لجريدة عمان:
2024-12-27@08:53:55 GMT

كيف نحدد لحظة توقف الحياة؟

تاريخ النشر: 5th, November 2023 GMT

«ألا تفهمون؟، لقد ماتت، ماتت، ماتت». هكذا حاول ديفيد دوراند، رئيس الخدمات الطبية في مستشفى أوكلاند للأطفال، إقناع عائلة «جاهي ماكماث» بأن الاختبارات الطبية القياسية للموت الدماغي أظهرت أن ابنتهم المراهقة لم تعد على قيد الحياة..

وعارضت الأسرة هذا الرأي بحزم، وسمح لها المستشفى في نهاية المطاف بنقلها إلى نيوجيرسي، الولاية الأمريكية الوحيدة التي تلزم المستشفيات باستقبال المرضى الذين تعترض أسرهم على اعتبار الموت الدماغي موتا لأسباب دينية.

ولأكثر من أربع سنوات، حافظت على الأداء الوظيفي لجسمها كأي فرد من أفراد الجنس البشري العاقل (رغم أنها معاقة جذريًا): قاومت العدوى، وتفاعلت مع الصدمات الجسدية عن طريق زيادة معدل ضربات قلبها، وحاضت للمرة الأولى.

وأحيت قضية «جاهي» الاهتمام بمسألة تحديد لحظة موت الإنسان (ونقاشها). فقبل بضع سنوات، بدا أن هناك إجماعًا على أن الموت الدماغي يعني الوفاة. ولكن هذا الإجماع حدث في الماضي، ولم يعد ساريا الآن.

وحتى ستينيات القرن الماضي، كان مقياس الموت هو توقف نبضات قلب الشخص بصورة لا رجعة فيها. ولكن اختراع جهاز التنفس الصناعي القادر على إبقاء البشر المصابين بأضرار بالغة في الدماغ على قيد الحياة، بالإضافة إلى نجاح عمليات زرع الأعضاء، دفع لجنة هارفارد إلى اعتبار «الموت الدماغي» معيارا جديدا لتحديد لحظة موت شخص ما.

وبحلول عام 1980 أدى هذا القرار إلى قيام لجنة القانون الموحد باقتراح تحديد موحد جديد لموت الإنسان. وبعد فترة وجيزة، أصبح «الموت الدماغي» يعتبر وفاة في جميع الولايات الخمسين.

والمدهش في الأمر أن هذا التحول الكبير في فهمنا لمفهوم موت الإنسان حدث دون مناقشة عامة ودون أن يخضع للتدقيق. فعلى سبيل المثال، لم يعلم سوى قلة قليلة من الناس أن لجنة هارفارد، كما كشفت الأبحاث الأرشيفية، ناقشت صراحة الحاجة إلى تغيير تعريف الموت حتى تكون المزيد من الأعضاء متاحة للزرع.

لقد أصبح الموت الدماغي مفهومًا لا جدال فيه إلى حد ما- وهذا ما جعل دوراند يشعر بالارتباك إزاء رفض عائلة «ماكماث» قبول حقيقة أنها ماتت، على الرغم من قلب «جاهي» النابض وجسدها الدافئ. ولكن هذه القضية أدت دورا رئيسيا في خرق الإجماع، شأنها في ذلك شأن العديد من الحالات التي ظلت فيها امرأة «ميتة» حاملا بطفل حي إلى حين ولادته. وحملت إحدى هذه الحالات العنوان الرئيسي التالي: «امرأة ميتة دماغيًا تضع مولودا، ثم تفارق الحياة».

