بروفيسور/ مكي مدني الشبلي
المدير التنفيذي – مركز مأمون بحيري - الخرطوم

1. تمهيد:
أعلنت وزارة الخارجية السعودية استئناف محادثات السلام السودانية في مدينة جدة يوم 26 أكتوبر 2023 بين ممثلين عن الجيش وقوات الدعم السريع لإنهاء الحرب المستمرة بين الجانبين منذ 15 أبريل 2023 والتي أودت بحياة نحو عشرة آلاف شخص.

كما شهدت مدينة أديس أبابا خلال نفس الفترة اجتماعاً للقوى السياسية والمدنية السودانية رحب باستئناف منبر جدة التفاوضي برعاية المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأميركية ومشاركة الهيئة الحكومية للتنمية (إيقاد) والاتحاد الأفريقي. ونظراً للثقل الوطني والإقليمي والدولي الضاغط لوقف الحرب، ساد توقع باقتراب السودان من فترة انتقالية جديدة تمهد للتحول الديمقراطي المنشود.
وعليه أصبح من الضروري إطلاق حوار وطني موضوعي قبل بداية الفترة الانتقالية الجديدية يهدف للتوافق على أهداف ومهام ومدة الانتقال بما يضمن تحقيق مراميه المأمولة. وقبل انطلاق هذا الحوار يجب التأكيد على أن تعزيز فرص نجاح الانتقال القادم يستدعي التعلّم من أخطاء وخطايا تجربة الانتقال السابقة، والاستفادة من الممارسات الجيدة العالمية في التحول الممنهج والمتدرج لتحقيق التحول الديمقراطي المستدام. ذلك أن تحاشي عثرات الانتقال التي أعقبت ثورة ديسمبر يتطلب التدبر الاستقصائي في الممارسات السياسية والعسكرية من واقع النهج المتبع والأداء الفعلي وفقاً لمؤشرات الأداء الرئيسية (KPIs). حيث تشير الممارسات السابقة في السودان إلى أن الفشل في تحقيق العدالة الانتقالية، وعدم المساواة الأفقية والرأسية قد أدى إلى احتباس سياسي تجسد في تقويض التماسك الاجتماعي واحتقان ديناميكيات المظالم. ونظراً لتركها دون معالجة اقتصادية واجتماعية ومؤسسية وقانونية تخاطب جذور تلك المظالم خلال الفترة الانتقالية السابقة، فقد تم استغلال هذه الديناميكيات لتعبئة المجموعات المتظلمة حول العنف. ذلك أن اتفاقية سلام جوبا التي سعت لصنع السلام (Peacemaking)، وإلى درجة أدنى حفظه (Peacekeeping)، بيد أنها فشلت في بنائه (Peacebuilding). ويفسر ذلك إخفاق الاتفاقية في بناء السلام في إطار آلية هيكلية تتضمن مجموعة واسعة من الجهود التي تبذلها الكيانات الفاعلة المتنوعة على المستويات المجتمعية والوطنية والدولية لمعالجة الآثار المباشرة والأسباب الجذرية للصراع قبل وأثناء وبعد حدوثه.
وعليه فإن الفترة الانتقالية القادمة يجب أن تسودها آليات فاعلة لحل النزاعات بحيث تكون مدمجة في هيكل الحكم كمستودع لمعالجة أي نكوص، تماماً مثل الآليات المدمجة في جسم الإنسان السليم القادرة على توليد الأجسام المضادة (Antibodies) التي يرجح أن تغنيه عن التدخل الطبي الخارجي. ومن ثم فإن بناء السلام وتحقيق الانتعاش الاقتصادي في السودان خلال الفترة الانتقالية القادمة يتضمن نطاقاً واسعاً من الأنشطة التي كان ينبغي أن تسبق اتفاقية سلام جوبا وأيضاً تتبعها، بحيث لا يُنظر إلى أي اتفاقية سلام على أنها مجرد مرحلة زمنية أو حالة جامدة، بل بناء اجتماعي ديناميكي معزز ذاتياً.
2. التوافق على بنود العقد الاجتماعي بين الحكومة الانتقالية والشعب خلال الفترة الانتقالية:
