الكتاب الأسود وإدمان الوظيفة: أكثر ما أفسد حجج الكتاب أنه ثمرة خصومة القصر والمنشية الشمالية (2/2)
تاريخ النشر: 5th, November 2023 GMT
في مناسبة بلوغ نقد دولة 56 حد حصارها بالسلاح في يومنا أعيد نشر كلمة لي عائدة إلى نحو 2016 نقدت فيها نهج "الكتاب الأسود"، الصادر عن حاضنة دارفورية ومؤتمر شعبي. ورأيت منه سقف متعلمي دارفور الحديثين (البرجوازية الصغيرة) في نقد هذه الدولة الذي اقتصر على الرغبة في الوظيفة في الدولة وكأن في ذلك وحده نهضة دارفور.
ومن ذلك أنني وجدت توزيع الكتاب لأفراد الطبقة التي تمكنت من الوظائف في دولة 56 عشوائياً. فقالو إن عبد الباسط سبدرات شمالي وهو من القطينة على النيل الأبيض بينما قالوا إن المتعافي أوسطي وهو من الدويم. فلماذا إرجاع سبدرات للشمالية وهو من النيل الأبيض بينما لم يرجعوا بالمتعافي إلى أصوله في جعليين الشمالية. وصار أبو القاسم محمد إبراهيم في الكتاب أوسطي بينما عاش أهله لأجيال في بري والهاشماب بأم درمان بينما أصلهم لو بحثت عنه فهو في كمير ود هاشم بدار الجعليين. وقال الكتاب بأن غازي العتباني أوسطي بينما هو عاصمي لأهله أحياء معروفة باسمهم مثل تلك التي في أم درمان وبحري.
وتوقفت عند صفة الآتي أسماؤهم:
عمر طه ابو سمرة شمالية
بدور ابو عفان شمالية
حسن جحا شمالية
كمال علي محمد شمالية
بدرية سليمان شمالية
سعاد الفاتح شمالية
إبراهيم أحمد عمر شمالية
صلاح محمد محمد صالح شمالية
على عثمان شكالي البشير شمالية
فأين هم من منشأهم في العاصمة؟
يشير الكتاب إلى فترات استثنائية حظي الغرب فيها بميزات جاه. من ذلك قوله إن فترة السبعينات قاربت في التنمية العادلة للقطر بعد تباعدها منذ عهد الاستعمار. ثم اختلف الأمر في العقود التالية التي تركزت فيا الخدمات في الشمال والأوسط:
من يزعم بما سبق سيصعب عليه الإجابة على ما يلي:
1-كيف تنازلت الفئة المهيمنة من امتياز قصر التنمية على أهلها في الشمالية وقادت، وهي ما تزال في دست الحكم، تصحيحاً مقاربة منها للقسط؟ هل من عادة طبقة متنفذة شديدة التحيز أن تنقلب على نفسها وتعدل بدون سبب معلوم؟
2-ما الذي جعل الأوسط يحظى بالخدمات الموصوفة وهو الخاسر في ميزان السلطة كما رأينا؟ بل هو الأخسر من الغرب أحياناً. (قالوا في جزء المقال الأول أن نصيب الإقليم الأوسط، وهو من الشمال، كان أقل من الغرب في دولة الديمقراطية الثانية. ومن جهة أخرى مثّل الغرب 3 أعضاء بمجلس انقلاب الإنقاذ بينما لم ينجح أحد من الأوسط).
