الأسبوع:
2025-01-19@04:48:34 GMT

أصبح عندي الآن قضية.. ماذا فعلت الحرب بالمصريين؟

تاريخ النشر: 6th, November 2023 GMT

أصبح عندي الآن قضية.. ماذا فعلت الحرب بالمصريين؟

لم تكن، قط، أيامًا عادية، تلك التي نعيشها منذ السابع من أكتوبر الماضي، ثلاثون يومًا فعلت في المصريين ما لم تفعله عقود زمنية بأكملها، منذ اندلاع طوفان الأقصى، واشتعال الحرب في غزة، وإطلاق آلاف الرصاصات صوب أطفالنا في الأرض المحتلة، لم تُصِب صدورهم فحسب، وإنما امتدت لتصيب أكبادنا بالحزن، وتُدمي قلوبنا بالحسرة، وتنثر شظاياها في أرواحنا لتُحدث إصابات بالغة، لا مرئية في كثير من الأحيان، آثارها مترامية الأطراف، متعددة الأبعاد: بين ضعف وهوان، وبين قوة خفية لا تقهرها جيوش العالم.

من رحم الوجع تولد قواميس الدعابة، ينطقها المصريون في لهجاتهم اليومية، ويكتبونها على صفحاتهم ومنتدياتهم المنتشرة في أروقة التواصل الاجتماعي، يتواصلون بالضحكات المريرة لتوصيل الرسائل اللاذعة التي تلدغ العدو في مقتل، ومنذ اليوم الأول للحرب، استعدنا «روح أكتوبر العظيمة» التي انتصرنا فيها، ونشر المصريون «كوميكس» يمثل مقطع فيديو من مسلسل «اللعبة»، يصفع فيه البطل (هشام ماجد/ ماظو)، الذي يمثل المصريين في 6 أكتوبر، جارَه الذي يُفاجأ بالصفعة، وهنا يتدخل البطل الثاني (شيكو/ وسيم)، يتظاهر بأنه يهدئ من روع الجار «المضروب»، ويباغته بـ«صفعة ثانية»، تمثل ضربة حماس في السابع من أكتوبر!

ولأن «Money Talks» بشكل أقوى مما تقوله كل اللغات، أدرك المصريون أن الخسائر المادية توجعهم أكثر، وتصيب العدو برصاصات مستقرها بين اللحم والعظم، ودشَّنوا حملات مقاطعة كل ما يدعم الكيان الغاصب، من مؤسسات وشركات عابرة للقارات، تباهى بعضهم بـ«إرسال الغذاء لجنود الاحتلال»، فكانت لطمة مقاطعتهم دامية، مئات من صفحات الفيسبوك نذرت منشوراتها لإعداد قوائم بكل الشركات والمنتجات الموجودة في بلادنا، وتفاعل الشارع العربي مع الحملات، وتكبَّدت شركات كبرى خسائر فادحة لقَّنتها دروسًا كأقسى ما يكون، لعلهم يفهمون ما معنى «الغضب الساطع آتٍ».

شركة «ستاربكس» المتناثرة فروعها في أرجاء المحروسة، وكان النخبة يتباهون بالجلوس على «مقاهيها» واحتساء«الفرابتشينو» وما على شاكلته من مشروبات نخطئ في حروف هجائها، مثلما نخطئ في حساب أسعارها، تحوَّلتِ الفروع الفخمة إلى أطلال مهجورة، خاوية على عروشها، عزف عنها المصريون، ومن باب «الكيد» انتشرت صور على مواقع التواصل الاجتماعي، لنفس العلامة المسجلة لها، مع اختلاف طفيف في الشكل، ليحل «وجه الفنان الراحل جميل راتب» محلأيقونة «ستاربكس»، ويتحول الاسم التجاري الشهير إلى «ستار بهظ»، في إشارة لاسم شخصية «بهظ بك»، في الفيلم الأيقوني «الكيف»!!!

