لجريدة عمان:
2025-02-01@09:47:28 GMT

وهم عقدة الذنب الأوروبية

تاريخ النشر: 5th, November 2023 GMT

يردد كثير من المثقفين العرب فكرة مفادها أن الأوربيين أنشأوا إسرائيل تكفيرا عن ذنبهم تجاه اليهود الذين مارسوا ضدهم الاضطهاد قرابة الألفي عام أي منذ تحول الإمبراطور الروماني قسطنطين الأول من الوثنية إلى المسيحية عام 315م، فصار اليهود الذين وصلوا إلى أوروبا في القرن السادس (ق.م) أعداء، وتمت إدانتهم بتهمة قتل المسيح وأن أيديهم ملطخة بالدماء.

بيد أن الحقائق التاريخية التي سبقت إنشاء دولة إسرائيل، وتلك التي تلتها إلى يومنا هذا، تؤكد بأن إنشاء إسرائيل لا علاقة له بأية مراجعات فكرية لدى الأوروبيين ولا محاسبات نفسية، وإن فكرة إنشاء كيان يجمع يهود أوروبا ظهرت في القرن التاسع عشر أي في ذات اللحظة التاريخية التي ابتدأت أوروبا تعيد تعريف نفسها بناء على القومية، ومحاولة تحديد هوية الدولة بناء على العرق والدين واللغة كما نظر لها الفيلسوف الألماني فريدريك هيجل في كتابه «فلسفة الحق» الصادر عام 1821م، والذي اعتبر فيه الدولة تجسيدا للروح المطلقة «الإله»، وأن القومية شكل من أشكال الوعي الذاتي الجماعي الذي يشكل الدولة، وأن الشعب اليهودي والشعوب الإسلامية على مستوى منخفض من الحضارة.

نتيجة لهذه النزعة القومية التي ابتدأت تجتاح أوروبا تم النظر إلى اليهود باعتبارهم مشكلة، وترددت عبارة «المشكلة اليهودية» في كتاباتهم، وألف الفيلسوف الألماني كارل ماركس في عام 1843م مقالا موسعا بعنوان «حول المسألة اليهودية» قال فيه بالحرف: «إن تحرر اليهود هو في معناه الأخير تحرر البشرية من اليهودية»، و«إن التحرر الاجتماعي لليهودي هو تحرر المجتمع من اليهودية».

وفي عام 1895م ذهب الصحفي اليهودي النمساوي ثيودور هرتزل (ت 1904) م إلى باريس لتغطية محاكمة الضابط اليهودي ألفريد دريفوس الذي اتهم ظلما بخيانة فرنسا، تيقن هرتزل من مجريات المحاكمة أن اليهود لا يمكنهم الشعور بالأمن والاستقرار والمواطنة المتساوية في أوروبا، وفي عام 1896م نشر كتابه «الدولة اليهودية» الذي دعا فيه إلى إنشاء دولة قومية في فلسطين، ونظم هرتزل المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897م في بازل بسويسرا، وأسس المنظمة الصهيونية العالمية وصندوق الاستعمار اليهودي الذي كان يهدف إلى شراء الأراضي في فلسطين.

زار هرتزل قادة أوروبا لإقناعهم بفكرته، ولكنهم لم يقتنعوا بسبب قوة الدولة العثمانية التي كانت الحاكمة في فلسطين، فقدموا بدائل عدة لتحقيق غاية هرتزل ورغبتهم في الخلاص الأبدي من «المشكلة اليهودية»، فاقترح اللورد جوزيف تشامبرلين وزير الخارجية البريطاني في عام 1903م إبعاد اليهود إلى أوغندا، كما تم اقتراح أمريكا وكندا وغيرها، بيد أن الأمر توقف بسبب تصاعد نذر الحرب الأوربية الأولى التي انطلقت شرارتها عام 1914.

في عام 1917م احتلت بريطانيا فلسطين، وقرر بلفور الذي كان رئيسا للوزراء ووزيرا للخارجية البريطانية أن ينفذ خطة هرتزل بجعل فلسطين أرضا قومية لليهود، كان آرثر جيمس بلفور مسيحيا أنجليكانيا، وكان يريد من خطته الحصول على الدعم الصهيوني المتعاظم في أمريكا لجهود بلاده الحربية في خضم الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، كما كان يهدف إلى تقويض النفوذ الألماني في الشرق الأوسط، لأن ألمانيا كانت حليفة للدولة العثمانية، بالإضافة إلى جعل اليهود حائط صد في الشرق الأوسط إذا ما تمدد الجيش الروسي عبر الأناضول باتجاه مصر.

لم يكن كثير من يهود أوروبا مقتنعين بفكرة الهجرة إلى فلسطين، ولم تتم أغلب هجرات يهود أوروبا قبل عام 1948 إلا بسبب الإرهاب الذي تشير بعض المصادر إلى مساهمة الحركة الصهيونية فيها، مثل المذابح ضد اليهود في روسيا في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وفي قوانين نورمبرج في ألمانيا النازية عام 1935، التي حرمت اليهود من حقوقهم المدنية، وفي الأحداث المرتبطة بالهولوكوست.

