نزيف الدم العربي لا يتوقف على امتداد فلسطين، لكنه نزيف بطعم الحياة، نزيف يكتب في أناة شهادة ميلاد جديدة وموثقة للحق، وعدالة القضية، تجود فلسطين في هذه الدقائق الحرجة من تاريخ النضال الشريف، في سخاء بزهرة شبابها الغض، المؤمن بقدسية الأرض، والممتلئة عروقه بالغيرة على الدين والعرض، هناك في بيت المقدس وأكنافه المباركة، تدور رحى ملحمة الصمود والفداء، تكتب بأرواحها سطرًا جديدًا لبانوراما الخلود.
هناك ترتقي الأنفس الذكية في سكينة وخشوع، قرابين ما أطيبها، تسابق بعضها بعضا في مواكب من نور، وفي غزة الصمود حيث اختلط الحديد بالدم، ودخان البارود بأنفاس الزهر، وعرائس الطفولة بمواكب الجنائز، حيث لا يمكن لعقل أن يتصور أو يعي حجم ما يحدث من انتهاكات إجرامية صريحة، تمارس بحق أهلنا العزل، الذين احصروا في ديارهم، وارغموا على تجرع كؤوس الموت غصبا، يتلقون بصدور عارية إلا من الإيمان، هجمات عدو غادر، تفنن في سلبهم الحياة في عربدة.
في سماء غزة الملتهبة بأحقاد الصهاينة، تحوم رسل الموت في جرأة، تطارد فرائسها من الأبرياء، لا تفرق بين رجل وامرأة، أو بين صغير وكبير، فكل من على الأرض جعلته هدفا مستباحا، في غزة تلفظ الحياة أنفاسها الأخيرة، وسط دقات طبول الحرب وازدياد وتيرتها، تدق في كل لحظة يصم ضجيجها الآذان، هناك تنجلي شمس النهار عن مئات الجثث والأشلاء لأناس ليس لهم من حظوظ الدنيا غير الخوف والجوع وحصار حتى الموت.
إن ما يقلق ويزيد من قتامة المشهد، ما عزمت عليه قوات الاحتلال من اجتياح لقطاع غزة، غير مكتفية بما احدثته من تدمير للبنى التحتية شل مرافق الحياة، حيث راحت تحشد لهذا آلات القتل من كل نوع، مشفوعة بتأييد ومباركة ومناصرة لحلفاء الداخل والخارج، وهذا في حد ذاته إنذار جديد للوحة من لوحات الإبادة الجماعية، التي لا تكترث بالمواثيق الدولية، ولا ترضخ للأعراف الإنسانية، التي تؤكد ليل نهار بوجود مأساة في كل شبر من القطاع، وتفاقم أزمات معيشية حادة، ونقص في المؤن الغذائية، والاحتياجات الطبية، وانعدام للوقود، حتى المستشفيات لم تسلم هي الأخرى من الاعتداء، بعدما دكتها الطائرات فوق رؤوس الجرحى والقتلى.
في أحياء غزة المحاصرة تبدو الإنسانية في ثياب حداد، ضعيفة هزيلة، حاسرة تستجدي عطف القريب وإحسان الغريب، تعرض أشلاءها أمام أعين المارة، عسى تصادف في قلوبهم أثرا لشفقة، إن التحرك لفتح ممرات آمنة للإجلاء، أو للحدود والمعابر، لتمرير المساعدات وحده لا يكفي، ما لم يوزايه ضمانات دولية، بوقف الزحف المحتمل لماكينة الحرب المهيأة للانقضاض، والتى تناوش في صلف أطراف ضحيتها، إن مصائر الآلاف من الأبرياء معلقة بقرارات حكماء العالم، وضمائر أصحاب القرار من المنظمات الأممية، أن تتحرك لوقف شلال الدماء، والدعوة على التهدئة، وضبط النفس، وتلجيم تحركات قيادات العدوان الغاشم.
ولعل بادرة أمل تلوح في الأفق المترع بالضباب، فيما أقدمت عليه القيادات العربية والدولية الداعية للتهدئة، حتى وإن جاءت بطيئة، لكنها تلوح بورقة الحشد والتأييد لحقن الدماء، ومن ورائها مطالب الشارع العربي والإسلامي، يغلي بمشاعره الجياشة، والرافضة لهذا العدوان، المنددة بالصمت الدولي في التغاضي عن مجازر الكيان المحتل.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: نزيف الدم العربي فلسطين
إقرأ أيضاً:
طفل غزّي ينجو من الموت ويتيتّم 3 مرات
غزة- تستعيد الغزّية أم طلال الشوبكي لحظات فقدان ابنتها نور وزوجها عبيدة مدوخ وأطفالهما وعدد من أفراد العائلة أيضا في قصف إسرائيلي استهدف منزلهم بمنطقة "الصحابة" وسط مدينة غزة، فجر يوم 13 يناير/كانون الثاني الماضي، مخلّفين وراءهم طفلهم محمد (عمره عام واحد)، ليشهد على المجزرة.
