القوى الديمقراطية ومعضلة الجيش
تاريخ النشر: 5th, November 2023 GMT
هذه المقالة هي الثالثة في سلسلة مقالات تحاول المساهمة في صياغة خطاب سياسي يرجح كفة السلام المستدام في السودان، المقالة الاولى كانت بعنوان "العلاقة بين الديمقراطيين والاسلاميين.. حرب وجودية ام تفاوض على شروط التعايش السلمي"، والثانية "القوى الديمقراطية ومعضلة الدعم السريع"، والهدف الرئيس هو استكشاف "معادلة كسبية" تقنع أطراف الحرب الحالية (الحركة الاسلامية والجيش والدعم السريع) بخيار إيقاف الحرب وبناء السلام ومن ثم تأسيس فترة انتقالية ناجحة للحكم المدني الديمقراطي، وتصميم مثل هذه المعادلة يستوجب توليد إرادة ذاتية منحازة للسلام داخل هذه المؤسسات وحواضنها الاجتماعية، كضغط إضافي على قياداتها الى جانب ضغوط الميدان العسكري وداينمياته والضغوط الدولية والرغبة الشعبية الجارفة في لجم وحش الحرب والتخلص من ويلاتها.
ليست حرب الجيش!
الجيش السوداني من الناحية الموضوعية صاحب مصلحة راجحة في إيقاف الحرب، لأنها فُرضت عليه بسبب سيطرة الاسلامويين على مفاصله القيادية، وقد كشفت الحرب ان مشكلة الجيش لا تنحصر في عدم توازنه القومي وفي التسييس فحسب، بل فقد الجيش احترافيته وقدراته القتالية بسبب الاعتماد على المليشيات في خوض المعارك، بما فيها الحرب الحالية التي يخوضها عبر مليشيات اسلاموية كالبراء ابن مالك وغيرها ،فهو يحارب "جنجويد الحاضر بجنجويد المستقبل!!" وبسبب الفساد في اوساط القيادات الذي ادى لتبديد الميزانيات الضخمة على مصالح نخبة عسكرية متنفذة، فيما تم التوقف عن التجنيد لصالح الجيش، وكذلك إهمال تسليح وتدريب الجنود وتحسين شروط خدمتهم إذ ان جندي الجيش هو أكثر من يعاني الفقر والمسغبة، انخفاض الروح المعنوية وضعف الارادة القتالية لأسباب متراكمة أهمها: ان غالبية الجنود ينحدرون من اقاليم مهمشة كانت هي مسرح حروب الجيش لعقود، وبالتالي فان الجندية في الجيش هي مجرد وظيفة اضطرارية للفقراء يؤدونها بذات الكيفية التي يؤدي بها موظف الخدمة المدنية المعطوبة عمله! أي بطريقة فاقدة للروح المعنوية العالية ولإحساس المسؤولية وملكية المؤسسة! وهذا هو سبب خسران الجيش لاي معركة في هذه الحرب والتقدم الكاسح الذي نراه لقوات الدعم السريع على الأرض.
ليس امام الجيش من خيار لصالح الوطن الا قبول الحل التفاوضي وصولا لإيقاف هذه الحرب المهزلة، والتسليم بفكرة الجيش المهني الوطني الواحد، ومن شروط ذلك تحرير الجيش من سيطرة الاسلاميين، بل وتحرير الاسلاميين لأنفسهم بأنفسهم من فكرة حكم السودان بالقوة العسكرية! تلك الفكرة التي اوردتهم موارد الهلاك في هذه الحرب التي فقدوا فيها قتلى بالالاف ولم يكسبوا منها سوى غضب ولعنات الشعب السوداني الذي واجههم بثورة سلمية فعاقبوه عليها بحرب مدمرة شردته وعذبته وأعادت البلاد عقودا الى الوراء.
