عين ليبيا:
2025-05-02@12:50:57 GMT

أفـلا تعقلون؟!

تاريخ النشر: 5th, November 2023 GMT

شعوب اندفعت بقوة وسرعة نحو رحاب التقدم. حققت الرفاهية والازدهار. منها شعوب تعدادها قليل، وأخرى ملأت أرضها مئات الملايين، ومنها ما تجاوز تعداده المليارات. مساحة الأرض أو عدد السكان، لا تشكل في حد ذاتها عوامل القوة أو الضعف.

مملكة هولندا بلد صغير المساحة، مساحتها اثنان وأربعون ألف كم2، وعدد سكانها سبعة عشر مليون نسمة، أرضها منخفضة سبعة أمتار عن مستوى سطح البحر، بلغ ناتج دخلها الإجمالي تريليون دولار سنوياً تقريباً.

هذه البلاد الصغيرة المساحة، امتلكت مبكراً قوة العقل. فتحت أبوابها لكل قادم من جميع أصقاع الأرض بحثاً عن الحرية منذ العصور الوسطى. الفيلسوف باروخ إسبينوزا، الذي هربت عائلته من شبه الجزيرة الأيبيرية بعد سقوط الحكم العربي بها، وقامت محاكم التفتيش بملاحقة المسلمين واليهود. وُلد هذا العالم الفيلسوف على أرض العقل الجديدة. قدّم للإنسانية كلها ومضة العقل التي لم تنطفِ ولن تنطفي. حاربته طائفته اليهودية، واتهمته بالزندقة، لكن حضن المجتمع الحر الصغير، كان بمساحة الوعي والطموح النهضوي الذي يفتح الأبواب لأنوار التقدم. تنافس على أرض العقل والحرية، أكثر من مذهب وتيار. كالفن صاحب المذهب البروتستانتي المتشدد، وجد له مكاناً فوق الأرض الجديدة، لكن العقل الحر قادر على إشعال قوة الفكر الذي يقدم الحقائق التي تقشع الظلام.

العقل المبدع لا تحدّ قوته مساحة الأرض المحدودة، ولا قلة عدد السكان. بقوة العقل المبدع ردم الهولنديون البحر، وحولوا ما كان ماءً مالحاً أرضاً أنبتت أجمل أنواع الورد، وعاشت فوقها فصائل الأبقار التي روت الدنيا بالحليب وأشبعتها جبناً ولحماً. اليوم يفكر العقل الهولندي الذي لا يتوقف عن الإبداع، يفكر في تطوير أبقاره إلى فصيلة لا تلحق الضرر بمناخ الكون من دون أن يقلل ذلك التطوير مما تنتجه.

الصين الشعبية التي يقارب عدد سكانها المليار ونصف المليار نسمة، لم يكن هذا العدد الهائل من السكان ثقلاً على كاهل الوطني الصيني الكبير، بل حوله العقل المبدع قوةً أسطورية ضاربة حققت قفزة غير مسبوقة على كوكب الأرض. بعد سنوات عانت فيها البلاد من خيالات زعيمها ماو تسي تونغ، أرخت العنان لعقلها الذي تحرر من سلاسل الآيديولوجيا الدخانية الثورية، فتحولت البلاد أكبر معمل، وأعظم مصنع، وأكبر سوق في العالم. مقياس الزمن في الصين اليوم له عداده الخاص. سنواتها غير سنوات الآخرين، وكذلك أشهرها وأيامها وحتى ساعاتها. هي اليوم لا تنافس، بل ينافسها الآخرون. المشهد العالمي اليوم من منظور اقتصادي أو عسكري أو حتى سياسي، مثل ميدان سباق للجري. كل القوى الكبرى تتحس أنفاس من يركض خلفها ويهددها بالتجاوز. الولايات المتحدة الأميركية، تتحس أنفاس الصين الاقتصادية والعسكرية والسياسية. لقد صدق الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب عندما قال: إن الصين تهدد باحتلالنا اقتصادياً. وصل صافي ناتجها المحلي 18 تريليون دولار سنوياً. وغزت الفضاء، وباشرت في بناء حاملات للطائرات. لم يعد كثرة عدد السكان ثقلاً على من يمتلك العقل المبدع، بل قوة دفع لا مثيل لها نحو النهوض والتقدم والازدهار.