وكرَّس بعض «البلوجرز»، من المؤثرين على السوشيال ميديا، جهودَهم لتنظيم جولات موثقة (بالصوت والصورة) داخل الأسواق الكبرى و«المولات»، لمتابعة نتائج وآثار مقاطعة العديد من المنتجات الداعمة للسفاحين، والتفنن في التنقيب عن بدائل وطنية، وعمل دعاية مجانية لجذب المصريين لاستهلاكها وتشجيع الإقبال عليها.

ومن ظلمة المحنة جاءتِ المنحة، وبرزتِ الروح الكامنة للخير في الأنفس، وتحول قطاع كبير من الشباب إلى دعاة تبرعات ومسؤولي قوائم خيرية لجمع المواد الغذائية، والسعي لإرسالها لأشقائنا وأطفالنا في غزة، والتوافد أمام معبر رفح للإشراف على نقل المعونات الإغاثية، في مظهر حضاري، يكشف عمق التلاحم المصري الفلسطيني، رغم كل محاولات التفكيك والهدم.

تغلغلتِ القضية الفلسطينية في الأنفس، وتربَّعت في القلوب، بشكل أعمق من تصوراتنا، لدرجة أن أحد أبناء محافظة الفيوم، ويُدعى شوقي أبوبكيرة، أطلق اسم «غزة» على مولودته الجديدة، متمنيًا أن تكون ولادتها بشرى خير لولادة قطاع غزة محرر ناجٍ، ويستعيد الفلسطينيون أراضيهم من براثن الاحتلال. فيما تأثر بعض العاملين في مجال «الطباعة»، وطرحوا أعدادًا كبيرة من «هدايا العام الجديد»، من نتائج وأچندات مطبوع عليها خريطة فلسطين، وعاصمتها القدس الشريف. نفس القصة (بشكل مختلف) فعلها نشطاء التواصل الاجتماعي بالدخول على جوجل، وتعديل بيانات «القدس» لتصبح «عاصمة فلسطين»، بدلًا من البيانات الصهيونية المغلوطة، وإرسال تقييمات سيئة لموقع «فيسبوك»، للضغط عليه، بعد قرارات التضييق والإغلاق والحظر التي يمارسها مارك زوكربيرج وأعوانه، ضد صفحات القضية الفلسطينية، فكانتِ انتفاضة الأقصى، زمنًا كاشفًا للألاعيب التي تمارسها كبرى الشركات المالكة لمواقع التواصل الاجتماعي، والتطبيقات الشهيرة، بمعاونة «الخوارزميات اللعينة».

شوارع المحروسة، وميادينها، منذ صبيحة السابع من أكتوبر، ترفرف بها أعلام فلسطين خفاقة، أما الإكسسوارات والمنتجات التراثية التي تمثل فلسطين، فقد ملأتِ المحال والورش، وتبارى التجار وصُنَّاع الحُلي في تصميمها وبيعها بأسعار رمزية، من أجل نشرها على أوسع نطاق بين فتياتنا وبناتنا، سواء «أقراط»، أو «أساور»، أو «دلَّايات» تجسد خريطة فلسطين، وألوان العلم الشهير لها، لتظل ألوانه شامخة محفورة في الذاكرة العربية، رغم أنف الاحتلال، وزاد الإقبال بشكل تاريخي على «الكوفية الفلسطينية» المميزة، المعروفة باسم «شال عرفات»، نسبة للزعيم الراحل ياسر عرفات.

