"خطاب نصرالله" وسياسة الغموض الاستراتيجي
تاريخ النشر: 5th, November 2023 GMT
صالح البلوشي
سبق خطاب السيد حسن نصرالله الأمين العام لحزب الله اللبناني، نشر عدة مقاطع مرئية قصيرة ضمن الإعلان عن موعد الخطاب عصر يوم الجمعة الثالث من نوفمبر، لتحمل هذه المقاطع القصيرة رسائل بأنَّ هذا الخطاب سيكون مُهمًا؛ باعتباره الظهور الأول لـ"نصرالله" منذ بدء عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر الماضي، ليكون هذا الخطاب محل اهتمام وترقب من أنصار المقاومة والقضية الفلسطينية ودوائر صنع القرار في كثير من العواصم.
لقد اشتمل الخطاب على رسالة ضمنية، مفادها أن الغموض الاستراتيجي الذي اتسم به الخطاب يمثل قوة ردع للاحتلال مثلها مثل سلاح المقاومة.
وشخصيًا لم أتوقع من الخطاب أكثر مما جاء فيه، لعدة أسباب منها: أن قرار الحرب لا يُعْلَن عنه في خطاب بث على الهواء مُباشرة، ولكن إعلان الحرب يكون بالفعل ونهج المُفاجأة والمباغتة للعدو كما حدث في عملية "طوفان الأقصى"؛ حيث اتخذ القرار بسرية تامة، ولم يعلم به حتى الجناح السياسي لحركة حماس؛ لأنه قرار عسكري بحت، ولذلك كنت أستغرب من الذين كانوا يتصورن أنَّ نصر الله كان سيُعلن في خطابه أن صواريخ حزب الله بدأت تدك مدن "إسرائيل" لأن ذلك سيعتبر انتحارًا عسكريًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وذلك ينافي نهج التصعيد المتدرج واحتساب ردة الفعل؛ حيث إن دولة الاحتلال الإسرائيلي والولايات المتحدة سبقت كلمة نصرالله بإرسال رسائل تحذيرية للحزب من أية محاولة للتصعيد العسكري، ولا أشك أنها استعدت تمامًا لكل مُفاجأة غير متوقعة من الحزب، فعندها ستكون الصواريخ الأمريكية والصهيونية تسبق صواريخ حزب الله في دك معسكرات ومقار الحزب في الجنوب اللبناني قبل أن تتلوها دفعة أخرى تدك المناطق السكنية كما فعلت في غزة.
لذلك.. أرى أن الخطاب كان سياسيًا واستراتيجيًا من الدرجة الأولى وبعيدًا عن العاطفة، كما إنه رسم استراتيجية الحزب في المرحلة المُقبلة حسب التصعيد من جانب الاحتلال الإسرائيلي وفق ما تقتضيه المصلحة الاستراتيجية، ويمكننا القول إنَّ الأمين العام لحزب الله وضع الكرة في منتصف الملعب، ولا تعلم "إسرائيل" أين؟ ومتى سيسددها؟! ليمثل ذلك في حد ذاته عامل ردع تتجلى أبرز نتائجه في توجيه جزء كبير من قوات الاحتلال إلى شمال فلسطين المحتلة ما يخفف الضغط عن جبهة غزة.
ولقد جاء الخطاب في وقت بدأت فيه الولايات المتحدة ممارسة ضغوط سياسية على "إسرائيل" من أجل هدنة إنسانية، نتيجة للضغوط التي يمارسها الرأي العام العالمي عبر المظاهرات الضخمة التي تجتاح العواصم الأوروبية، ووصلت حتى إلى البيت الأبيض ومقر الكونجرس الأمريكي، مع فشل قوات الاحتلال الإسرائيلي في حسم المعركة لصالحها. وهذا الفشل الذريع انعكس على الرأي العام الإسرائيلي الذي يضغط على الحكومة من أجل وقف إطلاق النار والتفاوض مع حماس من أجل إطلاق سراح الأسرى لديها، وعددهم يقارب 240 أسيرًا، ولو دخل الحزب الحرب الشاملة وسط هذه الظروف لقيل إنه يسعى لتخريب المفاوضات وبالتالي يكون هدفا لتحالف دولي سيُشَكَّل للقضاء عليه بحجة أنه يهدد السلام العالمي.
