في انحياز ألمانيا إلى إسرائيل في حربها على غزة
تاريخ النشر: 5th, November 2023 GMT
لا تفتأ الحكومةُ الألمانيّة تَذكُر "حقَّ إسرائيل المشروع في الدفاع عن النفس المكفول لها في القانون الدوليّ" ردًا على هجوم حماس فجر السابع من شهر أكتوبر الجاري، الذي أسفرَ عن مصرع نحو 1400 إسرائيليّ، وأسْر أكثرَ من مائتَي إسرائيليّ. فألمانيا- كجلّ الدول الغربيّة- اختارت منذ الوهلة الأولى الاصطفافَ غير المشروط إلى جنب إسرائيل، ودعمها المطلق "في حربها على الإرهاب"، مهما كانت الفاتورة الإنسانيَّة الباهظة التي سيدفعها المدنيّون الذين يتجرّعون الأمرَّين في غزَّة؛ جرَّاء حصار شديد منقطع النّظير منذ عَقد ويزيد.
فحتّى وإن كانت ألمانيا – التي بات مستشاروها يؤكّدون في كل وقت وحين على أنَّ "أمن إسرائيل مصلحة عُليا للدولة"- قد خفَّفت قليلًا في الأيّام الأخيرة من حدّة لهجة تصريحاتها بخصوص دعمها المطلق، وغير المشروط إسرائيلَ، كما جاءَ في كلمة وزيرة خارجيّتها، أنالينا بيربوك، في مجلس الأمن، حيث أشارت أخيرًا إلى أنَّ دفاع إسرائيل عن النفس لابدّ أن يتم "وَفق القانون الإنساني، ومع توخّي أكبر قدر ممكن من الاعتبار للسكّان المدنيين"، إلا أنّ هذه النبرة الطفيفة المتغيّرة في موقف ألمانيا تظلُّ مجردَ كلام لا يُجاوز تَراقيها، مادامت لا تعبأ لمعاناة الفلسطينيّين، ولا تستنكر استباحة إسرائيلَ محظورات القوانين الدوليّة على نحو صريحٍ لا يقبل التأويلَ، وما دامت لا تطبِّق المعايير نفسَها على الجميع، كما كان دأبها دومًا في صراعات أخرى، حينما كانت تنحاز إلى القيم الإنسانية.
بلغت ذِروة الدعوات الرامية إلى شيطنة الاصطفاف إلى الجانب الفلسطيني، في محاولة نائبة رئيس حزب الاتحاد الديمقراطيّ المسيحيّ، كارين بْرِين، تجريمَ هتاف "فلسطين حرّة" الذي كثيرًا ما تصدح به حناجر مؤيدي فلسطين في المظاهرات، إذ صرّحت في لقاء تلفزيوني بأنّ هتاف "فلسطين حرة ليس هتافًا بريئًا، وإنما صيحة حرب لعصابة إرهابيّة"
كما أنَّ دعوة بيربوك إلى احترام القانون الإنسانيّ، تفقد مصداقيّتها تمامًا إذا أخذنا بعين الاعتبار كلمة المستشار الألمانيّ، أولاف شولتز، في تصريحٍ للصحافة، إذ أكّد أنّه لا يساوره شكّ ألبتّة في أنَّ الجيش الإسرائيليّ سيلتزم حتمًا بمبادئ القانون الدوليّ بحُجّة أن "إسرائيل دولة ديمقراطيّة ذات مبادئ إنسانية تديرها". فإلى أي أساس يستند هذا اليقين المطلق للمُستشار الألمانيّ، وهذا وزير الدفاع الإسرائيليّ، يوآف غالانت، نفسه يفنّد هذا الزعمَ حين يضرب بمبادئ القانون الدوليّ عُرض الحائط، ويأمر على مرأى ومسمع من العالم بقطع الماء، والطعام، والوقود، والكهرباء عن غزّة، والتعامل مع سكّانها باعتبارهم "حيوانات بشرية"؟!
فالبند الثامن من النظام الأساسيّ للمحكمة الجنائية الدولية يعتبر "تعمّد تجويع المدنيين- كأسلوب من أساليب الحرب بحرمانهم من الموادّ التي لا غنى عنها لبقائهم، بما في ذلك تعمُّد عرقلة الإمدادات الغوثيّة على النحو المنصوص عليه في اتفاقيّات جنيف "- جريمة حرب. فضلًا عن أنّ تجريد صفة الإنسانيّة من الفلسطينيّين- أو غيرهم من البشر مهما كانت جريرتهم- عنصريةٌ مقيتةٌ، وخرقٌ صارخٌ لحقوق الإنسان، لا يختلفُ حول ذلك اثنانِ.
