شعوب اندفعت بقوة وسرعة نحو رحاب التقدم. حققت الرفاهية والازدهار. منها شعوب تعدادها قليل، وأخرى ملأت أرضها مئات الملايين، ومنها ما تجاوز تعداده المليارات. مساحة الأرض أو عدد السكان، لا تشكل في حد ذاتها عوامل القوة أو الضعف.
مملكة هولندا بلد صغير المساحة، مساحتها اثنان وأربعون ألف كم2، وعدد سكانها سبعة عشر مليون نسمة، أرضها منخفضة سبعة أمتار عن مستوى سطح البحر، بلغ ناتج دخلها الإجمالي تريليون دولار سنوياً تقريباً.
العقل المبدع لا تحدّ قوته مساحة الأرض المحدودة، ولا قلة عدد السكان. بقوة العقل المبدع ردم الهولنديون البحر، وحولوا ما كان ماءً مالحاً أرضاً أنبتت أجمل أنواع الورد، وعاشت فوقها فصائل الأبقار التي روت الدنيا بالحليب وأشبعتها جبناً ولحماً. اليوم يفكر العقل الهولندي الذي لا يتوقف عن الإبداع، يفكر في تطوير أبقاره إلى فصيلة لا تلحق الضرر بمناخ الكون من دون أن يقلل ذلك التطوير مما تنتجه.
الصين الشعبية التي يقارب عدد سكانها المليار ونصف المليار نسمة، لم يكن هذا العدد الهائل من السكان ثقلاً على كاهل الوطني الصيني الكبير، بل حوله العقل المبدع قوةً أسطورية ضاربة حققت قفزة غير مسبوقة على كوكب الأرض. بعد سنوات عانت فيها البلاد من خيالات زعيمها ماو تسي تونغ، أرخت العنان لعقلها الذي تحرر من سلاسل الآيديولوجيا الدخانية الثورية، فتحولت البلاد أكبر معمل، وأعظم مصنع، وأكبر سوق في العالم. مقياس الزمن في الصين اليوم له عداده الخاص. سنواتها غير سنوات الآخرين، وكذلك أشهرها وأيامها وحتى ساعاتها. هي اليوم لا تنافس، بل ينافسها الآخرون. المشهد العالمي اليوم من منظور اقتصادي أو عسكري أو حتى سياسي، مثل ميدان سباق للجري. كل القوى الكبرى تتحس أنفاس من يركض خلفها ويهددها بالتجاوز. الولايات المتحدة الأميركية، تتحس أنفاس الصين الاقتصادية والعسكرية والسياسية. لقد صدق الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب عندما قال: إن الصين تهدد باحتلالنا اقتصادياً. وصل صافي ناتجها المحلي 18 تريليون دولار سنوياً. وغزت الفضاء، وباشرت في بناء حاملات للطائرات. لم يعد كثرة عدد السكان ثقلاً على من يمتلك العقل المبدع، بل قوة دفع لا مثيل لها نحو النهوض والتقدم والازدهار.
عن الهند لا تسأل، لقد تجاوز سكان هذه البلاد التي لها جذور ضاربة في التاريخ المليار ونصف المليار نسمة. لغاتها وأديانها وأعراقها متعددة، بل وفي كثير من الأحيان متصادمة، عانت من الاستعمار البريطاني سنوات طويلة، واستعمل المستعمرون رجالها في حروبهم الإقليمية والدولية. بعد الاستقلال انطلق العقل الهندي من عقاله، ونمت الحرية وأورقت ديموقراطيتها، تحولت البلاد غابةً للعلم. ثمارها تزداد نضجاً في ظلال العقل الوارفة. اليوم تحتل الهند الترتيب الرابع في الاقتصاد العالمي، ولها إنتاج هائل في كل أنواع الصناعة، وأخيراً غزت الفضاء، وهي اليوم أكبر مصدّر للعلماء في العالم، في كل المجالات، وخاصة في التقنية السيبرانية.
الخلاصة، أن صغر مساحة الأرض، أو قلة عدد السكان أو كثرتها، ليست حبالاً تقيّد حركة الشعوب نحو التقدم، إنما العامل الحاسم هو العقل المبدع، الذي يتخلق في أرض الحرية، وينتج قوة الحياة التي تصنع التقدم.
