل هذه العمليات الأساسية يمكن أن يسهم في توفير كبير في الطاقة والموارد؛ ليعود بالنفع على الشركات والمؤسسات والمجتمعات على حد سواء. كذلك يمكن أن يفتح هذا التطور الرقمي أبوابًا جديدةً أمام الأبحاث المستقبلية في الذكاء الاصطناعي؛ إذ يمكن أن تتطور الخوارزميات التي تأتي بها نظم الذكاء الاصطناعي لتشمل جوانب برمجية أخرى مثل: الضغط «Compression»، والتخزين، والمحاكاة البصرية، والأمن السيبراني. رغم أن بعضنا يرقب هذه التطورات بحذرٍ خوفًا من تفوق الآلة على الإنسان في نواحٍ تهدد وظائف بشرية؛ فإنّ النظرةَ العلمية متفائلةٌ إلى حد ما؛ فترى في ذلك فرصةً لتعزيز القدرات البشرية واستغلال وقت المبرمجين والعلماء في حل مشكلات أكبر وأكثر تعقيدًا، تاركين للأنظمة الرقمية ابتكارَ الحلول في الجوانب الروتينية والحسابية المحضة.

الإبداع الرقمي والتساؤلات الفلسفية

عبر هذا المنحى الرقمي ذو البعد الذاتي للتقنيات الحديثة، يفتح نظام «AlphaDev» آفاقًا جديدة في عالم الخوارزميات والحوسبة؛ ليعكس قدرةَ الذكاءِ الاصطناعي على اكتشاف حلول إبداعية لمشكلات لم تكن معروفة ومحسومة من قبل العقل البشري ومنظوره العلمي؛ ليطرح تساؤلات عميقة تتعلق بمستقبل الذكاء الاصطناعي واستقلاله التطوري الذي يوحي بالنقيضين: الآمال العلمية والمخاوف المرتبطة، ومن الناحية الفلسفية، يطرح هذا الإنجاز أسئلةً مهمة تتعلق بطبيعة الإبداع وحدود الإدراك الإنساني في مقابل قدرات الآلة الرقمية واستقلالها التطوري؛ إذ ظن الإنسان لفترات طويلة أنه المصدر الوحيد للإبداع والتفكير غير التقليدي، ولكن تجربة «AlphaDev» وغيرها من أنظمة الذكاء الاصطناعي الحديثة بدأت تزلزل هذه الفرضيات؛ فلم تعد الآلة الآن محصورةً في دور الأداة لتنفيذ الأوامر البشرية، ولكنها أضحت كيانًا رقميا قادرًا على إنتاج المعرفة والإبداع بطرق يمكن أن تفوق ما يمكن للبشر أن يتصوره؛ ففي حدث علمي آخر أشبه بالخيال العلمي -بطله الذكاء الاصطناعي-، نجح باحثون في اليابان في تدريب ذكاء اصطناعي على توليد صور مرئية مستخرجة من دماغ الإنسان عن طريق مسح دماغه، وعرض الباحثون على مشاركين مجموعة متنوعة من الصور -مثل دب دمية وطائرة وبرج ساعة-، واعتمدت الآلية على قياس نشاط الدماغ عبر «fMRI»؛ ليتمكن بعدها نموذج الذكاء الاصطناعي من إعادة رسم صور لهذه القراءات التي تعكس أنماطَ نشاطِ الدماغِ المسجلة والمستخرجة، وجاءت الصور المولدة مشابهة بشكل مذهل لما رآه المشاركون في التجربة، وتشير الدراسات إلى أن دقة هذه الطريقة كانت مدهشة رغم أن التقنية لا تزال في مهدها، وحال استمرار تطورها؛ فإنها ستخطو خطوة علمية كبيرة في المقاربة لمساعدة الأشخاص غير القادرين على التواصل عبر ترجمة أفكارهم إلى صور أو نصوص، وكذلك يمكن للقدرات الخوارزمية أن تمتد إلى فهم محتوى الأحلام وتصويرها وقراءة ما يدور في الأذهان.