عن الهند لا تسأل، لقد تجاوز سكان هذه البلاد التي لها جذور ضاربة في التاريخ المليار ونصف المليار نسمة. لغاتها وأديانها وأعراقها متعددة، بل وفي كثير من الأحيان متصادمة، عانت من الاستعمار البريطاني سنوات طويلة، واستعمل المستعمرون رجالها في حروبهم الإقليمية والدولية. بعد الاستقلال انطلق العقل الهندي من عقاله، ونمت الحرية وأورقت ديموقراطيتها، تحولت البلاد غابةً للعلم. ثمارها تزداد نضجاً في ظلال العقل الوارفة. اليوم تحتل الهند الترتيب الرابع في الاقتصاد العالمي، ولها إنتاج هائل في كل أنواع الصناعة، وأخيراً غزت الفضاء، وهي اليوم أكبر مصدّر للعلماء في العالم، في كل المجالات، وخاصة في التقنية السيبرانية.

الخلاصة، أن صغر مساحة الأرض، أو قلة عدد السكان أو كثرتها، ليست حبالاً تقيّد حركة الشعوب نحو التقدم، إنما العامل الحاسم هو العقل المبدع، الذي يتخلق في أرض الحرية، وينتج قوة الحياة التي تصنع التقدم.

الأمم التي تنام في جحور رؤوسها المغلقة، تضيق مساحات أرضها في شخير وهنها، وتتحول كتل شعوبها أشياء، لا تعرف إلا المسافة بين المطبخ والحمام إن وُجد في أكواخها الخشبية أو الإسمنتية. التعليم عندها ضرب من العبث، والحرية من عمل الشيطان، وبالشهامة الجاهلية تتقاتل الأحياء والعشائر والقبائل، ويصير النهب والفساد عقيدة، والجهلة والفاسدون هم القادة بالقتل والنهب والعمالة. لقد تجلت عدالة الخالق سبحانه، في هبة العقل لجميع الناس بالتساوي، لكن منهم من لم يدخل إلى خزينة رأسه، فتراكم على ما فيها تراب الجهل، وبقي حقله بوراً وبواراً. العقول البشرية أرض، بذورها المعرفة وسمادها العلم وماؤها الحرية.

شعوب تمتلك ثروات هائلة في باطن أرضها، وفوق أرضها مساحات خصبة هائلة صالحة لزراعة كل أنواع المحاصيل. تتدفق حولها مياه الأنهار، والغابات أدغال يعمّها السواد. لكن في رؤوس من يدبّون فوق تلك الكنوز، حقولاً يسكنها تراب. وكم من أمة منَّ الله عليها بخيرات سائلة تندفع من بطون الأرض التي يعيشون فوقها، لكنها اكتفت باستخدام أفواهها لبلع ما يهبها لها العاقلون الذين يستخرجون ما ملكت بطون تلك الأرض، ويسخّرونها لخدمة شعوبهم ورفاهيتها.

من هولندا الصغيرة أرضاً وسكاناً، إلى الهند والصين الكبيرتين سكاناً، هناك مسافة موصوفة، لا تقاس بالكيلو مترات، لكننا نقرأ في امتدادها قوة فاعلة، وإن هي صامتة، إنها معجزة العقل الإنساني المبدع، يؤسس كيان السلام الاجتماعي، ويطلق أنوار العقل، ويصبح الإنسان قوةَ حياةٍ تبدع. الجاهلون ينامون في قحف رؤوسهم، ويعبر أهل اليقظة في كل ثانية نحو رحاب الأمن والرفاهية. أفـلا تعقلون؟!

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

المصدر: عين ليبيا

كلمات دلالية: عدد السکان

إقرأ أيضاً:

الطريق المنسي في العمل الإسلامي

في أحد وجوه التصوف، أو أبرز مقاصده الأساسية، أن انفعالات الإنسان وجوارحه واستعداداته وطموحه وغرائزه ونظرته للعالم ينبغي أن توزن جميعها بميزان الروح مصحوبا بالعقل، حتى يتحقق التوازن بين باطنه وظاهره.