نظراً لأن الفترة الانتقالية القادمة تتحمل أعباء إخفاقات تجربة الانتقال السابقة منذ سقوط نظام الإنقاذ في أبريل 2019، وأوزار حرب أبريل 2023، فإن عدد سنواتها ينبغي أن يحدد بفترة كافية للإيفاء بعقد اجتماعي بين الدولة والشعب يكسبها الشرعية المطلوبة. وينطوي هذا العقد الاجتماعي على مجابهة الحكومة الانتقالية القادمة لتحديات الانتقال المتراكمة التي تشمل، فيما تشمل، وقف الأعمال العدائية، ومراجعة اتفاقية سلام جوبا، والتسريح ونزع السلاح وإعادة الإدماج، وإدماج الدعم السريع وجيوش الحركات المسلحة في الجيش السوداني، وعودة اللاجئين والنازحين، وإرساء أسس الدولة الناهضة، وتحقيق الاندماج المجتمعي وإدارة العلاقات المجتمعية، وتوفير الوظائف للشباب، والتركيز على حقوق المرأة وترسيخ علاقات إقليمية ودولية ترتكز على تحقيق المكاسب المشتركة (Win-win). وكل ذلك توطئة للشروع في تحقيق الانتعاش الاقتصادي، وتهيئة البيئة الصالحة لقيام انتخابات حرة ونزيهة في إطار تحقيق الانتقال الديمقراطي المنشود.
3. الفترة الانتقالية القادمة مدتها خمس سنوات:
إن تحاشي الفشل الذي لازم الانتقال السابق وأحبط بلوغ مراميه في تحقيق السلام والانتعاش الاقتصادي، يتطلب إيفاء الحكومة الانتقالية القادمة بمسؤولياتها المضمنة في العقد الاجتماعي بتنفيذ مهام واختصاصات مؤقتة زمنياً ومحددة مكانياً لتجنيب السودان ويلات الآثار الوخيمة للصراعات الطويلة. وعليه ينبغي توافق الفاعلين المحليين والإقليميين والدوليين على فترة انتقالية رصينة تحدد مدتها بما يكفي لتنفيذ المهام المسندة المنبثقة عن العقد الاجتماعي. كما ينبغي للفترة الانتقالية القادمة استبصار أوجه القصور والثغرات في تجربة الانتقال السابقة تمهيداً لانتقال حقيقي يراعي التسلسل والتدرج في تنفيذ المهام المؤدية للحكم المدني الراسخ والتحول الديمقراطي المستدام، بعيداً عن الاشتهاء الجامح والتشاؤم المستكين. وتحقيقاً لهذه الغايات يجب ارتكاز الفترة الانتقالية القادمة على خطة استراتيجية واقعية تحدد أولويات الانتقال وتقسم المهام المسندة بشكل متناسق بين الجهات الفاعلة المحلية والإقليمية والدولية بما يضمن تحاشي الانتكاسات التي لازمت فترة الانتقال السابقة. وعليه فإن تقدير الحد الأدنى للمدى الزمني للفترة الانتقالية الضامن لتنفيذ مهامها المسندة ينبغي أن ينبني على اعتبارات فنية مجردة من الاشتهاء السياسي والنزعة العسكرية تحاشياً لمعاودة الصراع (Recurrence of Violence). ذلك أن التعجيل الرغبوي بالانتخابات بعد انفجار الصراع في أبريل 2023، والفشل في توقيتها الحصيف يؤدي لتقويض السلام وإرساء التحول الديمقراطي، ويمثل سبباً مباشراً لتجدد الإحتراب. وتمثل الفترة الكافية لبسط الأمن الشامل وتجريد الأطراف المتنافسة من السلاح بواسطة قوات حفظ السلام الوطنية/الإقليمية/الأممية شرطاً مسبقاً لإجراء انتخابات حرة ونزيهة.
