لجريدة عمان:
2025-04-29@14:59:21 GMT

نوافذ: تفصيل ثانوي يقض مضجعهم!

تاريخ النشر: 5th, November 2023 GMT

تفصيل ثانوي يقضُّ مضجع الحضارة الغربية التي تتشدق بحقوق الإنسان والانفتاح اللامحدود على صنوف من الحريات، فقد ارتفعت أصواتٌ في ألمانيا تتهم الكاتبة الفلسطينية عدينة شبلي بمعاداة السامية في روايتها «تفصيل ثانوي»، والتي سبق وأن دخلت نسختها الإنجليزية إلى قائمة البوكر الطويلة 2021. وكما قرأنا فقد كان من المقرر أن تُمنح جائزة «ليبراتور» خلال فعاليات أكبر معرض: «فرانكفورت الدولي»، إلا أنّ التكريم تأجل، وليس لنا أن نفصل ذلك عن مجريات الأحداث في فلسطين الآن! لجنة التحكيم وصفت الرواية بأنّها «عمل فني محكم يحكي عن سطوة الحدود، وما تفعله الصراعات الدموية في البشر، إذ لفتت الكاتبة بيقظة كبيرة إلى تفاصيل ثانوية تتيحُ لنا أن ننظر إلى جراح وندوب قديمة تتوارى خلف السطح».

ربما أوجعهم مشهد الاغتصاب المدون في الرواية، لأنّه اكتسب ديناميكية فارقت ضآلة ارتباطه بالحالة الفردية للفتاة الفلسطينية، ليغدو المعنى ارتدادا لاغتصاب الأرض وبث السموم في رحمها، وذلك عندما قامت كتيبة عسكرية بالتخييم عام ١٩٤٩ في صحراء النقب. «خرج صوت رصاص كثيف»، هكذا تنتهي حياة البدو العرب الواقفين قرب النبع برفقة جِمالهم ونباح كلابهم، دون فسحة لقول شيء، كمن يهرسُ حشرة تحت كعب حذائه. يتحدث قائد الكتيبة العسكرية حديثا لا يزال ملائما بعد ما يقرب من ٧٥ عاما: «علينا ألا نتوانى عن تكريس كل ما أوتينا به من قوة وعزم في سبيل بناء هذا الشقّ من دولتنا اليافعة وحمايته والحفاظ عليه للأجيال القادمة.. لا يمكننا الوقوف ومشاهدة مساحات شاسعة من الأراضي القادرة على استيعاب الألوف من أبناء شعبنا في المنفى، تحت وطأة الإهمال»، كما لا بد من إشارة إلى ارتباط مزيف بالأرض: «مرّ بعض أجدادنا هنا منذ آلاف السنين».

بعدها يسبر نواياهم المبكرة: «وإذا كان العرب وفقا لقانون العاطفة العقيم خاصتهم يرفضون فكرة عيشنا في هذه المنطقة..علينا عندها أن نتصرف كجيش». انقسمت الرواية إلى قسمين، في القسم الأول تظهرُ الضحية المغتصبة دون اسم، دون انفعالات واضحة. يسردُ لنا الراوي العليم قصّتها نيابة عنها، فقد تقاسمت غرفة السقيفة مع الضابط الموسوس بالنظافة والورم الناتئ فوق فخذه. لفتتني تلك المفارقة الكامنة في مشاطرة الغرفة -مشاطرة الوطن- ثمّ الرعب الذي يملأ قائد الكتيبة من حشرة صغيرة، مقابل لا مبالاته بجسدٍ مُرتعش يُمعن في محو إنسانيته!

في القسم الثاني تظهر الفتاة الأخرى الباحثة من رام الله، والتي يلفتُ انتباهها ما كتبه صحفي إسرائيلي عن الحادثة، «مجموعة من الجنود يأسرون فتاة، يغتصبونها ثم يقتلونها»، ولتفصيل ثانوي، تجدُ نفسها إزاء رحلة كشف عن الحقيقة، فالفتاة المغتصبة قُتلت في يوم مولدها، لكن بعد ربع قرن من الزمان، فتشعر برغبة في ألا تبقى المغتصبة نكرة دون صوت ودون حكاية! فتغامر إلى أرشيف الجيش الإسرائيلي بهوية مستعارة، وبحوزتها خريطة تصور فلسطين قبل 1948، خريطة تُسمي أسماء القرى التي دُمِرت لبناء مستوطنات جديدة: «القسطل، عين كارم، المالحة، الجورة، عنابة، أبو شوشة» أسماء تبدو مجهولة الآن وتثير إحساسا بالوحشة. تُسمي المزيد من القرى وكأنّها لا تريدها أن تُنسى، لكن في هذه الرحلة يتكثفُ غياب كل ما هو فلسطيني، فيتجلى المحو العنيف، لكن ثمّة شجرة «دوم» تنتصب بين الحقول كما تُبصر رعاة مع مواشيهم يطلون من بعيد.

