لا أتحدثُ هنا عن المواقف العربية الرسمية المخزية أمام الشعب الفلسطيني، فهي معروفة للجميع؛ لكني أتساءل عن أبواق الضلال، ممن سموا تجاوزًا بالشيوخ، الذين ملأوا الدنيا صراخًا وضجيجًا؛ لإراقة دماء السوريين والليبيين والعراقيين، وأين هي من فلسطين، تلك الجبهاتُ التي أدعت الجهاد وسفكت دماء الأبرياء، ألم تسمع بما يجري في غزة؟!
لقد اختفى شيوخ الضلال، واختفت تلك الجبهات التي ما أنزل الله بها من سلطان، وكأنها «فص ملح وداب».
وليس أدل على السقوط الأخلاقي لمثل هؤلاء، من الكاتب المغربي الطاهر بن جلون - الذي لا يمثل المغاربة بأيّ حال من الأحوال - عندما نشر مقالًا في مجلة «لو بوان» الفرنسية قال فيه: «إنّ ما فعلته حماس في هجومها ضد إسرائيل، لم تكن لتفعله الحيوانات»، وزاد أنْ قال عن رجال المقاومة الفلسطينية: «إنهم بلا ضمير، بلا أخلاق ولا إنسانية»، وزعم أنّ القضية الفلسطينية ماتت وقُتلت يوم 7 أكتوبر، ووصف ما وقع بأنه «جرح للإنسانية جمعاء»، وكتب «أنا في وحدتي، في حزني وخزيي كإنسان، في اشمئزازي من هذه الإنسانية التي أرفض الانتماء إليها، أقول لا، هذا قتال لا يحترم قضيتهم. لا لهذا التصفيق في بعض العواصم العربية. لا لهذا الانتصار الدموي للأبرياء. لا لعمى أولئك الذين يحركون خيوط المأساة، حيث عاجلًا أم آجلًا سيكون السكان الفلسطينيون هم الذين سيدفعون هذه الفاتورة الباهظة».
ولأنّ حس ابن جلون «مرهف»، فقد قال في مقاله ذلك: «أشعر بالرعب لأنّ الصور التي رأيتُها أثّرت في أعماق إنسانيتي»، ولا أدري أين كانت مختبئة تلك الإنسانيةُ التي ادّعاها، وهو الذي ولد قبل إقامة الدولة الصهيونية بأربع سنوات، والتي ارتكبت مذابح وجرائم ضد الإنسانية ونكلت بالشعب الفلسطيني تنكيلا؟! وأين إنسانيتُه مما تفعله إسرائيل حاليًا في غزة؟! وقد اعتبر أنّ حماس هي عدو الشعب الفلسطيني «عدو قاس ليس له أيّ حس سياسي، يتلاعب به بلدٌ يتم فيه شنق المعارضين الشباب بسبب قصة ارتداء الحجاب على رؤوسهم». يبدو أنّ ابن جلون يتطلع إلى جائزة نوبل للآداب، بعد أن فاز بجائزة الغونكور، وهو يعرف أنّ أقرب طريق للوصول إليها، هو هذا التملق للكيان الصهيوني ضد الفلسطينيين، وقد ينالها بالفعل، ولكن عندما يفوز باستحقاق وجدارة، يكون للجائزة قيمة، أما أن يفوز على حساب دماء الفلسطينيين فهو قمة العار.
لم يكن الطاهر بن جلون وحده من غرّد بعيدًا عن السرب؛ فالروائي الجزائري محمد مولسهول المشهور باسم زوجته ياسمينة خضرا - الذي لا يمثل الجزائريين طبعًا - قد أثار هو الآخر جدلًا وغضبًا وسط الجزائريين، عندما انضم إلى الجوقة ونشر في صفحته في الفيسبوك: «إنّ حماس قد ذبحت المدنيين الإسرائيليين بلا رحمة، لقد تم القضاء على عائلات إسرائيلية، دون سابق إنذار أو ضبط النفس، ومن يفرح به لا يستحق أن يكون إنسانًا». وساوى ياسمينة خضرا بين الجلاد والضحية، مثله مثل البيانات العربية الهزيلة عندما قال: «لا فرق بين ما قامت به حماس وما تقوم به إسرائيل بالأمس، تم دفن اليهود أحياء. واليوم، الغزاويون مدفونون تحت الأنقاض. غدًا لن يبقى أحد ليدفِن أحدًا». وكأنّ على الفلسطينيين أن يلزموا الصمت، تجاه ما يرونه كلّ يوم من القتل في أبنائهم، والاعتقالات التعسفية، وتدنيس المسجد الأقصى.
