أهل غزة يعلِّمون العالم الحبَّ في أتون الحرب!
تاريخ النشر: 5th, November 2023 GMT
دروس عديدة تعلمناها من أهل غزة أولها وأهمها الحبُّ.. نعم، الحبُّ الذي يجعل للحياة معنى حقيقي ينبثق من المعاناة؛ إنه الحبُّ الذي يولد من ملحمة جلجامش بنسختها الفلسطينية أحفاد الكنعانيين الذين قاوموا الغزاة على مدار التاريخ وظلوا صامدين متمسكين بأرضهم التي تنجب الأبطال ولا يمكن أن تصبح عاقرًا أبدا، ولا شيء يكسرها - كما قال محمود درويش- ومن رحم هذه الأرض المروية بالدماء تولد معاني حبِّ من نوع آخر اختبرناها من قبل في أكتوبر 73، فتزهرُ القلوب وتينعُ الأحلامُ.
الدرس القاسي الذي نتعلمه من قصف الاحتلال لبيوتكم وتشريدكم من منازلكم يجعلنا نقدّرُ أن يكون لنا بيت آمن ووطن نعيش داخله بسلام في هذا العالم المتوحّش. تعلمنا ماذا يعنى أن نستيقظ صباحا ونحن أحياء، وهو معنى قد لا ننتبه إليه أو نعتبره من المسلّمات، بينما كل يوم يمر عليكم وأنتم أحياء هو يوم جديد في انتظار الموت، مع زيادة معاناتكم في ظل الحرمان من المياه والطعام والدواء وكل مقومات الحياة، وإذا لم تقتلكم القنابل فسيقتلكم الجوع والعطش والأوبئة. وإذا تأخرت المساعدات فلن تحتاجون منها إلا للأكفان بما يكفي شهداءهم، ولن تكون للشاحنات جدوى إلا لحمل مئات النعوش!
وحّدتم يا أهل غزة خطب الجمعة في مساجد المسلمين، وجعلتم الكنائس تدق أجراسها لعل صلواتها تدخل السكينة على النفوس المكلومة. المسيحيون اتحدوا واشتركوا معًا في نفس الملجأ داخل كنيسة واحدة لا فرق بين الروم الأرثوذكس والأرمن والكاثوليك والبروتستانت والسريان والأقباط والأحباش والموارنة. جميعهم يقيمون القداس مرتين أو ثلاثة يوميًا يصلون المسبحة الوردية من أجل السلام والأمان.
لقد تعلمنا منكم يا أهل غزة الحب حتى في زمن الموت.. زينتم أكفان موتاكم بالقلوب وقصائد الشعر. إن أحزانكم التي لا تشفيها الكرة الأرضية كلها حوّلتموها إلى معجزات لشفاء قلوبكم الجريحة. أضفتم صفحات للنضال من نوع جديد وهو نضال الأمهات: تضعن المواليد وسط الأنقاض بدلًا من غرفة المستشفى، وتلدن ولادة قيصرية دون تخدير، وتكتبن أسماء أبنائكن على أيديهم، حتى تتعرفن عليهم إذا قُتلوا في القصف، قبل دفنهم في مقبرة جماعية. تعلمنا أنواعا قاسية من الألم ونحن نتابع بحث الأمهات عن أطفالهن من بين الآلاف المحاصرين تحت الأنقاض، وزغاريدهن المتداخلة مع النحيب عند العثور على أشلاء أبنائهن. كم نشعر بالضآلة، وبالذنب أيضا كل لحظة، ونحن نلهو ونضحك بجانب أولادنا ونغضب ونحزن لمجرد أن أحدهم لا يتناول وجبته كما ينبغي أو أصيب بدور برد عكر مزاجنا!.
