المثقفون العرب والحرب على غزة.. استفاقة في الوقت المناسب
تاريخ النشر: 5th, November 2023 GMT
ليست الثقافةُ قلادةَ زينة، ولا كلماتٍ ملونةً، وعبارات غارقة في المجاز الذي يلفت الانتباه لذاته، إنّما هي حفر عميق عن الحُرية، والحقيقة، والجمال، والعدل، والاستقامة حتى الينابيع البعيدة، دون كلل ولا ملل، أو هي جدار يصُدّ عن المجتمع رياحًا سامّة، تريد أن تسكن الرؤوس فتجبرها على الخمود والجمود والقعود. إنّها صرخة ضد البلادة، والقهر، والإكراه، والقبح، والتفاوت، والتظالم، والقسوة، والإفقار، والإذلال، وهي قارب نجاة يجب أن يبحر براكبيه نحو عالم أفضلَ.
إنَّ المثقّف- في بلاد لا تزال تعاني نقصًا في الحريّة، والعدل، والتقدم، أو تلك التي ترسُف في أغلال الاحتلال أو الاستبداد- عليه واجب التمرّد على الاستعباد، ورفض ما هو سائد ومتاح ومقدّر من قِبل أي قوَّة تشدّ عربة الناس إلى الوراء. ومَن يكتفِ بين المثقّفين بالقول البارد، والكتابة المحايدة، المجرّدة من المعنى، والساعية إلى التغيير، فهو كمن يترك النارَ تشتعل في البيت، ثم ينشغل بمطاردة الفئران الهاربة من اللهب.
لهذا، لم يكن من الطبيعي والمستساغ والهيّن أن يقف مثقّفو العرب صامتين، حيال العدوان الإسرائيليّ الوحشي على قطاع غزّة، والذي تردّى إلى أن يصير "إبادة جماعية" بكل ما تعرفه أشكالها من أفعال وتدابير، ومن عبارات وصور وحكايات مسكونة بالدم والنار والألم، علاوة على تاريخ طويل من "الفصل العنصريّ".
مقاومة مشروعةألفا مثقّف وقّعوا بيانًا- قاطع العبارات، وواضح المطالب، وجليّ المسارات- يدينون فيه العدوان، ويدعمون فيه أهل غزة، ويرفضون وصم الفلسطينيين- الذين يكافحون ويناضلون من أجل تقرير مصيرهم- بالإرهاب، بل أعطوا أفعالهم الاسم الحقيقيّ، الذي يليق بها، ويقرّه تاريخ الصراع، والأحكام العقليّة الراجحة، وما تجود به الضمائر الحيّة، وما ينصّ عليه القانون الدولي، وهي أنّها "مقاومة مشروعة" لها الحقّ الذي "كفلته كل شريعة وأقرّه كلّ قانون واطمأنّ به كلّ عُرف"، ولذا يجب احتضانها، ومساندتها حتى تحقّق أهدافها الكبرى.
في المقابل وصف البيانُ إسرائيل بأنّها تمثّل "طلائع الاستعمار والفاشية والعنصرية"، وأنّها "تكره البراءة فتقتل الأطفال، وتكره الحقيقة فتقتل الصحافيين، وتكره الطبيعة فتجرّف أشجار الزيتون"، بل زاد على هذا فرآها "دولة مسلّحة" تشجّع العنف الضاري، وتجور على الحقوق، وتمارس السلب المتواصل عبر "توسيع سرطان الاستيطان" على حساب أرض الفلسطينيين المزروعة وبيوتهم وحدود مدنهم وقراهم ومخيماتهم، وتمارس فصلًا عنصريًا وتطهيرًا عِرقيًا، لتحقّق "الكذبة السافرة التي قام عليها المشروع الصهيونيّ، وهي أنّ فلسطين أرض بلا شعب لشعبٍ بلا أرضٍ".
