بين الحين والآخر تنشط حملات مقاطعة المنتجات الأجنبية، والتى تنتمي لدول تعكس مواقفها انحيازًا واضحًا ضد مصالحنا الوطنية، ومع تواصل عدوان قوات الاحتلال على الفلسطينيين العزل فى قطاع غزة منذ يوم السابع من أكتوبر الماضي، والتى راح ضحيتها آلاف من الأبرياء ومنهم أطفال ونساء تابعها الجميع بقلوب اعتصرها الحزن والألم، انتفض الشعب المصري لمؤازرة الأشقاء فى قطاع غزة، فكانت حملات المقاطعة لكل المنتجات وسلاسل المحلات التى تتبع الشركات الأم وخاصة الأمريكية منها.
وفى المقابل نشطت حملات الترويج للمنتج المحلي، وتم تدشين صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي لتعريف الجمهور بكثير من المنتجات المحلية المنسية، مثل شركات الصناعات الغذائية والمشروبات والمحلات التى تقدم نفس منتجات التوكيلات الأجنبية، وتم رفع شعار"اشتري المصري".. ولكن السؤال الذى يطرح نفسه: هل المنتجات المحلية متوفرة وترقى إلى مستوى المنافسة كما كانت فى السابق؟
منذ سنوات وقف أحد النواب يسأل وزيرة الصناعة وقتها عن شعار صنع فى مصر، موضحًا كلامه بأننا نعتمد فى "الأكل والشرب واللبس" على المنتجات الأجنبية، وأنه وفقًا للتقارير الرسمية يوجد من 8000 إلى 8500 مصنع متوقف، و 5184 مصنعًا متعثرًا، وكلها أرقام مفزعة.
هموم الصناعة المصرية ومشكلاتها نستطيع جميعًا أن نلمسها ونعايشها فى حياتنا اليومية، من خلال البحث عن منتج مصري، لأنني شخصيًا تستهويني المنتجات المحلية وأبحث عن الأماكن التى تباع فيها، على الرغم من اندثار الكثير منها حاليًا، فأنا من الجيل الذى نشأ على تلك الجودة والإتقان التى كانت تتميز بها صناعة الغزل والنسيج مثلاً، ومازلت حتى يومنا هذا أتردد على منافذ شركات الغزل والنسيج بالمحلة الكبرى، والتى تقدم منتجات قطنية عالية الجودة، وكذلك كل فروع متاجر القطاع العام التى تم إغلاق معظمها الآن، والتى كانت تحتوي على كل ما يلزم الأسرة والبيت كلها صناعة محلية.
وإذا اقتصرنا فى حديثنا على مشكلات التصنيع لتلك السلع التى تلبي الاحتياجات العادية للأسر المصرية، مثل الملابس والأحذية والجلود والأثاث والأدوات المنزلية، ودون التطرق إلى الصناعات الثقيلة، فإننا نلاحظ تراجعًا كبيرًا فى إنتاج هذه السلع محليًا.
فيما مضى لم تكن الألياف الصناعية تعرف طريقًا لصناعة الملابس، فقد كانت الأقمشة المصنوعة من القطن المصرى الخالص، متنوعة لكل الأعمار والمستويات، وكانت مهنة "الترزى"، و"الخياطة" مزدهرة، وتلبي احتياجات معظم الأسر، كما كانت توفر فرص عمل للكثيرين، أما الآن فقد تلاشت هذه المهن تدريجيًا، وتوقف بعض من مصانع الغزل والنسيج، وحتى التى تعمل منها إنتاجها ضعيف بسبب عدم تطوير الماكينات.
نفس الأمر حدث مع صناعة الجلود، حيث كانت الأحذية والشنط تصنع فى ورش ومصانع من أجود أنواع الجلود، غير أن معظم الصناع المهرة تقدم بهم العمر، وهجر الباقون الصنعة، بسبب عوامل السوق التى فتحت الباب أمام استيراد أنواع رديئة من الجلود الصناعية، لتنافس المحلية.
الصناعة المحلية حلم عظيم يجب دعمه بكل الأشكال والسبل، حتى نستطيع يومًا ما الاعتماد عليه دون اللجوء إلى "الأجنبي".