مما يعيب منهج الكتاب في تحليل طبيعة السلطان الذي ظلمهم بالنظر إلى العرق (وفي العرق قبائل عن قبائل) أنه لم يتوقف عن طبيعة القوى الحاكمة فيما دون المركز. فأشتكى من ضرب من التهميش في القضارف من غير أن يتوقف إن كان سببه طبقة المركز الحاكمة من شايقية ودناقلة وجعليين أم طبقة القضارف الحاكمة التي لا نعلم عنها شئياً؟ أم أنه تحالف لهذه الجماعات في المركز والولايات؟
ولعل أكثر ما أفسد حجج الكتاب أنه ثمرة خصومة الإسلاميين المعروفة. وهي خصومة خسر فيها قطاع من الشماليين المتنفذين من شيعة الترابي وفاز الآخرون. فألقى الكتاب المعاذير لشيعة الترابي التي انتمى إليها من كانوا وراء الكتاب بدلاً عن التوقف عند هذا الانقسام ومحاكمة الطبقة الحاكمة الشمالية، ومنها الترابي، التي قال إن مقاليد الأمور ظلت في يدها بشكل سرمدي. فلم يحاكم الكتاب المشروع الإسلامي لهذه الطبقة الحاكمة فحسب، بل استنكر أيضاً عدم إحسان الطبقة الشمالية الحاكمة إليه. فقال إن ما سبق الإنقاذ من حكومات نأت عن الإسلام في صورتها لحكم السودان. والتزمت الإنقاذ بذلك. وكان من شأن استصحاب تطبيق الإنقاذ للحكم الإسلامي (مهما كان الرأي فيه) أن ينقلنا من حكم الجعليين والدناقلة والشايقية وهي نقلة من القبائلية إلى العقدية. وصح هنا السؤال حيال مثل هذا القول هو: هل أفسد الشماليون الحكم بغريزتهم المهيمنة العرقية أم لأنهم طرف في مشروع إسلامي غير موفق؟ فإذا كان الشماليون هم نفس الوحش القديم (العرقي المهيمن) فما جدوى معالجة قصورهم على ضوء الحاكمية لله كما فعل الكتاب؟
ولم ينجح الكتاب في التمييز بين عرق الطبقة الشمالية الحاكمة ومشروعها الإسلامي. فنجده إما صمت عن هذه الإثارة أو مال إلى الترابيين. فنعى على خصوم الترابي كيدهم لإبراهيم السنوسي والشفيع محمد أحمد وحسن حمدين ود. على الحاج من أبناء الغرب. وكأنهم بهذه الصفة براء من المؤاخذة على فعائل الإنقاذ.
ولما لم ينظر الكتاب في سداد المشروع الاسلامي عاد يزكيه خالياً ممن غلبوا شيخهم الترابي. فالحل لاختلال الحظوظ بين أقاليم السودان، في رأي الكتاب، مناط بتأصيلية الحكم مما اتفق للترابي وحركته بعد أن أغلقت الإنقاذ الباب في وجههم. وعناصر هذا التأصيل جاءت في فصل من الكتاب يبدو أنه نصيب وضاعه من الترويج لشيخهم الترابي. فركائز الحكم الإسلامي التي ينبغي استعادتها حسب الكتاب الأسود هي:
إعمار الأرض، الحرية، إشاعة العدل، الشورى، الحكم رسالياً.
وقال الكتاب إن تمحور السياسة على محوريّ الطائفية (ختمية وأنصار) غذى تهميش الغرب وغيره. وأشار إلى ظاهرة تصدير النواب. فنظام عبود مثلاً ختمي ولذا لم يكن فيه تمثيل للغرب. فركز على الشمالية ولم تتعد مساهمته في دارفور عن مدرستين مهنيتين وثانوية بالأبيض. وتعييب الطائفية هنا في غير موضعه. فالكتاب نفسه يعتقد أن من أميز الفترات التي وجد الغرب فيه حظه من بعض السلطة كان على عهد الديمقراطية الثالثة للصادق المهدي. والسبب غير عصي. فقد نال الغرب تلك الميزة بفضل الولاء الطائفي للأنصار.
ومن صور عشوائية الكتاب نقدهم لقلة الإخصائيين بدارفور. وهذه مسألة علاقتها بهيمنة جماعة عرقية ما سطحية ولا تنفذ إلى جذرها. فالأخصائيون "متمردون" على وزارة الصحة لا يريدون مفارقة جنان الخرطوم ومستوصفاتها حتى لو نقلتهم إلى المتمة المحروسة.
من جهة هموم دارفور الأكابر، الشعب، نقد الكتاب محقاً إهمال الزراعة المطرية (السمسم، الصمغ، الكركدي، الفول السوداني) أو التقليدية لدعم الزراعة المروية. ونسب الإهمال إلى جريهم وراء توطين القمح في الشمالية هرباً من الجزيرة نفسها.
