الأسبوع:
2024-07-06@04:00:05 GMT

وسط رفض شعبي ورسمي عارم.. الأرض مقابل المال

تاريخ النشر: 5th, November 2023 GMT

وسط رفض شعبي ورسمي عارم.. الأرض مقابل المال

- خطة جديدة لوزارة الاستخبارات (الإسرائيلية) تكشف عن مخطط التهجير إلى سيناء- الرئيس السيسي يرفض التهديدات والإغراءات وإذاعة الجيش الإسرائيلي تنتقد تصريحات د.مدبولي- ضغوط غربية ووعود بإسقاط الديون المصرية مقابل إقامة دولة فلسطينية في سيناء

خلال الأيام القليلة الماضية كشف النقاب عن العديد من الوثائق والخطط التي تؤكد أن عملية التهجير القسري التي تعد لها الحكومة الإسرائيلية ليست وهمًا، أو رؤية لا تحمل إطارًا رسميًا، وإنما هي بالفعل مخطط جاد، ليس جديدًا، لكنه كان ينتظر الفرصة المناسبة.

.

صحيح أن الوثائق البريطانية التي كشف عنها النقاب مؤخرًا تؤكد وترسم السيناريو كاملا على لسان شيمون بيريز وزير النقل الإسرائيلي في نهاية الستينيات، ولكن ما كشفه أحد المواقع الإسرائيلية ونقلته عنه العديد من الصحف والوكالات العالمية كان هو الأخطر.

لقد كشف موقع «سيحا ميكوميت» اليساري الإسرائيلي عن وثيقة صادرة عن وزارة الاستخبارات الإسرائيلية، أكدت أهمية استغلال الحرب الراهنة على غزة لتنفيذ مخطط التهجير القسري لسكان القطاع بشكل دائم وتسخير المجتمع الدولي لهذه الخطة..

وتقترح الوثيقة التي صدرت في يوم 13 من أكتوبر 2023 الماضي، أي بعد عملية طوفان الأقصى بستة أيام ضرورة الترويج لحملة موجهة لسكان غزة من أجل تحفيزهم للموافقة على الخطة.

أطفال فلسطين

وتوصي الوثيقة الحكومة الإسرائيلية بالتحرك سريعًا لإجلاء سكان غزة إلى سيناء خلال الحرب وعبر إنشاء مدن خيام ومدن جديدة في شمال سيناء، تستوعب المهجرين يتلوها إنشاء منطقة لعدة كيلو مترات بالقرب من الحدود الإسرائيلية..

الوثيقة مكونة من عشر صفحات، وتحمل شعار وزارة الاستخبارات برئاسة الوزيرة (جيلا غامليل) التي تنتمي لحزب الليكود، الذي يقوده رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو.

لقد أكد مسئول في وزارة الاستخبارات الإسرائيلية صحة الوثيقة، وقال: إنه تم توزيعها على أعضاء الجهاز الأمني نيابة عن شعبة السياسات في الوزارة.

وتنقسم خطة التهجير حسب الوثيقة إلى عدة مراحل:

* المرحلة الأولى: وفيها يجب إجلاء السكان إلى الجنوب، في حين تركز ضربات سلاح الجو الإسرائيلي على الجزء الشمالي من القطاع.

* المرحلة الثانية: وفيها يبدأ الدخول البري الإسرائيلي إلى غزة، مما سيؤدي إلى احتلال القطاع بأكمله من الشمال إلى الجنوب، مع تطهير المخابئ تحت الأرض من مقاتلي حماس، وبعدها ينقل مواطنو القطاع إلى الأراضي المصرية، شريطة أن لا يسمح لهم بالعودة إليه بشكل دائم مرة أخرى. وتوصي الوثيقة بترك الممرات باتجاه الجنوب صالحة للاستخدام للسماح بإجلاء السكان المدنيين باتجاه رفح.

هذا هو مختصر المخطط الإسرائيلي الذي كشف عنه النقاب منذ عدة أيام، والذي وصفه وزير الخارجية المصري سامح شكري بأنه مثير للسخرية.

ولم يكن هذا البيان الصادر عن مكتب رئيس الوزراء سوى محاولة جديدة للخداع، عندما قال: إن الخطة التي أعدها جهاز الاستخبارات ليست بالضرورة تعبر عن رأي الحكومة.. إن كافة المؤشرات تؤكد بالفعل جدية المخطط، ومحاولات الضغط على القيادة المصرية، ما هي إلا دليل جديد على أن المخطط ماضٍ في طريقه، كما توضح الأحداث الرهيبة التي يشهدها قطاع غزة في الوقت الراهن والتي تصل إلى حرب إبادة الهدف منها إجبار الفلسطينيين على القبول بمخطط التهجير.

لقد كشفت صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية عن محاولات عديدة للضغط على القيادة المصرية بهدف استقبال اللاجئين من قطاع غزة. وقالت الصحيفة: إن الحكومة الإسرائيلية قدمت اقتراحًا جديدًا إلى مصر وعدت فيه حكومة نتنياهو القيادة المصرية بأن البنك الدولي سيقوم بشطب الديون المالية الكبيرة لمصر مقابل موافقتها على هذه الخطوة. ولكن الصحيفة أكدت أن رد الرئيس المصري كان حاسمًا وجازمًا بالرفض، بل طلب بدلا من ذلك نقلهم إلى صحراء النقب داخل المناطق (الإسرائيلية) ذاتها.

وكشفت مصادر سياسية عالية لـ "الأسبوع": أن اتصالات أجراها نتنياهو بعدد من قادة الدول الغربية يطلب منهم فيها ممارسة الضغوط على مصر، والتلويح بإسقاط الديون عليها إذا ما وافقت على هذا المخطط.

