لماذا التركيز على مصر في دعم غزة؟
تاريخ النشر: 5th, November 2023 GMT
سؤال غريب يطرحه أنصار نظام السيسي في مواجهة التركيز الكبير على الدور المصري المطلوب لدعم غزة، وهو لماذا التركيز على مصر بالذات؟ لماذا لا توجهون حديثكم إلى تركيا أو إيران مثلا؛ اللتين تتحدثان كثيرا عن دعم غزة دون تحرك حقيقي حين جد الجد، وحدث الاجتياح؟
الإجابة بسيطة وهي أن مصر هي الأكبر، وهي الأحق بتقديم هذا الدعم بحكم رابطة العروبة والإسلام، وبحكم أنها الشقيقة الكبرى التي لا تنتظر طلبا لدعم أشقائها، وبحكم أنها الجار الجنب الذي أدار غزة بالفعل منذ العام 1949 وحتى العام 1967، وبحكم أن ما يحدث في غزة يؤثر على الأمن القومي المصري بشكل مباشر، وبحكم النسب والمصاهرة بين أهل غزة والمصريين، ويمكننا أن نعدد المزيد من الاعتبارات الأخرى.
حين نركز حديثنا على مصر فلأنها بلدنا وهي الأحق بنصحنا أو بنقدنا قبل أن ننصح أو ننقد غيرها من البلاد. ونقدنا للموقف المصري لا يعني الرضا والقبول بمواقف الآخرين خاصة من كنا نراهن عليهم مثل تركيا وإيران. لا ينكر أحد الدعم العسكري الذي قدمته إيران للمقاومة طيلة السنوات الماضية، وهو ما لم تجد المقاومة مثله من أي دولة عربية، ولا ننكر الدعم السياسي التركي والذي كان أحدثه سحب السفير، ووقف الزيارات والاتصالات، وكلمات طنانة من الرئيس أردوغان، لكن كلتا الدولتين تركتا غزة تواجه مصيرها حين اجتاحتها عصابات الاحتلال، ولم تتخذ أي من الدولتين إجراءات رادعة للعدوان.
مصر هي الأكبر، وهي الأحق بتقديم هذا الدعم بحكم رابطة العروبة والإسلام، وبحكم أنها الشقيقة الكبرى التي لا تنتظر طلبا لدعم أشقائها، وبحكم أنها الجار الجنب الذي أدار غزة بالفعل منذ العام 1949 وحتى العام 1967، وبحكم أن ما يحدث في غزة يؤثر على الأمن القومي المصري بشكل مباشر
لقد وعدت إيران بأنها ستتدخل عسكريا لو تعرضت غزة للاجتياح البري، وقد حدث الاجتياح ولو جزئيا ولم تف طهران بوعدها، كما أن أحد أذرعها المهمة (حزب الله) الذي رفع شعار وحدة الساحات، وشارك بالفعل ببعض العمليات على الحدود خلال الأيام الماضية خيّب ظن الكثيرين الذين انتظروا جديدا في كلمة أمينه العام حسن نصر الله يوم الجمعة الماضي بينما كانت القنابل تنهمر على غزة.
كما أن الرئيس أردوغان تحدث بكلمات قوية في مؤتمره الشهير في إسطنبول قبل أيام، وذهبت الكثير من التوقعات إلى أنه سيكون بداية تغيير كبير في الموقف التركي المتحفظ أو المتردد، لكنه اقتصر على سحب السفير ووقف الاتصالات، وقد تحدث عن تنظيم مؤتمر دولي للمطالبة بوقف العدوان لكنه لم ينعقد حتى الآن. وكان الأجدر بأردوغان أن يرسل وزير خارجيته أو غيره من المسئولين على رأس قافلة إغاثة، وتفقد أحياء غزة المدمرة بما فيها المستشفى التركي الذي وجهت إدارته نداءات له (أردوغان) لحمايته.
لنعد إلى الموقف المصري الممتلئ بالغموض، إذ ليس مفهوما حتى الآن الإصرار على إغلاق معبر رفح إلا للقوافل التي توافق إسرائيل على دخولها، فليس دور النظام المصري أن يكون "بوابا" على المعبر لصالح إسرائيل، هذا معبر مصري خالص، ومن واجب مصر أن تفتحه بشكل دائم لدخول شاحنات المعونات، ولتقم الأمم المتحدة ممثلة في هيئة الأونروا أو غيرها من الهيئات أو حتى بعض المنظمات المدنية مثل الصليب الأحمر بضمان هذه الشاحنات ومرافقتها حتى توزيعها على المحتاجين دون تدخل من سلطات الاحتلال.