تذهب الباحثة إلى المتحف، تقف أمام صور وأفلام دعائية أُنتجت في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، من قبل بعض طلائعي السينما الصهيونية، تصور حياة المهاجرين الأوروبيين اليهود إلى فلسطين. فنتأكد لحظتها أنّ الحرب ليست برفع الأسلحة وحسب، وإنّما بصنع الأفكار والكلمات والأفلام، وهذا ما نعيه في الأحداث الأخيرة، تلك الهزّة العنيفة التي حرّكت الأدمغة والتصورات الجاهزة التي رسمها إعلام يقبضُ مفاصل الحقيقة ويغيبها وفق المصالح والتحيزات.

لعقود ليست بالقصيرة تسممنا بأكثر من ٢٠٠ فيلم تحدث عن النازية وهتلر ومحرقة «الهولوكوست» لجعلنا نتعاطف معهم، لكن بالمقابل كم فيلما تحدّث عن مذابح فلسطين وإباداتهم الجماعية؟

ليس هنالك ما هو خارق للعادة في التفاصيل الثانوية، ففي مكان يطغى فيه الاحتلال والقتل «يبدو الأمر وكأنّنا نقتلعُ ضمّة عشب من جذورها، فيظن البعض أنّه الخلاص النهائي، إلا أنّها تعود وتنبت عشبة من الفصيلة ذاتها من جديد وفي المكان نفسه».

هذا ما يفعله التفصيل الثانوي عندما يُعري الحقائق الكبرى والمفصلية.. وإلا ما الذي يجعلهم يرتعبون من هذه السردية؟

هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

فلسطين.. سؤال الوجدان المعاصر

هل تعيد القضية الفلسطينية تعريف هذا العصر لنا وللعصور اللاحقة؟ هل تحولت فلسطين لتصبح قضية حية؟ وهي قضية تجعلنا نراجع مفاهيمنا عن العالم الإنساني الذي نشارك في صنعه، حتى ولو بالوقوف كمتفرجين عليه؟

إن الشعب الفلسطيني اليوم، وهو شعب مناضل قد أكمل قرنًا من الاستعمار البريطاني ١٩٢٠م، والإحتلال الذي حل محله ١٩٤٨م، لا يجسد فحسب كل قضايا القهر الإنساني عبر التاريخ ويجعلها محل السؤال المعاصر، بمقابل كل دعوى المبادئ ومواثيق الحقوق البشرية؛ بل أكثر من ذلك يسائل بالفعل معنى وجودنا وغاياتنا البشرية كلها، ذلك أن الحقيقة التي نغفل عنها هي أن خضوع واستسلام البشر عن الحق لصالح القوة والقهر يقع ضد ما تكافح فلسطين بشعبها من أجله.

لقد قامت إسرائيل إثر الاستعمار الانجليزي على مبدأ القوة، ولا خلاف بين المؤرخين المعاصرين على أنها قامت على منظمات إرهابية، وأن الصهيونية متحققة بأمرين هما المال والدعم القوي، ويمكن اختصارهما في واحد هو القوة، وأنها تقوم على معتقد حق القوة في أن تفعل ما تشاء بمن تشاء، وأن من حقها أن تسلب وتصادر، وأن تسجن، وأن تقتل، وأن تنفي، وتشرّد، ليس فردًا واحدًا، ولا بريئًا واحدًا، بل شعبًا بريئًا بأكمله.