وبالفعل سعت هذه الجهات في البداية إلى التلويح بتقديم عشرين مليار دولار دفعة أولى إلى مصر مقابل الموافقة، ولكن الرئيس السيسي رفض ذلك جملة وتفصيلا.

لقد كانت كلمات الرئيس السيسي خلال المؤتمر الصحفي المشترك مع المستشار الألماني «أولاف شولتز» حاسمة وواضحة عندما أكد عددًا من النقاط أبرزها:

* أن مصر ترفض تصفية القضية الفلسطينية، وأي محاولات لتهجير الفلسطينيين قسريًا من أرضهم على حساب أراضي دول أخرى.

* أن تصفية القضية الفلسطينية أمر في غاية الخطورة وأن ما يحدث في غزة الآن ليس فقط الحرص على توجيه عمل عسكري ضد حماس، وإنما محاولة لدفع السكان المدنيين إلى الهجرة إلى مصر.

* أن نزوح الفلسطينيين من القطاع إلى مصر يعني ببساطة أن يحدث أمر مماثل وهو تهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية إلى الأردن، وبالتالي تصبح فكرة الدولة الفلسطينية التي نتحدث عنها غير قابلة للتنفيذ لعدم وجود شعب.

* أن نقل الفلسطينيين من غزة إلى سيناء يعني ببساطة نقل فكرة المقاومة والقتال من قطاع غزة إلى سيناء، مما سيؤدي إلى أن تصبح سيناء قاعدة للانطلاق بعمليات ضد إسرائيل، وفي هذه الحالة ستقوم إسرائيل بالرد وتوجيه ضربات للأراضي المصرية، وهو أمر يهدد عملية السلام.

وأخيرًا سخر الرئيس السيسي من المخطط وقال: إذا كانت هناك فكرة لتهجير الفلسطينيين يمكن دفعهم إلى صحراء النقب داخل (إسرائيل) على أن يتم إعادتهم مجددًا إلى غزة بعد انتهاء الحرب.

هذا هو الموقف المبدئي والثابت الذي أعلنه الرئيس السيسي أكثر من مرة، وهو موقف أثار انزعاج الحكومة والمؤسسات الإسرائيلية. كما أن إذاعة الجيش الإسرائيلي راحت تنتقد تصريحات رئيس الوزراء المصري د.مصطفى مدبولي في سيناء التي قال فيها: إن بلاده مستعدة لبذل ملايين الأرواح من أجل حماية سيناء، فردت الإذاعة الإسرائيلية بالقول: «إن تصريحات رئيس الوزراء المصري موجهة بشكل مباشر إلى إسرائيل».

ويبقى السؤال هنا: ما علاقة حاملات الطائرات الأمريكية والبوارج الغربية بما يجري على الأرض في غزة؟!

إن القضية في تقديري أكبر من غزة، وإذا كان المخطط كما يقول البعض يستهدف الدفاع عن إسرائيل في مواجهة أي حرب إقليمية فإن ذلك مردود عليه بأن أطرافًا عديدة داخل المنطقة تحرص على عدم توسعة الحرب، لذلك وفقا لمصادر دبلوماسية فإن هذه الحشود التي يعج بها البحر المتوسط جاءت لحماية إسرائيل في كل الأحوال، وقد تجد نفسها أيضًا معنية بتنفيذ مخطط التهجير وإقامة الدولة الفلسطينية في سيناء، بغض النظر عن التصريحات التي تصدر عن مسئولين أمريكيين بين الحين والآخر رافضة لمبدأ التهجير..

إن وقائع العدوان المجنون ضد «غزة» والذي يستهدف محو البشر وحرق الأرض، يجعلنا لا نستبعد أيًا من السيناريوهات المقبلة، وهو أمر يستدعى الاصطفاف الوطني خلف القيادة السياسية التي تتعامل مع هذا الملف بثبات وحكمة، وعلينا أن نتوقع كافة السيناريوهات في الفترة المقبلة، ذلك أن تأييد العالم الغربي لحرب الإبادة ضد الفلسطينيين دون سند من قانون أو ضمير، يجعلنا لا نثق في تصريحاتهم، ولا نستبعد أيًا من الخيارات.

المصدر: الأسبوع

كلمات دلالية: أخبار فلسطين اليوم أقصى إسرائيل احداث الاقصى احداث فلسطين اليوم اخبار اسرائيل اليوم اخبار غزة الان اخبار فلسطين اخبار فلسطين الان اخبار فلسطين اليوم اخبار فلسطين واسرائيل اليوم اخر اخبار فلسطين اخر اخبار فلسطين اليوم اسرائيل اسرائيل الان اسرائيل اليوم اسماعيل هنية الاحتلال الاقصى الاقصي العدوان الإسرائيلي القبة الحديدية القدس القدس المحتلة القدس عاصمة اسرائيل القدس عاصمة فلسطين القسام المسجد الأقصى حركة حماس حماس طوفان طوفان الأقصى طوفان الاقصى طوفان الاقصي عاصمة عاصمة فلسطين عز الدين القسام عملية طوفان الاقصى غزة غزة الان غزة تحت القصف غزه فلسطين فلسطين واسرائيل قصف غزة قطاع غزة قوات الاحتلال كتائب القسام ماذا حدث اليوم في فلسطين ماذا يحدث في فلسطين ماذا يحدث في فلسطين الآن محمد الضيف مصطفى بكري الرئیس السیسی مخطط التهجیر رئیس الوزراء إلى سیناء إلى مصر

إقرأ أيضاً:

فلسطين والنِّكروبوليتيكس: هل يملك أحد الحق في قتلنا؟

"اللي جنبي ميتين.. الدبابة جنبي.. خليكي معي أمانة.. تعالي خديني.. أمانة كتير خايفة.. رِنِّي على حد ياخدني".