وحمل البيان رسائلَ أخرى مهمّة، الأولى: وهي غاية في الأهمية، ألا ننظر إلى الحرب على غزّة، باعتبارها شيئًا منبتَّ الصلة بما قبله، فهي حلقة في سلسلة طويلة من كفاح الشعب الفلسطينيّ، في سبيل نيل حقوقه، التي تمّ إهدارها على مدار ثلاثة أرباع القرن بل يزيد، فقال هنا: "على مدار 75 عامًا، لم يترك الكيان المحتل قيمة أخلاقية إلا انتهكها، ولا مبدأ حضاريًا إلا خرقه، ولا قداسة إنسانية إلا داسها بأحذية جنوده". وبذا يكون ما حدث في 7 أكتوبر، في نظر هؤلاء المثقّفين، صرخةً ضد الظلم، ويقظة ضد التفريط، وانفجارًا ضد اليأس، بل هو طموح مشروع لتحقيق غاية نبيلة، وهو رفض الظلم الطويل، والكفاح من أجل نيل الحقوق الفلسطينية المهضومة.
والرّسالة الثانية: هي موجّهة للعرب: حكوماتٍ ومنظمات وشعوبٍ وأفرادٍ، بأن ينهضوا، دون كسل ولا وَجل، ليدعموا الفلسطينيين، ماديًا ومعنويًا، وأن يواصلوا العمل في هذا الاتجاه، دون أن ينصرف عنهم الانشغال بالقضية الفلسطينية، أو تبرد هممهم في نصرتها، أو يتركوا الفلسطينيين وحدَهم ليدافعوا عن شرف الأمة واقتدارها.
أمّا الثالثة: فموجّهة إلى كلّ مثقّفي الغرب، من أصحاب الضمائر اليقظة، والأفكار النيّرة التي تروم الحرية والتقدم، وتدرك الجسور التي تصنع "المشترك الإنساني"، وتفهم أن الثقافة الحقيقية تفرض على صاحبها أن يدين الجلّاد، ويقف إلى جانب الضحية، وأن يتّسق مع نفسه حين ينادي بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ويخرج من عار ازدواجيّة الرؤية، والكيل بمكيالَين.
والرابعة: هي التفرقة التي لا لبس فيها بين السلام والاستسلام، إذ "لا سلام بلا حرية، ولا سلام بلا عدالة، ولا سلام بلا حقيقة". فبدون هذا يكون السلام كلامًا فارغًا، أو مجرّد كسب وقت لتمكين المعتدي من أن يحقق أهدافه غير المشروعة بالقتل والتدمير واحتقار الآخر، واستحلال ماله وعرضه ودمه.
والخامسة، وَفق البيان المهم: هي رفض التطبيع مع إسرائيل؛ إذ لا يمكن أن تقوم علاقة طبيعية مع قوّة ظالمة قاهرة، لا ترى في التطبيع هذا سوى أنه وسيلة لتثبيط الهمم، وتفريغ العقول، وملء النفوس بالبلادة، التي لا تجعل أصحابها يمارسون الغضب النبيل المشروع ضد التمييز والقهر والسلب، وانتهاك المقدسات.
بسواعد المقاومةما يعطي هذا البيانَ قيمة كبرى أنّه جاء في وقت صار فيه اسم فلسطين نفسه مغيبًا عن عمد، إذ إنَّ ما عرضوه من خرائط تحت ما يسمّى "الشرق أوسط الجديد"، خلا من اسم فلسطين، فكان يجب أن يعود- بسواعد المقاومة، ودم الأطفال والنساء، وحبر الكتابة العربية- إلى موقعه الطبيعي في مركز الخطاب السياسي والثقافي الراهن.
كما جاء البيان متساوقًا مع نبض الجماهير الغفيرة- ليس في العالم العربي فقط، بل في العالم كلّه أيضًا- التي خرجت غاضبة لإبادة الشعب الفلسطينيّ. وبذا عاد المثقف العربي، في الملّمات والمحن، ليمارس دوره الطليعي، غير منفصل عن الناس بأي دعاوى تسللت إلى قلب الثقافة العربية في العقود الأخيرة، كي تجعلها منزوعة النضال؛ إمّا بزعم موت السرديات الكبرى، أو غلبة الشكل على المضمون، أو الالتفات إلى الجمال دون المعنى، والاحتفال دون الأثر، والمظهر دون الجوهر.