وإذا تركنا المغرب العربي الكبير، وجئنا إلى الخليج العربي، فإنّ ما كتبه أحمد الجارالله في صحيفة «السياسة» الكويتية يوم السبت 28 أكتوبر 2023، لا يذهب بعيدًا عما ذهب إليه الكاتبان السابقان؛ ففي مقال بعنوان: «إلى حماس والقسام... اتقوا الله بشعب غزة»، قال فيها: «في كلّ هذه النار لا بد من المكاشفة والتحدث بصوت مرتفع إلى حدّ الصراخ، علَّ يسمع من بهم صمم، أنّ مغامرة «القسام» التي كان يعرف بها أربعة قادة داخل القطاع، لم تكن بمستوى التحدي الذي اختار توقيته أولئك، ولا هم كانوا على قدر من الذكاء، كما كان عليه المغفور له الرئيس أنور السادات -رحمه الله- الذي اختار توقيت حرب العبور بعناية، وكان يستند إلى فصيل واحد هو الشعب المصري، وجيشه «خير أجناد» الأرض». وقد كال المديح للرئيس السادات بأن قال: «إنّ من يطالع مآلات حرب أكتوبر، يدرك منذ اللحظة الأولى أنّ الرجل لم يكن بوارد «محو إسرائيل من الوجود»؛ لأنّ موازين القوى الدولية، يومها وحاليًا لا تقبل ذلك؛ فالعالم الغربي عمل على إيجاد إسرائيل لكي تبقى، وهذه الحقيقة دفعت بالسادات إلى وصف تلك الحرب بـ»حرب التحريك» للقضية، وهو ما أعلنه مرات عدة بعد وقف العمليات العسكرية»؛ وربط الجارالله بين ما فعله السادات وقتها وما يجري في غزة اليوم واصفًا طوفان الأقصى بأنه «فتيشة»، وإنْ كنتُ لا أدري معناها الحقيقي، إلا أني فهمتُ من السياق العام أنها حركة طائشة. يقول: «تلك «الفتيشة» التي أقدمت «كتائب القسام» على إشعالها، وجدَت من يركب موجتها، وهم قادة «حماس» (وهم من جماعة «الإخوان») في الخارج، الذين باتوا خبراء باستثمار دم الشعب الفلسطيني، فأعلنوا من خلف شاشات التلفزة أنهم حققوا الانتصار على إسرائيل، وأنها زائلة بعد وقت قريب». ووصف قادة حماس بأنهم «يعيشون على فكرة خيالية؛ لأنهم لم يروا هذا الدعم الغربي الكبير لإسرائيل و»طوفان الأسلحة والمال» الذي أغرقت به تل أبيب».
لم ير أحمد الجارالله من الموضوع إلا أنّ حماس وقادتها من جماعة الإخوان المسلمين فقط، وكأنّ ذلك هو مسوّغ للقضاء عليها، وهي في الواقع نظرة ضيقة سبق للكاتب محمد حسنين هيكل أن أشار إليها في مقابلة أجراها معه حسين عبدالغني لقناة «الجزيرة»، عندما انتقد الموقف المصري الرسمي إذا كان ينظر إلى حماس أنها امتدادٌ لحركة الإخوان فقط؛ لأنّ القضية أكبر من ذلك؛ إذ أنها تتعلق بالأمن القومي المصري.