لم تكن استغاثات الطفلة هند رجب ذات الأعوام الست، التي كانت آخر من قُتل من ركاب سيارة مدنية تقلّها هي وأقارب لها، لتقلق حكومات العالم الحر أو تدفعهم إلى إدانة العدوان الإسرائيلي، الذي قَتلَ زهاء ستة عشر ألف طفل حتى اللحظة، على العكس مما وقع عندما قتلت مُسَيَّرة إسرائيلية ستة أعضاء من نشطاء منظمة المطبخ المركزي العالمي، حيث واجهت إسرائيل موجة انتقادات وإدانات عارمة من حكومات ومؤسسات الدول الغربية، وأخذت وسائل الإعلام تنقل حكايات الضحايا الأجانب، وشهد الداخل المُحتل جدلا وانتقادات واسعة داخل المؤسسات الأمنية والعسكرية، لم تنلها قبل ذلك بعدة أشهر حين وقعت واحدة من أسوأ المذابح في تاريخ غزة.

ففي ساعات الليل الأولى من مساء 17 أكتوبر/تشرين الأول 2023، قصفت قوات الاحتلال الإسرائيلي المستشفى الأهلي العربي في غزة، المعروف بالمستشفى المعمداني، فأردت أكثر من ألف مدني فلسطيني بين شهيد وجريح. وقبلها بساعات كان الاحتلال قد قصف مدرسة تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا)، فاستُشهِد العشرات جراء الهجوم، وفي ذلك اليوم بالتحديد تجاوز عدد الشهداء الفلسطينيين 3000 شهيد. وفي أثناء كتابة هذه السطور، بلغ عدد الشهداء منذ بدء القصف والعدوان الإسرائيلي زهاء 38 ألفا استُشهِدوا على مدار أكثر من 270 يوما من الإبادة.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2ثورتنا العلمية في مهب الريح.. هل نحن في حاجة إلى فيزياء كونية جديدة؟list 2 of 2أميركا والصين تستعدان لحرب كبرى تستمر لسنوات.. فلمن ستكون الغلبة؟end of list

لكنك عندما تسمع وتشاهد تعليقات المسؤولين الغربيين حول واقعة المستشفى المعمداني، ستشعر بالغضب والتساؤل، إذ إنهم أرادوا تحميل المقاومة مسؤولية قصف المستشفى حينها. وليس هذا فحسب، بل ونُظِر إلى الضحايا على أنهم مجرد أرقام يمكن التشكيك فيها، وهو ما صرح به الرئيس الأميركي جو بايدن عندما سأله أحد الصحفيين عما تعتزم حكومته القيام به لتقليل أعداد الضحايا المدنيين في غزة، فأجاب رافضا فكرة إمكانية الوثوق في أرقام الضحايا المُعلنة، وقال: "ليس لديّ أي فكرة عما إذا كان الفلسطينيون يقولون الحقيقة بشأن عدد القتلى". الضحايا هنا ليسوا نظراء لضحايا نشطاء المطبخ المركزي العالمي إذن، فقد بادر بايدن بتقديم العزاء لأسر الضحايا الست، وعبَّر عن استيائه مما جرى بقوله: "إن الصراع في غزة أصبح من أكثر الصراعات دموية بالنسبة لعمال الإغاثة"، كما اعتبرت إسرائيل نفسها الحادث مأساويا ولم تُحمِّل حماس المسؤولية هذه المرة.

جثث الأطفال الفلسطينيين الذين قتلوا في غارة إسرائيلية على رفح جنوب قطاع غزة (رويترز)

يمكننا أن نفهم سر هذا التجاهل الغريب للضحايا الفلسطينيين في الوقت الذي يُدان فيه مقتل النشطاء الأجانب في ضوء ما قاله أستاذ تاريخ الشرق الأوسط بيتر جران حين سعى إلى فهم سبب تجاهل التاريخ المحلي المصري في كتابات المؤرخين الأجانب. وقد اعتبر جران أن الباحثين الإنجليز والأميركيين كان لهم الدور الأبرز في عملية إخفاء تاريخ السكان المحليين في البلد، وفسَّر ذلك بالرجوع إلى الخلفية الثقافية والحضارية للباحثين، حيث إن الحضارة الغربية هي نتاج عملية التخلُّص من الأضعف. ويقارب جران بين سِفر الخروج (Book of Exodus) وما جرى أثناء بناء الحضارة الغربية، التي صارت ثقافتها تقوم على مركزية الرجل الأبيض، حيث تقوم جماعته بالتخلص من بعض الناس (وإن كانوا طيبين)، لأنهم وقفوا على الجانب الخاطئ من وجهة نظره، ومن ثمَّ فإن عملية إبادتهم ليست ذنبا يُلام عليه الرجل الأبيض.

وبالمثل فإن الخلفية الثقافية والحضارية لصانعي السياسة الغربيين تجعلهم لا يبالون بموت عشرات الآلاف من الفلسطينيين ويعتبرونهم مجرد أرقام، وعندئذ نفهم لماذا نُقتل دون أن يحرك المجتمع الدولي المزعوم ساكنا. وهكذا بينما يتواصل العنف غير المسبوق تجاه الفلسطينيين، بحيث لم يعد هناك مكان واحد آمن لهم في غزة أو الضفة الغربية، فإن ثمة من يسعى جادا لمنح غطاء من الشرعية لعمليات التنكيل والإبادة.