قبل إعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948م هاجر حوالي 625 ألف يهودي إلى فلسطين نتيجة الإرهاب الصهيوني الممتطي لجواد العنصرية الأوروبية، أما بعد قيام الدولة فلم يهاجر سوى ثلث هذا العدد أي حوالي 203 آلاف، مما يكشف بأن قيام فكرة الدولة الإسرائيلية، وهجرة يهود أوروبا إليها ليس سوى نتيجة مباشرة للعنصرية الأوربية المستمرة منذ الأزل، والتي استفاد منها الخبث الصهيوني، ولا علاقة لها من قريب أو بعيد بأي شعور بالذنب أو مراجعة الذات.

إن فكرة «عقدة الذنب الأوربية» تعود في أصلها إلى مقال عالم النفس السويسري كارل يونج المنشور عام 1945م بعنوان «بعد الكارثة»، حيث أكد يونغ أن هناك شعورا جمعيا لدى الألمان بعقدة الذنب بسبب الفظائع التي حصلت في الهولوكوست، وقال فيه: «نحن السويسريون إذ نعيش في وسط أوروبا نشعر بارتياح لأننا بعيدون عن الأبخرة الفاسدة التي تتصاعد من مستنقع الذنب الألماني»، وانتقل الحوار حول «عقدة الذنب الألماني» إلى المفكرين الألمان الذين استطاعوا بقيادة عالم الاجتماع ثيودور أدورنو (1903-1969)م، تحويل هذه العقدة من خصوصية ألمانية إلى مشاع أوروبي.

لقد أثبت أدورنو مع آخرين في موسوعة «الشخصية الاستبدادية» الذي نشر عام 1950م، أن المجتمعات الغربية لم تلبس السواد حدادا على ضحايا الهولوكوست، بل أن هناك قطاعا عريضا من الأوروبيين كان يبرر لهتلر والنازيين أفعالهم، وما ذكره أدورنو حول الشخصية الاستبدادية الأوروبية نراه اليوم ماثلا في موقف الأوربيين من اليهود والأفارقة والمسلمين، وما صعود حركات اليمين المتطرفة في شرق أوربا وغربها إلا تأكيد لهذه الحقيقة الأزلية.

إن كان الأوروبيون يشعرون حقا بعقدة الذنب فينبغي عليهم إظهارها تجاه الفلسطينيين الذين ساهمت الدول الأوروبية في قتل عشرات الآلاف منهم، وتهجير الملايين وسرقة أراضيهم، وفي دعم دولة الاحتلال لترتكب مجازرها في حقهم خلال الـ 75 عاما الماضية، لو كانت هناك عقدة ذنب أخلاقية صادقة فينبغي أن توجه نحو ملايين الجزائريين الذي قتلهم الاحتلال الفرنسي، أو تجاه السود الذين قتلوا وعذبوا واستعبدوا في أوروبا وأمريكا.

لا يعاني الأوروبيون من عقدة ذنب، بل هم يعانون من عقدة النرجسية وحب الذات والأنانية المتضخمة والعنصرية ضد كل ما هو مختلف عن الأوربيين، لذا يتوجب علينا نحن العرب وخاصة المثقفون منا ألا نكون مجرد صدى للخطابات الغربية، فإقامة دولة إسرائيل سابقة لوهم «عقدة الذنب الأوروبية»، ودعم الأوروبيين لمجازر الاحتلال الصهيوني في فلسطين لا علاقة له بموقف الأوربيين الإنساني اتجاه مأساة اليهود عبر التاريخ، لأن الكثير منهم -وليس الكل- ما يزالون يحتقرون اليهود وغيرهم من الأعراق.

إن ما جرى في فلسطين وما يجري حاليا ليس سوى أحد تجليات العنصرية الأوروبية الدفينة ضد كل ما ليس أوروبيا، لذلك علينا ألا نسمح للأوروبيين بدس رؤوسهم في تراب عقدة الذنب، التي اخترعها مثقفو الهولوكست، بل علينا تعريتهم أمام أنفسهم، وفضحهم أمام ضمائرهم، علينا أن نغسل أعينهم بمرارة الحقيقة، وأن نكشف عنصريتهم القبيحة، وأن نقول لهم بكل وضوح أنهم بحاجة إلى مراجعة حقيقية للذات، وإنهم بحاجة إلى فحص معرفي، وعلاج فكري يتخلصون فيه وللأبد من كراهيتهم للآخر سواء أكان يهوديا أو مسلما أو عربيا أو تركيا أو أفريقيا.