الأمم التي تنام في جحور رؤوسها المغلقة، تضيق مساحات أرضها في شخير وهنها، وتتحول كتل شعوبها أشياء، لا تعرف إلا المسافة بين المطبخ والحمام إن وُجد في أكواخها الخشبية أو الإسمنتية. التعليم عندها ضرب من العبث، والحرية من عمل الشيطان، وبالشهامة الجاهلية تتقاتل الأحياء والعشائر والقبائل، ويصير النهب والفساد عقيدة، والجهلة والفاسدون هم القادة بالقتل والنهب والعمالة. لقد تجلت عدالة الخالق سبحانه، في هبة العقل لجميع الناس بالتساوي، لكن منهم من لم يدخل إلى خزينة رأسه، فتراكم على ما فيها تراب الجهل، وبقي حقله بوراً وبواراً. العقول البشرية أرض، بذورها المعرفة وسمادها العلم وماؤها الحرية.
شعوب تمتلك ثروات هائلة في باطن أرضها، وفوق أرضها مساحات خصبة هائلة صالحة لزراعة كل أنواع المحاصيل. تتدفق حولها مياه الأنهار، والغابات أدغال يعمّها السواد. لكن في رؤوس من يدبّون فوق تلك الكنوز، حقولاً يسكنها تراب. وكم من أمة منَّ الله عليها بخيرات سائلة تندفع من بطون الأرض التي يعيشون فوقها، لكنها اكتفت باستخدام أفواهها لبلع ما يهبها لها العاقلون الذين يستخرجون ما ملكت بطون تلك الأرض، ويسخّرونها لخدمة شعوبهم ورفاهيتها.
من هولندا الصغيرة أرضاً وسكاناً، إلى الهند والصين الكبيرتين سكاناً، هناك مسافة موصوفة، لا تقاس بالكيلو مترات، لكننا نقرأ في امتدادها قوة فاعلة، وإن هي صامتة، إنها معجزة العقل الإنساني المبدع، يؤسس كيان السلام الاجتماعي، ويطلق أنوار العقل، ويصبح الإنسان قوةَ حياةٍ تبدع. الجاهلون ينامون في قحف رؤوسهم، ويعبر أهل اليقظة في كل ثانية نحو رحاب الأمن والرفاهية. أفـلا تعقلون؟!
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
المصدر: عين ليبيا
كلمات دلالية: عدد السکان
إقرأ أيضاً:
جاء العقل الرعوي شخصياً وبطل التيمم الفكري (2-2)
كان النور حمد من ضمن من جاؤوا إلى نيروبي في منتصف فبراير (شباط) الماضي لتكوين حكومة موازية لـ"حكومة بورتسودان" في المناطق التي تحت سيطرة "الدعم السريع". والباعث من وراء وقفة حمد مع هذه الحكومة الحليفة لـ"الدعم السريع" المرتقبة هو استنقاذ ثورة ديسمبر 2018 من شرور الفلول ممن أشعلوا الحرب للقضاء عليها واستعادة سلطانهم. فظاهر حمد إعلان هذه لحكومة الموازية لأنها، في قوله، الفرصة الوحيدة الباقية لنزع زمام المبادرة من القوى الكيزانية. وبدا هنا على شيء كبير من اليأس من "تقدم"، فالحراك المدني الذي تقوم به لوقف الحرب وشل يد الكيزان لا شوكة له ولا أسنان، وسيبقى حراكها، في رأيه، حالماً إذا كانت كل عدتها الهتاف والمناشدة حيال قوة شرسة وديناميكية لا تبالي بشيء كقوة "الكيزان". فالمسرح السياسي تغير فلا مجال، في قوله، للحديث عن سلمية الثورة، بل شق طريقاً آخر يخرج فيه المدني الذي بلا شوكة ليتحد مع قوة عسكرية هي "الدعم السريع" كما يفعل الجيش والفلول.
لم تتفق للنور حمد في السابق فكرة الإطاحة بحكومة الإنقاذ (أيام الرئيس السابق عمر البشير) عن طريق ثورة منذ كان ينشر كتابه عن العقل الرعوي في حلقات نحو عام 2016، فقال إن حكومة "الإنقاذ" التي نخر العقل الرعوي تحت حكمها الدولة الحديثة ستسقط لا محالة ولن يجديها تمديد عمرها عن طريق الميليشيات القبلية، "الجنجويد" قبل اكتسابها صفة قوات "الدعم السريع" بقانون عام 2017 التي استنجدت بها غير مدركة أنها "أخطر عليها وعلى مستقبل وحدة القطر" من الحركات المسلحة في الهامش التي أرادت القضاء عليها، ولكنه تحسب من سقوط "الإنقاذ" بثورة. ولو حدث ذلك فيكون فيه "إعادة إنتاج للعقل الرعوي".