إن هذا الفعل الموجه ضد الأمم والشعوب الضعيفة، من الأمم والشعوب القوية، والمستقوية، يعيد بكل مفاصله، كل الحوادث التاريخية لفكرة المنتصر القاهر، ذلك الخيال الإنساني البدائي الذي يجعل للمنتصر الحق في أن يكتب التاريخ بأفعاله، وأن يقسر المهزوم ليفعل به ما يشاء، لكن من أين للمنتصر أساسًا هذا الحق؟ هل فعلا تمثل المعارك ونتائجها ساحات القضاء والقدر لشعوب بأكملها، هذا ما حاول كل المنتصرين فعله طوال التاريخ، وهذا ما حاولت فعله الدول الكبرى في عصر الاستعمار، وكما يبدو أن هذه الأحقية المتوهمة قادمة من التكرار، ومن وهم القوة، بالتالي رأت الصهيونية طريقها لفعل ذلك، وفي نظرها أنها إذا تمكنت من فعل ذلك بالفلسطينيين فمن حقها أن تحتكر حق الدفاع لنفسها وتسلبه من الفلسطينيين الذين تجعلهم بلا أدنى حق بما في ذلك حق الحياة، لكن هل يتسق ذلك مع طبيعة البشر ومع طبيعة الإنسان؟ هذا هو السؤال، لأن الصهيونية تدعي أن نعم، أن القوي يحق له أن يسحق الضعيف، أن يسرق أرضه، وأن يبيد شعبه بلا استثناء لطفولة أو هرم، أو جنس، ولكن رغم شبهة نجاح هذا الفعل عبر التاريخ ظاهريًا، لأن الشك قائم وغير محسوم على المدى الطويل، هل يتسق الفعل القهري نفسه مع المبادئ التي تعليها البشرية؟ هل يتسق مع الحق؟ أم مع الظلم؟ أمام مثل هذه الأسئلة الحاسمة تضعنا فلسطين.

تعلمنا من الفلاسفة أن للوعي الإنساني حركته ودوافعه الخاصة، وما تعكسه تجارب كالجرح والألم أو الفقد يصنع طبقة جديدة للوعي، ومن هنا نشأت ضرورة الشر للخير، فلو كان العالم خيّرًا بلا ضد لما وجد العالم الطريق إلى ذاته المنشودة، وليس كلام القدماء من أن الخير في بطن الشر مجرد كلام فارغ من المعنى بل نتيجة خبرة بشرية متراكمة بطرائق التحولات الطبيعية للبشر.

هكذا تعيد فلسطين تشكيل هذا المسار القسري للوعي البشري، منذ أن كان اسمها يتكرر في عناوين الصحف ونشرات الأخبار، وما الانتفاضات المتتالية، منذ الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام ١٩٨٧م وما عرف بانتفاضة أطفال الحجارة، وما تلاها، إلا مراحل للوعي الذي ظل يتشكل داخل رحم فلسطين ممثلًا بأجياله الجديد، تلك الأجيال التي نوعّت وكاثرت وعددت أساليب مقاومة الاحتلال والتصفية، ولا شك أن الصهيونية وإسرائيل رأت أن أمن مستقبلها بوضعها المتوحش الحالي، يأتي من إبادة الأجيال، خاصة الجديدة منها، لقطع تسلسل الوعي البشري، داخل فلسطين، ولنشر اليأس العام خارج فلسطين في العالم كله، وهذا ما يفعله النظام الإسرائيلي بيأس وريبة وهو يخوض في جرائمه ضد الفلسطينيين ومن يساندهم، حتى أصبح وجوده رمزًا معاصرًا ممثلًا للظلم والشر، وهو بذلك يتحول لمحفّز لتشكل الوعي البشري الجديد، الذي تحمل فلسطين شعلته.

إن هذا الوعي البشري بفلسطين اليوم هو نتيجة عمل متواصل في الوعي الإنساني ساهم فيه كل المؤمنين بالإنسانية من جميع الشعوب، فلا نجد شعبًا من شعوب الأرض اليوم إلا وله مساهمة صغرت أو كبرت في هذه القضية، لما تمثله في وجدان البشر أجمعهم، ولا شك أن جزءًا كبيرًا من ذلك العمل قام به الفلسطينيون والعرب بما أنهم معنيون مباشرة بالأمر، لكنه يقوم كذلك على الصدى الواسع الذي لاقته قضية فلسطين في الضمير الإنساني، حتى أصبح حقها قارّا في وجدان العالم، ولا أدل على ذلك من هذا الحراك الاجتماعي المتنوع الذي يحاصر إسرائيل تدريجيًا، والذي تسعى إسرائيل بكل الصيغ، وبكل النفوذ الذي تملكه، ويملكه داعموها، لتفكيكه بالإرهاب وبالقوة.