لقد صار جليًّا أن إسرائيل لا تحتل الأرض والموارد فحسب، بل "إنها تحتل أجساد الفلسطينيين" على حد وصف الباحثة الأُسترالية ميرام ديبريز، التي تقول إن الاحتلال الإسرائيلي يعتمد على بناء وتشكيل بيئة عنف بصري وجسدي وفرضها على الفلسطينيين طوال الوقت في حياتهم اليومية، ويعتبرها ضرورة لاستدامة سيطرته على الأرض والأجساد معا. فبجانب القصف والجحيم العشوائي اليومي والخراب العمراني الذي طال أغلب منشآت ومساكن القطاع، نقلت شبكة "سي إن إن" عن أحد الخبراء السابقين بوزارة الدفاع الأميركية قوله إن "هذا الحجم من القصف لم يحدث منذ حرب فيتنام". وكانت منظمة اليونيسيف قد أكدت "تعرُّض كل طفل في قطاع غزة تقريبا لأحداث وصدمات مؤلمة للغاية، اتسمت بالدمار الواسع النطاق، والهجمات المتواصلة، والنزوح، والنقص الحاد في الضروريات الأساسية مثل الغذاء والماء والدواء".

هناك إذن حالة من احتكار قوة القتل والإعاقة، أو ما يُسمَّى "Necro Power"، بلا حساب أو محاكمة أو حتى إدانة. ولا تزال أصوات الجنوب العالمي تتعالى مدافعة عن حقوق وكرامة الشعب الفلسطيني، وأحد هؤلاء هو المؤرخ وأستاذ السياسة الكاميروني "أشيل إمبيمبي" (Achille Mbembe) الذي يعمل بجامعة "ويتواترسراند" (Witwatersrand) في مدينة جوهانسبرغ بدولة جنوب أفريقيا، وهو أحد الباحثين في نظرية ما بعد الاستعمار، وله السبق في ابتكار مفهوم "النِّكروبوليتيكس" (Necropolitics)، وهو مفهوم لم يجد سبيله إلى الترجمة العربية بعد. وينقسم المصطلح إلى مقطعين هما "Necro" وهو استعارة من علم دراسة الموت تشير إلى التغيرات الفسيولوجية التي تمر بالجسد الميت قبل أو بعد موته، و"Politics" الذي يعنى السياسة كما هو معروف.

يتعمد الاحتلال التقليل من قيمة حياة الموتى، والتطبيع مع موتهم، بل واعتبار القضاء عليهم قيمة جيدة (الأناضول)

ويرجع الفضل لإمبيمبي في صك المفهوم حين استخدمه عام 2003 في دراسته عن ما بعد الاستعمار، التي نشرت لاحقا كتابا مستقلا، ويمكن ترجمة المفهوم إلى "سياسة أو سلطة القتل والإماتة"، وكان إمبيمبي يعني به الأسلحة والتقنيات التي تُستخدم في العالم المعاصر من أجل تحقيق أعلى معدلات لتدمير الناس، ومن ثم إيجاد مساحات أو عوالم مكانية للموت، أي أن المفهوم يشير إلى تعمُّد إيجاد أدوات جديدة لخلق واقع اجتماعي تكون فيه قطاعات واسعة من السكان خاضعة لظروف قهرية تمنحهم صفة "الأحياء الأموات".

يتقارب مفهوم النِّكروبوليتيكس أو سياسة حق الإماتة مع مفهوم السياسة الحيوية عند المفكر الفرنسي فوكو (Bio politics)، الذي استخدمه لتشخيص استعمال القوة الاجتماعية والسياسية من أجل السيطرة على حياة الناس، واستخدام التدخلات الحكومية والأجهزة البيروقراطية لتنظيم حركة وحرية الأجساد. ولكن النِّكروبوليتيكس يُستخدم بشكل مختلف للإشارة إلى كيفية التحكم في المكان والسكان عن طريق الإرهاب، حيث يتم التقليل من قيمة حياة الموتى، والتطبيع مع موتهم، بل واعتبار القضاء عليهم قيمة جيدة.

ويرفض إمبيمبي وجود تشابه بين مفهومه عن النِّكروبوليتيكس ومفهوم السياسة الحيوية عند فوكو، حيث يعتبر أن إسهامات فوكو جزء من تراث الحداثة التي نبذت فكرة العنف المباشر على السكان كما يُفترض ثم لجأت إلى سلطات غير مباشرة لتحقيق هدفها. وقد سكَّ فوكو مفهوم السياسة الحيوية عندما كان منشغلا بالكيفية التي تُنتج بها الأجساد الطيعة (Docile Bodies) بتنظيم الأفراد في ممارسات من المراقبة. ووفقا لمبيمبي، فإن فكرة فوكو عن السلطة الحيوية غير كافية لتفسير الأشكال الحديثة من القهر؛ فهي لا تأخذ في الاعتبار استمرار تقنيات وسياسة احتكار تقرير موت الناس أو حياتهم بطريق العنف الموضوعي، وليس الرمزي فحسب.