وتأسيساً على طبيعة الصراع المستمر في السودان وعلى التجارب الشبيهة في الدول النامية فإن المغامرة بإجراء انتخابات في السودان قبل مرور خمس سنوات من الانتقال يمثل توسلاً (Supplication) لتجدد الصراع واستدامته. ذلك أن تحوُّل السودان الممزق بالصراع الطويل إلى ديمقراطية سلمية يتطلب استثمار قدر كبير من الوقت والمال في عملية مفتوحة تبدأ بنشر الأمن وتحقيق السلام، ثم تتدرج لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية. ونظراً لخطيئة التعجيل بالانتخابات في ظل جسامة التحديات، فالأوجب تأجيلها حتى لا تكون سبباً في تجدد الصراع. وذلك منعاً للمقاتلين السابقين، الذين تحولوا إلى سياسيين، من النكوص بإشعال الصراع برفضهم نتائج الانتخابات غير المواتية على المدى القصير، أو من خلال الحكم التعسفي الإقصائي في حالة النتائج المواتية، مما يخلق مظالم جديدة ويقود لتجدد القتال على المدى المتوسط.
ومن ناحية أخرى، يمثل توفير التمويل اللازم للانتخابات بعد الصراع الطويل العنصر الأهم لنزاهتها. ولعل القصور في ذلك يؤدي إلى انخفاض فرص نجاحها بتدني مستويات إقبال الناخبين، وارتفاع التزوير ومخالفات التصويت، ونقصان دور الأجهزة الرقابية في المراقبة والتدقيق. وتشير الإحصاءات المتوفرة إلى أن عدد الناخبين في السودان يقدر بنحو 23 مليون ناخب من مجموع السكان المقدر بحوالي 43 مليون نسمة. وتأسيساً على تجارب الدول الخارجة من الصراع فإن تكلفة الناخب الوحد، خاصة بعد حقبة الفساد الانتخابي الذي لازم حكم الإنقاذ، ودمار البنية التحتية في حرب أبريل 2023، تقدر بنحو 20 دولار للناخب الواحد. وعليه فإن المبلغ الواجب توفره لنجاح الانتخابات يقدر بنحو 575 مليون دولار.
وعلاوة على ذلك، يتطلب الشروع في إجراء الانتخابات وقف العدائيات وبسط الأمن والسلام في كافة أنحاء السودان، بما في ذلك ضم الحركتين المسلحتين بقيادة عبد العزيز الحلو وعبد الواحد نور إلى ركب السلام. وتستوجب الانتخابات إجراء الإحصاء السكاني في بيئة آمنة ومستقرة، وتوفير وتأمين الوصول لصناديق الاقتراع، وتعزيز آليات حصر الأصوات، ونشر فرق المراقبة، والتواصل مع المواطنين، وإتاحة نتائج الانتخابات على نطاق واسع لتجنب التزوير وسوء الفهم، وتعزيز برامج التوعية المدنية قبل الانتخابات وبعدها، وتواصل الحوار بين المواطنين وممثليهم السياسيين على المستويات القومية والولائية والمحلية.
ومن جانب آخر، يستوجب إجراء انتخابات حرة ونزيهة تهيئة الأحزاب للتنافس الحر لنيل ثقة الناخبين. وبالنظر إلى أوضاع الأحزاب المتوقع مشاركتها في الانتخابات فإنها تنقسم أثناء الانتقال إلى ثلاث فئات: 1) الأحزاب السياسية التي كانت موجودة قبل ثورة ديسمبر (أحزاب جناحي قوى الحرية والتغيير التي يواجهها تحدي المساءلة حول أدائها أمام عضويتها وناخبيها)، 2) الأحزاب السياسية التي تتأسس خلال الانتقال (لجان المقاومة التي تواجه تحدي التحول من كيان احتجاجي لكيان سياسي). 3) الأحزاب السياسية التي تنبثق من الفصائل المتحاربة السابقة (الدعم السريع ومكونات الجبهة الثورية والحركات المسلحة الأخرى التي تواجه تحدي الموارد والخبرة وعدم تكافؤ الفرص السياسية التي يواجهونها). وحتى تبلغ هذه الأحزاب النضج السياسي المطلوب لتحاشي إخفاقات الانتقال منذ سقوط الإنقاذ، يتعين إخضاعها لدورات متخصصة لبناء القدرات لتمكينها من مواجهة التحديات التي تسبق وتعقب الانتخابات. وبالنظر إلى طبيعة الصراعات الدامية التي وصمت العلاقات بين تلك الكيانات خلال الفترة الانتقالية السابقة فإن التعجيل بالزج بها في انتخابات قبل انقضاء خمس سنوات يشكل مغامرة وخيمة العواقب.