بدا البيان شمسًا عفيّة حجب نورَها الغامر تلك الأصواتُ المعزولة والمنبوذة التي غفل أصحابها عمدًا تاريخ الصراع الفلسطينيّ- الإسرائيلي الطويل، أو لم يفرّقوا بين المقاومة والإرهاب، أو نقلوا صراعاتهم الداخليّة مع التيارات السياسية الإسلامية المتطرّفة إلى الساحة الفلسطينية، ليصنّفوا المقاومة تصنيفًا يجرّدها من القيمة والاستحقاق والمشروعيّة، أو راحوا يثبّطون همم المقاتلين بما ترتكبه إسرائيل من مجازرَ وحشية في غزة ضدّ المدنيين العزّل.
فشل كل المساعيإنّ هذا البيان- سواء في مضمونه أو قيمة الأسماء التي وقّعت عليه وتنوعها، وتوزّعها بين مختلف الأقطار العربية- قدَّم دليلًا قاطعًا، وبرهانًا ناصعًا، على فشل كل المساعي الحثيثة التي بُذلت، والأموال الطائلة التي رصُدت، من قِبل إسرائيل ومن يجارونها أو يعملون لها، في العقود الأخيرة، من أجل نزع روح المقاومة والنضال والرفض والتمرّد والمشاكسة والمغايرة عن الثقافة العربية برمّتها، وإزاحة القضية الفلسطينية من المركز الملتهب إلى الهامش البارد، والاستسلام لفرض إسرائيل الأمرَ الواقع على العرب، فلا دولة واحدة تضمّ الفلسطينيين والإسرائيليين وَفق مبدأ "المواطنة"، ولا حتّى حلّ الدولتين الذي ينتهي للفلسطينيين بقَبول خُمس أرض بلادهم التاريخية، إنما رغبة جَهنّمية مفضوحة لاقتلاع أهل غزة والضفة الغربية من أرضهم الباقية، وتهجيرهم إلى دول مجاورة.
ربما تمثّل الأسماء الموقعة على البيان ذِروة الثقافة العربية في زماننا، لكنني واثق من أنّ هذا البيان المفتوح أمام آخرين لينضموا إليه، سيتمكّن في قابل الأيام من جذب عشرات الآلاف من المثقّفين والمفكّرين والباحثين الثقات، لينضمّوا إليه، ممّن راق لهم ما جاء فيه، وتفاعلوا معه ولو عن بُعد، وسألوا عن كيفية وضع أسمائهم عليه، وروّجوا له عبر الإعلام التقليديّ ومنصّات التواصل الاجتماعيّ على حدّ سواء.
إنّني أعتقد أنّ هذه الصرخةَ، أو تلك الوقفة، ستُؤتي أكُلها أكثر، حين يشرع كل هؤلاء في إخراج أقلامهم من أغمادها، ليدافعوا عن القضية الفلسطينية، بالكلمات والرسومات، وبالنصّ الجميل والكلمة الحُرة، وهو مكسب كبير لهذه القضية التي حملتها الثقافة العربية على أكتافها جيلًا بعد جيل.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+
تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssجميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: الثقافة العربیة
إقرأ أيضاً:
ننشر البيان الختامي للمؤتمر العام السادس لنقابة الصحفيين
جاءت الدعوة للمؤتمر العام السادس لنقابة الصحفيين في ظروف استثنائية، تتعرض المهنة فيها لأزمات حادة على جميع المستويات، مهنية واقتصادية، وكذلك على مستوى الحريات والتشريعات، تعوقها عن ممارسة دورها المنوط بها في خدمة المجتمع والتعبير عن قضايا المواطنين.
حسين الزناتي: القيد عصب نقابة الصحفيين وأداة لتطوير المهنة سكرتير عام نقابة الصحفيين يكشف استعدادات المؤتمر العام السادسوأصبح الصحفيون شهودًا على أزمة حقيقية تتمثل في تراجع حرية التعبير، وزيادة الضغوط الملقاة على الصحفيين، وتحجيم فرصهم للقيام بدورهم الحيوي في المجتمع، وهي الأزمة التي امتدت لتلقي بظلالها على الأوضاع الاقتصادية للمهنة وللصحفيين، ويدفع أعداد كبيرة من ممارسي المهنة ثمنها، وتحجّم فرصهم للقيام بدورهم الحيوي في المجتمع. فالعديد من زملائنا يعيشون ظروفًا مهنية واجتماعية واقتصادية صعبة حان الوقت أن نناقشها بشكل علني وجاد، ومعلن في مؤتمرنا، وعيننا على مستقبل أفضل للجميع.