ما معنى ان الجيش جيش الكيزان؟
مؤكد هذه العبارة لا تعني ان كل ضباط وجنود الجيش كيزان، ولكنها تعني احتلال الكيزان لمواقع القيادة وصنع القرار في الجيش وسيطرتهم على موارده واستخباراته ومن ثم خضوعه لإرادتهم، الأمر الذي يجعله في كل المحكات الوطنية الاستراتيجية يأتمر بأمر الكيزان ويدير ظهره للشعب! ولا ادل على ذلك من إغلاقه لبواباته في وجه الثوار الذين لاذوا به صبيحة فض اعتصام القيادة العامة واتخاذه لوضعية المتفرج على مواطنين عزل يذبحون في حرم قيادته العامة ونساء يتم اغتصابهن وجثث تلقى في النيل مربوطة بالحجارة! وهنا لا فائدة من الحديث عن وجود شرفاء ووطنيين في الجيش، فلو كان لمثل هؤلاء الشرفاء الوطنيين وجودا داخل الجيش فهو وجود عديم الجدوى ولا فائدة منه ولا تأثير له في مجريات الأحداث الى حين إشعار آخر! لم يحركوا ساكنا ازاء مجزرة فض الاعتصام وما سبقها من مجازر للمدنيين في الجنوب ودارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، ولم يحركوا ساكنا عندما حدد الكيزان ساعة الصفر لحرب الخامس عشر من أبريل وفرضوها فرضا على الجيش وعلى الشعب السوداني، لم يحركوا ساكنا عندما احتكرت ابواق الدعاية الحربية الكيزانية لسان الجيش وعارضت أي توجه للحل التفاوضي رغم ان مصلحة الجيش كمؤسسة كانت تقتضي الانحياز لإيقاف الحرب التي لم يكن مستعدا لها ولن يخرج منها الا بوصمة انه اول جيش في المنطقة يقصف عاصمة بلاده بالطيران ويسوي منشآتها الحيوية بالارض في حرب بين ابناء الوطن الواحد، اما وصمة العار الكبرى فسوف تلحق به لو استمرت الحرب وقادت لانقسام الوطن مجددا كما يخطط الكيزان، شرفاء الجيش الذين نسمع عنهم ولا نراهم، أمامهم الان فرصة تاريخية للظهور! وهي هزيمة مخطط فصل دارفور الذي لن ينتج عنه دولة البحر والنهر كما تروج ابواق الكيزان بل سينتج عنه ابتلاع الشرق ومعظم الشمال وما أكثر الطامعين شمالا وشرقا!!
إن اكبر تحدي يواجه السودان اليوم هو تحدي الوحدة الوطنية، ابطال السودان اليوم من المدنيين او العسكر هم من ينجحون في الخروج بالسودان من هذه الحرب موحدا، لأن الرهان على إطالة أمد الحرب هو رهان على تقسيم البلاد وليس رهانا على هزيمة الدعم السريع الذي يبسط نفوذه الان على معظم الخرطوم وعلى دارفور بشكل شبه كامل ويحاصر الابيض ويقرع ابواب الجزيرة ونهر النيل!
الدرس الصحيح!
ما حدث في هذه الحرب يثبت ان أكثر مؤسسات الدولة السودانية حاجة لإعادة التأسيس والبناء هي الجيش السوداني، واول خطوة في هذا الاتجاه هي التسليم بضرورة تحرير الجيش من سيطرة الاسلاميين وخروجه من السياسة ومن ثم استعادة مهنيته وقوميته في اطار عملية شاملة للإصلاح الأمني والعسكري في البلاد.
بحكم تطاول الدكتاتورية العسكرية في السودان اكتسب الجيش حصانة من النقد كانت سببا في تدميره وتخلفه، حتى عن المليشيات والجيوش غير النظامية التي صنعها او حاربها، مثلا في حرب الجنوب سلمت الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة الراحل د. جون قرنق أسرى من الجيش السوداني للصليب الأحمر فيما فشل الجيش السوداني في تسليم أي اسرى لأنه ببساطة لم يكن يحتفظ بالاسرى طوال تاريخه بل يقتلهم! ولا ادري كيف يفشل جيش الدولة النظامي فيما نجحت فيه حركة متمردة في الغابة؟! اليس ذلك مؤشرا لخلل عميق يستوجب معالجات جذرية؟
ان سيطرة الاسلامويين على الجيش ادت الى تغيير كارثي في شفرة تشغيله الوطنية، فأصبحت الاستخبارات العسكرية مشغولة بصناعة الفتن العرقية والقبلية والسياسية ورعاية التنظيمات والشخصيات الانفصالية التي تنشط في تمزيق وحدة الوطن وكل ذلك لصالح سيطرة الكيزان، بدلا من يكون الشغل الشاغل لها هو رصد المخاطر على الوطن! جيش تتواطأ قيادته مع عملاء الكيزان في شرق السودان على إغلاق ميناء البلاد الرئيسي لخنق حكومة الفترة الانتقالية دونما أدنى تفكير في ان العبث بالميناء حتما سيقلل من جدواه الاقتصادية لصالح الموانئ المنافسة فيخسر السودان خسارة استراتيجية! جيش يحمي (هو والدعم السريع) تهريب الذهب عبر المطارات والموانيء!