لا شك أن الخوف من تهجير الفلسطينيين في محله، ولكن ذلك ليس مبررا لإغلاق المعبر من الجانبين، فمن الممكن إغلاقه في وجه العابرين غربا باستثناء الحالات المرضية العاجلة، ولكن إغلاق المعبر بهذه الطريقة وانتظار موافقات إسرائيل وأمريكا فيه إهانة للسيادة المصرية.
يسوق النظام عبر أذرعه الإعلامية أن المطالبين لمصر باتخاذ مواقف عملية يجرّونها جرا نحو الحرب، وأن القيادة "الحكيمة!!" تحاول تجنب هذه الحرب، وهو ادعاء سخيف لتبرير العجز، والخضوع للإرادة الإسرائيلية. فقد فتحت مصر المعبر بشكل دائم خلال حرب غزة في 2012 ولم تندلع حرب، بل قبلت السلطات الإسرائيلية الأمر، ولم تعترض قوافل الإغاثة، ناهيك عن أن أحدا لم يطالب مصر بخوض حرب "لا سمح الله" على قول أبي عبيدة، ولكن المطلوب منها مواقف عملية تشعر الكيان الإسرائيلي بخطر على علاقاته الاستراتيجية مع مصر، وهو ليس مستعدا للتفريط في هذه العلاقات التي فتحت له باب التطبيع مع العديد من الدول العربية لاحقا، ومن هذه المواقف سحب السفير المصري كما فعلتها عام 2011، وكما فعلتها عدة دول عربية ولاتينية مؤخرا، ومنها إلغاء الاتفاقيات الاقتصادية مثل تصدير الغاز واتفاقية الكويز، ووقف أشكال التطبيع الرسمي الأخرى.. إلخ.
فتحت مصر المعبر بشكل دائم خلال حرب غزة في 2012 ولم تندلع حرب، بل قبلت السلطات الإسرائيلية الأمر، ولم تعترض قوافل الإغاثة، ناهيك عن أن أحدا لم يطالب مصر بخوض حرب "لا سمح الله" على قول أبي عبيدة، ولكن المطلوب منها مواقف عملية تشعر الكيان الإسرائيلي بخطر على علاقاته الاستراتيجية مع مصر، وهو ليس مستعدا للتفريط في هذه العلاقات التي فتحت له باب التطبيع مع العديد من الدول العربية لاحقا، ومن هذه المواقف سحب السفير المصري
يمكن للسلطات المصرية أن تفتح المجال لغيرها من الهيئات الشعبية للقيام بالدور، وهنا يمكن لشيخ الأزهر أن يرأس قافلة إغاثة إلى غزة، ويقوم بتفقد أهلها، وتفقد جامعة الأزهر في غزة التي تعرضت للدمار، وبصحبته كوكبة من قوة مصر الناعمة من دعاة وفنانين وإعلاميين، يمكن لنقباء النقابات المهنية والعمالية أن يقودوا بدورهم قوافل إغاثة ويدخلوا بها إلى غزة بالتنسيق مع الأمم المتحدة أو غيرها من الجهات، وليطمئن النظام مسبقا أن هؤلاء جميعا يدركون الأخطار ويتحملونها، ولا يحملونها له.
ليس خافيا على أي عاقل أن انتصار الكيان في غزة "لا سمح الله" سيكون ضربة موجعة لمصر قبل غيرها من الدول العربية، فرغم علاقات السلام والتطبيع والتعاون الحالية إلا أن هذا الكيان يضمر كل سوء لمصر، ولم ولن ينسى لها خوضها خمس حروب ضده، وأنها كبيرة العرب التي إذا نجح في إخضاعها دانت له كل المنطقة العربية بسهولة، وستكون الخطوة التالية في حال تحقيق أهدافه في غزة هي فرض التهجير على مصر، أو فرض مساحات عازلة جديدة تقتطع من سيناء، وبالمحصلة ممارسة الهيمنة والإذلال على مصر، والعكس صحيح؛ ففي حال فشل خطته في غزة فإن ذلك سيحد من نفوذه الإقليمي، ومن غطرسته وغروره، وهو ما يمكن مصر من استعادة مكانتها الإقليمية الرائدة.