تصاعد ذلك في ظل التطورات التكنولوجية، التي عجزت الكثير من المؤسسات الصحفية عن ملاحقاتها في ظل ما ينوء بها من أعباء اقتصادية، وبينما اتجه العالم لإعداد تعريفات جديدة للصحافة من خلال التركيز على المحتوى الصحفي، فإن صراعًا جانبيًا ثار بين نوعين من الصحافة هما: الورقية والإلكترونية، وأيهما سيبقى، فيما انشغلت قطاعات واسعة عن ضرورة إنتاج محتوى يلبي احتياجات الجمهور، ويسعى من خلال التدريب وتعظيم الإمكانات إلى صنع تكامل داخل المؤسسات، وبين مختلف المؤسسات لتطوير هذا المحتوى وتطوير البيئة، التي تمكّن الصحفيين من أداء دورهم بحرية واستقلال، وأن بداية الطريق دائمًا تأتي عبر تحرير الصحفي من كل القيود المهنية، والاقتصادية، والتشريعية المكبلة لعمله، خاصة في مهنة لا تعيش، ولا تتنفس، ولا تنمو إلا بالحرية.
لقد كان أمام مجلس النقابة والجمعية العمومية طريقان، إما الاستسلام لتحديات العصر، والاكتفاء بأحاديث الغرف المغلقة، وإما أن نتحلى بالشجاعة اللازمة لتغيير الوضع الراهن. وأن نسعى جاهدين لبناء نموذج إعلامي جديد يعتمد على الشفافية والمصداقية والابتكار والنقاش الجاد والصريح حول أزماتنا.
فعلى الصعيد العام، جاءت الدعوة للمؤتمر وسط أزمة عامة طالت الحريات العامة في المجتمع، وقيدت المجال العام والقدرة على الحركة، وكذلك وسط أزمة اقتصادية طالت قطاعات واسعة من المواطنين، وأثرت على قدرتهم الشرائية كما تسببت في رفع تكاليف الإنتاج لكل السلع، وهو ما دفع السلطة للدعوة لحوار وطني لمناقشة هذه القضايا، كانت نقابة الصحفيين حريصة على المشاركة فيه تنفيذًا للقرارات الصادرة عن الجمعية العمومية في انعقادها الأخير، وحرص مجلس النقابة على طرح رؤية الصحفيين لإصلاح أحوالهم، وذلك بعد استطلاع قطاعات واسعة من الجمعية العمومية، لكن التقدم في النقاش وطرح الحلول جاء وئيدًا، وتلازمت مع كل دعوة لنقابة الصحفيين حدوث انتهاك يطال المهنة كالقبض على أحد الزملاء، أو استمرار ظاهرة الحجب، فعلى سبيل المثال لا الحصر سعت النقابة لحل ملفات الحبس، والحجب، وحرية العمل في الشارع، فحققت بعض النجاحات في البداية، لكنها ما لبثت جميعًا أن تعطلت، ففي البداية أسفرت جهود النقابة عن خروج ما يقرب من 11 زميلًا من غياهب الحبس، وتم إغلاق الباب الدوار لدخول محبوسين جدد لأكثر من عام كامل، لكن مع بدايات العام الثاني في عمر المجلس وقت تصاعد الدعوة للمؤتمر العام عاد الباب ليدور بشكل عكسي، وبعد أن تراجع عدد المحبوسين من الصحفيين من 30 زميلًا إلى 19 زميلًا، ارتفع العدد مرة أخرى ليصل إلى 24 زميلًا محبوسًا في انتكاسة لكل هذه الجهود، خاصة أن 15 زميلًا من بين المحبوسين تجاوزت فترات حبسهم الاحتياطي عامين كاملين، وبعضهم استطالت فترات حبسه الاحتياطي لتصل إلى خمس سنوات، ويكفي تطبيق القانون الحالي، ومراجعة أوضاعهم لإطلاق سراحهم فورًا.
وخلال مشاركات النقابة في الحوار الوطني، رفع ممثلوها وفي إطار المساحات المتاحة لهم رؤية النقابة للخطوط العامة لحل مشكلة الصحافة، لكن كان لا بد أن نتشارك معًا في كل التفاصيل لتقديم رؤية جامعة لقضايانا.