ويؤكد إمبيمبي أن العالم الراهن عالم يعاني من انعدام المساواة المتزايد، ومن العسكرة ونزعات العداء والإرهاب، فضلا عن عودة ظهور الاتجاهات العنصرية والفاشية، وكذلك القوى القومية المُصمِّمة على الإقصاء والقتل. ويرى المؤرخ الكاميروني أن الديمقراطية الآن أصبحت تعيش على احتضان جانبها المظلم، أو ما يسميه "جسدها اللَّيْلي" (Nocturnal Body)، الذي يقوم على الرغبات والمخاوف والعنف؛ مما يدفع قوة الاستعمار إلى الأمام في صور جديدة فجّة تُجسِّد غرائز العدوان والقضاء على الآخر باسم المفاهيم الديمقراطية، وهو ما ظهر بجلاء أثناء حرب العراق 2003 وما بعدها من أحداث. وقد أدى هذا التحول إلى تفريغ الديمقراطية من معناها، ومن ثمَّ تآكلت القيم والحقوق والحريات التي طالما أعلت منها الديمقراطية الليبرالية. ونتيجة لذلك، أصبحت الحرب في عصرنا دفاعا عن مفهوم السيادة الذي يعمل على إبادة كل من يُعتبَرون أعداء للدولة في نظر أنصارها أو من ينتمون لها، مثلما يفعل أنصار اليمين المتطرف في الدول الغربية.

 

صفوة القوة والميتافيزيقا العسكرية تعتمد إسرائيل بوصفها دولة عسكرية لنفسها وأجهزتها بل ولمواطنيها احتكار حق قتل أي فلسطيني (الفرنسية)

يلخص إمبيمبي تلك السياسة بأنها "القدرة على تحديد من تهم حياته، ومن لا تهم حياته، ومن يمكن التخلص منه ومن ينبغي الحفاظ عليه". وبعبارة أخرى فإنه يُسلِّط الضوء على كيف تقوم الحكومات بالمفاضلة في حق الحياة البشرية، فكلما كنت في صف القوة المُهَيمِنة، زادت قيمة حياتك. ويضرب إمبيمبي مثالا بالولايات المتحدة الأميركية، فإذا كنت رجلا مسيحيا أبيضَ وقويا وثريا، فهذه أخبار رائعة بالنسبة لك، لكن كلما ابتعدت عن هذه السمات، قلّت قيمة حياتك، بل أصبح وجودك أحيانا أكثر خطورة. ولم يكن غريبا أن يعاني إمبيمبي نفسه بسبب كتاباته تلك من بطش الأنظمة العنصرية، فقد اتُّهِم بمعاداة السامية بسبب تصنيفه لإسرائيل على أنها دولة عنصرية.

وينطلق إمبيمبي من تجربة التمييز العنصري التي عاشتها جنوب أفريقيا، حيث تطرق إلى أن منهجية الحكم العنصري كانت تعتمد على بناء علاقات مكانية جديدة، بحيث يتم عزل المقموعين وتحديد حركتهم وحريتهم. وكانت تجربة معازل المدن أو "Township" من أبرز الصور المكانية التي انطلق منها إمبيمبي، وكانت تضم غير البيض فقط، وشاع فيها الفقر والمعاناة والمرض وعدم القدرة على مغادرة المكان. وتتطور رؤية إمبيمبي عندما يصل إلى تجربة الاحتلال "العنصري" لقطاع غزة والضفة الغربية، حيث يرى أن الاحتلال الإسرائيلي عمل على جعل كل حركة مستحيلة عبر تقسيم الأراضي المحتلة إلى شبكة داخلية معقدة، وهو فصل عنصري متعمد مصحوب بمستويات معقدة من الرقابة على السكان طوال الوقت.

بل إن إمبيمبي يصل إلى نتيجة هامة عندما يؤكد أنه في هذا النمط الاستعماري تكون المعركة فوق الأرض وتحت الأرض، حيث يسعى الاحتلال للهيمنة القمعية على كل شيء، باستخدام كل التقنيات في السماء وتحت الأرض وفوقها، وهو ما قد يُفسِّر لجوء حماس إلى شبكة أنفاق مُعقَّدة لمقاومة الاحتلال وهيمنته على الأرض. ويقول إمبيمبي وكأنه يصف حال العدوان على غزة اليوم واصفا تقنيات هذا النمط الاستعماري: "يصبح كل السكان أهدافا للاحتلال، فالقرى والمدن محاصرة، بل ومنعزلة عن العالم، والحياة اليومية تتم عسكرتها وجعلها خاضعة للأعمال الحربية، وتُطلَق يد القادة الميدانيين في حرية قتل من يشاؤون، ويصير القتل العشوائي سمة ظاهرة".

يقودنا ذلك إلى عالم الاجتماع الراديكالي الأميركي تشارلز رايت ميلز في تناوله لما أسماه "الصفوة الأميركية"، خاصة تلك التي تحتكر القوة (وهي التي أسماها صفوة القوة)، مُشيرا بوضوح إلى مفهوم الميتافيزيقا العسكرية، الذي كان يعني به حاجة الصفوة العسكرية أو من أسماهم أمراء الحرب إلى استمرار حالة الحرب بشكل أو آخر حول العالم، واعتبارها جزءا مهما من الحياة الاجتماعية عن طريق اقتصاديات التسليح والاستعداد المستمر للحرب.ويذكر إمبيمبي أن الصفوة العسكرية والاقتصادية والسياسية المهيمنة تخشى السلام أكثر بكثير من الحرب، حيث تعتمد تلك النخب على الحرب في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية، في إشارة ضمنية بالطبع إلى الولايات المتحدة أكثر من غيرها. ولعل هذا ينطبق على سياسة إسرائيل في تعاملها مع الشعب الفلسطيني، فهي تحرص على استمرار حالة الحرب إلى ما لا نهاية، وعلى استخدام جيش حديث بتقنيات الحرب الشاملة والمعقدة في مواجهة شعب أعزل للقضاء على المقاومة التي تستخدم البسيط من السلاح المصنوع محليا.