كما نقد محقاً تصفية وحدات القطاع المطري الآلية في ولايات الهامش مثل مشروع جبل مرة وغرب السافنا. ولم يذكر مع ذلك تصفية مشروعات الشمالية (بل قال إنها لم تحدث) التي أدارت عداً كبيراً من مشروعات الشمالية كالقرير والعالياب وغيرها.
ولكن الكتاب كل ما ذكر قضية من الأكابر عاد يتحدث عن بؤس نصيب صفوة دارفور في وظائف المؤسسات التي تدير قمم الاقتصاد: البنوك، الزكاة (وصراع الشايقية والجعليين والدناقلة) ولجنة تقسيم الموارد القومية.
الكتاب الأسود في رأيي هو صورة برجوازية دارفور لإشكالية الهامش والمركز تمثلت في "جوع" للوظيفة العامة والديوانية. ومر بنا هذا من قبل عقود على عهدنا الأول بالسودنة. تماسك فيه الشماليون الحزز حول سقطها. ورأيناها في الجنوبيين بعد اتفاقية أديس أبابا في 1972 التي كرهها العقيد قرنق لسباق الوظيفة فيها. وهكذا: فسقف صورة البرجوازية الصغيرة للوطن هو الوظيفة العامة التي رأينا كيف دبجوها بالامتيازات والسيارات والتأمين الصحي الخارجي والسفر في إجازات مدفوعة والحادات والحادات. وتعاركوا حولها عراكاً قصرت به قاماتهم حتى أمام أنفسهم. فلا برجوازية المركز الصغيرة ولا الهامش تلقي بالاً للكادحين إلا مكاء وتصدية.
IbrahimA@missouri.edu
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الکتاب الأسود وهو من
إقرأ أيضاً:
"دولة الأغنياء على أنقاض الفقراء"
علي بن سالم كفيتان
أرسلَ لي أحد الإخوة الأعزاء نسخة إلكترونية من كتاب "النباهة والاستحمار" للمُفكِّر الإيراني الدكتور علي شريعتي، وفي الحقيقة أنها كانت محاضرة ألقاها هذا المفكر الكبير في قاعة أرشاد بالعاصمة الإيرانية طهران، وتحوَّلت لاحقًا إلى كتابٍ، وتُرجِمَ إلى عدة لغات منها العربية؛ لما حوته من أفكار عميقة عن استخلاف الإنسان في الأرض.
ولا أخفيكم أنني لم أستطع النوم تلك الليلة، حتى أتممت الكتاب، لما شدني فيه من قراءات غير معهودة لدينا كعرب ومسلمين، لواقع الغرب، من منطلق صراع البشر الأزلي، وتدافع الحضارات، وفرض أنماط حياة لتقييد العقل الإنساني وفق مُحددات تقوم على الاستهلاك وتعظيم سُلطة المال. وهذا بدوره يؤسِّس لما أشار إليه المؤلف بتأسيس دولة الأغنياء على أنقاض الفقراء، وهذا ما نراه اليوم قائمًا في عالمنا، في ظل توحُّش سُلطة المال وقضمها للساسة عبر إدخال الحكومات في دهاليز المال، والنظر إلى العالم من ثقب تساؤل: كم تملك.. كم تسوى؟!
إن انسياق الأنظمة المُعتدلة التي حافظت على ثباتها لعقود وهرولتها خلف هذا المنعطف الخطير يسوقها إلى الزوال- كما يشير شريعتي- إذ يرى أن استخلاف الإنسان في الأرض يتجرَّد من النظرة الإقصائية البسيطة التي يقوم عليها العالم اليوم، إلى تحرير التفكير والإبداع بعيدًا عن قيود السُلطة الجشعة للمال، والتي تجعل من الإنسان نحلةً شغالة في مملكة الغرب الظالمة، في الوقت الذي تنتظر فيه الملِكَة المُتوَّجة في الخلية كل عام سباق الذكور لتلقيحها، لتموت بعدها على أعتاب تلك المملكة. يقول الكاتب: "لماذا لم تتعلم الذكور من سعيها لهلاكها كل عام؟". طبعًا الجواب حاضر، وهو أنَّ هذه هي سُنن الطبيعة ونواميس الكون في الموت والحياة والميلاد والشيخوخة، التي لا يُمكن مُناقشتها أو حتى السماح بالتفكير فيها، إلّا من واقع إطار رسم للعالم القديم لا يمكنه الخروج عنه، ومن خرج جُيِّشَت ضده الجيوش والأساطيل، ومُنع عنه صنبور المال، وفُرِضَت عليه العقوبات، وعُزل عن البشرية، حتى يتوب إلى الغرب وسلطته المُتجبِّرة. لذا بِتنا نرى كل ما هو تقليدي ومُحافِظ في حضارتنا الإسلامية ضربًا من التخلف والرجعية، بينما تجاربهم هي الأكثر إلهامًا، وحضارتهم هي الأكثر بريقًا، وإنسانهم هو الأقدر على صناعة الفارق. يقول شريعتي أيضًا: "لقد مارسوا ضدنا أبشع الحملات الدعائية لتقديمنا في ثوبٍ رثٍ وبشر متوحِّشين يجب إقصاؤهم من الكون".