على الجانب الآخر، كان تطوير العمل النقابي جزءًا أساسيًا من المطالب المرفوعة داخل الجمعية العمومية، ففي ظل هذا الوضع أصبح فرض عين علينا نحن كصحفيين أن نبني نقابة قوية تُعبر عن صوتنا، وتدافع عن حقوقنا من خلال هيكل مؤسسي فعّال وقائم على الشفافية، ويستند إلى مشاركة جميع الأعضاء في صنع القرار، مدركين أن تعزيز العمل النقابي سيعزز قوتنا كمجتمع صحفي، ويضمن لنا الأمان الاجتماعي والمهني.
في ظل هذا الوضع، جاءت الدعوة للمؤتمر العام السادس للنقابة مع بداية العام الحالي 2024م، وذلك لفتح نقاش عام داخل الجماعة الصحفية لمناقشة قضاياها عبر كل أطراف المهنة، لنتشارك جميعًا في تحليل الأزمة، التي نعيشها والخروج برؤى وخطوات وحلول واضحة لهذه الأزمة على كل الأصعدة يتولى مجلس النقابة وجمعيتها العمومية، وجميع أطراف المهنة رفعها لكل الجهات، وتكون برنامج عمل نتشارك جميعًا في تحقيقه.
لقد كنا حريصين منذ البداية على الحفاظ على تنوع هذه المهنة في سعينا لاستعادة قوتها الناعمة، لا نفرق بين فريق وآخر، وكان الهدف أن يتم فتح الأبواب للجميع للإدلاء برأيهم من خلال المؤتمر العام.
وعلى مدار عشرة شهور كاملة، شهدت النقابة أكثر من 80 اجتماعًا وندوة وحلقة نقاش تحضيرية للمؤتمر شارك فيها المئات من أعضاء الجمعية العمومية، بدأت بأربعة مؤتمرات تحضيرية عامة، حضرها لفيف من القيادات النقابية، وكذلك قيادات المؤسسات، والنواب الصحفيون، وأعضاء الجمعية العمومية تم خلالها مناقشة الخطوط العريضة لمحاور المؤتمر، وطريقة اختيار أمانته العامة، وكذلك عنوان المؤتمر، وجاءت مواكبة الإعداد للمؤتمر للمذبحة، التي تجري بحق الشعب الفلسطيني على حدودنا الشرقية خلال العدوان على غزة، وجميع الأراضي الفلسطينية ليختار الحاضرون في الاجتماعات التحضيرية بالإجماع عنوان "دورة فلسطين" لهذه الدورة من المؤتمر.
كما تشارك مجلس النقابة، والمشاركون في الجلسات التحضيرية الأولى محاور المؤتمر ولجانه التحضيرية ليتم تقسيم العمل إلى ثلاثة محاور هي: الحريات والتشريعات، والأوضاع الاقتصادية للصحافة والصحفيين، ومستقبل المهنة والتطورات التكنولوجية، كما طغت على جميع المحاور أزمات العمل النقابي والقيود المفروضة على عمل الصحفيين، خاصة ما يتعلق بأزمات الحجب وحبس الصحفيين، لتبدأ دورات عمل اللجان في الدوران متواكبة مع اجتماعات مشتركة للأمانة العامة، وممثلين مع مجلس النقابة، وظهر حماس الزملاء لعمل المؤتمر من خلال تقديم عدد كبير من أوراق العمل منذ الأسابيع الأولى للمؤتمر.
وبالتوازي مع الاجتماعات التحضيرية العامة، وكذلك النقاشات حول قضايا المهنة وقضايا المجتمع، التي طغت خلال هذه الفترة، وفي مقدمتها النقاش المحتدم حول مشروعي قانوني الإجراءات الجنائية والعمل الموحد، التي برزت خلال فترة الإعداد للمؤتمر، استمر العمل الدؤوب داخل اللجان لتعقد لجنة الحريات والتشريعات أكثر من 25 فاعلية بين 12 اجتماعًا تحضيريًا، وثلاث ندوات، وأربع ورش عمل، وستة لقاءات مع خبراء، نتج عنها نحو ثلاثة وعشرين مخرجًا، بينها مشروع قانون لإلغاء العقوبات السالبة للحرية في مجال النشر والعلانية، ومشروع بقانون لحرية تداول المعلومات، ومذكرة بحزمة واسعة من التعديلات التشريعية واللائحية على مجموعة من القوانين ذات الصلة بالصحافة والإعلام، ومذكرة مطوّلة بتعديلات على مشروع قانون العمل الجديد، وثماني أوراق بحثية رئيسية مصحوبة بتوصيات، ومشروع مدونة سلوك لبيئة عمل آمنة، كما تم تقديم مشروعين لمدونتين مهنيتين من لجنة المرأة والزميلات، وسبع أوراق بمقترحات متنوعة.