عودة إلى المنظور الفلسفي، فإن مثل هذا التفوق الرقمي يثير أسئلة عميقة تتعلق بالعلاقة بين الإنسان والآلة، والطبيعة الحقيقية للذكاء والإبداع؛ فتنهمر العديد من الأسئلة مثل: أيكرر الذكاء الاصطناعي تجربة الإنسان الإبداعية أم أنه يُنشئ مسارات جديدة بالكامل؟ وهل ينبغي لنا التعامل مع الذكاء الاصطناعي باعتباره شريكا في الإبداع وليس أداةً جامدةً؟ بدأت مثل هذه التساؤلات تأخذ مساحة واسعة في النقاشات العلمية والفلسفية الحديثة خصوصًا بعد أن أثبتت الأنظمة الذكية مثل «AlphaDev» قدرات لا تقتصر فقط على حسابات رياضية، ولكن على إيجاد حلول ابتكارية غير متوقعة لمشكلات علمية معقدة.

نظرة مستقبلية مشرقة

تؤكد نتائج «AlphaDev» على أن قدرة الذكاء الاصطناعي على الإبداع والابتكار فاقت حدودَ التصورات البشرية السابقة؛ فتقليديًا، كان تطوير الخوارزميات الجديدة يعتمد بشكل كبير على الخبرة الإنسانية والمعرفة النظرية والتجريبية المسبقة، كما رأينا في الفقرات السابقة أمثلة لخوارزميات مشابهة من تطوير الإنسان، ولكنها بقدرات رياضية وبرمجية أضعف، وليظهر نظام «AlphaDev» بمنهجيةٍ جديدةٍ تعتمد على المحاكاة العميقة والتجربة واسعة النطاق، والخالية من القيود البشرية التقليدية؛ لتُحدثَ تغييرات جذرية في كيفية تصميم الأنظمة الحاسوبية مستقبلًا وتطوريها. على المستوى العملي والتطبيقي، فإن هذه الخوارزمية الجديدة توفر الكثير من الوقت في عملية معالجة البيانات، الأمر الذي يعني توفيرًا في الموارد والطاقة وتخفيضًا كبيرًا في التكاليف خاصةً في الصناعات التي تعتمد على المعالجة المكثّفة للبيانات مثل التحليل المالي، والذكاء التجاري، والتطبيقات الصناعية، وغيرها. كما أن هذا الإنجاز يمهّد الطريق نحو اكتشافات مستقبلية مشابهة في مجالات أخرى عديدة؛ حيث من المحتمل أن تتمكن أنظمة الذكاء الاصطناعي من ابتكار خوارزميات أخرى أكثر تعقيدًا في مجالات مختلفة.

كذلك من المتوقع أن يؤدي تطوّر الذكاء الاصطناعي في مجال ابتكار الخوارزميات إلى تغييرات في طرق تعليم الحوسبة وهندسة البرمجيات؛ لينتقل المبرمجون والمهندسون إلى التركيز على تطوير استراتيجيات لتهيئة أنظمة الذكاء الاصطناعي بدلًا من كتابة الخوارزميات بشكل مباشر؛ ليسهم في صناعة تحولٍ في طبيعة عملهم من التنفيذ إلى إدارة العمليات الإبداعية وتوجيهها. تؤكد لنا مثل هذه القفزات العلمية أننا على أبواب مرحلة جديدة من العلاقة بين الإنسان والآلة، ولا ينبغي أن نعتقد أن هذه المرحلة حالة منافسة بين الاثنين (الإنسان والآلة)، ولكنها مرحلةُ تكاملٍ واندماجٍ؛ حيث تتضافر قدرات الإنسان والذكاء الاصطناعي معًا لبناء مستقبلٍ أكثرَ تطورًا وإبداعًا وفعالية.

د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني

مقالات مشابهة

  • يساعدك في اتخاذ القرار.. كيف يغيّر الذكاء الاصطناعي صورة الإنسان عن نفسه؟
  • سان جيرمان يبحث عن كتابة رقم تاريخي في سجلات الكرة الفرنسية
  • بتشويه «فوضى الذكاء الاصطناعي» للواقع يمضي العالم إلى كارثة
  • خبراء: الذكاء الاصطناعي ليس بديلاً للبشر
  • هل يمكن أن يطوّر الذكاءُ الاصطناعي خوارزمياته بمعزل عن البشر؟
  • إطلاق أول برنامج دكتوراه في الذكاء الاصطناعي في دبي
  • ميتا: إنستغرام يستخدم الذكاء الاصطناعي لمنع القُصّر من الكذب بشأن أعمارهم
  • “أسبوع دبي للذكاء الاصطناعي” يعزز شراكة الحكومات وشركات التكنولوجيا لتصميم مستقبل القطاع
  • صلاح يرفض كتابة التاريخ في «البريميرليج»!
  • عالم التكنولوجيا.. الذكاء الاصطناعي يدخل الصفوف الدراسية