twitter.com/kotbelaraby
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه السيسي المصري غزة إسرائيل مصر السيسي إسرائيل غزة حصار مقالات مقالات مقالات سياسة اقتصاد سياسة سياسة سياسة رياضة سياسة رياضة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة سحب السفیر غیرها من على مصر فی غزة
إقرأ أيضاً:
لماذا لن يُسمح للتجربة السورية أن تنجح؟
كانت السنة 2024 مليئة بالأحزان والانتكاسات التي أصابت الأمة خصوصا من جراء ما حصل في غزة ولبنان، نتيجة الهمجية الإسرائيلية التي أخذت المنطقة إلى الجحيم، إلّا أن قدر الله تعالى أبى إلّا أن يُفرح الناس، ويعطيهم هدية كانت حلما في السابق، فقد سقط النظام السوري، في أحد عشر يوما فقط، وهو الذي يُعتبر من أشد الأنظمة الاستبدادية وأعتاها، في العصر الحديث، وفي المنطقة العربية، كونها، وللأسف، أصبحت مرتعا لكل أشكال الأنظمة السلطوية والأوليغارشية. لقد توقّف الزمن في ذاكرتنا الإنسانية والسياسية، بالأخص، في الساعة السادسة صباحا، من تاريخ 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، عندما أُعلن عن هروب بشار الأسد في إشارة إلى إعلان سقوط النظام واستسلام فلوله للقيادة الجديدة.
هذه اللحظة هي من اللحظات التاريخية التي لن تكون حبيسة التأثير في المستوى الإقليمي إنما في المشهد السياسي العالمي، فسوريا، بالمعنى الجيوسياسي والجيوبوليتيكي، هي قلب العالم القديم، فكثير من القيادات العسكرية والسياسية؛ مثل نابليون وكسينجر وغيرهما، يعتبرون أن من يسيطر على سوريا يستطيع السيطرة على المنطقة كلها، وكونها قلب العالم فهو يكون قد سيطر على العالم كما قال عالم الجغرافيا والسياسة البريطاني جون ماكندر، رغم أن هذه النظريات تقع ضمن الإطار النظري؛ ولكن في الواقع السياسي وبعيدا عن النظريات، فتغيير شكل النظام سوف تكون له تداعيات كبيرة على الأنظمة العربية وإسرائيل نفسها.
الدولة العربية التقليدية تراقب المشهد بحذر. ومن الناحية الإسرائيلية، فالحذر لم يقف عند حدود المراقبة السلبية؛ حيث قامت إسرائيل بأعمال استباقية، وضربت كل الأسلحة الاستراتيجية للجيش السوري خشية وقوعها في يد المعارضة واستخدامها، فيما بعد، ولكن ما سر ذلك الخوف والقلق؟ ولماذا لا يريدون للتجربة السورية أن تنجح؟
منذ بداية الثورة، في سنة 2011، كان العالم ينظر إلى هذه الأحداث بحذر شديد، ورغم كل التصريحات السياسية التي رفعتها القوى الغربية والعربية التي تطالب النظام بالإصلاحات وتغيير سلوكه وإشراك المعارضة في السلطة، إلّا أن أصدق التصريحات كانت الإسرائيلية التي رفضت تماما تغيير شكل النظام، وهذه التصريحات قيّدت حركت أوباما الذي اعتبر أن استخدام السلاح الكيماوي خط أحمر، وهذا التصريح يعني السماح باستخدام العنف ضد المتظاهرين دون استخدام الأسلحة الكيماوية، إلا أن النظام، رغم ذلك، كسر الخطوط الحمراء لأنه يدرك أنه لن يتحرك أحد لمحاسبته، نظريا، فالنظام سقط سنة 2013، ولكنه سقط فعليا سنة 2024، عندما سقطت الرعاية الدولية التي كانت تحميه.
اليوم، ومع سقوط النظام على حين غرّة، في 11 يوما فقط، في حدث تاريخي أربك كل القوى الإقليمية والعالمية، لم يكن لأحد أن يعتقد أن النظام هشّ ويشبه الهيكل المُفرغ من الداخل الذي سوف يتداعى عند هبوب أيّ عاصفة حقيقية، ولكن التغيرات التي طرأت في المنطقة خصوصا بعد الضربات الموجعة التي قامت بها إسرائيل ضد المليشيات الإيرانية وعلى رأسها حزب الله؛ حيث استغلت القوى المعارضة تلك الضربات والثغرات، والتقت المصالح بين الطرف الإسرائيلي والقوى المعارضة، إضافة لانشغال الروس في أوكرانيا وإعلان القوى المعارضة المعركة. وتوقيت المعركة لم يكن من فراغ إنما يعبّر، بوضوح، عن الدهاء السياسي الذي تمتعت بها القوى الثورية مؤخرا التي اكتسبتها من خلال سيرورة طويلة من النضال وتراكمات من الخبرات والنكسات التي تعرضت لها بعد سنوات عجافٍ طويلة.