ومن الممكن رفض مثل هذه التغطية باعتبارها تشير إلى سوء فهم شعبي للحقائق العلمية. ولم يكن من السهل تجاهل مقال افتتاحي في مجلة «Nature» كان يشير إلى أنه على الرغم من أن التحديد الموحد للوفاة لعام 1980 ينبني على «وقف لا رجعة فيه لجميع وظائف الدماغ بأكمله»، فإن الاختبارات القياسية المستخدمة لتحديد موت الدماغ لا تختبر توقف جميع وظائف الدماغ. وفي بعض الحالات التي أعلن فيها موت الأفراد دماغيًا، تعمل الغدة النخامية و/أو منطقة ما تحت المهاد (وهو على الأرجح الطريقة التي يمكن بها لأفراد مثل «جاهي ماكماث» أن يصلوا إلى سن البلوغ بعد إعلان وفاتهم).

وبضغط من الأطباء ومجموعات زرع الأعضاء لمعالجة هذه التناقضات، طُلب من لجنة القانون الموحد النظر في تغيير تعريف عام 1980 ليعكس حقيقة أن الأطباء لا يجرون اختبارًا للموت الدماغي الكامل، بل لاختبار «الغيبوبة الدائمة والتوقف الدائم لوظائف التنفس التلقائي»، وفقدان دائم لردود الفعل في جذع الدماغ. واجتمعت اللجنة في هونولولو، في يوليو الماضي، وأظهرت المناقشة التي أعقبت ذلك أنه لن يكون هناك إجماع قريب بشأن الموت الدماغي.

وفي سبتمبر، أرسل رئيس اللجنة التي كانت تناقش كيفية مراجعة تعريف الموت رسالة بالبريد الإلكتروني إلى المعنيين قائلًا: «لقد قررنا إيقاف الجهود مؤقتًا». وأضاف قائلا: «لن يُحدد موعد لأي اجتماعات أخرى للجنة الصياغة في الوقت الحالي».

ونفسر هذه النتيجة على أنها إشارة إلى أنه بمجرد التطرق إلى مسألة مراجعة تعريف الموت، يتضح أنه لا يمكن معالجتها دون مواجهة السؤال الأخلاقي العميق الذي يحدث انقساما شديدا والذي لا يوجد إجماع بشأنه: ما هي الظروف التي يجوز فيها نزع قلب إنسان من أجل إنقاذ حياة شخص آخر؟

ولدينا مواقف أخلاقية مختلفة للغاية بشأن حرمة الحياة البشرية. فأحدنا (كاموسي) يعمل أستاذا لأخلاقيات علم الأحياء في كلية الطب الكاثوليكية، ويُدرس أيضاً اللاهوت الأخلاقي للطلبة اللاهوتيين، ويدعم العدالة المتساوية للبشر قبل الولادة وحظر القتل الذي يتم بمساعدة الأطباء. والآخر (سينغر)، أستاذ أخلاقيات علم الأحياء في جامعة برينستون، هو من اتباع المذهب النفعي، ويدافع عن السماح للآباء باتخاذ قرار إنهاء حياة أطفالهم حديثي الولادة ذوي الإعاقة الشديدة. ومع ذلك، فإننا نتفق على أن العديد من الأفراد، الذين أُعلن أنهم «ماتوا دماغياً» بعد إجراء الاختبارات القياسية الحالية بصورة صحيحة، هم أفراد أحياء من جنس الإنسان العاقل.

وكان اعتبار بعض البشر أمواتا رغم دفء أجسادهم ونبض قلوبهم، كما فعل التشريع الموحد لتحديد مفهوم الموت، تحولا ثقافيا كبيرا. ومع ذلك، لم يُعترف بالآثار العميقة المحتملة على الوضع الأخلاقي والقانوني للبشر في طور ما قبل الولادة وحديثي الولادة، إلى جانب كبار السن الذين يعانون من الضرر العصبي المرتبط بمرحلة من مراحل الخرف المتأخرة.