في 1969، غنت كوكب الشرق، من كلمات الشاعر الكبير نزار قباني، وألحان موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، قصيدة «أصبح عندي الآن بندقية.. إلى فلسطين خذوني معكم»، وبعد طول اندثار، تجدد الاستماع إليها من شبابنا الآن، وكأنها«أصبح عندي الآن قضية»، فالأجيال الجديدة التي لم تكد تسمع شيئًا عن مقاومة الاحتلال، أصبحت تشدو بهتافات وأغانٍ حماسية ملأت أروقة السوشيال ميديا، والأحاديث الجانبية بين الأصدقاء، وحتى نشيد الصباح في المدارس، وحصص الموسيقى والرسم، وزادت تحميلات أغاني المقاومة على الموبايلات، أشهرها: «على عهدي على ديني.. على أرضي تلاقيني.. أنا لأهلي أنا أفديهم.. أنا دمي فلسطيني»، التي طرحها في 2015، المطرب الفلسطيني الشاب محمد عساف (الذي عرفه الجمهور العربي بفوزه ببرنامج آراب أيدول في 2013).

أصبح عند المصريين «هَمٌّ عام»، قضية قومية يجتمعون عندها، توحّدهم من جديد بعد طول شتات، حتى الأدباء والشعراء كثفوا ندواتهم الثقافية لإلقاء الشعر وسرد قصص المقاومة، تزامنًا مع انتفاضة نجوم الكرة والفنانين، وتوحيد صور «البروفايلات الشخصية» عبر فيسبوك، لتكون صورة «العلم الفلسطيني» خفاقًا في الصدارة.

وبعيدًا عن حالة الحزن والاكتئاب التي أصابت بعضنا، لأننا بشر، كانت فرصة سانحة لتمهيد طريق العودة إلى الله، لتهدئة روع القلوب من فرط أهوال مقاطع الفيديو المتداولة، للمذابح والمآسي المروعة التي يلاقيها إخواننا في غزة، وتكثيف الدعاء لهم بالنجاة والنصر، وكانت فرصة لا بأس بها لتذكُّر «أهوال يوم القيامة»، مع الفارق العظيم.

حالة الحزن تمخض عنها معنى روحاني راقٍ، بتعليم أطفالنا ضرورة التكافل الاجتماعي، ووجوب تقديم المساعدات لإخواننا، سواء بالمال، أو الغذاء، أو حتى بالدعاء، مع تعظيم الإحساس بـ«نعمة الوطن» التي لا تُقدَّر بثمن.

طائفة من المصريين، وضعتها الحرب على حافة الجنون، فقررتِ الركون إلى «اللا شيء»، أو وفق الثقافة الهولندية «قانون نيكسِن»: حالة من الصمت «تُخرِج المرء من عقله، ثم يرى الأشياء بوضوح بعد فترة»، أسلوب حياة لمكافحة الأحداث المزدحمة المرهقة للنفس، مهارة الجلوس أو النظر عبر النوافذ أو التأمل في البحر، أو سماع الموسيقى، بلا هدف، طريقة استشفائية اتخذها البعض، لإدارة التوتر والتعافي من الألم، وإنعاش العقل، استراحة محارب لاستعادة التوازن مع نمط الحياة.

ووسط أهوال ومآسي «حروب نخوضها، وحروب تخوضنا»، نستعين بالتفاصيل البسيطة، نقاط مضيئة نبصر بها، نتكئ عليها، تعيننا على العيش وتخلق المعنى والهدف، تمنحنا الأمل، تروِّض الألم، لحين زواله، ألا إن نصر الله قريب.

المصدر: الأسبوع

كلمات دلالية: فلسطين القضية الفلسطينية غزة الحرب التواصل الاجتماعی

إقرأ أيضاً:

لماذا وافقت إسرائيل على الصفقة الآن بعد تعنت طويل؟

اندفعت "إسرائيل" في حرب إبادة جماعية على غزّة، أرادت منها جملة من الأهداف، أدناها وأقربها إلى ظنّها، هو فرض الانكسار والهزيمة والاستسلام على حركة حماس، وعموم المقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة، فانتهجت أساليب الصدمة والترويع والقصف السجّاديّ والإزاحة السكانية والأحزمة النارية، وبنحو يزيد على الخبرة التاريخية في الصراع معها.