فالإنسان مدفوع بطبعه إلى التفاعل مع الحياة، ولكنه إذا افتقد التوازن الروحي الذي يوجه انفعالاته وتوجهاته، فإن هذه التفاعلات قد تخرج عن حدودها السوية. إن الميزان الذي يجمع بين العقل والروح هو الأساس في تحقيق الانسجام بين الداخل والخارج في الإنسان، ومن خلاله يعرف ما يتجاوز حده وما اختل مساره، فيتمكن من معالجة دوافعه الداخلية وتوجيه سلوكياته بما يحقق التوازن النفسي والروحي.

غالبا ما يعجز الإنسان عن التمييز بين الصالح والطالح من حركات نفسه إذا اكتفى بميزان العقل أو العقل والشرع وحدهما؛ لأن العقل قد تضلله الشهوات، والشرع قد يُختزل أحيانا في صورته الظاهرة دون أن تنفذ أحكامه إلى أعماق النفس. أما الروح، فهي النور الذي يكشف له دقائق نفسه وخفاياها، فهي التي توجه العقل وتعمل على تنقيته من التراكمات السلبية التي قد تؤثر على حكمه وتوجهاته. في غياب الروح، أحيانا لا يستطيع الإنسان أن يميز بين المخلص والمنتفع، بين الطاهر والدنس، وهو ما يجعل مساراته أحيانا تتقاطع مع مسارات خاطئة.

هذه الرؤية الجوهرية للتوازن الروحي هي ما غاب عن العديد من الحركات الإسلامية السياسية التي نشأت في العالم العربي والإسلامي. ففي البداية، كانت هذه الحركات تحمل شعارات نبيلة تدعو إلى الإصلاح والعدالة، وتحقيق المساواة والحرية. ولكن مع مرور الوقت، بدأ يظهر في داخل هذه الحركات تصدع واضح ناتج عن غياب هذا التوازن الروحي
هذه الرؤية الجوهرية للتوازن الروحي هي ما غاب عن العديد من الحركات الإسلامية السياسية التي نشأت في العالم العربي والإسلامي. ففي البداية، كانت هذه الحركات تحمل شعارات نبيلة تدعو إلى الإصلاح والعدالة، وتحقيق المساواة والحرية. ولكن مع مرور الوقت، بدأ يظهر في داخل هذه الحركات تصدع واضح ناتج عن غياب هذا التوازن الروحي. فقد نشأت هذه الحركات على تصورات فكرية أو تنظيمية غير متجذرة في فهم عميق لروح الدين، بل كانت تعتمد بشكل أساسي على العقل السياسي والنظريات الحركية السطحية التي لا تتعامل مع الإنسان من داخله. لقد كان غياب الوعي الروحي هو العامل الأساسي في تفكك هذه الحركات، حتى أن الأمراض النفسية والأخلاقية بدأت تتسرب إلى قياداتها وأفرادها دون أن تجد من يعالجها بعمق.

في هذا السياق، نجد أن التفكك كان كامنا في بنيتها من البداية، إذ كان الفكر التنظيمي يطغى على الروحانية التي ينبغي أن تكون أساسا لتحرك هذه الحركات. ومع مرور الوقت، أصبح من الصعب التمييز بين الصالح والطالح داخل هذه الحركات، فاختلط المخلصون بالمنتفعين، وفقدت الحركات قدرتها على الانضباط الأخلاقي والسياسي. وفي النهاية، تحللت هذه التنظيمات وتفككت، دون أن يدرك قادتها السبب الحقيقي وراء هذا الانهيار. كانت الأزمات تعصف بها، والمؤسسات تتوقف عن العمل، ومع ذلك لم يتم البحث الجاد في الأسباب الروحية والنفسية لهذه الأزمات، بل كانت المعالجات تدور غالبا في إطار تنظيمي أو سياسي سطحي لا يمس أعماق المشكلة.

إن الأزمة هنا ليست فقط أزمة سياسية أو اجتماعية، بل هي أزمة روحية عميقة. فبغياب الوعي الروحي، يصبح من الصعب على هذه الحركات أن تلتزم بالقيم الإسلامية الحقيقية التي تدعو إلى العدالة والمساواة والرحمة. بدلا من ذلك، يتم تبرير العديد من التصرفات غير الأخلاقية تحت شعارات دينية، ويتم استخدام الدين لتحقيق مصالح شخصية أو حزبية، وهو ما يؤدي إلى إفقاد الناس الثقة في هذه الحركات وفي الدين نفسه.