تقول جدته أم طلال "سمعنا أصواتا تصرخ قائلة: ضربوا منزل عائلة نور، شعرتُ حينها بالصدمة ولم أعرف إن كان ذلك حقيقة أم تشابه أسماء مع ابنتي، ولم أستطع التحرك من شدة الخوف، ركضتُ مسرعة في الشارع بحثا عنها علني أجد من يكذّب الخبر".
ولكن "أرجعني ابني في تلك اللحظات وأخبرني أنهم جميعا استشهدوا ولم يبق غير الصغير محمد على قيد الحياة".
شاهدت الشوبكي جثة زوج ابنتها وحماتها على الأرض، موضحة أن ملامحهما تغيرت من شدة القصف، فالوجه منتفخ والأسنان مكسورة، وبعدها بدقائق أخرجوا جثة ابنتها نور من تحت الركام وعرفتها من خاتم في إصبعها.
محمد مع بنات خاله طلال الذي كفله بعد استشهاد عائلته لكنه مضى شهيدا أيضا (الجزيرة) خوفشعرت الأم بخوف شديد دفعها إلى رفض الكشف عن وجه ابنتها وتقبيلها قبلة الوداع، فلم ترغب في أن يكون آخر مشهد لفقيدتها بملامحها المشوّهة. ولم تتوقع أن يتم دفن ابنتها وزوجها وأحفادها الثلاثة خلال بضع دقائق.
إعلانكانت تعتقد أنهم سيجلبون لها نور إلى البيت، ولكن خطورة الأحداث والقصف المتواصل تمنع كثيرا من الأهالي من توديع أبنائهم وتقبيلهم حتى قبلة الوداع.
ووفق الشوبكي، كانت "سلفة" نور (زوجة شقيق زوجها) حاملا في شهرها التاسع واستشهدت في تلك الحادثة. ومن شدة القصف، وجدوا الجنين متوفيا خارج أحشائها، "لقد عرفوا الأم من الحبل السري، كان المنظر تقشعر له الأبدان".
وقدمت عائلة مدوخ 25 شهيدا في تلك الليلة، ولم ينج سوى الطفل محمد وقد رماه القصف الشديد إلى شقة الجيران المجاورة، وكان مصابا ووضعه الصحي خطيرا للغاية ولم يأمل الأطباء في أن يبقى على قيد الحياة.
إصابة محمد جراء القصف كانت خطيرة جدا وفقد الأطباء الأمل في نجاته (الجزيرة) حالة صعبةتقول الجدة الشوبكي "زرتُ محمد بعد الحادثة بـ3 أيام في المشفى، كانت حالته يُرثى لها، وجهه منتفخ ومليء بالحروق والغرز، شعرتُ بخوف كبير ألا ينجو وأن أفقد الشخص الوحيد الذي تبقى لي من رائحة ابنتي".
كان الطفل يجلس بجوار جدته، وعندما يشاهد صور عائلته يسحب الهاتف منها بقوة وينادي "ماما، ماما"، وعندما يرى صورة إخوته ينادي عليهم بلهفة.
لمحمد عمّ توأم لوالده، وكلما يراه يناديه "بابا"، وهو أيضا فقد زوجته وأبناءه في القصف ذاته، وأصبح وجود ابن أخيه محمد يهوّن عليه الألم والمصاب الذي عاشه. ويقول "طول ما أنا عايش ما راح أخليك تحتاج إلى شيء، وأنت راح تكون بعيوني" كما تنقل الجدة.
وتضيف "كان العم حنونا على محمد، احتضنه وكان والده الذي فقده جراء حرب الإبادة الجماعية على غزة، ولكن شاءت الأقدار أن يُحرم الطفل منه ويتيتم للمرة الثانية، حيث كان عمه نازحا داخل مدرسة التابعين واستشهد في مجزرة المدرسة التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي فجر العاشر من آب/أغسطس 2024″.
محمد فقد عمه وخاله الشهيدين اللذين حاولا تعويضه عن والده الشهيد (الجزيرة) مأساة طفللم تنته مأساة الطفل محمد الشوبكي هنا، إذ إن خاله طلال الذي احتضنه منذ وفاة والدته، وكان يرعاه بصحبة عمه الشهيد، استشهد أيضا منتصف نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، في استهداف العمارة التي كان يوجد فيها.
إعلانتقول الجدة "كان طلال يقول إذا أنا قصرت بحق محمد عمه يسد مكاني، وإن هو قصّر أسد مكانه، وعندما استشهد العم شعر طلال بحزن وخوف شديدين على ابن أخته وبثقل المسؤولية، ولكنه لم يكن يعلم أن محمد سيعيش اليتم مرة أخرى".
وكأن الاحتلال الإسرائيلي يتعمد أن يحرمه من أي سند يعوضه عن والده، وبذلك تكون أم طلال فقدت ابنتها وابنها وأحفادها في هذا العدوان المستمر على غزة، وخوفها يزداد كل يوم من أن يزورها الفقد مجددا مع استمرار العدوان.