وأرادت بهذه الحرب، التي تنتهج الإبادة المكشوفة والمعلنة، أنّه ليس ثمّة محرمات في هذه الحرب، فطالت آلة الدمار الكاسحة معالم الحياة الحضرية والعمرانية كلّها في قطاع غزّة دون أن تستثنيَ مرفقًا أو إنسانًا أو حجرًا أو شجرًا.

في قلب هذه الكيفية الحربية غير المسبوقة، أرادت "إسرائيل" طمس ملفّ أسراها لدى حركة حماس والمقاومة الفلسطينية، بالقول المضمر، والمعلن أحيانًا، إنّ التضحيات كلّها ينبغي أن تكون محتملة ومقبولة في حرب هي موصوفة بأنّها حرب مصيرية ووجودية، وتأتي ردًّا على عملية استثنائية غير مسبوقة بدورها في تاريخ الصراع، أمعنت في كشف المحدودية الإسرائيلية المُقنّعة بالدعاية عن الجيش الذي لا يُقهَر والمُخابرات التي لا تنام.

وللتغطية على إرادة طمس ملف الأسرى، رفعت شعارًا مُعلنًا بأنّ الأسرى سيعودون بمحض القوّة العسكرية، وبالاقتران مع القضاء على حركة حماس واستئصالها.

إعلان

هذا الهدف الإسرائيلي الذي كانت تعتقده الأقرب إلى التحقّق، أي فرض الهزيمة والاستسلام على حماس بقوّة النيران الجهنمية، كان الخطوة الأولى على طريق تحقيق الهدف الأكبر، الذي هو في بعده الأقصى تهجير الفلسطينيين من قطاع غزّة، كما كشفت وثيقة لوزارة الاستخبارات الإسرائيلية في بداية الحرب، وفي أبعاد متوسطة وقريبة، احتلال نصف القطاع، بعد تسوية شماليّه بالأرض، سواء قُصِدَ من ذلك استئناف الاستيطان من جديد، أم تثبت القوّة العسكرية والمناطق العازلة المحمية بهذه القوّة داخل القطاع، أم إعادة هندسة القطاع سياسيًّا واجتماعيًّا وأمنيًّا على عين جيش الاحتلال وبإشرافه.

في هذه الحرب، وعند الإعلان عن وقف إطلاق النار الأخير، الذي يؤسّس في منطوقه ومفهومه لإبطال هذه الأهداف كلّها من أدناها إلى أقصاها، بدا أنّ الاحتلال، كما هو متوقع، تمكن من إنجاز مستويات مروّعة من القتل والدمار وفرض النزوح، ممّا يحوّل الإبادة من فعل فيزيائيّ مؤقت، إلى بنية دائمة مستمرّة فاعلة في جماهير الغزيين وعموم الفلسطينيين.

فالنتائج على المستوى البشري من حيث أعداد الشهداء والجرحى، وما يتصل بذلك من مآسٍ اجتماعية وأوضاع اقتصادية، وعلى المستوى المادي في البنية التحتية، لا يُمكِن أن تُوصف إلا بأنّها كارثية، ولا يُمكن إلا أن تُعتبر في طليعة القراءة لهذه الحرب، وهو ما يعني أنّ هذه الكلفة هي التحدّي الأثقل، على الأقلّ؛ خلال العقد القادم للفلسطينيين، وفي مقدمتهم حركة حماس، التي قادت هذه الملحمة الكفاحية، ابتداء من يوم "طوفان الأقصى" مرورًا بالصمود الملحمي طوال الحرب التي طالت إلى خمسة عشر شهرًا، وانتهاءً بالصفقة التي يُفترض بها أن تفضيَ إلى وقف الحرب.