وعقدت لجنة مستقبل الصحافة، أكثر من 17 فاعلية بين اجتماعات تحضيرية وندوات، وتم تقديم 7 أوراق ودراسات عمل من خلالها، فيما عقدت لجنة اقتصاديات الصحافة أكثر من 20 فاعلية بين اجتماعات تحضيرية، وندوات نقاشية، وتم تقديم 7 أوراق عمل، كما تواصل عقد لقاءات الأمانة العامة والفاعليات العامة حول مختلف القضايا، كما تم تقديم عدد من الأوراق خلال انعقاد فاعليات المؤتمر، الذي انعقد على ثلاثة أيام خلال الفترة من 14 لـ 16 ديسمبر 2024م، عبر أكثر من 20 ندوة ومائدة مستديرة شارك فيها ما يقرب من 120 متحدثًا بخلاف مئات الزملاء، الذين حضروا أعمال المؤتمر، وشاركوا في النقاشات بفاعلية.
ومنذ إطلاق الدعوة للمؤتمر كانت الرسالة التي وصلت للجميع أننا نحتاج ليس فقط لتصحيح الأوضاع، ولكن للمشاركة الفاعلة في وضع الحلول، ورسم خارطة طريق لبناء جديد يستعيد للصحافة مكانتها، وذلك من خلال الإحاطة الكاملة بحجم أزمتنا، وإدراك جميع أبعادها، وتوصيف حالنا عبر تواصل مستمر مع كل الأطراف، وعبر أبواب مفتوحة لجميع الزملاء، وكان علينا أن نطرح ونصيغ ذلك بطريقة عملية، فوضعنا ونحن نعد لهذا المؤتمر استبيانًا لقياس ما وصلنا، ولدراسة أوضاعنا بشكل عملي، وكذلك رؤية أصحاب الأزمة للحلول وأزماتها، فجاءت النتائج لتدق العديد من نواقيس الخطر.
لقد جاءت نتائج الاستبيان لتؤكد أننا في أزمة عظيمة، وفي محنة كبيرة، ولكنها في الوقت نفسه كشفت اعتزاز الصحفيين بمهنتهم، وحرصهم على استعادتها، والإمساك بتلابيب تطويرها، وهو ما أكد أن حلم الخروج من الأزمة ما زال ممكنًا، ولم يفلت منا، وأن أبناء هذه المهنة ما زالوا يحلمون، وما زالوا يضعون التصورات لإنقاذها، وهذا ما ظهر في العديد من النتائج.
لقد شارك في الاستبيان 1568 زميلًا وزميلة، 88% منهم من النقابيين، و60% منهم في الفئة العمرية من 30 إلى 50 عامًا، وما يقرب من 30% منهم من الزميلات، وجاء المشاركون في الاستبيان تعبيرًا عن كل تنوعات المهنة ومؤسساتها، وهو ما يعزز مصداقية أرقام الاستبيان، التي جاءت لترسم خريطة كاملة لأوجاع الصحفيين الاقتصادية والمهنية.
وكان من غير الممكن في ظل العدوان الهمجي على الشعب الفلسطيني أن يخرج المؤتمر دون أن يوجه تحية واجبة لزملاء لنا ضربوا أروع المثل في المهنية والوطنية، والتضحية والفداء، وهم زملاؤنا تحت نيران العدوان الصهيوني في أرض فلسطين الأبية، وهذه التحية جاءت عنوانًا لهذه الدورة "دورة فلسطين".