إيمانكم يا أهل غزة زادنا يقينًا بقرآننا لا يحتملُ أي شك، وهو الذي ذُكر قبل 1400 سنة في آياته ما نراه اليوم "مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وقذف في قلوبهم الرعب يخرّبون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولى الأبصار" (الحشر). إنهم بالفعل يخربون بيوتهم بأيديهم رغم ما يمتلكونه من أسلحة دمار شامل، ورغم الجدار العازل الذي ظنوا أنه يحصّنهم وينصرهم. ولعلّ أعظم جنديٍّ "مجهول" في هذه المعركة يهزم دولة الاحتلال الغاشم هو الرعب المعشش بداخلها من مراكمة الهزائم. لذلك، هم كاذبون ولا يجنحون للسلم. ذكر لطفي الخولي في كتابه (العرب وإسرائيل، 1993) قصة عن إسحاق رابين سفاح الانتفاضة حيث صرّح غداة عودته بعد التوقيع على إعلان المبادئ في واشنطن، قائلًا: "ليس من شك أنّ أي حكم ذاتي يحمل في طياته إمكانية أنْ يتحوّل إلى دولة مستقلة وسأعمل على منع ذلك بأقصى ما أستطيع". تلك حقيقة السلام المزيف الذي يضمر الحرب المستمرة ضد الفلسطينيين وتغليفها بدعاوى الدفاع عن النفس وشعار "إما أن تقف مع إسرائيل أو تقف مع الإرهاب" وهي الإرهابُ نفسه. لقد نسخت نفس الخطاب الذي رُفع في أعقاب هجمات 11 سبتمبر على الولايات المتحدة وأعادت ترويجه. فبماذا تشعرون أيها الأمريكيون الآن تجاه سكان غزة وهم يعيشون تحت القصف الإسرائيلي؛ هل أنتم وحلفاؤكم منتشون بدماء الضحايا! هل تشعرون بالفخر وأنتم تُحصون أعداد الموتى وتطلبون المزيد؟ كم يكفيكم حتى تتوقفوا؟ هل أنتم سعداء وأنتم من تموِّلون هذه الحرب من ضرائبكم. هذا درس آخر ليتكم تعونه؛ الدول والكيانات التي تفتقد قيمًا أخلاقية في نظمها سيكون الانهيار نهايتها مهما ادّعت أنها ديمقراطية وأنها موطن الحريات لأن سقوط الأخلاق لا يشيد الديمقراطيات والحريات بل يبني بيوت العنكبوت فقط!
إن القيم الأخلاقية ودروس الحرية والمحبة الحقيقية نتعلمها من أهل غزة. لكننا للأسف لسنا على قدر هذا الحبّ والتضحية والصمود والبطولات والشهداء. كيف نرفع أعيننا في وجوهكم أيها الأبطال وأنتم من تعلّموننا ونحن من نخذلكم؟ لم نستطع حتى أن نسقيكم شربة ماء أو حتى إيصال أكفان تكفي لدفن شهدائكم. فيا أيها العالم استمر في الاحتفال بالعبقرية التي ترونها في وجه هذا الوحش والمعجزة التي يحققها هذا الكيان السفاح واستمري يا غزة في تقديم دروس التضحية والصبر والنضال من أجل الحق، ولابد أن تشرق الشمس ولو بعد حين!
المصدر: البوابة نيوز
إقرأ أيضاً:
(الدراما في زمن الحرب … الجزء الأول)
خلال إحدى زياراتي للخرطوم قبل الحرب اضطررت للوقوف امام ( بنشر ) علي مدخل كبري شمبات لمعالجة احد اطارات سيارتي ، اوقفت السيارة امام مدخل البنشر و نزلت ابحث عن العامل و لم اجده ، دخلت لداخل البنشر الذي كان عبارة عن دكان صغير فوجدت العامل راقدا علي سرير صغير داخل البنشر و رافعا اقدامه علي الارفف ، القيت عليه السلام و لم يتحرك بل ظل في ذات وضعه و قال لي ( مرحب ، مالها عربيتك ؟؟ ) حبنها اندهشت حقيقة من الاسلوب و قلت له ( عايز ارخصها ) .
هذا المشهد ليس بالغريب علينا ولا نستطيع ان نقول بانه سلوك فردي ، بل هي ظواهر و سلوكيات منتشرة في جميع بلادنا ، بداية من صاحب البقالة في الحي الذي يمتلك سرير داخل بقالته مرورا بالتجار الذين ينتهجون سياسة ( يفتح الله ) و انتهاءا” بموظفين الخدمة العامة الذين يخرجون جميعا في الصباح لزيارة زميلتهم التي انجبت مؤخرا” تاركين مراجعين المؤسسة بالعشرات في انتظار عودتهم ،
هذه السلوكيات و الظواهر التي اقعدت بلادنا ردحا من الزمان لا يمكن للدولة ان تعالجها بالقوانيين و اللوائح ، فالقانون لن يخدم ثقافة البيع و الشراء او يحسن في اداءها و لن يستطيع ان يسيطر علي التسيب و الكسل عند موظف الخدمة العامة .
كذلك مشاكلنا الاجتماعية التي تسيطر علي الساحة الآن من تفكك اسري و انتشار للمخدرات و جرائم الابتزاز و الاسرة و الطفل و جرائم المعلومات ، و كذلك آثار الحرب الاخلاقية و النفسية ، كلها يا سادتي لن يستطيع اي قانون علي وجه الارض ان يحد من انتشارها او يعالجها .