اندفعت ‘إسرائيل’ في حرب إبادة جماعية على غزّة، أرادت منها جملة من الأهداف، أدناها وأقربها إلى ظنّها، هو فرض الانكسار والهزيمة والاستسلام على حركة حماس وعموم المقاومة الفلسطينية

بيدَ أنّ هذه الحقيقة الماثلة بسطوة في الوعي الراهن، وبقدر ما هي ثقيلة ولحوحة، لا يمكن أن تدفع عن الوعي، حين قراءة اتفاق وقف إطلاق النار – الذي أعلن عنه يوم الأربعاء 15 يناير/ كانون الثاني، ليدخل حيز التنفيذ كما يُفترض يوم الأحد 19 يناير/ كانون الثاني- أنّ إسرائيل أخفقت في تحقيق أهداف إستراتيجية في إطار الخطاب الإسرائيلي المعلن، وبما من شأنه أن تكون له تداعيات في الحالة الإسرائيلية الداخلية.

إعلان

لقد جاء الاتفاق المعلن، متفقًا في الجوهر مع صيغة الصفقة التي وافقت عليها حركة حماس في الثاني من يوليو/ تموز 2024، وهي في أصلها صيغة مُقدمة في أيار/ مايو من العام نفسه، ليكون أيّ تغيير حصل ما بين تلك الصيغة وهذا الاتفاق في التفاصيل وآليات التنفيذ، لا في المبدأ ولا في الجوهر.

وهو ما يعني أن يتحمّل نتنياهو، في السجال الإسرائيلي الداخلي، المسؤولية، عن جميع الأسرى الإسرائيليين الذين فُقِدوا أو قُتلوا منذ يوليو/ تموز 2024، وحتى يناير/ كانون الثاني 2025، علاوة على الجنود الذي قتلوا وبنحو مطّرد في الشهر الأخير من الحرب، لا سيما في شماليّ قطاع غزّة، حتى اضطرت أوساط إسرائيلية وأميركية إلى الإقرار بأنه لا يمكن القضاء على حركة حماس، بدليل الأداء القتاليّ لجناحها العسكري في المنطقة التي أراد الاحتلال تجريفها بالكامل، أي منطقة الشمال التي تضمّ جباليا وبين حانون وبيت لاهيا.

لا يمكن، حين الحديث عن هذا الاتفاق، تناول المسألة من منظور الانتصار/ الهزيمة، في صراع مفتوح متجدد تتصل حلقاته النضالية ببعضها، تمكن الاحتلال في حلقته هذه من إيقاع مقتلة عظيمة بالفلسطينيين، لكنه لم يتمكن بها من محو عار السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، ولا من تحقيق جملة الأهداف المعلنة ذات الطابع الإستراتيجي، بل كان مفهوم الاتفاق المعلن، أنّ الحركة التي أراد الاحتلال القضاء عليها، تمهيدًا لتهجير الفلسطينيين، أو لإعادة احتلال قطاع غزّة، أو لهندسته من جديد، وقّع معها صفقة تنظّم خروجه من القطاع وتفضي إلى وقف إطلاق نار دائم.

وهو ما يعني أنّ الأهداف ذات الطابع المعنوي، في أبعادها الإستراتيجية، سوف تأخذ بالتآكل، ابتداء من هذا الاتفاق، لا سيما إن وصل إلى غايته النهائية، وذلك لأنّ عقيدة "تيئيس الفلسطينيين من جدوى المقاومة"، التي عبّرت عن نفسها هذه المرّة بالإبادة، تتعارض جوهريًّا مع تراجع الاحتلال عن جملة الأهداف المعلنة، وباتفاقه مع الحركة التي دخل غزّة للقضاء عليها.

وإذن وفي حال مضى هذا الاتفاق إلى الأمام، فإنّ جملة أهداف إسرائيلية سقطت بالضرورة، ابتداء من الهدف التمهيدي المتمثل في تحطيم حائط الصد الذي تجسّده حماس بما هي قائدة حالة المقاومة الراهنة في فلسطين، والمسؤولة عن عملية السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، وبما يعنيه تحطيمها من انكسار معنوي طويل الأمد تصعب القيامة منه في مدى منظور، وصولًا إلى الأهداف المتراوحة بين أنماط الاحتلال المتنوعة، وإعادة الهندسة الاستعمارية، والتهجير الكامل.

