مستقبل السودان في خطر.. ثلاثية القتل والمرض والجهل تطارد الأطفال
تاريخ النشر: 24th, June 2023 GMT
الخرطوم- منذ أكثر من شهرين، أطفال العاصمة السودانية الخرطوم يدفعون ثمنا مضاعفا للاقتتال الدائر منذ 15أبريل/نيسان الماضي بين الجيش وقوات الدعم السريع.
وأخذت معاناة الأطفال السودانيين أشكالا عدة، فمنهم من تمكن مع ذويه من الهرب، ومنهم من قُدّر له البقاء في العاصمة وهو ينظر إلى حال روضته أو مدرسته التي تحولت -في الغالب- إلى ثكنة عسكرية أو ساحة نهب للصوص الذين استغلوا الفراغ الأمني في البلاد فعاثوا فيها خرابا بعد سرقة محتوياتها.
وتعد روضة الفلاح في حي الفتيحاب في أم درمان من هذه الرياض التي طالتها أيدي العابثين واللصوص، إذ لم تسلم حتى صور الأطفال الذين تخرجوا فيها من التمزيق أو العبث.
وتتعفر بقية محتوياتها ولعب أطفالها المحطمة وكأنها تشكو حزنها ومأساتها وفقد براعمها، في حين تقع رياض أخرى تحت سيطرة مسلحين، ومن المستبعد -وفق متابعين- أن يخرجوا منها حاليا.
في انتظار العودة
الفاتح أحد أولئك الأطفال الذين ينتظرون انتهاء الحرب والعودة إلى الروضة، حيث الأقران والألعاب.
ورغم خوفه من أصوات المدافع أو الطائرات، فإن الخروج من المنزل والجلوس مع الآخرين -حتى وإن كانوا يكبرونه سنا- سلواه الوحيدة المتبقية له.
بدورها، كانت الطفلة جوان ذات الـ4 سنوات تنتظر تخرجها في الروضة قبيل اندلاع الحرب بأيام.
ولا تزال جوان -وهي تبتسم- معلقة آمالها على رجوعها إلى الروضة وتسلم شهادة تخرجها، قبل الانتقال إلى مدرسة الأساس التي أصبحت بعيدة المنال على ما يبدو.
لكن الفاتح وجوان كانا أكثر حظا من أطفال آخرين فتكت بهم الأمراض وجميع أدواء الحرب.
من جهتها، كشفت منظمة رعاية الطفولة يونيسيف عن أرقام مخيفة، إذ أشارت في تقرير لها إلى نزوح أكثر من مليون طفل من منازلهم منذ بداية النزاع الجاري في العاصمة السودانية.
وتقول المنظمة الدولية إنها تلقت تقارير موثوقة تفيد بمقتل أكثر من 330 طفلا وإصابة أكثر من 1900 طفل، حتى السادس من يونيو/حزيران الجاري، محذرة من أن "مستقبل السودان في خطر، ولا يمكننا قبول استمرار فقدان ومعاناة أطفاله".
وتؤكد المنظمة أن عديدا من الأطفال في خطر كبير، ويتعذر عليهم الوصول إلى الخدمات الأساسية المنقذة للحياة، مما يترك أكثر من 13 مليون طفل في حاجة ماسة إلى المساعدة الإنسانية، خاصة الماء والصحة والتغذية والحماية.
وتقدر المنظمة أن حوالي 5.6 ملايين طفل يعيشون في ولايات دارفور الخمس يحتاجون إلى المساعدة. ومن المقدر أن نحو 270 ألف طفل نزحوا مؤخرا بسبب القتال حتى الآن.
وتتوقع يونيسيف أن يكون هناك نحو 15 ألف طفل -دون سن الخامسة- يعانون سوء تغذية حادا غربي دارفور وحدها.
أمراض نفسيةفي سياق متصل، يشير محمد بابكر أحمد -الخبير في مجال التقويم والاختلالات النفسية للأطفال- إلى ظهور حالات نفسيه متفاوتة بين الأطفال، من بينها الخوف، والتبول اللاإرادي، ومتلازمة تجنب الأماكن المرتفعة، وعدم مفارقة الكبار، واضطرابات النوم، وتشنجات ورعب من سماع أصوات الرصاص، بالإضافة إلى حالات من السرحان والتوهان.
وأضاف الخبير النفسي أن هناك طفلة تبلغ العاشرة من عمرها "نحاول الآن بشتى السبل أن نخرجها من حالة الخوف التي تلازمها وإعادتها لحياتها الطبيعية، ولكن من دون جدوى".
وأوضح أحمد -في حديثه للجزيرة نت- أن حمل الطفل على اللعب مع أقرانه والاندماج في أندية سباحة، أو إيجاد بيئة خالية من التوتر، هو المخرج الوحيد لعلاج مثل هذه الحالات.