كل التصريحات التي نقرأها من هنا وهناك، تُعطي انطباعا بأن المنطقة ذاهبة إلى سلام حقيقي وإلى انفتاح بعد سنوات من الانغلاق ووضع هذا الملف في درج الملفات الدولية المنسية، ولكن الظاهر لا يعكس الواقع والاجتماعات الخفية التي تدور في أروقة الأنظمة التقليدية التي تعبر عن الرعب، وترتجف من هذا الحدث الجلل وخصوصا بعد أن أعادت النظام السوري المخلوع إلى الجامعة العربية، وهذه العودة كانت تعبيرا عن دخوله مجددا إلى نادي الأنظمة السلطوية التقليدية التي لا تقبل أي نوع أو شكل من التغيير.
قد يعتبر القارئ أن هذا توصيف فيه نوع من المبالغة وعدم الواقعية، إلا أنه علينا التقاط بعض الإشارات من الدول المركزية في هذا النظام القائم وعلى رأسها الإمارات ومصر، وكل تصريحاتها وإعلاما تعبّر عن الخوف والتخوّف مما جرى وما قد يحصل مستقبلا. من يسمع تصريحات المستشار الإماراتي قرقاش والإعلامي نديم قطيش يدرك تماما كيف تفكر النخب العربية، فهذا الأخير عبّر صراحة وبوضوح أن العرب لن يقبلوا بهذا التغيير، إضافة إلى الإعلام والتصريحات داخل البيت السياسي للدولة المصرية.
عموما إن الدولة العربية التقليدية تراقب المشهد بحذر. ومن الناحية الإسرائيلية، فالحذر لم يقف عند حدود المراقبة السلبية؛ حيث قامت إسرائيل بأعمال استباقية، وضربت كل الأسلحة الاستراتيجية للجيش السوري خشية وقوعها في يد المعارضة واستخدامها، فيما بعد، ولكن ما سر ذلك الخوف والقلق؟ ولماذا لا يريدون للتجربة السورية أن تنجح؟
التجربة الديمقراطية العربية:
يعتبر الفيلسوف والرئيس الأسبق التونسي الدكتور أبو منصف المرزوقي أن فشل الديمقراطية في الدولة العربية الحديثة أدى إلى المجازر التي تحصل اليوم في غزة، وهو محق في هذا التصور، فإن فشل الديمقراطية وعدم وصول صوت الشعوب إلى مصدر القرار والسلطة قد أعاق عملية تحرير الفلسطيني من القتل والاحتلال، وهذه الإشكالية تفتح لنا بابا آخر ونافذة لفهم إشكالية الديمقراطية وربطها بسقوط النظام في سوريا.
فشل الديمقراطية في الدولة العربية الحديثة أدى إلى المجازر التي تحصل اليوم في غزة، وهو محق في هذا التصور، فإن فشل الديمقراطية وعدم وصول صوت الشعوب إلى مصدر القرار والسلطة قد أعاق عملية تحرير الفلسطيني من القتل والاحتلال، وهذه الإشكالية تفتح لنا بابا آخر ونافذة لفهم إشكالية الديمقراطية وربطها بسقوط النظام في سوريا
إن الثورات، في طبيعتها، لا تأتي اختيارا بقدر ما إنها تأتي طوعيا وإجباريا بعد أن تفشل كل السبل للتغيير الديمقراطي والسلمي، وعندما تلجأ الأنظمة السلطوية والاستبدادية إلى العنف السياسي والقتل، تضطرّ الشعوب مرغمة إلى اللجوء إلى العنف المضاد وإعلان حالة الثورة على شكل النظام. وهذا، تماما، ما حصل في سوريا، فإن المطالبة بالديمقراطية قد فشلت؛ وهي كانت محاولات قديمة جدا مع بداية وصول حزب البعث إلى سوريا وحكم الأسد الأب، ثم في زمن ربيع دمشق وصولا إلى إعلان الثورة في سوريا.