وإن كان من إكسير معقم للنرجسية ودواء مطهر للروح من تضخم الذات فإنما هو قول الحق عز وجل «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ»الحجرات:13. ولن يجد الأوروبيون شفاء لأرواحهم وعقولهم إلا بالتأدب بهذا المبدأ الإلهي العظيم.

د. زكريا بن خليفة المحرمي طبيب وكاتب عماني في القضايا الفكرية

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: یهود أوروبا فی فلسطین فی عام

إقرأ أيضاً:

عقدة القوى المسيحية.. هل يمكن حلها؟

حتى اللحظة، وربطاً بتصريحات رئيس الحكومة المكلف نواف سلام امس، يمكن الاستنتاج بأن العقدة الشيعية التي حلّت خلال الايام الماضية عادت لتطفو على السطح خصوصا في ظل رفض كبير من قوى المعارضة لحصول الثنائي الشيعي على حقيبة المالية، وعليه يمكن القول اليوم بأن العقدة الشيعية التي لها جوانب اخرى غير المالية، لا تزال تعرقل التأليف.

لكن، قد يكون جزء من سعي قوى المعارضة لاعادة تعزيز هذه العقدة، واعادة عرقلة حلها من خلال الضغط على سلام في كل مرة يتفق فيها مع الثنائي، يعود الى هروب المعارضة من ان تصبح كرة التعطيل في ملعبها، على اعتبار ان الخلافات حول الحصص المسيحية كبيرة الى درجة، يقول عنها البعض انها اكبر من عقدة تمثيل الثنائي الشيعي في الحكومة.
احد اهم معالم العقدة المسيحية يقوم على ثابتة اساسية، هي ان الرئيس جوزيف عون يفترض ان تكون لديه حصة وزارية كبيرة نسبياً، من حيث النوع او من حيث العدد وهذا ما يؤثر على قدرة رئيس الحكومة المكلف نواف سلام على تمثيل الكتل المسيحية بشكل مرضي لها، وعليه يمكن الحديث اليوم عن ازمة مفتوحة لدى الاحزاب المسيحية التي لن تجد في حكومة الـ ٢٤ وزيرا ما يكفيها تمثيلياً.

وبحسب مصادر مطلعة فإن "القوات اللبنانية" ألمحت الى انها لم تعد راغبة في المشاركة في الحكومة بسبب العروضات التي وصلت اليها، وحتى لو كان تلميح القوات مرتبطا فقط بالضغط على الرئيس المكلف من اجل تعزيز حضور القوات الوزاري، الا ان الامر يؤكد حجم الازمة في التأليف مسيحيا.

كما ان "التيار الوطني الحر " ورئيسه جبران باسيل بات يخترع ابتكارات سياسية لكي يحصل على تمثيل وزاري اكبر من الذي يعرض عليه، فتارة يحتسب النواب الذين استقالوا من تكتل "لبنان القوي" وتارة اخرى يعمل على ضم حلفاء له ليحصل على حصتهم، في المحصلة هناك مؤشرات جدية تؤكد وجود عقدة مسيحية وان كانت مخفية.

حتى في مسألة الحقائب الوزارية ، فإن الرئيس جوزيف عون لا يزال مصرا على الحصول على حقيبتين سياديتين ما يؤشر الى ان الاحزاب المسيحية لن يكون لها اي وزير سيادي وسيصيح التنافس الجدي على الحقائب الاساسية بين اربع قوى بالحد الادنى، "القوات"، "التيار الوطني الحر"، "الكتائب اللبنانية" و"المردة"، فكيف سيمكن من عقد مثل هذا الاتفاق.

كل هذه الاسئلة قد تكون محركا اساسيا لسلام كي يذهب بشكل جدي هذه المرة الى حكومة غير ممثلة بالاحزاب لان الامر سيجعله يحقق امرين الاول ارضاء الخارج واخراج "حزب الله" من السلطة التنفيذية والثانية هي عدم الخوض في كباش مسيحي مسيحي سيعرقل انطلاقة العهد  وحكومته في المرحلة المقبلة.
  المصدر: خاص لبنان24

مقالات مشابهة

  • قانون إرجاع الملكية..هل يشمل اليهود العراقيين؟
  • «المفتي»: الأمن في الأوطان هو المظلة التي تحفظ المقاصد الشرعية
  • تفاصيل قانون تمليك اليهود في الضفة
  • ممرات تحت الأرض.. توجه جديد لفك عقدة الاختناق المروري في بغداد
  • عقدة التأليف السلاح... وبن فرحان يعود
  • في لقاء مع صابري.. صناع النسيج والألبسة ينخرطون في ورش المنصة الرقمية التي تعدها كتابة الدولة المكلفة بالشغل
  • عقدة القوى المسيحية.. هل يمكن حلها؟
  • 3 شروط للتوبة الصادقة.. الأزهر للفتوى يكشف عنها
  • خبير علاقات دولية: الرئيس السيسي يعبر عن إرادة شعبنا في قضية فلسطين
  • ديب سيك تحت مجهر الرقابة الأوروبية!