إنَّ محاولة ألمانيا تزكية الجيش الإسرائيليّ- عبر ادّعاء اكتراثه لأي من المبادئ أو المواثيق الدوليّة في حرب لا تبقي ولا تذر، أودت حتى الساعة بأكثر من تسعة آلاف شهيد، منهم أكثر من ثلاثة آلاف طفل، ودمّرت %50 من الوحدات السكنيّة جراء قصف غير مسبوق لا يفرق بين هدف عسكري ومدني- ما هو إلا تضليل وتمويه للأحداث؛ لأنّ سفك دماء ألوف من الأبرياء لا يمكن أن يكون دفاعًا عن النّفس، وإنما مجزرة مهولة لا يجوز الصمت عنها.
فجلّ المنظمات الدولية – بما فيها الأمم المتحدة، ومنظمة الصحة العالمية، ومنظمة العفو الدولية، و"هيومن رايتس ووتش"- وغيرها تُفنّد السردية الألمانية، وتدين إسرائيل بشدّة. وترى بعض هذه المنظمات في إمعان الجيش الإسرائيليّ في القصف العشوائي الأحياءَ السكنيةَ، واستهداف المستشفيات، والمدارس، ودور العبادة، وتدمير البنية التحتية، والتهجير القسري، والحصار المطبق، أدلةً دامغةً على ارتكاب إسرائيل جرائمَ حرب لا لبسَ فيها. هذا ناهيك بالاحتلال الذي هو علّة العلل في كل ما يحدث من كوارث إنسانيّة للفلسطينيين منذ بضعٍ وسبعين سنة.
من اللافت للنظر أن يصاحب انحياز الحكومة الألمانيّة شبه إجماع سياسيّ داخليّ منقطع النّظير، تبنَّت فيه جلّ الأحزاب الموقف الرسمي بحذافيره، ما عدا حزب اليسار الذي شكّل في هذا الصدد ذاك الاستثناء الذي يؤكّد القاعدة. وتجلّى هذا التوافق السياسي في إخماد كل الأصوات الداعمة لفلسطين، تارة عبر محاولة حظر المظاهرات المندّدة بالحرب جملة وتفصيلًا، ومصادرة منظميها حقّهم الدستوري في التجمّع السلمي، والتعبير عن الرأي. وتارة أخرى عبر وضع كل ناقد لسياسة إسرائيل تحت طائلة معاداة السامية دون فرق أو تمييز.
قد بلغت ذِروة الدعوات الرامية إلى شيطنة الاصطفاف إلى الجانب الفلسطيني، في محاولة نائبة رئيس حزب الاتحاد الديمقراطيّ المسيحيّ، كارين بْرِين، تجريمَ هتاف "فلسطين حرّة" الذي كثيرًا ما تصدح به حناجر مؤيدي فلسطين في المظاهرات، إذ صرّحت في لقاء تلفزيوني بأنّ هتاف "فلسطين حرة ليس هتافًا بريئًا، وإنما صيحة حرب لعصابة إرهابيّة".
وفي جملة التصريحات، والدعوات التي تنضح آنية كثير منها بالعنصريّة، والشعبوية نجد تصريحات فريدة برع أصحابها في ممارسة سياسة خلط الحابل بالنابل، على نحو سُريالي مثير للغثيان، كتصريح رئيسة لجنة الدفاع في البوندستاغ (البرلمان الألماني)، ماري-أغنيس ستراك-زيمرمان، من الحزب الديمقراطي الحر، التي رأت أن "ثمة علاقة وطيدة بين هجوم روسيا على أوكرانيا، والهجوم الإرهابي لحماس على إسرائيل"، لافتة الأنظار إلى أنّ هجوم حماس يوم السابع من أكتوبر، موافقٌ لعيد ميلاد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وهو أمر يستحيل – حسَب زعمها – أن يكون محضَ صدفة.