وهنا تظهر الميتافيزيقا العسكرية بوضوح في تنظيم دولة إسرائيل بوصفها دولة عسكرية تحتكر لنفسها ولأجهزتها بل ولمواطنيها حق قتل أي فلسطيني، وهو ما يظهر في عدم مبالاتها بقتل 37 ألف شخص فوق مساحة صغيرة لا تتجاوز 365 كيلومترا مُربَّعا في قطاع غزة. وتتجلَّى تلك الميتافيزيقا العسكرية أيضا في انتعاش اقتصاد التسليح وتجربة السلاح، حيث يجري اختيار مجتمعات هامشية ومختلفة عن المجتمعات الغربية كي تكون موقعا ومختبرا لتجربة الأسلحة الجديدة التي لا يمكن تجربتها في دول متماشية مع المصالح الغربية. وفي غضون ذلك، يعمد أمراء الحرب في الدول الغربية على شيطنة تلك الدول المناوئة بوصفها إرهابية ومتخلفة ومعادية للحريات والقيم الغربية، وبالتالي يصبح تدمير هؤلاء البشر غير المنتمين إلى الصفوة، والأماكن التي يعيشون فيها مع جعلها غير صالحة للحياة، هو الحلقة الأقوى والأحدث في سياسة احتكار حق القتل وإنهاء الحياة.

وهكذا، فإن منهجية تدمير الحياة والمكان والتجويع وإحكام الحصار، وجعل كل شيء تحت الرقابة والسيطرة، بشكل يُعزز عمليات نزع الهوية ورفض الاعتراف بالآخر، مع تواطؤ الحكومات الغربية التي ترفع شعار الليبرالية الديمقراطية وتُعزِّز في الوقت نفسه عمليات الإبادة؛ تهدف جميعها إلى منح إسرائيل الحق المطلق في تقرير من يموت على أرض فلسطين، وما الذي ينبغي تدميره دون حدود دون حسيب أو رقيب.

يتفقد الأهالي الأضرار ويزيلون الأغراض من منازلهم في أعقاب الغارات الجوية الإسرائيلية في 13 أبريل/نيسان 2024 في خان يونس (غيتي) احتكار القتل ونفي الهوية

يخلص إمبيمبي إلى أن قوة احتكار القتل تلك -المعتمدة على سياسة التحكم في المكان والسكان- تهدف في النهاية إلى نزع الهوية المميزة عن السكان، حيث تجعلهم موضوعات للهيمنة لا حقوق لهم إلا ما تسمح به تلك السلطة؛ وهو الأمر الذي يشير إلى أن الصراع على الهوية وحقوقها هو أساس الصراع بين الشعب الفلسطيني والاحتلال العنصري الإسرائيلي.

وكان إدوارد سعيد، الأكاديمي الفلسطيني الأميركي، قد فطن إلى أن التأكيد الصهيوني على خطاب الهوية العربية للفلسطينيين دون الحديث عن هوية وطنية فلسطينية حديثة  هو جزء من نفي حقوق الشعب الفلسطيني. ولطالما طُرِحَت تلك الفكرة بالحديث عن هوية فلسطين وشعبها باعتبارها نتاج السيطرة الاستعمارية الأوروبية والأميركية ليس إلا، والقول بأن فكرة الفلسطينيين ظهرت في تلك الفترة وحدها، أما قبل ذلك فكانوا مجرد عرب. وقد استخدم الاحتلال الإسرائيلي هذا الخطاب وتعمَّدَ تجاهل العلاقة بين عناصر ومكونات تلك الهوية العربية للفلسطينيين وارتباطها الوثيق بأرض فلسطين، مثلهم مثل غيرهم من العرب الذين يمتلكون هوية وطنية جامعة ولها خصوصية تربطهم في مساحة جغرافية مُعيَّنة في الوقت نفسه.

هناك فرق إذن بين الانتماء الحضاري العربي، والهوية الوطنية الفلسطينية، وهناك اتصال بينهما في الوقت نفسه، وقد أكَّد إدوارد سعيد في مؤتمر له أثناء ثمانينيات القرن الماضي أن دعم العرب لإخوانهم في فلسطين مردّه إلى إدراكهم أنّ هناك وطنية فلسطينية وشعبا فلسطينيا له الحق في أرض فلسطين، وأن هذا الإقرار يُكمِّله البُعد الحضاري العربي ولا ينفيه ولا ينبغي أن يُصبح ذريعة للتخلُّص من التكتل السكاني الفلسطيني إلى دولة عربية أخرى، كما شاع في الأسابيع الأولى للحرب الجارية حين تحدَّث بعض الساسة في الغرب عن تهجير الفلسطينيين إلى مصر.

ومن الناحية الميدانية، فإن القضية الفلسطينية كانت قبل السابع من أكتوبر شأنا عربيا إسلاميا في نظر الكثيرين، ولكنها بعد مأساة العدوان على غزة صارت شأنا إنسانيا عالميا. فقد رأينا كيف عجزت الدول العربية والإسلامية رغم مصادر قوتها عن مجرد التفاوض لأجل فتح السبيل إلى المساعدات الإنسانية العاجلة، في حين أتت أجَلُّ المواقف الشعبية والسياسية من الدول غير العربية وغير الإسلامية؛ مما يشير إلى تشكل عنصر جديد من عناصر دعم القضية الفلسطينية على مستوى العالم.