الحل يا سادتي في الدراما فقط ، الدراما هي وحدها القادرة علي نشر ثقافة البيع و الشراء و تثقيف المواطن بحقوقه القانونية و واجباته ، وحدها الدراما قادرة علي تثقيفنا سياسيا و اقتصاديا” و امنيا” .
مسلسل ( بيرزون بريك ) اشهر المسلسلات الامريكية لو اجريت بحثا” صغيرا حول اهم الممولين لانتاجه ستجد ان شبكة فوكس التلفزيونية الامريكية هي اكبر منتج للمسلسل و التي تملك الحكومة الامريكية اكبر اسهمها و اذا بحثت اكثر ستجد ان اكبر داعم لهذا المسلسل هي ( السجون ) الامريكية او المؤسسات الاصلاحية ، لماذا يا تري ؟
فقط لاجل تبصير المجتمع الامريكي بخطورة الدخول للسجون الامريكية التي يمكن ان تتعرض فيها للقتل بسهولة او للاغتصاب او ان تقضي فترة عقوبتك ك ( كمريرة) لاحد زعماء السجون حتي لو كانت تهمتك سرقة محفظة فقط .
دعكم من امريكا و لننظر لاخوتنا في شمال الوادي ، سنجد ان الحكومات المصرية كلها كانت تدفع بميزانية تقارب ميزانية التعليم لمجمع ( ماسبيرو ) او هيئة الاذاعة و التلفزيون المصري و لمدينة الانتاج الاعلامي ، هل كل هذه المبالغ كانت لدعم سياسات الانظمة الحاكمة هناك ؟
بالطبع لا ، بل كانت لانتاج مسلسلات تغرز في المواطن المصري حب بلاده و التضحية من اجلها مثال ( رافت الهجان ) و لاجل تثقيف المواطن باساليب البيع و الشراء و التسويق و لاجل توعية المواطن المصري من مخاطر الجريمة و لاجل تعليمه اسس و قواعد ادارة السياحة و التعامل مع السياح و لاجل توعيتهم بمخاطر الوجود الاجنبي و رفع مستوي الحس الامني للمواطن و لتعريف المواطن بحقوقه امام الشرطة و توعية الشرطة بواجباتها و حدود تعاملها مع المواطن مثال فيلم (هي فوضي ) و .. الخ .
الدراما المصرية درست اجيال كاملة تاريخ بلادهم و جسدت لهم شخصيات بلادهم الوطنية من جمال عبد الناصر الي انور السادات و شخصياتهم الفنية من ام كلثوم الي عبد الحليم و الموسيقار عبد اللوهاب .
قبل عدة سنوات تحدثت في مقال عن محمد احمد المحجوب و عمر الحاج موسي ، فسالتني احدي الصديقات في البوست قائلة ( ديل منو ؟؟ ) لا تثريب عليها بالطبع لان المناهج التعليمية لم توفيهم حقهم و الدراما السودانية عجزت عن تخليدهم باعمال درامية ، نحتاج لمسلسل درامي يوثق لمعركة الكرامة بشهداءها و لمسلسلات توثق ثورات اكتوبر و ابريل و لافلام تعيد لنا ارواح المحجوب و الازهري و كروما و خضر بشير ، افلام توثق لقواتنا المسلحة وهي تحرر الرهائن الامريكان من جبال بوما في اشهر عملية ادهشت العالم وقتها و نوثق لشرطتنا و مباحثنا التي كشفت اشهر الجرائم في ساعات قليلة و مخابراتنا التي قامت بعملية بدر الكبري في اكبر عملية مخابراتية شهدها العالم عندما خدعت القزافي .
افلام تحكي لنا قصص ابو داؤود و عظمة الحوت و تخبر العالم كله ان بالسودان كان هناك رجل اسمه محجوب عبد الحفيظ عندما اهتم بذوي الاحتياجات الخاصة و خصص لهم برنامج ( الصلات الطيبة ) بتلفزيون السودان لم يكن العالم وقتها قد قرر ان يخصص (باركنج ) للمعاقين .
نحتاج ان نوثق لفساد و عمالة احزابنا السياسية و ضلالهم في اكبر عمل درامي لنضمن ان الاجيال القادمة لن يخدعوها المعاقين فكريا” و نفسيا” من جديد .
في هذه السلسلة من المقالات سوف نحاول ان نعرف اسباب فشل ( الجقر ) في ( ديالا ) و نجاح ابوبكر الشيخ في ( اقنعة الموت ) فنحن من المؤمنين باهمية الدراما في المجتمع و نعلم جيداً بان الدراما ليست تسلية بل هي جزء من الحل ، فإهمال الدولة للدراما و تركها للتجار هو إهمال لا يقل خطورة عن إهمال الأمن القومي للبلاد .
نزار العقيلي