كل الأطر الديمقراطية قد صُدّت بالوحشية المفرطة؛ وتحولت البلاد إلى بركة دمٍ واسعة وفتحت الأبواب لكل القوى الإقليمية والدولية للمشاركة في سفك دماء الشعب السوري، وكل ذلك لإفشال الديمقراطية العربية. ولكن؛ وبعد أن فشلت الديمقراطية بحلتها السليمة، ها قد نجحت في حلتها الثورية وحمل السلاح، مما يفتح باب النقاش ضمن البيت المصري بالأخص بعد أن أُفشلت الديمقراطية، ولكن لماذا مصر بالتحديد؟ فبعد سقوط النظام السوري الذي يُعدّ أكبر نظام ديكتاتوري في المنطقة، أصبحت مصر أكبر ديكتاتورية وسجن في الشرق الاوسط، وهناك إشكالية ومشكلة في الوقت ذاته في آلية تطبيق الديمقراطية، رغم اختلاف السياق الثقافي والمذهبي وشكل الدولة، ولكن المشكلة هي نفسها؛ صراع بين مشروعية الحاكم وشرعيته وتوق الشعوب للحرية بكل أشكالها وغرقها في الفقر والعوز.
صعود الإسلام السياسي:
برزت حركات الإسلام السياسي، خلال الربيع العربي، وقد حققت نجاحا باهرا، في بداية الثورات، بسبب قوة تنظيمها وحضورها الثقافي والاجتماعي خصوصا في تونس ومصر. لقد وصلت جماعة الإخوان المسلمين في مصر وحركة النهضة في تونس إلى مقاليد الحكم، رغم اختلاف التجارب وأشكال الحكم والمجتمع، إلا أن الحركتين تعرضتا للثورات المضادة من قبل الدولة العميقة والقوى الخارجية.
يعتقد البعض أن المشكلة بين الدولة العربية المعاصرة وهذه الحركات هو الدين، وهو فهمٌ خاطئ للصراع، فالدين هو أحد الأدوات الضرورية التي تستخدمها الدولة العربية في مواجهة تلك الحركات على طريقة المكيافيلية، وهم يعتبرون أنفسهم الممثلين الشرعيين للدين، ولكن المشكلة الحقيقية هي الصراع على السلطة بين الطرفين، فالدولة العربية تعتمد منهج المعادلة الصفرية، وهذا ما رفعه الأسد في حربه ضد المعارضة (الأسد أو نحرق البلد). لن تسمح الدولة العربية التي لا تملك الشرعية ولا المشروعية لأي قوى، إن كانت إسلامية أو غيرها، أن تنتزع مقاليد السلطة منها، وهذه هي عين المشكلة..
منذ بداية طوفان الأقصى ونجاح العملية في بدايتها وصمود المقاومين، حتى يومنا هذا، أعطت العملية زخما قويا للجيل الشاب المنتمي إلى هذا الخط السياسي، وشجع الآخرين على الانخراط في هذا الخط، ثم لحقه طوفان الشام بقيادة إسلامية جهادية تنتمي إلى المدرسة السلفية الجهادية التي أسقطت النظام، وأخذت مقاليد السلطة. والسلفية الجهادية هي مدرسة خطيرة بالمعنى السياسي لأنها تؤمن بالتغيير السياسي عبر القتال والثورات. وقد نجح هذا النموذج بعد معركة امتدت إلى 13 سنة، في مواجهة أعتى الأنظمة الاستبدادية في العصر الحديث، ونجاح تلك التجربة أعطى دافعا لتلك الحركات الإسلامية الجهادية منها والسياسية التي تؤمن بالإصلاح والتغيير الديمقراطي؛ مثل الإخوان المسلمين العدو اللدود للأنظمة العربية.
الربيع العربي الثاني:
كانت سوريا الحائط المنيع لتمدد الثورات العربية إلى العمق العربي تحديدا إلى الخليج. لقد وصلت نيران الثورات إلى بلاد الشام، توقفت هناك، ومع إخمادها لفترة طويلة، شعر الشارع العربي بالإحباط، وتحوّل الربيع إلى خريف خصوصا مع فشل التحوّل الديمقراطي في العالم العربي، غير أن الديمقراطية تحتاج إلى سيرورة تاريخية كبيرة كي تتحقق، فالتجربة الاوروبية، وعلى وجه الخصوص البريطانية، أخذت قرابة 600 سنة من أجل الوصول إلى المسار الديمقراطي في طريقه الصحيح، لقد عاشت أوروبا المخاض في سبيل التحوّل الديمقراطي، وقد مرت في حربين عالميتين كبيرتين.