أدَّى هوس إخماد أصوات كلّ من يحاول أن يغرّد خارج سرب الموقف الرسمي، إلى المبالغة في كيل تهم معاداة السامية، والتوجس خيفة من كل ما من شأنه أن يوشي بانتقاد مباشر أو غير مباشر لحرب إسرائيل على غزّة. وقد كان من ضحايا هذا التوجّس الهستيري الكاتبة عدنية شبلي التي تمّ تأجيل تكريمها بجائزة "ليبيراتوربرايز" (LiBeraturpreis) لأجلٍ غير مسمّى لمجرد أنّها ذات أصول فلسطينية.
كما أنّ محاولة تناول أحداث حرب غزّة، في سياقها التاريخي، باتت اليوم أمرًا مرفوضًا. ولم تسلم من النقد في هذا الصدد شخصيات مرموقة كالأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، حين صرّح بأن "هجمات حماس لم تحدث من فراغ"، ولا الفيلسوف السلوفيني، سلافوي جيجيك.
فعلى الرغم من إدانة جيجيك الصريحة "هجوم حماس على الإسرائيليين دون قيد أو شرط" في كلمة افتتاحية معرِض فرانكفورت للكتاب، قامت عليه الدنيا ولم تقعد لاستغرابه من محاولة فرض "الحظر على التّحليل"، إذ لاحظ أن مجرد إبداء الرغبة في تحليل الخلفية المعقدة للصراع، يعرض المرء لتهمة "دعم إرهاب حماس". وهذا ما أكّده أيضًا أودو شتاينباخ، الخبير في شؤون الشرق الأوسط، حين أثار الانتباه إلى عدم وجود ثقافة الاختلاف حينما يتعلّق الأمر بفلسطين، وحذّر من "أنّ تهمة معاداة السامية باتت حجّة قاتلة لوأد أي نقاش في مهده".
إنَّ اصطفاف ألمانيا غير المشروط إلى جنب إسرائيل- دون مراعاة حقوق الفلسطينيين، وتجاهل خروقاتها التي لا تخطئها العين- لن يؤدي إلى تحقيق المبتغى المنشود. فحتى لو تمكّنت إسرائيل من اجتثاث حماس من فوق الأرض إلى الأبد، كما قال وزير خارجيتها، فإنّ هذا لن يضعَ حدًا للصراع العربيّ- الإسرائيليّ، ما دامت إسرائيل ماضيةً في انتهاكِ حرمة المسجد الأقصى، وحصار غزّة، وبناء المستوطنات، ونسف كلّ أمل في بناء دولة فلسطينيّة مستقلّة. فالتجاربُ الماضيةُ أظهرت أنّ الحَيف العظيم الذي استساغه الغرب بحجّة محاربة الإرهاب للقضاء على تنظيم القاعدة لم يسفر في آخر المطاف سوى عن ظهور جماعات جديدة أكثر غلوًّا، وتطرفًا، وإرهابًا كالدولة الإسلامية (داعش). علاوةً على أنَّ ما يحدث الآن سيقوّض مشاريع التقارب مع الدول العربيّة، وسيزيد الهوّة بين إسرائيل وجيرانها عمقًا واتساعًا، ما سيؤدي إلى زعزعة الاستقرار الهشّ في منطقة باتت على برميل بارود يوشك أن ينفجر.
لقد كان حريًا بألمانيا- خاصة لمسؤوليتها التاريخية تجاه اليهود- أن تسعَى جاهدةً إلى العمل على إحلال سلام عادل، وشامل يضمن العيش الكريم لكلا الشعبَين: الفلسطيني، والإسرائيلي على حدّ سواء في ظلّ دولتَين مستقلتَين ذواتَي سيادة كاملة. وهذا لن يتأتّى بانحياز أعمى دون قيد أو شرط إلى طرف على حساب طرف آخر، وإنّما عبر العمل الجادّ على إنهاء الاحتلال، ووقف الاستيطان، والإفراج عن الأسرى، وعبر الانحياز المطلق إلى القوانين الدوليّة، ومبادئ حقوق الإنسان.