فالثورة المتعجلة تحت سياط الإحساس بالظلم من رعوية "الإنقاذ" تحجب عن رؤية الثوري إشكالات التغيير. والتعجيل بالتغيير هو ما ارتكب به الإسلاميون انقلابهم عام 1989 بإملاء من عقل رعوي "التصقوا في دوافع فعلتهم بالدين التصاقاً رعوياً فجاً"، فالهبة الرعوية قد تكون دينية وعلمانية لا فرق، فالتعجيل بالثورة هبة رعوية أيضاً.
الإسلاميون والدولة
ولم تتفق للنور حمد الثورة طريقاً للخلاص من الإنقاذ حتى الساعة الـ23 من عمر الإنقاذ. فكان استبعد في لقاء له بجريدة "التيار" (24 أكتوبر- تشرين الأول عام 2018)، قبل شهرين من ثورة ديسمبر 2018، قيام انتفاضة شعبية ضد نظام الإنقاذ، بل "استشأمها" وقال إنها "خيار مخيف". وقال لا بخطأ أي اتجاه لإقصاء الإسلاميين في أي معادلة مستقبلية فحسب، بل باستحالته أيضاً. فالإسلاميون لبسوا معهم "جسد الدولة وأي نَزع لهم سيكون ’نزعاً‘ للدولة". ودعا إلى "حل توليفي" والخروج من المطب بتصورات جديدة تنقلنا كلنا ومعنا الإسلاميين إلى وضع أفضل وإلا الضوضاء الفادحة التي ستقودنا إلى المهلكة ونفقد بها الدولة نفسها.
ولا مانع أن يحسن المرء الظن في ما ساء ظنه فيه من قبل، فللثورات هذه الدالة. ولكن يقتضي الاتساق من النور حمد هنا ألا يجازف لاستنقاذ ثورة، هي عنده بحسب ما رأينا "رعوية كاملة الدسم" بالتحالف مع جماعة هي هبة رعوية في حد ذاتها، وليس مثل استدراك ثورة كانت هي "الخيار المخيف" مخاطرة في المجهول.
وزكى النور حمد في السياق للمعارضين منازلة "المؤتمر الوطني" (الحزب الحاكم في عهد البشير) اقتراعياً في الانتخابات التي كان تقرر لها عام 2020. وجاء بالمتغيرات التي جعلت من الثورة على النظام استحالة ومن ذلك تضعضع الطبقة الوسطى التي كانت تنهض بالثورة بتنظيماتها في حين مكن النظام لنفسه بالخطاب الديني ونجح إلى حد بعيد في تقليل فرص قيام ثورة ضده. ولم يشقق النور حمد الكلام في عورة المعارضة، فقال إنها لم تستثمر مظالم النظام التي وقعت على الناس لأنها لا تملك وراءها اصطفافاً جماهيرياً يذكر، ولم تعدُ في قوله سوى ظاهرة صوتية غادرها الشارع ليدبر معاشه من دونها. فأكثرية الجمهور في قبضة "المؤتمر الوطني". فهو الذي زرع لجانه الشعبية في كل حيّ من أحياء مدن البلاد، بل في كل قرية، وهو الذي بقي على اتصال يومي وثيق بشؤون الناس اليومية وهو الذي يملك أدق المعلومات عنهم وعن أحوالهم وإن لم يقدم لهم شيئاً، فضلاً عن امتلاكه الشبكة الإدارية والأمنية المتغلغلة في كل أصقاع البلاد التي تعرف كيف تسوق الجمهور إلى صناديق الاقتراع. ويضاف إلى ذلك امتلاكه الآلة الإعلامية والخطاب الديني المخدر في المساجد وجمعيات التلاوة وكل ما يجعل عامة الناس واقعين في قبضته.
فما تقوم به المعارضة إزاء ما يقوم به "المؤتمر الوطني" مجرد انتظار غير منتج، فإن ما تمارسه المعارضة الآن ليس سوى انتظار قاتل لن يلبث أن يجعلها في وقت قريب جداً مجرد لافتة عليها بضع كلمات.