وإذا تركنا الكويت واتجهنا إلى السعودية، فإننا نجد الكاتب عبده خال، قد كتب مقالًا في صحيفة «عكاظ» السعودية، بعنوان «مَن يسلك الطريق المدمر لكلّ شيء؟» نُشر يوم الثلاثاء 24 أكتوبر 2023، دخّل فيه التاريخ الإسلامي ولوى فيه عنقه، لكي يظهر أنّ حركة حماس لا تعرف التخطيط العسكري كما فعل القائد خالد بن الوليد في غزوة مؤتة، ولم يفته الذكر أنّ حماس إحدى بنات الإخوان المسلمين، وتساءل سؤالًا قال عنه: «قد يبدو مستنكرًا لدى العاطفيين» وهو: ماذا لو كان خالد بن الوليد قائدًا لجماعة حماس، هل كان له الإقدام على تسجيل انتصار مؤقت، مع علمه أنّ خلف ذلك الانتصار المؤقت سيفنى جيشه كاملًا.. مع افتراض أنه على اطلاع بظرفية الزمن، وأدواته، ودوله، وأنّ العدو سوف ينقل المعركة إلى أرض المسلمين، يهدم البنيان، ويقتل الأطفال والنساء والرجال وكلّ متحرك على الأرض، فهل كان لخالد الإقدام من أجل تحقيق نصر مؤقت؟». وردد خال أنّ «شرط الجهاد بأنواعه حقٌ من حقوق ولي الأمر، وليس من حق أيّ فصيل أو جماعة، فكيف لجماعة أن تُقدم على إهلاك شعب بحجة المقاومة»؛ لكنه لا يذكر من هو ولي الأمر؟ وكيف له أن يتخذ قرار الجهاد؟ وماذا فعل هذا الولي في قضية فلسطين والمسجد الأقصى؟! وهل عليه أن يستأذن واشنطن بالجهاد؟ وهل على الفلسطينيين أن ينتظروا قرنًا آخر حتى يأذن لهم وليُ الأمر المجهول بالجهاد؟
لله الحمد أنّ هذه الأصوات لا تجد قبولًا عند الشارع العربي، وقد شاهدنا ذلك من خلال الانتقادات التي وُجهت ضد الطاهر بن جلون وياسمينة خضرا، التي وصلت للمطالبة بالتخلص من كتبهما، وإلغاء متابعة حساباتهما في منصات التواصل الاجتماعي. لقد تناسى مثلُ هؤلاء الكتاب ما فعله الكيان الإسرائيلي في الفلسطينيين طوال خمس وسبعين سنة، وتناسوا الاعتداءات السابقة التي اقترفها جيش الاحتلال ضد غزة، ولم تكن حماس حينها تشن أيّ هجوم على إسرائيل، ولم ير هؤلاء في هجمات الاحتلال عدوانية، ولكن عندما ردّت حماس ظهرت إنسانيتُهم الرهيفة، ووصفوها بأقبح الألفاظ، وعليهم أن يعرفوا أنّ القضية الفلسطينية لن تموت، حتى وإن أبيد أهل غزة كلهم؛ فالحق لا يغيب طالما وراءه مطالبون مؤمنون بعدالة قضيتهم، وهذا ما يفعله الفلسطينيون وما تفعله المقاومة، وعليهم أن يتركوا الفلسطينيين وشأنهم.
زاهر المحروقي كاتب عماني مهتم بالشأن العربي ومؤلف كتاب «الطريق إلى القدس»
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الشعب الفلسطینی
إقرأ أيضاً:
نائل البرغوثي.. عميد الأسرى الفلسطينيين حراً بعد 45 عاماً
وصل الفلسطيني نائل البرغوثي الذي أمضى أكثر من أربعة عقود في السجون الإسرائيلية، الخميس، إلى مصر، بين 79 فلسطينياً آخرين أفرج عنهم في آخر عملية تبادل رهائن ومعتقلين بين حركة حماس وإسرائيل، في إطار الهدنة الهشة في قطاع غزة.
وقال نادي الأسير الفلسطيني إن البرغوثي أمضى 45 عاماً في السجن، بما في ذلك 34 عاماً متتالية. وبين الفلسطينيين المفرج عنهم، فجر اليوم، 79 أُبعدوا خارج الأراضي الفلسطينية، وهم إجمالاً من أصحاب الأحكام العالية في إسرائيل.
وعقب الافراج عنه أعرب عميد الأسرى الفلسطينيين نائل البرغوثي، عن شكره إلى كل من عمل على إطلاق سراح الأسرى، وقال إن الكلام لن يوفّي أهل قطاع غزة حقهم.