ونظراً للأدلة الناشئة التي تشير إلى الافتقار العميق إلى الإجماع بخصوص هذه الأمور، فإننا نعتقد أن الوقت قد حان لإجراء نقاش كان ينبغي لنا أن نخوضه قبل خمسين عاماً فيما يتعلق بتحديد لحظة موت الإنسان. ولا يمكن لمثل هذا النقاش أن يتجنب مسألة الوضع الأخلاقي والقانوني للبشر الذين هم على قيد الحياة، ككائنات بشرية لكنهم فقدوا الوعي بصورة لا رجعة فيها.

إن هذا هو بالضبط السؤال الذي يفرقنا. ويرى «كاموسي» أن مثل هذه الكائنات البشرية الحية تحتفظ بوضعها الأخلاقي الكامل، بينما يعتقد «سينغر» أن استمرار الحياة لم يعد يفيدها، لذا قد تُزال أعضاؤها لإنقاذ حياة الآخرين. ونحن نتفق على أن هذه هي المصطلحات المشمولة بالنقاش بين المرضى، وصانعي السياسات، وعلماء الأخلاق على حد سواء.

بيتر سينغر أستاذ أخلاقيات علم الأحياء في جامعة برينستون

تشارلز كاموسي أستاذ الأخلاقيات الحيوية في كلية الطب بجامعة كريتون

خدمة بروجيكت سنديكيت

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: على أن

إقرأ أيضاً:

الموت مع مرتبة الشرف

فاطمة بنت البخيت الشنفري
تذكرت أقسى خمسة أيام عزل مرت عليَّ عند مرضي بالسرطان، كم كانت مؤلمةً؟ كانت الجرعة الثالثة، وكأنها الأولى، -نعم -كانت تحمل كل معاني الألم بأنواعها، جرعة 7 أكتوبر 2023، ما زلت أتذكر ذلك اليوم، إنه "طوفان الأقصى".
كان أول يوم لي في الجرعة الثالثة بعلاجي بالكيماوي، كنت تحت الألم والصراع والحزن والهزيمة، ما أقسى أن تهزم!، هزمني المرض وقاومته بالصراع، كلمات مدوية كدوي القنابل، مفردات أعيشها في عزلي، وتعيشها غزة بطوفان الأقصى، تتساوى الكلمات وتختلف الأوضاع والأماكن بين ساحة المعركة في غزة وغرفة عزلي.
غرفة عزلي لم تكن سوى زنزانة بالنسبة لي، أواجه فيها الوحدة مع مجموعة من المؤنسين الغافلين، ألمٌ ووحدةٌ وصراع ومقاومة وخوف وتشت أفكار، ما بين الليل والنهار.
أتقلب على سريري وأتلوى، وكأن الدواء سم أفعى يمزق عضلاتي، وينخر عظامي، ثم تهدأ آلامي، وكأنها هدنة مؤقتة لتعاود الكرة بنفس القوة، وأرجع أنا بنفس الصمود والمقاومة، في لحظات هدنتي كنت أتابع الأخبار وبداية الطوفان، مشاهد الشهداء أمام عيني ونفس الكلمات ما بين الحرب والمرض ولكن شتان ما بين الأماكن والآلآم، نعم الآلام!!، هل نتفق أنا وأهل غزة بالشعور والأوجاع؟! وهل نتفق بالموت؟! الموت المباشر أم الموت الموعود؟! أيهما أكثر قوة وأثراً في النفس؟!.
انتهى تعاقب الليل والنهار بزنزانتي (غرفة العزل)، ونقلت إلى غرفة مخصصة لي، تؤنسني فيها وحدتي وآلامي، كم تمنيت أن أكون بين المرضى، لكن حمايتي أهم من أكون فريسة لفيروس ينسف جسدي الممزق من شدة المرض، وأسأل نفسي إذا كنت مع المجاهدين في ساحة المعركة؟ أم مع المرضى في مستشفى الشفاء بغزة؟! ما مدى مقاومتي؟! لأجد نفسي محاصر ومعزول والقصف حولي هنا وهناك، ساحة المرض.. أم ساحة المعركة أم كليهما؟
ولكن واقع الأمر يحمل ثلاث احتمالات:
الموت مريض........... أو الشفاء. 
الموت مريض وشهيد ........... أو النصر
الموت شهيد ................ أو نصرٌ مؤزر.
هنا مرض وشفاء، وفي غزة أمل وخيار وشرف، غزة تفوق صراعها بالموت مع وسام الشرف، تفوق بالنصر أو الشهادة فكلاهما شرف، أما ساحة معركتي رجائي الوحيد هو شفائي، إما أن أكون ميت بمرض السرطان، أو حالة شفاء من مرض السرطان، أن تكون ضحية مرض ليس بالأمر السهل لأن تهزم بالمرض خيار صعب جدا.
كانت الساعة الثالثة بعد منصف الليل، أشعر بالبرد، هدوء الليل مع كآبة المرض صوت، الأجهزة تخترق كل حواسي وكأنها حراس الأمن في أروقة المشفى، حملت وشاحي الكشميري الدافئ المطرز الحواف، وخرجت متسللا من أن تراني إحدى الممرضات، لا أريد سماع تلك الجملة: "مناعتك ضعيفة رجاءً الزم السرير".
الحمد لله نفذت بسلام إلى جناح الأطفال المجاور لجناحي، الكل يغط في سبات عميق، ومازلت أمشي إلى آخر الرواق الأبيض، أصوات الأجهزة مازالت تصاحبني وتناديني من كل زاوية، كلما اقتربت من نهاية الممر أسمع همهمة، أكملت سيري إلى أن وقعت عيناي على لوحة مكتوب عليها العناية المركزة (أطفال).
كانت همهمة الأب والأم أمام العناية مباشرة (الأم: لن أرحل من هنا ولن يهدأ لي بال حتى أراه معافى بين يدي).
الأب: إنِّه في أيدٍ أمينة سنأخذ لنا غرفة في أحد الفنادق القريبة هيا بنا.
الأم: وهي تبكي قدماي لا تقويان على الذهاب، سأكتفي بهذا الكرسي المعدني المقابل لباب العناية لعلي ألمح إحدى يديه إذا فُتح الباب.