melshibly@hotmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: العقد الاجتماعی السیاسیة التی اتفاقیة سلام فی السودان خمس سنوات أبریل 2023 ذلک أن

إقرأ أيضاً:

حكاية 45 سنة سينما.. "القاهرة السينمائي" أسسه أربعة فنانين وصحفي

ساعات قليلة تفصلنا عن انطلاق الدورة الـ 45 لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي ، والذى يعد من أعرق وأهم المهرجانات فى العالم.

مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، هو  الوحيد في منطقة الشرق الأوسط و أفريقيا الذي يحمل الصفة الدولية فئة "أ".

انطلقت فكرة إنشاء مهرجان القاهرة السينمائي الدولي من الكاتب  الصحفي الراحل كمال الملاخ رئيس جمعية كتاب ونقاد السينما عام  1976 ، وقد تولي لمدة 7 سنوات رئاسة المهرجان .

وبعد 7 سنوات كمال الملاح تؤلي المخرج كمال الشيخ  ولكنه لم يستمر سوى دورة واحدة فقط.

تولي بعد ذلك  إدارة المهرجان  المؤلف المسرحى والسيناريست ونقيب السينمائيين وقتها سعد الدين وهبة، حيث كان العصر الذهبي للمهرجان وأستمر لسنوات، ثم أسندت  وزارة الثقافة رئاسة المهرجان إلى الفنان حسين فهمى والذى أستمر لمدة  4 سنوات في الفترة من 1989 إلى 2001 ثم قررت  وزارة الثقافة إسناد المهمة إلى الإعلامي شريف الشوباشي والذى تولى في الفترة من2002 إلى 2005.

7 أفلام دفعة واحدة.. سيطرة نسائية على المشاركة المصرية بمهرجان القاهرة بعد إعلان تكريمه بالقاهرة السينمائي.. 7 معلومات رقمية عن يسري نصر الله


وفى عام 2006 تؤلي  رئاسة المهرجان الفنان عزت أبو عوف لـ 7 دورات في الفترة من  الي 2012 واستطاع أن يضيف جديدا للمهرجان والذى شهد حضور عدد من النجوم العالميين أيضا ولعل من أبرزهم ريتشارد جير ولوسي لو وسلمى حايك ، ثم جاء لرئاسة المهرجان الكاتب الصحفي سمير فريد الذي تولى دورة واحدة عام 2014 وذلك بعد أن قررت الوزارة إلغاء الدورة 2013 بسبب الظروف السياسية التي كانت تمر بها البلاد في هذه الفترة وبعد مراسلة أكاديمية العلوم والفنون. 


وتولت بعد ذلك رئاسة المهرجان الكاتبة الصحفية ماجدة واصف لمدة 3 دورات في الفترة من 2015 إلى 2017 وشهدت دوراتها حالة من الجدل ،  حتى قررت وزارة الثقافة أن تختار المنتج محمد حفظي الذى تولى المهرجان واستطاع أن يعيد مكانة المهرجان مرة أخرى وسط منافسة قوية بين المهرجانات العالمية والعربية ، ليعود العام الماضي الفنان حسين فهمي لرئاسة المهرجان من جديد . 

مهرجان قام على أكتاف الفنانين فقد شارك في تأسيسه عدد من الفنانين منهم الفنانة سمير صبري ، نجوى فؤاد ، عبد الحليم حافظ ، الفنانة ووردة، حيث  شارك كل منهم بما تيسر له من إمكانيات.

فعلي سبيل المثال نجحت الفنانة نجوي فؤاد فى إقناع زوجها، والذي كان مديرا لأحد أهم الفنادق فى مصر  بتوفير 50 غرفة مجانية لنجوم المهرجان العالميين.

وظلت   نجوى فؤاد  وسمير صبري يدعمان المهرجان ماديًا لمدة وصلت إلى أربع سنوات إلى أن انتقل المهرجان إلى سعد الدين وهبة.

مقالات مشابهة

  • ما يخيف في الانتقال السلس!
  • توترات على مدار سنوات|ماذا دار في لقاء بين ترامب وبايدن ؟
  • مصير انتقال أحمد قندوسي إلى الزمالك مجانا
  • مسودة بريطانية لمشروع قرار لمجلس الأمن بشأن السودان
  • حظوظ أحمد زيزو الفلكية في عامه الأخير مع الزمالك.. لا تجدد في هذه الفترة
  • حكاية 45 سنة سينما.. "القاهرة السينمائي" أسسه أربعة فنانين وصحفي
  • أنيس بن ميم: الجزيري جدد للزمالك موسمين.. ورفض كل العروض التي تلقاها مؤخرا
  • محامي الجزيري: اللاعب جدد للزمالك موسمين.. ورفض كل العروض التي تلقاها مؤخرا
  • بريطانيا تقترح مشروع قرار على مجلس الأمن لوقف القتال في السودان
  • نقص المياه والكهرباء.. أزمات تحاصر المدنيين في الخرطوم وأم درمان