إذا أراد الجيش فتح صفحة جديدة مع الشعب السوداني فإن الطريق الوحيد الى ذلك هو إيقاف "حرب الكيزان" هذه، ثم الكف عن عرقلة بناء السلام المستدام والتحول الديمقراطي والانخراط بجدية واخلاص في دفع استحقاقات بناء دولة مدنية ديمقراطية هي حتما تصب في مصلحة الجيش كسواد أعظم من الجنود المسحوقين وصغار الضباط المظلومين، ففي ظل هذه الدولة سيجد الجيش تدريبا وتسليحا أفضل، سيجد الفقراء من جنوده أوضاعا أفضل، لن تسفك دماؤه في معارك سياسية وقبلية، وهذا لا يعارضه الا سدنة الاستبداد وتماسيح الفساد الذين يريدون الجيش عصا غليظة في يد الكيزان لقمع ونهب الشعب السوداني.
نشر بصحيفة التغيير 4 نوفمبر 2023
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الشعب السودانی الجیش السودانی هذه الحرب
إقرأ أيضاً:
(مناوي) الذي لا يتعلم الدرس
الخطاب السياسي لمناوي هو خطاب مرتجل وعشوائي، لكنه يظل عينة مناسبة لفحص المرض، فخطاب مناوي نموذج مكشوف لمستتر مكنون خطاب السودان الجديد، وهو في حالته العارية بلا رتوش المثقفين وفي ذات الوقت بدون حس التعبئة والحشد، وسبب ذلك أن مناوي يرجو منه أن يكون خطابا سياسيا لحركته لكن الخطاب يأتي متفجرا وخطيرا، وخصوصا حين تضيف له حس الهزل والهذر عنده. أن صفة التفجر والعنف هي أصل الخطاب وحقيقته، وأظن مناوي جاهل بذلك ولكن يجب في كل الحالات أخذه بجدية.
فيما يخص مناوي نفسه فليس المقام مناسب لتحليل تام وطويل لحالته، ولكنه اختصارا عبارة عن رجل أعمال سياسي مسلح، يتحرك وفق منطق براغماتي نحو الدولة، حركته حركة عرقية تلبست لباس السودان الجديد وبذلك فهي تحالف مصالح نخبوي هدفه تحقيق العوائد من السياسة، وهذه الحالة يطول شرحها لأنها تختلف في صيغة مناوي البراغماتية عنها في صيغ الحلو وعبدالواحد، ومهما كان فصيغة مناوي قابلة للتسوية وهناك بعيدا ستجد ثوابت معقولة، وربما ارتباط أكثر بعناصر محلية. لكن في كل الحالات تظل هي ظاهرة تحالف مصالح عرقي مسلح لا يحمل أي صفة شرعية للحديث عن دارفور وتحتاج لإصلاح.
المهم بالنسبة لي هو مضمون الخطاب الذي قدمه، ولي فيه ثلاث نقاط، ثم ختام بخلاصة نهائية ونصيحة للرجل وحركته وأتباعه:
أولا: تفسير الصراع:
ثمة خلط مفاهيم كبير يحدث في عقل مناوي لأنه لا يملك فرصة للفهم، ولا يوجد من حوله من يساعده في ذلك، إن مفاهيم مثل لعبة الأمم والتدخل الخارجي واستغلال التناقضات الداخلية هي مفاهيم صحيحة، لكن من يقولها لا يمكن منطقيا أن يردد دعايات الآخرين حول وجود سياسات متعمدة عرقيا ويربطها بالشمال ضمنيا في حديثه، ولو فرضنا جدلا صحة الحديث المبتور عن زمن الإنقاذ، فما معنى ذلك سوى رغبة في ابتزاز الدولة من جديد. دعك عن أن حركة مناوي نفسها تقوم على علة قديمة، فهي حركة عرقية صرفة وارتكبت انتهاكات كثيرة أيضا بل وكانت تصنف جزء من الجنجويد أنفسهم كما أشارت الصحفية جولي فلينت في ورقتها الشهيرة، أيضا فإن اتفاق أبوجا الذي تحدث عنه مناوي ظلم عرب دارفور ومطالبته بنزع سلاح الجنجويد كانت جزء من دعاية غربية، وظفت مناوي ودعته لزيارة أمريكا ووقتها وكان هو قطعة في رقعة شطرنج أو (كلبا في لعبة الضالة) كما قال، كان مطلوبا نزع السلاح من الجميع وفهم مخاوف مجتمعات العرب هناك، وقد كان مناوي يتغاضى عن ذلك ويفكر في قسمة سريعة للسلطة والثروة فالنفظ وقتها كان وعدا بثمن غال وكان مدفوعا بمنظمات وجهات خارجية تساعده فنيا وسياسيا. إن مسألة العمالة لم يكن بعيدا عنها وهي كانت في نوع من التحالف مع مشروع غير وطني، على مناوي أن يعيد القراءة والنظر في تفسير الصراع والتواضع أكثر فمن كان بيته من زجاج لا يرمي الآخرين بحجر، وهذا الفهم سيمنحه قدرة لتشخيص الأبعاد المركبة وفهم كيف أنه قبل يوما أن يكون أداة في يد الآخرين.
ثانيا:خريطة دارفور.
خريطة دارفور التي ظهرت في خطابه أيضا تثير استفزازا كان في غير محله، ومناوي يخدم بذلك خطوطا تقسيمية خطيرة، وحتى لو فرضنا أنه ظنها مسألة خلافية فما معنى بعثها اليوم؟ في الحقيقة فإن خريطة دارفور حدودها شمالا حتى خط ١٦ عرض وتبدأ جنوبا من خط ١٠ عرض، وشرقا حدودها خط ٢٧ ثم غربا حتى خط ٢٢. وأدناه صورة من كتاب موسى المبارك عن دارفور يعود بمصدره لبحث مهم عن تاريخ دارفور للبريطاني لامبن. G.D.Lampen بعنوان تاريخ دارفور. لكن المهم أن مناوي أن مناوي يظن أنه يتحدث بذكاء حين يقول أن أهل دارفور هم وكلوه بهذا الحديث، وهذا ابتزاز وتذاكي خبيث فمناوي لم يفوضه أحد ومن المهم له أن يكون أكثر تواضعا أيضا في هذا الأمر، لا يمكن له أن يتحدث عن السودان ككل وحين يأتي لدارفور يتحدث كأنه الصوت الوحيد.
ثالثا:مراجعات مطلوبة.
ما سبق هو مناقشة لماورد في خطابه لكن القصة أكبر من ذلك، مطلوب من مناوي وحركته مراجعات أعمق كنت قد طالبتهم بها من قبل، إن مسألة تحرير السودان، والأبعاد العرقية في التفسير، وابتزاز السلطة وعدم الوعي بالمخطط الخارجي كل ذلك يمنع تحول مناوي من براغماتي ذو بوصلة وطنية إلى وطني حقيقي، فالحالة الأولى قابلة للانتكاس في أي لحظة.
الختام:
على مناوي وحركته ضبط الخطاب جيدا، ويجب أن يترك طريقة الهذر والسخرية والارتجال والعشوائية وإدعاء الخفة والمرح، ليكون مسؤولا عن أفعاله وخطابه، المسألة ليست هذرا ولعبا بل مسؤولية وجد، وعلى أعضاء حركته ألا يكونوا مجرد حراس لمصالح وموظفين برواتب أمام مديرهم التنفيدي، بل عليهم مراجعة هذا المدير التنفيذي وتطوير وعيهم بهذه الأمور.
نقول ما سبق لأننا نؤمن إيمانا قاطعا، بأن ما يوحد السودان أعظم وما يجعل المصير مشتركا أكبر بكثير وأن كل مداخل التفكيك متشابهة كيفما كانت، سواء من الشمال أو الغرب أو الشرق، فإنها ستتوسل مفاهيم مضللة في تفسير الواقع، ثم وةتغذي هذه الحالات بعضها البعض بردود فعل ومتتالية هندسية تصاعدية تفكك البلد وتخدم الغير. مناوي إذا لم يتطور فهو جزء من هذه المتتالية وفي كل الحالات فإن مجتمع دارفور ومعنى وجودها في التاريخ السوداني كل ذلك أكبر من مناوي ومن حركته.
هشام عثمان الشواني
الشواني