إعلان

في طيات السقوط المدوّي لهذه الأهداف، تأتي النتائج السريعة، التي هي بالضرورة لصالح الفلسطينيين وحركة حماس، من قبيل اضطرار الاحتلال للرضوخ مجدّدًا للإفراج عن المحكومين بالمؤبدات الذين أراد لهم الموت في السجن، والموصوفين إسرائيليًّا بأنّ أيديهم ملطخة بدماء الإسرائيليين، والذين أعلن باستمرار عن كونهم مستثنين دائمين من أيّ إمكان للإفراج عن الأسرى الفلسطينيين، علاوة على غيرهم من أصحاب الأحكام العالية، لتكون هذه المرّة الثانية التي تُكسَر فيها المعايير الإسرائيلية، في صفقة تبادل أسرى من داخل فلسطين، في تاريخ الصراع كلّه، وللمفارقة على يد بنيامين نتنياهو، وذلك بعد صفقة "جلعاد شاليط" التي قادتها حماس أيضًا.

بهذا الاعتبار، يكون قد سقط هدف القضاء على حماس، وهدف استعادة الأسرى الإسرائيليين بمحض القوّة العسكرية، أو بفرض الهزيمة والاستسلام على حماس، فإذا اكتمل هذا الهدف، باستمرار وقف إطلاق النار وثباته، ونجاح المرحلة الثانية في تثبيت ذلك وإخراج الاحتلال من قطاع غزّة واستكمال تبادل الأسرى، فإنّ الأهداف الإستراتيجية الأخرى تكون قد سقطت.

بالتأكيد ليس الحديث عن اتفاق صلب، إذ أسباب الهشاشة قائمة فيه بوضوح، وطبائع الحرب الاستثنائية منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول وطول حرب الإبادة مستمرة فيها بعد الاتفاق، ولا يمكن الحديث بثقة وجدّية عن ضامنين بخصوص السلوك الإسرائيلي.

بيد أنّ الاتفاق المبدئيّ الحاصل، تراجع إسرائيليّ ظاهر، من شأنه أن يؤسّس لتراجع أكبر، تكون له تداعيات إسرائيلية داخلية تحوّل الحرب إلى استقطاب إسرائيلي داخليّ، يعزّز من اتهامات الفشل، وهو فشل مؤكّد في يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، وفشل محلّ استقطاب مؤكّد فيما يتعلق بشهور الحرب الطويلة، ولتعود قضية الأسرى الإسرائيليين القضية الأساس داخل إسرائيل ومحلّ الخصومة الداخلية بين التيار الصهيوني التقليدي والتيار الذي يلتفّ من حول بنيامين نتنياهو، وفي القلب منه تيار الاستيطان التوراتي، بعدما أراد هذا التيار الأخير التضحية بالأسرى لصالح "إسرائيل الكاملة" والتغطي بالحرب، لاستكمال إطباقه على مفاصل "الدولة" وأجهزتها العميقة، ليتساءل الإسرائيليون اليوم: "لماذا عاد بعض الأسرى أحياء، ورجع بعضهم في توابيت؟!".

صمود حركة حماس، لم يَحمِل ‘إسرائيل’ على التوقيع على اتفاقية كانت ترفضها فحسب، ولكنه حال دون استمرار الاندفاعة الإسرائيلية لتكريس مشروعها الصهيوني في فلسطين والمنطقة

يمكن ملاحظة التراجع الإسرائيلي في هذا الاتفاق، بتضمين المرحلة الثانية في المرحلة الأولى من البند الأوّل، وبما يضمن استمرار وقف إطلاق النار المؤقت، ما دامت المفاوضات قائمة على شروط المرحلة الثانية، إلى أن يتفق الطرفان، بهدف الوصول إلى وقف دائم لإطلاق النار، وهو الشرط الذي رفضه بنيامين نتنياهو في يوليو/ تموز الماضي.