فليس ثَمة من سبيل أمام الحكومة الألمانية- إن كانت جادّة في وقف رحى الحرب- إلا تسمية المسميات بأسمائها، والوقوف على مسافة واحدة من كلّ الأطراف، وتطبيق المعايير نفسها على الجميع، كما طالب بذلك عام 2012 الأديب الألمانيّ الكبير غونتر غراس، الحاصل على جائزة نوبل للآداب، حين ذمَّ في قصيدته المشهورة "قول ما لا بدَّ أن يقال" هذا "النفاق الغربيّ الذي ضاق به ذرعًا"، وسياسة الكيل بمكيالَين في التعامل مع إيران، وإسرائيل بخصوص امتلاك الأسلحة النوويّة:
فهكذا فقط سيتم مساعدة الجميع: الإسرائيليين والفلسطينيين، وأكثر من ذلك، مساعدة كل أولئك الذين يعيشون في هذه البقعة التي يسيطر عليها الهوس جنبًا إلى جنب أعداء، وفي النهاية مساعدتنا نحن أيضًا.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssجميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
هذه هي المخططات الخفية التي تُدبّرها إسرائيل لتركيا
لم يعد اليمين الأكثر تطرفًا في إسرائيل، يبدي أي قدرٍ من الحياء أو التحسب والحذر، وهو يبوح بما يختزنه في عقله الأسود، من مخططات ومشاريع، تكاد تطال مختلف دول المنطقة ومجتمعاتها، وتمسّ بالعمق، أمنها واستقرارها وسيادتها وسلامة أراضيها ووحدة شعوبها.
آخر الصيحات التي خرجت من أفواه قادته، جاءت على لسان الوزير جدعون ساعر، ودعوته لتشكيل "حلف أقليات" في الإقليم، تستند إليه إسرائيل في استهداف أعدائها من شرقي المتوسط إلى ضفاف قزوين.
لم يكن الرجل قد قضى سوى أيام قلائل، في منصبه على رأس وزارة الخارجية، إثر انقلاب نتنياهو على وزير دفاعه، حتى بدأ يُلقي على مسامعنا، بعضًا من فصول "نظرته الإستراتيجية" للإقليم، الذي تشكل إسرائيل فيه، "أقلية وسط أغلبية معادية"، مُقترحًا البحث عن "مُشتركات" مع أقليات أخرى، بدءًا بدروز سوريا ولبنان، وليس انتهاء بأكراد سوريا، والعراق، وتركيا، وإيران، فاللعب على ورقة "المكونات"، كفيل بجعل إسرائيل، "أكبر الأقليات وأقواها"، في فسيفساء المشرق العربي وهلاله الخصيب ودول الجوار الإقليمي للأمة العربية.
الأمر الذي يدفع على الاعتقاد الجازم، بأن ساعر لم يعرض سوى رأس جبل الجليد من مشروعه لـ "تجزئة المجزَّأ"، في حين ظل الجزء الأكبر منه، غاطسًا تحت السطح، وهو بالقطع، يشمل مختلف "المكونات" الاجتماعية في دول المشرق وجوارها الإقليمي.
وبالنظر إلى السياق الذي طُرح فيه، "حلف الأقليات" وتوقيت هذا الطرح، يمكن الافتراض، بأن تركيا، قبل غيرها، وأكثر من غيرها من الدول المستهدفة، هي الحلقة الأولى في إستراتيجية التفكيك المنهجي المنظم، لبنية هذه المجتمعات ووحدة وسلامة أراضي هذه الدول.
فأنقرة، رفعت وتيرة انتقاداتها لحرب إسرائيل البربرية على غزة ولبنان، وهي تقدم حماس والجهاد وبقية الفصائل الفلسطينية، بوصفها حركات تحرر وطني مشروعة، في مواجهة "طوفان الشيطنة" و"حرب الإلغاء" اللذين تتعرض له من قبل آلة "البروباغندا" الإسرائيلية، المدعومة من قبل أوساط غربية وإقليمية وازنة.
ولعلّ هذا ما تنبهت إليه القيادة التركية، مبكرًا وقبل أن يُخرج ساعر ما في جوفه، عندما بدأت التحذير من مغبة تطاير شرارات الحرب إلى سوريا، وعلى مقربة من حدودها، بل وإبداء الاستعداد لمواجهة تركية – إسرائيلية إن تدحرجت كرة النار، وعجز المجتمع الدولي عن وقفها.
وفي كل مرة صدرت فيها عن أنقرة، تحذيرات من هذا النوع، كانت أنظار المسؤولين والناطقين باسمها، تتجه إلى لعبة "المكونات" التي تريد إسرائيل فرضها على الإقليم، بدعم وإسناد من دوائر غربية عديدة، وتحت حجج وذرائع ومزاعم شتى.