"إنها الحرب"
ليست للنور حمد كلمة طيبة واحدة عن العقل الرعوي. فحياة أهله في شعابه اقتضت "قوة البأس وشك السلاح، كما اقتضت ثقافة قتالية وقدرة عملية على وضع اليد على حيازات الأرض والدفاع عنها كلما اقتضى الأمر"، فيرى العقل الرعوي مغنماً حلالاً في انتهاب مال الآخر الذي ليس بينك وبينه حلف أو جوار بخلاف بيئة الحداثة التي يسبغ عدلها الجميع. ولا يحلو الغزو والاستحواذ للعقل الرعوي في مثل مجاورتهم بنية حضارية متقدمة يلمحون فيها علامات ضعف عسكري. وكانت "الدعم السريع" خلال حربها "يوماً مفتوحاً" لحيازات المال والعقار حتى جاء إخلاؤها للمباني في صلب اتفاق سلام جدة الأول (مايو 2023). إلا أن النور حمد لم يخضع هذه الانتهاكات لمفهومه عن العقل الرعوي بذريعة "إنها الحرب ومن غلب سلب" في قوله. فذكر في عبارة شهيرة أن مطلب خروج "الدعم السريع" من بيوت الناس شطط في التفكير، بل استحالة، وزاد أن الاحتكام إلى العقل في هذا الأمر أولى من الاحتكام إلى العاطفة. فاحتلال "الجنجويد" بيوت الناس أخرج الناس عن طورهم فركبتهم العاطفة في حين صح أن يركبهم العقل. فمثل ذلك الاحتلال مما يتوقعه المرء في حرب لأن "الحرب لا تدار بأخلاق"، ولذا يعمل أهل الحكمة ألا تندلع حرب، ومتى اندلعت اندلقت شرورها.
واعترف النور حمد أخيراً بارتكاب "الدعم السريع" لتجاوزات في حربها ضد القوات المسلحة وهي عنده موجبة للمساءلة، إلا أن الجيش هو الذي لم يرغب في عقد مثل هذا التحقيق. ومع ذلك فهذه الانتهاكات مما يقع في حرب تنتج أوضاعاً ينهار فيها حكم القانون. وبينما يصعب الدفاع، في قوله، عن "الدعم السريع" إلا أن من صحت مؤاخذته حقاً فهو القوات المسلحة التي أشعلت الحرب، فالأوْلى تحميل وزر التعديات لمن أشعل الحرب بدلاً من التمسك بتفاصيل التعديات التي لا سيطرة لمرتكبها عليها، فالحرب تؤدي إلى أوضاع ينهار فيها القانون وتلغي الدولة.
مفهوم العقل والانتهاكات
لم يعطل النور حمد هنا تطبيق مفهومه للعقل على انتهاكات "الدعم السريع" التي يصدق عليها ذلك العقل كما لا يصدق على الحركة الوطنية كما أراد النور حمد فحسب، بل جعل الحرب ساحة مثالية لممارسة العقل الرعوي كما شخصها "من غلب سلب" فيقول، "يقولوا ليك ’الدعم السريع‘ يطلع من البيوت. هو احتلها يطلع ليك كيف؟ ما بيطلع إلا بتفاوض. ما بيطلع ليك. في زول احتله ليهو محل في معركة طلع منها ساكت لأنك أنت قلت له اطلع. بيطلع لما أنت تكون عندك قوة تطلعه. تخليه يطلع. وعملياً أنت ما عندك هذه القوة". وهذا بالطبع بخلاف قانون الحرب الإنساني. ولا أعرف إن كان النور حمد اكترث ليراجع استباحته لحقوق المدنيين على ضوء ما كفله عهد جنيف الخاص بحماية المدنيين في الحرب (12 أغسطس 1949). وبالعدم فقد جعل النور حمد من حربنا "هبة رعوية" على ميثاق حداثي وصدق فيه قوله إن عقلنا الرعوي ابتلاء رعوي منذ وفود العرب إلى السودان لا نملك معه صرفاً ولا عدلاً.
كان لقاء النور حمد قائد ثاني "الدعم السريع" عبدالرحيم دقلو ومصافحتهما موضوع تعليق طريف في الوسائط. قالوا إن دقلو سأل حمد "لقيتنا كيف؟"، وهو السؤال التقليدي لمنسوبي "الدعم السريع" لأسراهم ليطروا معاملتهم وإنسانيتها.
ibrahima@missouri.edu