إعلان

يبقى – والحالة هذه – سؤالان: الأول، حول الأسباب المفضية إلى هذا الاتفاق بعد تعنّت إسرائيلي طويل مغطى بالدعاية والقوّة الأميركية، والثاني: حول المآلات البعيدة لهذه الحرب، في حال مضى الاتفاق، ولم تمزقه عوامل الهشاشة القائمة في المشهد العدواني الإسرائيلي على غزة، وهذان السؤالان مرتبطان ببعضهما كما سيتّضح.

أمّا الخضوع الإسرائيلي لاتفاق كان يرفضه نتنياهو، وبعد الأخذ بعين الاعتبار التحوّلات في البيت الأبيض مع مجيء الساكن الجديد دونالد ترامب، إذ تكاد تتطابق المصادر على أن مبعوث ترامب مارس ضغطًا جادًّا على نتنياهو، وبعد أن تصدّر ملف الأسرى الإسرائيليين أولوية النقاش السياسي الإسرائيلي حينما فرغت "إسرائيل" من حربها مع حزب الله، إذ باتت أغلبية الجمهور الإسرائيلي ترى ضرورة استرجاع الأسرى الإسرائيليين ولو كان الثمن وقف الحرب، فإنّه – أي ذلك الخضوع الإسرائيلي – مرتبط بصمود حركة حماس، وقدرتها على التجدّد والتكيف في غمرة الحرب، واستمرارها في القتال حتى النهاية، وتكبيدها الاحتلال خسائر متصاعدة في المنطقة الأكثر تضرّرًا من عنف الاحتلال، أي شماليّ قطاع غزّة.

راهنت "إسرائيل" ومعها الولايات المتحدة الأميركية على انكسار سريع لحركة حماس في ظرف من ثلاثة شهور إلى خمسة شهور؛ بفعل القوّة الإسرائيلية الاستثنائية المتَّخَذة في هذه الحرب، وهو ما يمكن أن يُفهم من تصريحات لوزير الخارجية الأميركي حينها أنتوني بلينكن في 20 ديسمبر/كانون الأول 2023، أي بعد شهرين ونصف الشهر من بداية الحرب، حينما قال: "لو سلّمت حماس أسلحتها فإن الأزمة ستنتهي فورًا".

وهو ما يعني أن الولايات المتحدة لم تكن قد رأت بوادر انكسار من حماس والحرب في شهرها الثالث، ثمّ عاد الرهان الأميركي والإسرائيلي المتطلع إلى انكسار حماس بعد استشهاد قائدها يحيى السنوار وخروج حزب الله من المعركة، والبدء في خطة تدمير شماليّ القطاع وتهجير سكانه، بيد أنّ خطأ هذا الرهان مُجدّدًا وضع الحرب أمام حقيقة طولها الذي فاق توقعات الإسرائيليين والأميركان، وبما لا يحتمله الظرف الإسرائيلي المنفعل بهذه الحرب، مع تزايد خسائره الاقتصادية والبشرية والدعائية والدبلوماسية، في وضع لا تحتمله دولة صغيرة تفتقر إلى العمق الإستراتيجي، ولا يمكنها الاستمرار بلا إمداد أميركي.

التداعيات الإستراتيجية لهذه الحرب لن تتضح إلا بعد سنوات، على "إسرائيل" والفلسطينيين، وكذلك في المنطقة والعالم

إنّ صمود حركة حماس، لم يَحمِل "إسرائيل" على التوقيع على اتفاقية كانت ترفضها فحسب، ولكنه حال دون استمرار الاندفاعة الإسرائيلية لتكريس مشروعها الصهيوني في فلسطين والمنطقة عبر انتصار شامل، بحسب تعبيرات نتنياهو، لا يحتمل النقاش ولا يعتريه التباس، ليكون هذا الصمود، هو الذي أفشل سلسلة التوابع الإستراتيجية من أنماط الاحتلال المتعددة، عسكرية واستيطانية، وإعادة هندسة، إلى التهجير الواسع أو الكامل.