مبادرتان استباقيتانفي هذا السياق، يمكن النظر إلى المبادرات الاستباقية الأخيرة التي صدرت عن أنقرة، وأهمها اثنتان: الأولى؛ داخلية، وصدرت عن دولت بهتشلي، حليف أردوغان وزعيم الحركة القومية و"ذئابها الرمادية"، الرامية لإغلاق ملف المصالحة بين أتراك تركيا وكردها، وهي مبادرة كانت مفاجئة لجهة توقيتها والجهة التي صدرت عنها، وسط قناعة عامة بأنها لم تأتِ منبتّة عن السياق الإقليمي، وانفلات "التوحش" الإسرائيلي من كل عقال، وأنها لم تأتِ من دون تنسيق مسبق بين الحليفين: بهتشلي وأردوغان.
صحيح أن المبادرة، فجّرت قلق خصومها الداخليين، بالذات على "ضفتي التطرف القومي" الكردي – التركي، وأنها أثارت انقسامًا بين "تيار قنديل" داخل أكراد المنطقة، وتيار المصالحة والاعتدال، الذي يُعتقد أن عبدالله أوجلان، يقف على رأسه، من مَحبَسه على جزيرة "إمرالي".
وصحيح أن خصوم المصالحة عملوا على تفجير مركبها قبل إبحاره وسط تلاطم أمواج المواقف والمصالح المتناقضة، بدلالة الهجوم على شركة "توساش" في قلب العاصمة التركية في الثالث والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وما أعقبه من تصعيد في العمليات طال مناطق داخل تركيا وخارجها (سوريا والعراق).. لكن الصحيح كذلك، أن قطار المبادرة ما زال على سكته، رغم العرقلة، وأنه قد يواصل مسيره، ما دام أن وجهته النهائية، تحصين الداخل التركي في مواجهة مؤامرات التفكيك.
أما المبادرة الثانية؛ فسابقة على تطورات الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان، وإن كانت اكتسبت زخمًا إضافيًا في الأسابيع الأخيرة، والمقصود بها، الرغبة التركية الجارفة بالمصالحة مع دمشق، وعروض الرئيس التركي المتكررة، للقاء الأسد، وإغلاق صفحات الخلاف (الصراع) بين البلدين.. وهي المبادرة، المدفوعة بجملة من الحسابات والاعتبارات التركية، من بينها قضية اللاجئين السوريين، وأهمها "المسألة الكردية".
والحقيقة أن أنقرة، لم تكن بحاجة لأن تنتظر جدعون ساعر ليخرج ما في "صندوقه الأسود" من مشاريع طافحة بالعدائية لتركيا، حتى تبدأ بالتحرك المضاد، وتشرع في العمل على إحباط مراميها وأهدافها، والمؤكد أنها كانت تدرك، أن "النجاحات" التي سجلتها إسرائيل على الجبهة الشمالية مع لبنان، وفي مواجهة حزب الله، وتكثيفها العمليات ضد حزب الله وإيران في سوريا، فيما يشبه الاستباحة الكاملة للأجواء والسيادة السوريتين، من شأنها إحياء النزعات الانفصالية لدى بعض تيارات الحركة الكردية في المنطقة، ما دام أن هذه النزعات كانت قد تغذّت تاريخيًا وتضخمت، على جذع "الغطرسة" و"الاستعلاء" الإسرائيلي.
كما أن التطاول الإسرائيلي المتكرر على إيران، سواء في عمقها أو مناطق نفوذها، وعدم نجاح الأخيرة في بناء معادلة ردع صارمة في مواجهة التهديدات باستهداف برنامجَيها النووي والصاروخي – من ضمن أهداف إستراتيجية أخرى – ساهم بدوره في زيادة المخاوف التركية، من تضخم الدور الإقليمي لإسرائيل، ولجوء تل أبيب لاستخدام أسلحة وأدوات من النوع الذي تحدث عنه ساعر: "حلف الأقليات".
العامل الأميركيلم تكن علاقات تركيا بإدارة بايدن سلسة دائمًا، وغلب عليها التوتر في بعض الأحيان على حساب مقتضيات عضوية البلدين في "الناتو"، ومن بين جملة الأسباب الباعثة على فتور العلاقات وأحيانًا توترها، احتلت "المسألة الكردية" مكانة متميزة في صياغة شكل ومحددات العلاقة مع إدارة بايدن الديمقراطية.