الأب: لن يدعك حراس الأمن، هنا لا يسمحون لكِ بالبقاء.
الأم: 3 ساعات فقط على طلوع الشمس وبعدها ستعم الحركة أرجاء المشفى اذهب واسترح قليلاً ثم عاودني سريعًا.
الأب: مصرةٌ على رأيك.
الأم هزت رأسها بالإيجاب وأسقطت دمعةُ من عينيها القلقتين.
الأب: حفظك الله ........... ثم غادر.
كان الحوار سريعاً وحزيناً ويحمل الكثير من القلق والأمل، ورحل الأب وبقيت الأم، إنها الأم، كم يحتاج الإنسان للأم في حال ضعفه؟! وكم تحتاج الأم طفلها في وحدتها؟! بكم يثمن هذا الشعور؟!، كيف يحمل ويلقى تحت قذائف وصواريخ تسحقه المدرعات والدبابات، كيف يحرق ويباد وكأنه لم يكن، أوليس مسطرًا في الأجندةِ الإنسانيةِ، وهل سقط من قوانين المنظماتِ الدولية؟! هل سقط هذا الشعور من الأم والطفل الفلسطينيين؟، لكي يحملان إنسانيتهما المجردة من المشاعر ليكملان مسيرتهما.
ما زال هناك في فلسطين أحياء كاملي الجسد، والبعض فاقد العقل والبعض يعيش بنصف إنسان هؤلاء ألا يوجد لديهم إنسانية، أصبحت إنسانيتهم تكتب اسما يدون في سجل الشهداء، أو المفقودين أو المجاهدين أو المقاومين، دَونوا ما شِئتم من القوائم فجميعها بلا شعور ولا أسف، أُسقطت كل المشاعر الحيَّة هناك، فلا يوجد وقت لاستشعارها، مازالت هناك قضايا أخرى يجب النظر إليها والفصل بِها، وهذي القضايا يحتاج لها قُضاة مجردون من أهوائِهم، لحمل القضايا على محمل العدل، وأي عدل؟! ما دام الميزان مائلاً.
رجعت أدراجي إلى سريري، لعلي أرمي آلام جسدي وهذه الأفكار المؤلمة على مخدة المرض والانهزام، كدت أن أخلد للنوم، وإذا بصوت بكاءٍ ونحيب، نهضت فورًا لأرى، الأم التي كانت تحدث زوجها عند عناية الأطفال، ممسكة بطبيب وتسحبه من قميصه وتقوده اقتياداً إلى آخر الرواق البائس _"لن أسامحك وسأشكوك لأعلى سُلطةٍ هنا، كان بخير ويناديني ماما وهو مُبتسم أهملتموه ولم تسعفوه حتى مات بين أيديكم". في تلك اللحظة تراجعت للخلف، أستند الباب خلفي لأرى كمية الشجاعة والقوة في تلك الأم الثكلى، التي لم تضع في فاجعتها أي اعتبارات لأحد سوى ألمها على فقدان فلذة كبدها، وبالمقابل لم يتحرك أي أحد بالإمساك بها لمنعها عن سحب الطبيب بهذا المنظر، حتى الطبيب نفسه لم يُدافع عن نفسه، في تلك اللحظة كان الأب قادماً يركض، ليمسك زوجته، ويُخلصُ الطبيب من يديها.
الأم: مات ولدي سعيد، مات سعيد ومات أملي، قتلوا صبري وفرحتي، اثنا عشر عاماً وأنا انتظر مقدم سعيد، ليقتلوه أمام عيني؟!
كانت تضرب بيديها جدران المشفى، وهي تنوح قائلةً: يااااموت فؤادي ويا هلاكِ رجائي، ويا تعب عمري على فلذة كبدي!
أمسك الأب زوجته ليرحلا من ذلك الرواق البائس قائلًا: احتسِبيه عند ربك شافعًا نافعًا لنا.
الأم: إنا لله وإنا إليه راجعون، حسبي الله ونعم الوكيل.
أخذ أبو سعيد أم سعيد ورحلا، صوت أم سعيد كان يملأ المكان، ثم أخذ يتلاشى صوت بُكائِها شيئا فشيئا، يجر خلفه كل حزن وخيبه أمل، عدت أدراجي إلى غرفتي وسريري، طفل يموت تحت الأجهزة، وآخر تحت الأنقاض وآخر يموت جوعًا وبردًا وخوفًا، "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر" حان وقت صلاة الفجر، أشرقت الشمس وتخلل نورها نافذة الغرفة، ما زلت على سجادة الصلاة بعد أن أنهيتُ صلاتي وأخذت أتأمل النقوش والرسوم لقبة الصخرة في موضع سجودي بعدها رفعت أكفي إلى الله أدعوهُ بِشفائي من مرضي وجبر قلب هذه الأم الثكلى.