في الواقع بينما كانت إسرائيل تواصل منهجها الإرهابي وتقيم جدار فصلها العنصري حول الفلسطينيين، كان هناك جدار فصل نفسي ومعنوي في كل مكان من العالم يتكون حول إسرائيل نفسها، وذلك ما كان يجعل المفاهيم التأسيسية التي قامت عليها الصهيونية وإسرائيل تتآكل تدريجيًا حتى بدأت تظهر ثقوب غير متوقعة، والأمثلة الرمزية الدالة واضحة اليوم، منها رمزية قصيدة (ما ينبغي أن يقال) ضد إسرائيل للشاعر والروائي الألماني حائز نوبل غونتر غراس، التي أقامت الدنيا في ألمانيا عام ٢٠١٢م ولم تقعدها قبل رحيله، ومنها لوحات فنان الغرافيتي البريطاني بانكسي على جدار العزل العنصري الإسرائيلي، ومنها مقاطعة الأكاديمية البريطانية لإسرائيل، وكل هذا كان قبل أحداث اكتوبر، وتظهر تجلياته اليوم في الأحداث الراهنة، وكل ذلك ينبئ عن اتجاه يعم البشرية ضد إسرائيل وما تحاول إثباته بالقوة المستطيرة عبر إبادة الفلسطينيين وممارساتها العنصرية ضدهم.

ما يتضح اليوم هو أن فلسطين تكبر في نفوس الناس بقدر ما تحاول إسرائيل اقتلاع الفلسطينيين وكل ما يمت إليهم بصلة، وفي كل ما حدث ويحدث اليوم أمثولة كبيرة، وعلامة صادقة عن الغد القادم، والذي يبدو غير بعيد، فبمجرد سقوط الأسطورة نفسيًا وذهنيًا يسقط كل ما أقيم عليها مهما بلغت خرساناته صلابة وتسليحًا، وهذا هو الأمل، بل جبل الأمل الذي حمله الفلسطينيون داخلهم طوال عقود حتى اليوم، وما زالوا يحملونه، رغم كل التضحيات الجسيمة، ورغم الهجر والقطيعة والحصار، حتى من بعض بني جلدتهم العرب.

إن محاولة أوروبا الاغتسال من ذنب معاداة السامية بدعم إسرائيل المطلق على حساب أرواح الفلسطينيين هو مشاركة في الجريمة، وقد أصبحت هذه الجريمة مرئية على نطاق واسع ليس خارج الغرب بل داخله، وما المواجهات بين الشرطة والمتظاهرين في ألمانيا، وهي معقل الهولوكوست، إلا مثال لما بدأ يبرز من حضور فلسطين في الضمير الإنساني العام، ففي الغرب المعاصر أصبحت نظرة الأجيال الجديدة مناقضة لآبائهم ومضادة لها تجاه كل أسطورة إسرائيل التأسيسية، وهذا جزء مما يفعله حضور فلسطين حتى داخل الدول الداعمة بشكل أعمى لإسرائيل، وكل ذلك أصبح على المحك اليوم، بفضل تنامي الوعي الإنساني بحجم فلسطين الذي يكبر في وجدان عالمنا المعاصر.

إبراهيم سعيد شاعر وكاتب عُماني

مقالات مشابهة

  • بطريرك الأقباط الكاثوليك يفتتح الاجتماع النصف ثانوي الدوري لمجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك بمصر
  • إصابة طالبتان بحالة تسمم إثر تناولهما وجبة طعام فاسدة داخل مدرسة ثانوي بالقليوبية
  • طقس فلسطين: ارتفاع كبير على درجات الحرارة غدًا
  • موعد أول أيام ذي القعدة 1446 في فلسطين
  • فلسطين وسوريا تتصدران مباحثات قطرية تركية رفيعة بالدوحة
  • العدل الدولية تستمع إلى التزامات إسرائيل في فلسطين المحتلة الاثنين
  • فلسطين: شرائح إسرائيلية تستخدم لأغراض التخابر
  • بعد تعيينه نائباً لرئيس منظمة التحرير ودولة فلسطين .. من هو حسين الشيخ؟
  • انتخاب حسين الشيخ نائباً لرئيس دولة فلسطين
  • فلسطين.. سؤال الوجدان المعاصر