عودة إلى الربيع العربي، فبعد أن نجحت الثورة في سوريا في الإطاحة بنظام الأسد، تحركت عجلات الربيع، وتفاعلت ديناميكية التغيير، وقد أبدت الأوساط السياسية في البيت المصري التوجس من هذا الحدث، فنجاح التجربة السورية يعطي ولادة جديدة للتغيير في العقل العربي بعد أن فشلت الأنظمة فشلا أخلاقيّا مريعا في المجزرة الغزاوية. وقد مضى عام وثلاثة أشهر على المجزرة ولا زالت آلة القتل توغل في دماء الفلسطينيين، فالفشل الأخلاقي لا يمكن إصلاحه مثل الفشل السياسي أو الاقتصادي، فما بالك بالفشل الثلاثي على المستوى الأخلاقي والسياسي والاقتصادي؟ وهذه الصفات مطابقة للحالة المصرية التي فشلت في كل المسائل، فسياسيا أصبحت مصر دولة هامشية بعد أن كانت دولة ركيزة ورائدة في المنطقة، وخسرت في ملف سدّ النهضة والملف الليبي والفلسطيني، واقتصاديا غرقت في الديون حتى أذنيها، أما أخلاقيا، فغزة شاهد حيّ على هذا السقوط المريع، فهل يعقل لمصر أن تكون دولة وسيطة بين الفلسطيني وبين الإسرائيلي؟
الفشل الأخلاقي لا يمكن إصلاحه مثل الفشل السياسي أو الاقتصادي، فما بالك بالفشل الثلاثي على المستوى الأخلاقي والسياسي والاقتصادي؟ وهذه الصفات مطابقة للحالة المصرية التي فشلت في كل المسائل
كل تلك الإشارات والمؤشرات والأحداث الجلل، سوف تنزلق إلى الأمكنة الأكثر رخوة في خاصرة الأنظمة العربية، وسوف تحدث تغييرا هائلا في المشهد السياسي في المنطقة.
الخطر على الدولة الإسرائيلية
كلنا نعرف أن إسرائيل كانت الأكثر صراحة بين الدول التي صرحت علانية أنها لا تقبل بسقوط النظام الذي لم يشكل أي تهديد لها، منذ وصوله إلى الحكم، فهذا النظام كان الأكثر عداوة للحركات الفلسطينية وعلى رأسها فتح بقيادة أبو عمار، فحكاية الكره والعداوة بين الرجلين لا يمكن وصفها، مما انعكس سلبا على المقاومة الفلسطينية، وما لم تستطع إسرائيل فِعله فَعله النظام مع المقاومة الفلسطينية.
أما اليوم، فإن وصول القوى الإسلامية إلى السلطة في سوريا، يُعتبر خطرا استراتيجيا ضد الكيان الإسرائيلي، فهذه القوى ذات أصول سلفية جهادية تعتبر إسرائيل عدوّا في صلب عقيدتها؛ ولا يمكن الجدل في هذه المسألة، والقضية الفلسطينية هي في صلب فكرها السياسي والأيديولوجي. فالصراع بين إيران وتوابعها في المنطقة مع إسرائيل هو صراع نفوذ لا أكثر ولا أقل، أما الصراع مع هذه الجماعات فهو صراع وجود، ورغم الأسلوب البراغماتي الذي تتبعه السلطة الجديدة في خطابها السياسي والتسامح والانفتاح والرسائل التي بعثتها للخارج، إلا أن هذا لا ينطلي على الدولة العميقة والسياسية لإسرائيل، فالحركات الإسلامية بالنسبة إليها خطر شديد لأنها نشأت لمكافحة التغريب والاستعمار وقوى الاحتلال. فالبنى التحتية للعقيدة السياسية لتلك القوى في صلبها معاداة إسرائيل، ولم تستطع الدولة العربية المعاصرة أن تدجن هذه القوى، ولم تستطع أن تزيلها من حضورها الاجتماعي، لذلك، تعتبر إسرائيل ما حصل في سوريا خطيرا بالمعنى الوجودي؛ وقد تحركت، في الأيام الأولى لسقوط النظام، وضربت كل الأسلحة الاستراتيجية.