المصدر: الأسبوع
إقرأ أيضاً:
رواندا واستلهام الأمان الاقتصادي
الرهان على تحسن الأوضاع بالمنطقة وتخفيف حدة الصراعات الدولية والتوترات الجيوسياسية خلال العام الحالى وتأثير ذلك على إحداث طفرة اقتصادية فى مصر خلال الشهور المقبلة دون وضع استراتيجية كاملة وشاملة للاقتصاد لن يجدى بشكل مثالى ويصنع الاستقرار الاقتصادى والنمو المستدام المنشود.
تغيير هذه المستجدات طوال الفترة الماضية والتى هيأتها الظروف فى محيطنا ومنطقتنا إلى الأحسن قد يخلق تحسنا وانتعاشا غير ملموس أو هامش يشعر به البعض دون الوصول لطفرة مطلوبة لأنه سيكون أشبه بمسكنات.
ففى حالة عودة قناة السويس لسقف إيراداتها السابقة قبل تعطيل الحوثيين للملاحة بالبحر الأحمر، واستعادة دخل حوالى 10 مليارات سنويا بعد تراجع 50% فى 2024، والطفرة فى عدد السياح إلى مصر، وزيادة تحويلات المصريين بالخارج، أو فرض ضرائب جديدة، لن يحل الأزمة الاقتصادية فى مصر بشكل جذرى والتى ألقت بظلالها على المواطن المصرى طوال سنوات عجاف ماضية، فهى بمثابة مسكنات سرعان ما ستعود الأزمة المالية فى حال أى هزة تحدث لأحد القطاعات الاقتصادية المهمة، فالعلاج الحقيقى زيادة الإنتاجية والاستثمارات وارتفاع الصادرات عن الواردات زراعيا وصناعيا وذكاءً اصطناعيا.
والتحسن الدائم اقتصاديا، وحل الفجوة فى الميزان التجارى وعجزه بما يقرب من 40 مليار دولار، لا يتأتى من خلال الاقتراض والذى رفع حجم الديون الخارجية حوالي 160 مليار دولار، وأغلب الميزانية تتجه نحو خدمة الدين وليس سداد الدين نفسه!
وقبل شهور جلست مع صديق رجل أعمال صعيدى مميزا فى نشاطه العقارى وسألته: ما سر أنك تُصنع بعض الملابس غير التقليدية البسيطة وبعض المنتجات النادرة وتغزو بها الأسواق بشكل يحسدك عليه الجميع، رغم أن دخلك «ماشاء الله شهريا» من العمارات يكفى ويزيد كثيرا؟، وجاء رده: الانتظار حتى نهاية الشهر للحصول على مبلغ معين محكوم بالظروف وتساءل كيف أضع نفسى تحت رحمة السوق وتقلباته لابد من الإنتاج وتنوع النشاط!.
هذه هى نظرية رجل الأعمال الذى لايريد أن يتعرض لهزات مادية، فما البال لدولة كبيرة تريد أن يكون لها مكانا مرموقا تحت الشمس، والمسكنات لا تجدى أمام الطامحين والحالمين ببلد يقفز قفزات اقتصادية وينطلق مثل النمور الآسيوية أو على الأقل رواندا البلد الفقير والمعدوم خلال تسعينات القرن الماضى والذى أصبح الآن أقرب للنمور الأسيوية.
فالنمور الأسيوية مثل هونج كونج وسنغافورة وكوريا الجنوبية وتايوان حققت نموا اقتصاديا مبنيا على قواعد ثابتة، ومعجزتها فى حكمها الرشيد، وأولوية حكومات هذه الدول مكافحة الفساد بفرض تدابير تنظيمية صارمة.
وحرصت هذه النمور فى خططها الاقتصادية على تجنيب البلاد للديون، وبناء احتياطيات كبيرة من رأس المال والمدخرات ساعدها على الصمود فى وجه الأزمات المالية العالمية الكاسحة، والتأثر فقط هامشيا بتداعياتها، لوجود أسس متينة تمتص أى صدمات، والتعافى سريعًا بمجرد انتعاش الأسواق مجددًا.
نمور تتربع على قمة معظم التصنيفات الاقتصادية العالمية، حتى رواندا التى أنهكتها الحروب والتخلف والانقسام والفقر لعقود باتت صاحبة أحد أسرع الاقتصاديات نموا فى القارة السمراء، والتى قدمت درسا لدول العالم الثالث، بعد أن استلهمت تجربة سنغافورة وباتت الآن ملهمة لكل دولة تبحث عن الأمان الاقتصادى.