كما إن المتابع لخطاب نصر الله يلاحظ أنه ركز كثيرًا على عدم وجود تنسيق بين حماس وحزب الله وإيران بخصوص ملحمة 7 أكتوبر التاريخية، وأتفهم تمامًا نفي السيد نصر الله، وقبله إيران وجود أي تنسيق لأسباب يعرفها الجميع، فهذه القرارات الأمنية الاستراتيجية لا يُعلن عنها على الهواء مباشرة وأمام الملأ؛ حتى لا تتخذ ذريعة للولايات المتحدة والغرب، ولكن المراقب يتساءل: لماذا بدأت العمليات الحربية بين حزب الله وقوات الاحتلال الإٍسرائيلي في اليوم الثاني مباشرة من عملية "طوفان الأقصى" وهذا يحدث لأول مرة، لأنه في الاعتداءات الإسرائيلية السابقة على غزة لم يكن الحزب يتدخل عسكريًا، وقد أثار نصر الله هذه النقطة في بداية خطابه أن الحزب لا يحتاج إلى إعلان الحرب في هذه الخطبة؛ لأنه دخل الحرب فعليًا في اليوم الثاني من العدوان على غزة.
شخصيًا أتفهم الذين كانوا يتمنون أن يُعلن السيد حسن نصرالله في خطابه الحرب على إسرائيل، وربما هذا التمني جاء نتيجة مواقف الأنظمة العربية والحكومات الإسلامية التي وقفت موقف المتفرج من العدوان، واكتفت ببيانات الإدانة والشجب والتنديد، ولكني لا أتفهم الذين يُزايدون على الحزب الذي دخل المعركة من اليوم الثاني لـ"طوفان الأقصى" وكأن المزايدين أعلم بتفاصيل سير المعركة من الحزب نفسه، كما إنه من المؤسف أنه بعد انتهاء الخطاب مباشرة بدأت عاصفة من الانتقادات تواجه الحزب، لأن بعضًا من الغيورين على المقاومة كانوا يتمنون أن يعلن السيد نصر الله الحرب الشاملة على قوات الاحتلال الإسرائيلي.
بعض المنتقدين وجهّوا انتقاداتهم بطريقة طائفية بغيضة، مما يُثير التساؤلات حول أسباب ظهور هذه النعرات الطائفية في الوقت الذي تواجه فيه المقاومة الإسلامية في فلسطين المحتلة آلة الإجرام الصهيونية، وتساندها أعتى قوة عدوانية على وجه الأرض وهي الولايات المتحدة الأمريكية ودول الغرب، مما يؤكد أن دعوات هؤلاء هي مجرد انسياق لأجندات تحاول توريط الحزب في حرب مع الصهاينة، حتى يُتَخَلَّص منه، ومن بقية فصائل المقاومة دفعة واحدة، وكثير من هؤلاء المنتقدين كانوا ينتقدون الحزب في 2006، ويتهمونه بأنه ورط لبنان في حرب مدمرة، وانتقدوا الحزب أيضًا في موقفه من الحرب في سوريا، وما زالت مقالاتهم ومنشوراتهم في وسائل التواصل الاجتماعي تعج بالألفاظ والكلمات المسيئة للحزب وقيادته، إضافة إلى النعرات الطائفية البغيضة، ولا تزال هناك فئة أيضا تنتقد حماس، وتصفها بأنها ورطة الشعب الفلسطيني في غزة في حملة إبادة صهيونية بدلا من مساندتها والوقوف معها لمواجهة العدوان الغاشم.