إعلان

فالاستسلام ولو بدا في حينه للبعض أنّ من شأنه أن يوقف المقتلة، فإنّه كان سيفتح البوابة واسعة للزمن الإسرائيلي المستطيل على فلسطين والمنطقة، وبما لا يمكن للفلسطينيين أن ينهضوا منه إلى قرن قادم، وبالضرورة أيضًا، لن يكون ساعتها ما يمنع إسرائيل من الاستمرار في المذبحة.

هذا الأمر يتصل بالتقييم الدقيق لهذه الحرب، انطلاقًا من "طوفان الأقصى" وحتى نهايتها في حال ظلّ هذا الاتفاق قائمًا، فالوعي الراهن بالضرورة متعلق بالكارثة الإنسانية الهائلة التي أوقعها الاحتلال بالفلسطينيين في غزّة، وهو ما يعني أنّ الأسئلة حول أهداف حركة حماس من عملية "طوفان الأقصى" ستبقى قائمة ومشروعة، إلا أنّ التداعيات الإستراتيجية لهذه الحرب لن تتضح إلا بعد سنوات، على إسرائيل والفلسطينيين، وكذلك في المنطقة والعالم.

وإذا كانت "إسرائيل" لم تتمكن من محو عار السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، فإنّ كلمة الشبان الفلسطينيين الذين هم اليوم في طور الطفولة والمراهقة وقد عاشوا أهوال الحرب، هم من سيقولون كلمتهم بعد سنوات إن كانت "إسرائيل" قد تمكنت من تيئيس الفلسطينيين من المقاومة وجدواها، أم لا.

أمّا حركة حماس، وقد خرجت من هذه الحرب بهذا الاتفاق لو كتب له الثبات، وبالرغم من أنّها ستواجه مهمات ثقيلة وصعبة أعظمها الكارثة الإنسانية المفتوحة في قطاع غزّة، وارتباط ذلك بحضورها في قطاع غزّة لا سيما من حيث الإدارة، وما يتصل به من علاقات إقليمية ودولية، منها طبيعة التوازنات بعد هذه الحرب التي كشفت أيضًا محدودية محور المقاومة، فإنّها من جهة أخرى رسّخت نفسها في وجدان الجماهير حركة جادّة وصادقة قاتلت قتالًا ملحميًّا وباسلًا على نحو غير مسبوق في تاريخ الصراع كلّه.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • ماذا فعلت مصر لتشجيع الاستثمار في الطاقة المتجددة؟.. الخبراء يُجيبون
  • هكذا هدّد نتنياهو بالعودة إلى الحرب في قطاع غزة.. ماذا قال؟
  • لماذا وافقت إسرائيل على الصفقة الآن بعد تعنت طويل؟
  • حامل أختام الملك!
  • مطر لمحافظ الشمال: ماذا فعلت من أجل طرابلس؟
  • ماذا فعلت امريكا بالمخلوع عندما وضعها تحت جزمته ؟! وماذا فعلت الجنائية به عندما رفض أن يسلمهم ولو (كديس) … ومع ذلك ومع ذلك !!..
  • بدء تنفيذ 14 ألف وحدة إسكان أخضر ضمن «سكن لكل المصريين» في أكتوبر الجديدة
  • سكن لكل المصريين 5.. آخر موعد لحجز شقق الإسكان الاجتماعي
  • بعد 15 شهراً من الحرب.. ماذا حقق نتنياهو من أهدافه ووعوداته؟
  • "سياحة النواب": فلسطين قضية مصر الأولى ووقف النار تتويج لحكمة السيسي