الروحي الصادق ليس ترفا فكريا أو حالة عاطفية مؤقتة، بل هو ضرورة جوهرية لصحة النفس والمجتمع. فبغرس التوازن الروحي، يمكن للإنسان أن يحقق التنمية الذاتية الحقيقية، وأن يسهم في تطوير مجتمعه على أسس من العدل والرحمة
وإذا أردنا أن نفهم سببا آخر من أسباب هذا الانحراف، فلنتأمل كيف أن بعض الشباب يدفعون حياتهم ثمنا لأعمال تقع في إطار الجرائم، وهم يظنونها قُربات دينية، في حين أنهم لا يتحركون لمآسي ومجازر تطال أهاليهم وأبناء جلدتهم. هذه المفارقة العجيبة تجد تفسيرها في غياب ميزان الروح؛ إذ مع انحراف الغرائز واضطراب النفس، يختلط الدين بالعنف، وتُزَيَّن الجرائم بثياب الطاعة، ويتحول الإنسان إلى أداة بيد دوافعه المضطربة دون وعي حقيقي بجوهر الدين ولا بميزان الرحمة والعدل الذي يقوم عليه

وتلعب العوامل النفسية، مثل الحرمان العاطفي أو الشعور بالظلم أو الإحباط، دورا كبيرا في تشكيل هذه التصرفات العنيفة، حيث يعجز هؤلاء الشباب عن التفريق بين الجهاد الحقيقي وبين العنف الممنهج تحت لافتة الدين.

إن ما يحدث في هذه الحركات السياسية هو نتيجة غياب التوازن بين العقل والروح. فالروح هي التي تمنح العقل الرؤية الواضحة، وتمنحه القوة على التمييز بين الحق والباطل، بين الواجب والمصلحة. وعندما يغيب هذا البُعد الروحي، يصبح العقل عرضة للتشويش والتضليل، ويختلط في داخل الإنسان الحق بالباطل، ويصبح من السهل عليه أن يسلك الطرق المظلمة بدلا من الطريق النوراني المستنير.

لهذا، فإن السير الروحي الصادق ليس ترفا فكريا أو حالة عاطفية مؤقتة، بل هو ضرورة جوهرية لصحة النفس والمجتمع. فبغرس التوازن الروحي، يمكن للإنسان أن يحقق التنمية الذاتية الحقيقية، وأن يسهم في تطوير مجتمعه على أسس من العدل والرحمة. إن غياب هذا التوازن يؤدي إلى انزلاق المجتمع نحو الفوضى الأخلاقية والسياسية، تحت شعارات قد تكون في ظاهرها دعوة للتغيير، ولكنها في حقيقتها تخدم مصالح فردية أو حزبية.

في الختام، لا بد من العودة إلى هذا الميزان الروحي الذي يجمع بين العقل والقلب، بين الشريعة والروح، لعلنا نستطيع معالجة الخلل الذي أصاب الكثير من الحركات السياسية في عالمنا المعاصر، ولعلنا نعيد بناء مجتمعاتنا على أسس من العدالة الحقيقية والسلام الداخلي.

مقالات مشابهة

  • الطريق المنسي في العمل الإسلامي
  • يشاهد بالعين المجردة.. رصد اقتران القمر بكوكب المشتري اليوم
  • اقتران القمر والمشتري يزين سماء المملكة مساء اليوم
  • معلومات المناخ: ذروة المنخفض الخماسينى تضرب البلاد اليوم وعاصفة ترابية عنيفة تضرب القاهرة والدلتا
  • اليوم.. انتهاء مهلة سحب ورقة الـ50 دينارا
  • تعطيل الدراسة بـ 15 جامعة اليوم الأربعاء بسبب العاصفة
  • المجد للبندقية التي حرست المواطن ليعود الى بيته الذي كانت قحت تبرر للجنجويد احتلاله
  • هل جامعتك ضمنها؟.. تعرف على الجامعات التي عطلت الدراسة اليوم بسبب العاصفة
  • إسعاف الإسماعيلية : استعدادات قصوى لمواجهة المنخفض الخمسيني ابتداءً من اليوم
  • القصة الكاملة للمقاتل السوري مجدي نعمة الذي بدأت محاكمته اليوم بباريس