وأخيرًا.. إنَّ المزايدات على هذا الخطاب تثبت عدم دراية المُزايدين والمُنتقدين بتكتيكات الحروب واستراتيجيات الأعمال العسكرية، فكل كلمة في وقت الحروب يترتب عليها الكثير من النتائج، ولا شك في أن فصائل المقاومة سواء في فلسطين أو لبنان لديها خطط متعددة يُلْجَأ إلى كل واحدة منها في وقتها المناسب وبحسب ما تقتضيه مصلحة الجميع.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
كلمات دلالية: الاحتلال الإسرائیلی طوفان الأقصى نصر الله الحزب فی
إقرأ أيضاً:
عبدالله بوصوف يكتب…خطاب المسيرة و الإجابات الوطنية الكبرى
تأتي احتفالات المغاربة بالذكرى 49 لعيد المسيرة الخضراء في نسخة استثنائية عنوانها انتصارات الديبلوماسية الملكية والانتصار للمقاربة الواقعية و الشرعية لمغربية الصحراء…كالاعتراف الوازن للدولة الفرنسية بمغربية الصحراء و بمبادرة الحكم الذاتي كسقف وحيد لحل هذا النزاع المفتعل…توج هذا الاعتراف بزيارة دولة تاريخية للرئيس الفرنسي ماكرون للمغرب و بتوقيعه الى جانب جلالة الملك محمد السادس على كتاب جديد عنوانه التنمية و الاستقرار و محاربة الإرهاب…أضف مضمون القرار الجديد لمجلس الأمن الدولي رقم 2756 ليوم 31 أكتوبر…و لتكتمل الحلقة بإعلان فوز المرشح دونالد ترامب برئاسيات 5 نوفمبر 2024 و هو الرئيس الأمريكي الذي وقع على المرسوم الرئاسي لمغربية الصحراء في دجنبر من سنة 2020…
وهي كلها عوامل تجعلنا أمام مرحلة العد العكسي لنهاية نزاع وليد مرحلة تاريخية بائدة حيث مازال البعض يعيش في عالم منفصل بعيدا عن الحقيقة و يتشبت بأوهام تجاوزها الواقع و التاريخ…و حتى المنطق…إذ يرفعون الشعار و نقيضه كتنظيم الاستفتاء و رفض الاحصاء…هذا في الوقت الذي حدد المغرب احداثيات كل الشراكات بعيدا عن تقديم قراءات قانونية مغلوطة لخدمة حسابات سياسية ضيقة..أو توظيف ذات الملف للاستهلاك الداخلي لجهات غارقة في مشاكل لا حصر لها…و لوقف كل هذا الصخب القانوني و الاعلامي و السياسي.. فقد أعاد الخطاب التأكيد على حصرية الأمم المتحدة و خاصة مجلس الأمن الدولي للنظر في هذا النزاع الإقليمي المفتعل دون سواه….
و من جديد سبخصص خطاب المسيرة لهذه السنة حيزا مهما للإشادة بدور مغاربة العالم في الدفاع عن المقدسات الوطنية و المساهمة في التنمية…و هي إشادة ملكية سامية تعبر عن المكانة الخاصة لتلك الفئة من أبناء الوطن ،كما حملت معها تلك الإشادة بشرى تحول جديد في تدبير شؤونها…
وهذا ليس بجديد…إذ ارتبطت العديد من خطابات ذكرى المسيرة الخضراء بمحطات تاريخية مهمة في معالجة ملفات مغاربة العالم…وهنا لابد من التذكير بأن إعلان خطاب نوفمبر 2024 عن هيكلة الاطار المؤسساتي هو إجابة مهمة عن مضمون خطاب ثورة الملك والشعب في 20 فشت من سنة 2022 و ما حمله ذات الخطاب من تساؤلات قوية و تشريح واقعي لكل الأسئلة العالقة…تهم تحديث وتأهيل الاطار المؤسساتي و إعادة النظر في نموذج الحكامة الخاص بالمؤسسات الموجودة قصد الرفع من نجاعتها و تكاملها…
فالتحول الجديد و المهم في مقاربة تدبير اشكاليات الجالية سيتم من خلال مؤسستين اولهما مجلس الجالية المغربية المقيمة بالخارج وضرورة الإسراع بإخراج القانون التنطيمي حسب المادة 163 من الدستور…
و ثانيهما خلق “المؤسسة المحمدية للمغاربة المقيمين بالخارج ” باختصاصات مهمة اذ ستشكل الذراع التنفيذي للسياسة العمومية في مجال الهجرة و تدبير الالية الوطنية لتعبئة الكفاءات و مواكبة أصحاب المبادرات و المشاريع من مغاربة العالم…و ستعطي ذات المؤسسة دفعة قوية في مجال التاطير اللغوي و الثقافي و الديني…و تبسيط و رقمنة المساطر الإدارية و القضائية التي تهم المغاربة المقيمين بالخارج…
ان خطاب المسيرة لسنة 2024 لا يتضمن إعلان نوايا بل هو خارطة طريق جديدة … أولا في ملف الصحراء المغربية بين مقاربة واقعية فحواها الحقيقة و الشرعية التي يمثلها المغرب في صحراءه و بين عالم متجمد و منفصل عن تطورات الواقع…
و ثانيا في ملف قضايا مغاربة العالم…بإعلانه إجابات واضحة و قوية عن كل تساؤلات خطاب الثورة لسنة 2022..وهو بالمناسبة الخطاب الذي يمثل وسام شرف يعلق على صدور مغاربة العالم و إشادة سامية عنوانها الافتخار و الاعتزاز بالانتماء لهذا الوطن…