لقد تجاوز التعاطف مع غزة عالميًّا الإطار المُعتاد للجماعات اليسارية أو الشبابية المحدودة، حيث احتلت مأساة غزة والعدوان عليها مكانة غير مسبوقة في الاهتمام العالمي، ووصلت إلى قطاعات لم تكن تهتم بفلسطين في السابق، في الوقت الذي أصبحت فيه الحكومات الغربية -التي لطالما رفعت شعارات حقوق الإنسان والديمقراطية والحريات- تمارس القمع التقليدي الذي يُمارس في العالم الثالث من حيث الاعتقال والفصل من العمل والترحيل والوصم بالإرهاب ومعاداة السامية، ضد من يتظاهر لأجل فلسطين ووقف العدوان على غزة. وقد جرى ذلك على لسان كبار رجال الحكم والسياسة في الغرب، بل ونطق به بعض من يتوشحون بثياب الثقافة والفكر الحر في البلدان الغربية.

 

رفض الاعتراف بالهوية الفلسطينية والحق في القتل مقولات مكافحة إسرائيل للإرهاب الإسلامي، وضرورة تضامن الشعوب الغربية مع إسرائيل، لم تعُد تقنع الأجيال الجديدة بحق إسرائيل في تدمير غزة وشعبها (الأناضول)

مع بدء العمليات الحربية الواسعة النطاق لجيش الاحتلال الإسرائيلي، والقتل والتدمير غير المسبوقيْن في قطاع غزة، وارتفاع معدلات القتلى بطريقة كارثية خاصة في صفوف النساء والأطفال، علاوة على إحكام الحصار على القطاع ومنع دخول أي مساعدات غذائية أو طبية، وبينما تتوالى صور ومقاطع حية لمعاناة إنسانية قاسية وغير محتملة؛ وصل صوت معاناة فلسطين وأهلها إلى كل أنحاء العالم وأيقظ ضمائر قطاعات اجتماعية غربية واسعة لتكون شاهدة على الإبادة والقتل، وهو ما تجلَّى في الدعوات من أجل "إيقاف الإبادة الجماعية" و"الحرية لفلسطين" التي تبنَّاها العديد من المثقفين والساسة والمشاهير المناصرين للقضية في الغرب.

ثمة بُعد سياسي جديد يُولد بالفعل يتجاوز مجرد التضامن المؤقت مع حقوق الفلسطينيين إلى الاعتراف العالمي بالهوية الفلسطينية، وهو ما تجلَّى بوضوح في التركيز على الثقافة الفلسطينية بشكل يُميِّزها عن محيطها العربي، بالتزامن مع تبلور مواقف سياسية جديدة تضغط من أجل الاعتراف بدولة فلسطينية، وهو مطلب وطني كلاسيكي ينسجم مع حق تقرير المصير. بل إن بعض الدول الأوروبية أعلن عن نيته الاعتراف بالدولة الفلسطينية حتى بدون موافقة إسرائيل؛ مما يثبت أن الخطاب السياسي العنصري الإسرائيلي يتعرض لتآكل شديد في قواعد داعميه الشعبية والسياسية.

إن مقولات مثل "مكافحة إسرائيل للإرهاب الإسلامي"، و"ضرورة تضامن الشعوب الغربية مع إسرائيل في مواجهة التشدد والتطرف الفلسطيني"، لم تعُد تقنع الأجيال الجديدة بحق إسرائيل في تدمير غزة وشعبها، بل إن الانتهاكات التي مورست وافتُضِحت فيما بعد باسم محاربة الإرهاب منذ 11 سبتمبر/أيلول إلى يومنا هذا، صارت ماثلة في أذهان الأجيال الجديدة من الشباب في الغرب. وكان المفكر الفرنسي ميشيل فوكو قد أشار ذات مرة إلى أن مفهوم القوة يشير إلى القوة الخطابية بالأساس قبل أن تُترجَم إلى ممارسات عنيفة وجسدية، ولذا يبدو أنه قد تأكد لقوى غربية واسعة أن الصراع القائم لا علاقة له بالإرهاب، وأنه في الحقيقة نضال من أجل نيل حق الاعتراف بالهوية الفلسطينية، وحين تهاوَت تلك الشرعية الخطابية لمكافحة الإرهاب، تهاوت أيضا شرعية انتهاك الفلسطينيين التي طالما مارسها الإسرائيليون على مر العقود.

وبشكل أدق يمكن الاتفاق مع أفكار الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني أكسل هونيث على أن الاعتراف هو الأساس لتحقيق العدالة الاجتماعية والمُحدِّد لها، وكذلك هو المتطلب الرئيسي لإعادة إنتاج الهوية، بينما الإنكار هو السبب الرئيسي لغياب المساواة الاجتماعية. وهذا ما تعلنه إسرائيل وحكومتها ونخبها الدينية والسياسية والثقافية من إنكار لحقوق الشعب الفلسطيني ولهويته وحقه في أرضه، ومن ثمَّ تبني عليه رفضها قيام دولة للفلسطينيين. ويبرر الإسرائيليون رفضهم بالقول إن تأسيس دولة فلسطينية يؤدي إلى مزيد من الإرهاب، ولذا تستمر في خطاب احتكار الممارسة الواسعة لأقصى درجات القتل والتدمير والتنكيل في إطار رؤيتها بأن الفلسطينيين مُستباحون في فلسطين ولا حق لهم في أرضها، وترفض أي حديث عن الدولة الفلسطينية.

ما يحدث في غزة والضفة الغربية هو إبادة جماعية مقصودة يريد الإسرائيليون أن يجعلوا منها ممارسة شرعية (الأناضول)

إن السلام بالمفهوم الإسرائيلي هو نزع الاعتراف بالهوية والقوة والمكان من الفلسطينيين وتحويلهم إلى مجرد مشكلة إنسانية يمكن حلُّها بتوزيع مسؤوليتهم على عدد من الدول والمؤسسات الدولية، بدون أمل في دولة وطنية لهم أو حقوق سياسية كاملة، إذ عليهم أن يقبلوا استعبادهم وليس فقط استبعادهم، وإلا استباحهم جيش الاحتلال باسم محاربة الإرهاب، وامتلك الحق في قتلهم. ولا يتوقف الأمر عند رفض الاعتراف بفلسطين وشعبها؛ بل يصل إلى رفض توصيف العنف الإسرائيلي على أنه إبادة، والادعاء بأن ما يقومون به في حق الشعب الفلسطيني مجرد حرب مشروعة لمقاومة الإرهاب؛ مما يمنحهم شرعية الرد على الإرهاب، ويُبرر لهم الانتهاكات التي يقومون بها في حق الفلسطينيين.