انتهى ذلك اليوم، وعدت إلى منزلي أقاوم المرض، وأشد من أزري مع أبطال الأقصى المقاومين، وأطوف معهم في طوفان مرضي، مر عام من ذلك الوقت، ودُمرت غزة، انتهت معركتي منتصرًا بشفاءْ من ذلك الجاثوم البغيض، ولكن مازالت جروحي وآلامي لم تندثر، ألمي عميق بعمق أنفاسي بها.
بعد أن بشرني الطبيب بشفائي، وأن كل النتائج والتحاليل سليمة، وقبل أن أرحل من المشفى مررت بتلك الأروقة البيضاء، وغرف العزل المظلمة، أستعيد ذكرياتي، وبقيت ذكرى أم سعيد، وأبي سعيد، وكأني أراهما الآن، رحل المرض ورحل سعيد ورحل الجميع، ولكن مازال الراحلون في غزة يرحلون واحداً تلو الآخر، يرحلون نازحين مستشهدين أو نازحين أو مفقودين.
وصلت إلى منزلي، إلى أريكتي، زاويتي التي أُلقي عليها تعب يومي، وفتحت هاتفي لأرى في مواقع التواصل الاجتماعي، لقاء للطفل أركان، كانت تسأله الصحفية: أين أمك يا أركان؟ 
ليجيب بكل براءة: ماتت.
كان وجهه يشع براءة مع الكثير من علامات الاستفهام والاستنكار، هذا الطفل فهم معنى الاستنكار في زمن كثر فيه المستنكرون المتخاذلون، تكمل الصحفية: تتذكر كيف ماتت؟
اعتدل أركان في جلسته شامخا رافعا رأسه مجيباً: نعم والدمع يسقط من مقلتيه نعم أتذكر.
تعود الصحفية تسأله: أتستطيع أن تخبرنا؟
هز رأسه قائلًا: نعم أُطلق عليها النار وأُصيبت.
كانت عيناه تذكر كل الحكاية كيف وأين ولماذا؟
أركان طفل في الخامسة من عمره، يتذكر جيدا مقتل أمه، يتذكر كل طلقة أصابت جسدها، يتذكر كل موقع خدش على وجهها، يتذكر كل قطرة من دمها، مازال مشهد الوداع في عينيه، يقرأه كل من كان لديه شيء من الإنسانية، كانت دموعه تنهمر كالمطر، مع ملامح ثابتة لا يهزها شيء.
أركان ابن الخمسة أعوام، له قلب تعلم كيف يلغي شعوره!، تعلم كيف يكون رجلا!، تعلم ماذا يجب أن يفعل ليكمل مشروع الشهداء، ابن الخمسة أعوام، تعلم كيف يفصل ألمه عن طفولته، تعلم أنَّه يحمل قضية يجب عليه أن يكسبها، المشاهد الدامية وما حوله من شتات، أجبره على أن حزنه يجب أن يقف عند دموعه فقط، وألا يهز له صوت، ولا يرجف له جفن، ولا يرخي له عضل، يجب أن يكون ثابتاً ثبوت الجبال.
أركان ترك آلامه وأحزانه، ودونها في سجلات الحساب، وأخبر العالم بأنه ركن من أركان النصر، قد قالها بصوته للأسف "ماتت".
كلمةٌ أماتت كل رجاء للإنسانية فيه، ماتت ورحلت معها طفولته المزعومة، أركان ينهض مع كل شروق شمس، ليُخبر العالم أنَّه سيثأر لأمه ولطفولته ولكل طفل وأم وكهل وشيخ، أركان يخبرنا أنَّ قضيته "الأقصى الشريف"، شفيت من المرض وبقيت جراحي وألآمي في ذاكرتي، رحل سعيد وبقيت أمه الثكلى تبحث عن سبب موت صغيرها، وماتت أم أركان، "مع مرتبة الشرف" ليأخذ أركان بثأره من العدو ومن أُمةٍ خذلته.
 

مقالات مشابهة

  • الموت في طريقه إليك فلا تجتهد لتعرف من (ياتو ناحية)
  • توجيه عاجل بإنهاء ملف طريق الموت في محافظة عراقية
  • أسماء الأسد في حالة صحية حرجة.. وهذه فرص بقائها على قيد الحياة
  • شفرةُ الموت وعقيدة التكفير
  • الموت مع مرتبة الشرف
  • نائب شمالي: حلّت لحظة التغيير
  • انقاذ 6 أشخاص من الموت إختناقا بالغاز في برج بوعريريج
  • الحياة لمن عاشها بعقل.. خمسٌ تؤدي إلى خمسٍ
  • "بسيوني": الشائعات تهدف إلى التأثير على الصورة التي تقدمها مصر في مجال حقوق الإنسان
  • توقف جميع رحلات الخطوط الجوية الأميركية