جريدة الرؤية العمانية:
2025-02-24@06:04:54 GMT

بيضاء القُبَّار فُريحة غزة

تاريخ النشر: 5th, November 2023 GMT

بيضاء القُبَّار فُريحة غزة

 

 

ماجد المرهون

majidomarmajid@outlook.com

 

لا تعلم فُريحة ما الذي ينتظرها في المستقبل هي وأبناءها وأحفادها ممن لا يزالون في علم الغيب؛ حيث لا يُمكن للطفل في عمر الخمسة أو الستة أعوام أن يرسم ذهنهِ صورة مستقبلية بعيدة المدى، إلا مجرد حلمٍ تخيلي مؤقت يتماشى مع المشاهدات اللحظية؛ وهكذا تخيلت فريحة ضئيلة الحجم خفيفة الوزن ذات صباحٍ مُشرقٍ نفسها فراشةً بيضاء تحركها الرياح بين ظلال النباتات الندية، وتمرجحها عاليًا على منابر أشجار اللوز الغزية، وذلك هو أعلى ارتفاع يمكنها تخيله لتشاهد الصيادين، وهم يكسرون أعمدة نور الشمس بشباكهم ومنطلقين يشقون الموجات بجوارهم.

تهُب نسمة أخرى على جنيحات فريحة، فتطلق لهما العنان، وتنساب معها حتى تتعلق بثمرة الأترج الضخمة في مزارع يافا الجميلة لتلمح بالقرب من أسوار البلدة القديمة وقلاعها عبر إحدى بواباتها الثمانية احتفال البَربارة يقيمه بعض النصارى المتجاورين مع أهل الحي؛ لا وقت للراحة فوق أطلال بوابة رمسيس وثمار البرتقال تجذبني كما تحدث فريحة البيضاء نفسها فالوقت ربيع والنسمات عليلة والقرى الوادعة ممتدةً في الأفق، وليمون وجميز الرملةِ يناديان فريحة وإخوانها وأخواتها عبر الأجواء المشبعة بشجو عبقهما فوق قبر صالح والفضل بن العباس، وحول مِئذنة الجامع الأبيض يحلق المشاغبون الصغار بصمتٍ مستغلين تيارات الهواء إلى طولكرم مدينة السياسة والسيادة ومتسللين بين حي الرشيد والعزب وأرتاح.

توقيت الفراشات لا يعترف بقانوننا الصارم، وربما دقيقتها تعادل ساعة مما نعد؛ ولذلك هناك متسع كبير من الوقت للمضي مع هبات الربيع العليلة إلى جنين ومعاكسة مزارعي البطيخ على مساحات مرج بن عامر الشاسعة، ثم ينقسم سرب الفراش إلى فريقين أحدهما توجه إلى الناصرة مسقط رأس البتول مريم بنت عمران عليها السلام، ومنها إلى نخل بيسان وغلالها ومصانع نسيجها وغزلها حتى إذا هفهفت نسمات الأصيل من لسان الأرض وعين الفلوس على الأجنحة البيضاء الحالمة وجدت نفسها محمولة إلى موز طبريا المثلى من بحيرتها العذبة والجوامع التاريخية المطلة على تخوم بقايا الرومان، وصولًا إلى الأسوار التي تشكلها أشجار قصب السكر المكافئ لسور عكا الحاوي لخان العمدان والشواردة، وقد تناهت إليها ذرات من نسيم بحرها ومينائها الشاهد على غزوات الفرنجة لتطال صفد المجاورة، ويجد السرب مرتعًا خصبًا في بساتينها الغناء، كما أن اللوز هنا يذكرها بلوز حيف في بداية رحلتها، إلا أن نهر صبايا والدان في صفد لا يشبههما شيء.

تجد فريحة نفسها متعبة قليلًا عند وقت الظهيرة فتهبط على صحن الكنافة في نابلس العابقة بروائح الصابون التي تصل إلى شكيم الكنعانية، وعلى شرفات الكنيسة فوق بئر يعقوب؛ حيث مر بها سيدنا عيسى -عليه السلام- تقرر أخذ قسطٍ من الراحة.

من هنا بدأت تتهادى نفحات من رام الله بعد وقت الزوال حاملةً معها قدسية التين والزيتون والنخيل الباسقات في القدس العظيمة وصوت المآذن الأربعة للمسجد الأقصى المبارك حوله وأجراس الكنائس من البلدات العتيقة وذكرى الرسل والأنبياء وتاريخ حافل بالملاحم والصراعات وأرواح القتلى من الملوك والجنود تتقمص الزوايا، وتحيط بكل حجر، لكن الأحياء من المسلمين والنصارى واليهود يقيمون شعائرهم كلٍ بمعتقده دون مساس أحدهم بالآخر باستثناء طائفة محدودة العدد توجست منهم خيفة لقلة احتكاكهم مع بقية أفراد المجتمع.