ذكر شريعتي أنَّ إبقاء المُتعلِّم جاهلًا وأخرسَ وأعمى، يُعدُ خطرًا كبيرًا على النظام الذي يُشرعن هذا النوع من السلوك الإقصائي الفظ؛ فالإنسان إذا أُشبِع بالعلم لا يُعد الجوع عنده أولوية، بينما الجهل يقود في أحيان كثيرة للسعي خلف اللُقمة، من الولادة وحتى الموت. لذلك فإنَّ النافذة التي يُطل من خلالها الشباب المتعلمون في عالمنا ليست هي النافذة التي كانت قبل 50 عامًا؛ إذ إنهُم لم يأتوا من الكهوف التي حبستهم فيها أنظمة مُتجبِّرة وظالمة لقرونٍ، وهم ليسوا الثوَّار الحُفاة الذين انفجروا من شدة الطغيان ودفعوا أثمانًا باهظة ليُحدِثوا تغييرًا، وقد رحلوا قبل أن يشاهدوا نتيجته. بينما يتغنَّى اليوم من كانوا على حواف الثورة كلاجئين وهاربين ومُستسلمين وخانعين قبضوا الثمن، بأنهم هُم من قادوا التغيير وصنعوا الفارق. ولا شك ان الجيل الجديد يمثل نُسخة مُحدَّثة سيصعب التعامل معها عندما تنفجر، ومهما مجَّدنا أجدادنا الحُفاة وقدرتهم على الصمود والقفز في النار، فإن الأجيال الحالية مُتحفِّزة وتفهَم كل ما يجري حولها من "استحمار الأنظمة" كما يقول شريعتي.
يرى علي شريعتي أن المجتمعات التي تُريد أن تختار مستقبلها، أمامها طريقان؛ الأول: طريق الرسمالية والقدرة والصنعة الغربية، والثاني: طريق الفكر والعقيدة. ويتساءل: ماذا عمل بنا الغرب نحن المسلمين نحن الشرقيين؟ لقد احتقر ديننا وأدبنا وفكرنا وماضينا وتاريخنا وأصالتنا، واستصغر كل شيء لنا، إلى الدرجة التي أصبحنا فيه نحن نهزأ بأنفسنا!! أما الغربيون فقد فضَّلوا أنفسهم وأعزوها ورفعوها، ثم بدأنا نقلدهم في كل الأطوار والحركات والسكنات والمناسبات، فصرنا نُمجِّد لُغتهم ونتفاخر بشهاداتنا القادمة ونفتخر بتعلُّم أبنائنا في دولهم وإجادتهم للُغاتهم في مُقابل نسيان اللغة العربية، وتراجع قِيَمهم الدينية والاجتماعية.
وفي المقابل، نرى أنَّ هناك المُتمسِّكون بطريق الفكر والعقيدة، وهُم قِلة في عالمنا، وهؤلاء يُصنِّفهم الغرب والسَّاسة التابعون لهم بالخطر الداهم؛ حيث نراهم اليوم ينبعثون من تحت الأنقاض في غزة بكامل عتادهم غير آبهين بالفَقْد في سبيل العقيدة، وهم من يُلهم ملايين الشباب المسلم في العالم اليوم، ويؤسِّس لعالم إسلامي قادم للواجهة برِداءٍ مُختلف، فهل ستعي الأنظمة ذلك أما ستمارس أسلوب الاستحمار؟!
رابط مختصر