وأضاف في كلمة بعد الإفراج عنه أنه يتوجه بالشكر إلى شعب غزة رجالا وأطفالا ونساء وجنودا وقادة، مؤكدا أن "كل ما فعله الإجرام الصهيوني لا يساوي بقاء ظفر فلسطيني في القطاع".
نائل البرغوثي يتحدث
ووجّه البرغوثي رسالة للفلسطينيين والأحرار في أنحاء العالم بأن الهدف الرئيسي سيظل توحيد الأمة العربية وتحرير فلسطين. وقال في مداخلة مع الجزيرة "إن حريته لن تكتمل إلا بحرية غزة وفلسطين كلها، مؤكدا قسوة ظروف الإفراج عنه".
كما أكد أن الاحتلال يمارس كل أشكال التنكيل بالأسرى الفلسطينيين حتى يفرغ غيظه من المقاومة. وقال إن الفلسطينيين يقدمون دمهم وأعمارهم وقادتهم من أجل حرية بلدهم.
وقال إن دماء شهداء المقاومة وقادتها ستبقى دينا في عنق كل مسلم وكل عربي وكل حر في العالم، مؤكدا أن الشعب الفلسطيني لا يسعى فقط لتحرير فلسطين وإنما لتحرير اليهود من العنصرية تجاه كل من يسكن فلسطين والتي تتجلى في تعذيب أسرى مقيدين بطريقة تعبر عن تدني ثقافة هذا الاحتلال.
وأكد أنه تم الاعتداء عليه كبقية الأسرى حتى ساعة إطلاق سراحه بالضرب والأدوات الحادة التي تسبب كسورا وجروحا. وقال إن حتى الإداريين يعاملون كمجرمي حرب داخل سجون الاحتلال.
المقاومة أثبتت جدارتها
وشدد البرغوثي على أن حرية الأسرى لن تكتمل إلا بتحرير كامل التراب الفلسطيني، مؤكدا أن المقاومة وفي مقدمتها رئيسا حركة حماس الشهيدين إسماعيل هنية ويحيى السنوار، أثبتت قدرتها على مواجهة آلة الاحتلال.
وعن قبوله بالأبعاد إلى خارج فلسطين، قال البرغوثي إنه كان يرفض الأمر لكنه انصاع لرأي الجماعة حتى لا يؤثر على قرارات بقية الأسرى.
وقال إن المخابرات المصرية أكدت لهم أن ذوي الأسرى ليسوا ممنوعين من اللحاق بهم في القاهرة، مضيفا أن الشعب المصري معروف بوحدته التاريخية مع الشعب الفلسطيني وتضامنه معهم.
وأوضح أن حرية كافة الأسرى لا تساوي طفلا من أطفال غزة الذين استشهدوا خلال الحرب، لكنه قال أيضا إن المسألة تتعلق بتحرير الوطن وليس تحرير الأسرى وهو أمر له أثمان دفعتها شعوب سابقة في الجزائر وفيتنام وغيرهما.
وكان البرغوثي محكوماً بالسجن المؤبد بتهمة قتل ضابط إسرائيلي، وتنفيذ هجمات على مواقع إسرائيلية. واعتُقل في عام 1978، وكان ينتمي حينها إلى حركة فتح.
أفرج عنه في صفقة التبادل التي تمّت عام 2011 بين حماس وإسرائيل، وشملت الإفراج عن الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط الذي كان محتجزاً لدى "حماس"، مقابل 1027 فلسطينياً.
وعندما أعيد اعتقاله في عام 2014 بتهمة التحريض، استؤنف تطبيق حكم المؤبد السابق عليه. وانشق داخل السجن عن حركة فتح، وانضمّ إلى حركة حماس.
وكانت زوجته إيمان نافع وصفت في مقابلة صحافية، الشهر الماضي، قرار إبعاده بأنه "عقوبة جديدة بإبعاده عن وطنه وعن أرضه" مضيفة: "أعتقد أن هذه هي أقسى عقوبة في التاريخ".
وأعلنت مصلحة السجون الإسرائيلية، الخميس، أنها أفرجت عن 643 معتقلاً فلسطينياً بعد استعادة جثث أربع رهائن من حماس في آخر عملية تبادل في إطار المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار مع حركة «حماس» في قطاع غزة.