بعد رشفة ماء صغيرة من سبيل الشيخ البديري ترفرف فريحتنا، ومن تبقى معها من إخوتها إلى الخليل لتذوق العنب من كرومها والتنوع من عطر برقوقها ومراقبة الأهالي، وهم يتخللون الأزقة والطرقات لصلاة العصر في جامع بيت جبرين، وقبل القفول لابد من حومة مع الغروب حول أرجاء بئر السبع عاصمة النقب ليتفرق سرب الفراشات فوق سوق البدو إثر ضجيج محطة القطار العثمانية، وتعود فريحة بمفرها إلى غزة حيث الوطن شقيق الروح وهي منهكة من رحلتها الطويلة لتغفو مثقلة الجفنين.

ومع غفوة فريحة الطفلة مر ثمانون ربيعًا، وهي تحلم بفرد أجنحتها، وتكرار رحلة حريتها، لكن دون أن يتحقق ذلك الحلم، ولن تُفتح عيناها هذه المرة، وسيطول حلمها في نومتها الأخيرة مكفنةً نفسها بجناحيها تحت أنقاض بيتها المقصوف ممن توسمت في صباها مكرهم؛ وفي صعودٍ ملائكي لآلاف الفريحات الصغار من الذين عاشوا بضع سنين أو أسابيع، وترقد أجسادهم الطاهرة بسلام تحت أنقاض البيوت المجاورة تروي لهم الجدة بيضاء القُبَّار كيف عاشت فلسطين.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

المعاهدة المينائية (الصينية الكويتية) – ماذا تعني ؟

بقلم: كمال فتاح حيدر ..

ما لا يعلمه العراقيون حتى الآن: ان مجلس التعاون الخليجي منح الكويت صلاحية فتح آفاق النقل العابر للحدود فوق الأراضي السعودية وبالتوافق مع الحكومتين الأردنية والسورية، وسوف تنحصر أهمية ميناء مبارك بلعب دور حلقة الوصل المباشرة بين حوض الخليج العربي والمنافذ البحرية والبرية في سوريا، ومنها تتفرع محاور النقل إلى تركيا أو الى البحر عن طريق مينائي طرطوس او اللاذقية. بمعنى آخر: ان طريق الحرير الخليجي سوف ينتهي بميناء مبارك، ومنه إلى اوربا برا وبحرا، وقد تم التوقيع منذ الان على اتفاقية النقل العابر بنظام مسيطر عليه الكترونياً. اي ان الشاحنات والحاويات سوف تكون معلمة ومشفرة رقميا وسوف تكون تحركاتها مرصودة من الباب إلى الباب. .
وما لا يعلمه الرافضون للربط السككي في العراق ان ميناء مبارك ارتبط سككيا بشبكة قطار الخليج. وهذا يعني ان ميناء مبارك سوف يصبح هو الميناء المحوري الاول في المنطقة (على الصعيدين الدولي والإقليمي). .
وبالتالي فان ميناء الفاو سوف يولد ميتا. ولن تتاح له اي فرصة للتمدد محليا او اقليميا بسبب الحصار الذي فرضته وزارة النقل على نفسها. وسوف لن يختلف كثيرا عن بقية الموانئ العراقية القريبة منه. .
وهكذا خسر العراق والى الأبد موقعه الاستراتيجي باعتباره كان يمثل صلة الوصل بين القارات، وخسر أيضاً تعرفة النقل العابر، وتحوّل إلى دولة مغلقة منطوية على نفسها. .
والمضحك المبكي في هذه المعطيات الخاسرة سوف يكون منفذ (عرعر) هو النافذة البديلة التي تتدفق منها البضائع القادمة من ميناء مبارك إلى العراق. اخذين بعين الاعتبار ان المستورد العراقي هو الذي يقرر اختيار الطريق الذي تسلكه بضاعته في ضوء ما يترتب عليها من رسوم مخفضة وتسهيلات سخية وتوقيتات مختزلة. .
عندئذ تجد الوزارات العراقية نفسها ملزمة بالتعامل مع جغرافية الأمر الواقع باختيار الأفضل والأسرع والأقل تكلفة. .
ويتعين على العراقيين التوجه منذ الآن لأداء صلاة الجنازة على ميناء الفاو. .

د. كمال فتاح حيدر

مقالات مشابهة

  • أعراض ارتفاع الكوليسترول التي تظهر على الجلد وطرق التعامل معها| لن تصدق
  • أوروبا تفرض رسوما جمركية على نفسها
  • جنايات طنطا تقضي بإحالة أوراق شاب أنهي حياة سيدة إلي فضيلة المفتي
  • قوات الدعم السريع وجماعات متحالفة معها توقع ميثاقا لتشكيل حكومة موازية في السودان  
  • المعاهدة المينائية (الصينية الكويتية) – ماذا تعني ؟
  • على طريقة مي عز الدين في قلبي ومفتاحه.. هل يجوز أن تطلب المرأة الزواج من الرجل؟
  • صحافية تتعرض للنشل.. اليكم ما جرى معها في مار مخايل
  • بزينة بيضاء.. الثلوج تغطي محمية “غولجوك” ومركز “كلتبه” للتزلج بتركيا
  • هل تستطيع أوروبا الدفاع عن نفسها بدون دعم أميركي؟
  • هل راية داعش السوداء هي نفسها التي كان يرفعها النبي؟.. «مرصد الأزهر» يوضح الحقيقة «فيديو»