إن ما يحدث في غزة والضفة الغربية هو إبادة جماعية مقصودة يريد الإسرائيليون أن يجعلوا منها ممارسة شرعية، وهي تتسِق مع حرصهم على إخضاع الفلسطينيين للسيطرة والضبط والموت والتنكيل طوال الوقت. وقد جاء هذا على لسان وزير التراث الإسرائيلي عميحاي إلياهو بقوله "إن على إسرائيل إيجاد طرق أشد إيلاما للفلسطينيين من الموت لتحطيم معنوياتهم ومنعهم من الوقوف من جديد"، وهو الوزير صاحب الدعوة إلى تدمير غزة بالقنبلة الذرية أو ترحيل سكانها للخارج، ومنع أي مساعدات غذائية من الوصول إليها.

ولم يحدث في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي أن وصل حد احتكار الحق في تقرير كل شيء في حياة الفلسطينيين إلى هذه الدرجة من تقنين أو حظر دخول الغذاء والمياه، ومنح أو منع حق العمل والتنقل والصحة والسكن، والتحكُّم فيمن تحق له الحياة ومن ينبغي له أن يموت. ولعل تصريح غولدا مائير، رئيسة وزراء الاحتلال السابقة، لمراسل مجلة تايم عام 1973 وقبل حرب أكتوبر حينها يكشف عن حقيقة الروح العسكرية العنيفة التي تعتبر العنف حقا مكتسبا، ولا تعترف بحقوق ومطالب الفلسطينيين أو العرب الذين اختاروا أن يواجهوا إسرائيل في يوم من الأيام؛ حيث قالت غولدا مائير حينها فيما يخُص القدس: "لن تُقسَّم هذه المدينة، لا نصف ونصف، ولا 60 و40 بالمئة، ولا 75 و25 بالمئة. لا شيء من هذا، الطريقة الوحيدة التي سنخسر بها القدس هي أن نخوض حربا ونخسرها، وإن حدث ذلك فسنخسرها كلها".

ولقد أدرك وزير الخارجية المصري السابق محمد صلاح الدين باشا منذ عام 1950 تلك الطريقة المتمثلة في احتكار حق الحياة والموت، التي ما انفكت تمارسها إسرائيل على الشعب الفلسطيني منذئذ، وهو ما ظهر في قوله: "هم (الفلسطينيون) اليوم بين أمرين كلاهما الهلاك المُحقق: إن بقوا مُشرَّدين قتلهم الجوع والمرض والبرد، وإن عادوا أو أُعيدوا إلى ديارهم قتلتهم فظائع اليهود".

في خضم استباحة الاحتلال الإسرائيلي للشعب الفلسطيني على مرأى من العالم، يفصح بعض رجال النخب الغربية الداعمة للاحتلال عن أفكارهم حول حماية إسرائيل مهما ارتكبت من فظائع، وأنه في رأيهم واجب ديني، تماما مثلما فعل ريك ألن النائب الجمهوري عندما سأل نعمت شفيق رئيسة جامعة كولومبيا في الكونغرس مستنكرا احتجاجات الطلاب في الجامعات الأميركية ومُتسائلا: "هل تريدين أن يلعن الله جامعة كولومبيا؟". وبينما يُسمَح لأعتى المتطرفين من المتدينين اليهود بتقرير تدمير وقتل الشعب الفلسطيني، يُسلَّط الضوء على مقاومة الشعب الفلسطيني بوصفها تطرُّفا. ليس احتكار القتل بنهاية الطريق إذن، بل هو باب لاحتكار القوة وتعريف الحق، وتقرير مَن مِن حقه أن يكون متطرفا أيضا.

————————————————————————

*نِكروبوليتيكس: النظرية التي يُطبِّقها الصهاينة في استباحة الفلسطينيين.

مقالات مشابهة

  • الأمم المتحدة: التهجير القسري أجبر آلاف الفلسطينيين على النزوح مجدداً من خان يونس
  • الأمم المتحدة: التهجير القسري أجبر آلاف الفلسطينيين على مغادرة خان يونس
  • أمين عام الناتو يرفض دعوات إجبار أوكرانيا على قبول مبدأ "الأرض مقابل السلام" لإنهاء الحرب
  • حماس: الاستيطان بالضفة سيصعد المقاومة والاشتباك مع الاحتلال في كافة المحاور
  • وزير "القنبلة النووية" الإسرائيلي يدعو للسيطرة على سيناء.. "الاحتلال الآن" (فيديو)
  • فلسطين والنِّكروبوليتيكس: هل يملك أحد الحق في قتلنا؟
  • وزير إسرائيلي يثير الجدل بمقترح «احتلال سيناء»
  • وزير إسرائيلي ينشر تغريدة تدعو إلى احتلال سيناء
  • وثيقة إسرائيلية مسربة تكشف مخطط تهجير الفلسطينيين قسريا من غزة إلى مصر (تفاصيل)
  • وثيقة إسرائيلية مسربة تكشف تفاصيل جديدة لمؤامرة التهجير القسري لأهالي غزة لمصر