الأرقام تقول إن ما يقرب من 20% ممن ينقلون الحقيقة في غزة فقدوا حياتهم، وما زال زملاؤهم يعملون، حيث استُشهد أكثر من 194 صحفيًا وعاملًا بقطاع الإعلام، من بين 1000 صحفي يعملون على الأرض في غزة. ولقد كان المؤتمر حريصًا في كل فعالياته أن يقدم تحية إجلال وإكبار لـ 194 شهيدًا للصحافة الفلسطينية، الذين ضحوا بأرواحهم خلال العدوان الغاشم على غزة.
وفي هذا الإطار، فإن نقابة الصحفيين المصرية وأمانة المؤتمر العام تشدد على موقف النقابة الثابت والدائم ضد التطبيع مع العدو الصهيوني، مؤكدةً أن حظر التطبيع المهني والنقابي والشخصي سيظل مستمرًا حتى يتم تحرير الأراضي المحتلة، وعودة حقوق الشعب الفلسطيني.
وشدد المؤتمر على أن رفض النقابة لأي شكل من أشكال التطبيع ليس مجرد موقف سياسي، بل هو تعبير عن التضامن الإنساني العميق مع الشعب الفلسطيني في نضاله من أجل حقوقه المشروعة، وبهذا تكون النقابة جزءًا من الحركة العالمية المناهضة للاحتلال.
بقيت كلمة أخيرة:
إن نتائج المؤتمر وتوصياته هي رسالة لكل الأطراف، ويبقى العمل على تحقيقها فرض عين علينا جميعًا كأبناء لهذه المهنة، وعلى كل حالم بمساحات أوسع للتعبير عن مشاكله، وكذلك على كل مَن يريد بناء وطن يتسع للجميع دون إقصاء أو تهميش، وكل مَن يريد أن تكون لدينا صحافة تعبر عن جموع المواطنين، وليس طرف واحد مهما علا شأنه وعظمت مكانته.
ويبقى أن تحقيق مطالب وتوصيات المؤتمر وضمان فعاليتها لا بد أن يأتي ضمن حزمة من الإجراءات العامة على رأسها إرساء قواعد الديمقراطية في المجتمع وتوسيع مساحات الحرية المتاحة للتعبير عن الرأي، ورفع القيود عن المؤسسات الصحفية والإعلامية بما يُبرز التعدد والتنوع، ويساعد على صناعة محتوى صحفي يليق بالمتلقي المصري والعربي، ويتيح فرصًا متساوية لجميع الأطراف للتعبير عن نفسها، ووقف التدخلات في العمل النقابي، وتحريره من أي قيود تعوقه، وتحرير المجال العام من القيود التي تمنع النقابات ومنظمات المجتمع المدني والأحزاب من الحركة، والعمل بحرية، والتفاعل فيما بينها بما يتيح لها تمثيل جموع الموطنين، والتفاوض من أجلهم، فلا حوار منتج أو يحقق هدف التغيير والتطوير بنفس الأدوات القديمة.
والمؤتمر يشدد على أن إعادة الاعتبار للتنوع في المجتمع، من خلال صحافة حرة ومتنوعة عبر تحرير الصحافة والصحفيين من القيود المفروضة على عملهم، وعلى حريتهم في ممارسة مهنتهم سيظل ضمانة رئيسية ليس للصحفيين وحدهم، ولكن للمجتمع بكل فئاته، فحرية الصحافة ليست مطلبًا فئويًا ولا "ريشة توضع على رأس ممارسي المهنة"، ولكنها طوق نجاة للمجتمع بأسره، وساحة حوار دائمة مفتوحة للجميع لمناقشة كل قضايا الوطن والمواطنين، فمطالب الصحفيين لا تقف عند حدود العمل اليومي، ولكنها تمتد أيضًا إلى المناخ العام، الذي يحكم عمل الصحافة، وكذلك الأوضاع الاقتصادية للصحفيين والمواطنين. فلا يمكن أن يكون هدفنا هو الاكتفاء بإصلاح منزلنا بينما بقية البيوت تحتاج إلى خطوات جادة لتعزيز الديمقراطية والشفافية، والحريات العامة، والتصدي لكل الانتهاكات والقيود، التي تعوق تقدم مجتمعنا، وفي مقدمتها تنامي ظاهرة الحبس، والإيغال في تشريعات وممارسات تنال من الحقوق السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية للمواطنين.