فاقدو السند والمأوىأما الأطفال "فاقدو السند"، فمأساتهم تبدو مضاعفة، إذ أصبحوا بين فقد السند وفقد المأوى.
ومع هروب الجميع من الخرطوم وفشل القائمين على أمرهم في الوصول إليهم، تمكنت أخيرا منظمتا الصليب الأحمر الدولي واليونيسف، بالتنسيق مع طرفي الحرب بالسودان، من نقل 300 منهم من إحدى دور الرعاية (دار المايقوما لرعاية فاقدي السند) وسط الخرطوم.
ونجحت المنظمتان في نقل الأطفال -الذين أعمارهم أقل من 4 سنوات- إلى مدينة ود مدني، في حين أُجلي إلى مدينة الحصاحيصا الفتيان والفتيات الذين أعمارهم فوق 18 سنة.
وكان 71 من بين هؤلاء الأطفال قد ماتوا في دار المايقوما قبل وصول طوق النجاة إليهم، بسبب انعدام الرعاية الصحية والغذائية.
وتعاود اليونيسيف توقعاتها بأن نحو 7 ملايين طفل سوداني لن يستطيعوا الذهاب إلى المدارس هذا العام.
المصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
رسالة من قلب الخرطوم… حكاية الصامدين في زمن الحرب
قبل أيام، أرسلت رسالة لصديق قديم أعرف أنه ما زال في الخرطوم، لم يغادرها منذ اندلاع الحرب. كنت قلقًا عليه كأخ، وسألته عن حال الأمن، عن الماء والكهرباء، وعن “كيف الحياة ماشية؟”. جاءني رده مختصرًا، لكنه كان كفيلًا بأن يحرّكني من الداخل:
“الأمن ولله الحمد تمام شديد. الموية بنشتريها يوم بعد يوم. الكهرباء عندنا طاقة شمسية. ولو كللللللو مافي، بسط موش مافي جنجويد دي أكبر نعمة.”
توقفت طويلًا عند هذه الكلمات. لم تكن مجرد رد سريع على سؤال عابر، بل كانت شهادة حيّة من قلب الخرطوم. شهادة إنسان يعيش التفاصيل، ويختبر الصبر كل يوم، لكنه ما زال واقفًا.
“الأمن تمام شديد” — هكذا ببساطة. لكن خلف هذه الكلمات عالم كامل من المعاناة والانتصار. الخرطوم، التي يحسبها البعض قد أصبحت أطلالًا، ما زالت فيها أحياء تنام وتصحو، تُقيم الصلوات، وتوزع الابتسامات. في وقتٍ سادت فيه الشائعات واشتدت فيه الحملات النفسية، تأتي هذه العبارة كضوء في نفق مظلم، تؤكد أن هناك مناطق آمنة، وأن الحياة، على قسوتها، ما زالت آمنة وممكنة.
“المويه بنشتريها يوم بعد يوم” — يقوله دون تذمر. لا شكاية ولا تململ. فقط وصف واقعي. لكنها أيضًا تعني أن الناس هناك ما زالوا قادرين على تنظيم يومهم، والتعامل مع النقص بإصرار. أما “الكهرباء عندنا طاقة شمسية”، فهي دليل على أن العقل السوداني لا يستسلم، بل يبحث عن البدائل، ويصنع من الشدة فرصة. الطاقة الشمسية هنا ليست رفاهية، بل أداة للبقاء، ووسيلة لحفظ كرامة العيش.
ثم تأتي الجملة التي اختزلت كل شيء، كل الحرب، كل المعاناة، كل السياسة: “ولو كللللللو مافي، بسط موش مافي جنجويد دي أكبر نعمة.” كأن صديقي يقول لي: قد نفقد كل شيء… الماء، الكهرباء، الراحة… لكن طالما لا نسمع وقع أقدام الجنجويد في حينا، فنحن بخير. هذه ليست مجرد جملة، إنها ميزان يقيس الناس به حياتهم اليوم. لا يبحثون عن الكمال، بل عن الحد الأدنى من الأمان. وهذه، بحد ذاتها، درس في بسالة الإنسان السوداني.
تظل مثل هذه الرسائل البسيطة، الصادقة، هي البوصلة. هي التي تخبرنا أن الناس بخير… ليس لأن حياتهم مريحة، بل لأنهم لم يفقدوا شجاعتهم ولا إحساسهم بما هو “أهم”. وهل هناك أصدق من إنسان يقول: “ما دام مافي جنجويد… فدي أكبر نعمة”؟ نعم، ما زالت الخرطوم بخير، لأن فيها من يشبه صديقي هذا. وهل هناك أصدق من شهادة من لم يترك أرضه؟
عميد شرطة (م)
عمر محمد عثمان
٢٩ أبريل ٢٠٢٥م