فالرئيس بايدن، عُرِفَ عنه، تاريخيًا، تعاطفه الشخصي مع "الانفصالية" الكردية، وهو كان سبّاقًا من موقعه في مجلس الشيوخ لعرض تقسيم العراق إلى دويلات ثلاث. ودعم بكل قوة، قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والأطر والأذرع السياسية والاجتماعية والمالية المنبثقة عنها والموازية لها.
ونافح بقوة أيضًا عن بقاء وحدات من الجيش الأميركي في مناطق شمال شرق سوريا؛ لحماية الحركة الكردية وتدعيمها، إن في مواجهة دمشق وطهران وحلفائهما، أو بالأخص في مواجهة تركيا. وهو أغدق على أكراد سوريا، الأكثر قربًا من "مدرسة أوجلان" والـ "بي كي كي"، السلاح والعتاد، الأمر الذي لطالما قرع نواقيس الخطر في مراكز صنع القرار في الدولة التركية.
وربما لهذا السبب بالذات، سقطت أنباء فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية واكتساح حزبه الجمهوري مقاعد الأغلبية في مجلسَي الشيوخ والنواب، بردًا وسلامًا على تركيا ورئيسها رجب طيب أردوغان، فالأول نجح في إقامة "علاقات عمل" مثمرة، ونسج بعض خيوط الصداقة مع الأخير، لأسباب لا مجال للخوض فيها في هذه المقالة، وهو متحرر من أية صلات أو "مشاعر" حيال كُرد المنطقة، والأهم، أنه بادر في ولايته الأولى إلى الإعلان عن نيته سحب قواته من شمال سوريا، وقد يستكمل في ولايته الثانية، ما كان بدأ به، قبل تدخل مؤسسات "الدولة العميقة" الأميركية لإحباط مساعيه آنذاك.
على أن مشاعر الارتياح للتحولات الأخيرة في الإدارة والكونغرس الأميركيين، لا تكفي لتبديد مخاوف أنقرة مما يمكن لتل أبيب، أن تقدم عليه. فالأتراك، بلا شك، يدركون أتم الإدراك، "مساحات المناورة وحرية الحركة" التي تتمتع بها إسرائيل في علاقاتها مع الولايات المتحدة.
ويعرفون تمام المعرفة، أن اليمين الفاشي في تل أبيب، قادر على مغازلة مشاعر اليمين الأميركي المتطرف، ومداعبة أولويات "الدولة العميقة" في الولايات المتحدة، وبالضد من إرادة الإدارة في بعض الأحيان، إن تطلب الأمر و"المصلحة العليا" ذلك. ومن هنا يمكن القول إن مشوار تركيا في تعاملها مع "المسألة الكردية"، لن يكون معبدًا وسلسًا.
أنقرة تعوّل أيضًا على قلّة اهتمام ترامب بالقضية السورية، وتلمّست خلال ولايته الأولى، استعداده للتسامح مع دور روسي متنامٍ في سوريا، وتحبيذه تنامي هذا الدور على حساب الدور الإيراني بالأخص، فيما الرجل ربما يكون مقبلًا على فتح صفحة من التعاون مع الكرملين في أوكرانيا، وملفات أخرى، على الساحة الدولية.
وأنقرة تعوّل أيضًا على ما يمكن لموسكو أن تفعله بوحي من مصلحتها في خروج القوات الأميركية من سوريا، إن لجهة حفز جهودها للمصالحة مع دمشق، أو لجهة التوسط بين القامشلي والأسد، فضلًا عن تخفيف احتقانات علاقاتها مع إسرائيل، في ضوء ما يشاع عن جهود روسية للدخول على ملفات الوساطة بين إسرائيل ولبنان، ونوايا لم تتضح بعد، تنمّ على دعم روسي لقيام سوريا، بدور في الحد من قدرة حزب الله على إعادة بناء قدراته العسكرية، حال وضعت الحرب على هذه الجبهة، أوزارها.
هي مرحلة جديدة، تدخلها العلاقات التركية الإسرائيلية، تحكمها ثوابت ومتغيرات لدى الطرفين، في بيئة محلية وإقليمية بالغة التعقيد، والأيام المقبلة، تبدو محمّلة بكل جديد.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية