أبت ساجدة التي تشبه الفراشة، أن تترك دميتها تحت الركام، والأتربة، والحجارة المحطّمة، تشبثت بها رغم أنها ماتت، وهي لا تدري أن في الموت لا يبقى لأحدٍ شيء يأخذه معه، يذهب وحيدًا كما جاء إلى هذه الدنيا وحيدا، ولكن ساجدة لم تذهب كاملة كما جاءت، نصفها العلوي بتمامه مع طبقة رمادية من رماد كثيف، وأتربة سوداء، وخيوط من الدمية القتيلة.

ساجدة ابنة الخامسة، زهرة تفتحت في حديقة صغيرة لمراسل تلفزيون فلسطين الصحفي محمد أبو حطب، دللّها وكأنّها وحيدته، رغم أنها الرابعة تسلسلا في العائلة، أحبّها بكل أبوة، ورعاها بكل مستطاع، ومن أجلها ترك لساعة؛ تغطية العدوان الإسرائيلي في يومه السابع والعشرين على قطاع غزة، من مكان وجوده في مستشفى ناصر بمدينة خان يونس، ترك عمله المتواصل والدؤوب بعد أن سمع رجفة الخوف تتصاعد من حنجرة ابنته، فقرر أن يذهب ليضمها بدفء، ويعيد إليها أمنها، ولتستكين روحها برؤيته، ولكي تتغلب على الرعب المهاجم مع صوت الطائرات الخفيضة في سماء المدينة، ساجدة التي تضم دميتها بقوة وكأنّها درعها الواقي من الوحوش، تبكي ببراءة الطفولة، وترسم صوتها على مدارج الصدى، في حشر بشري مرعوب من الموت، ويستقوي بالتسبيح، وذكر الله، ولكن صراخ الرعب المولود من حنجرة طرية يدمي قلوب من حولها، رغم فشل كل محاولات تدخل أمها، وجدّتها، وشفيع الندرة الماء في زجاجته الأخيرة، رغم التضحية بما تبقى من خبز يابس مقايضة بالسكوت، كلهم فشلوا وتبقى ساجدة تتلوع من هول الرعب. ساجدة المدللة، ذات الجديلتين الطويلتين الشقراوتين، تزحف على ركبتيها؛ عاجزة بسبب الرعب، تستجدي المشي كعادتها وتفشل، لتواصل زحفها بين العشرات الذين تكدسوا في غرفة واحدة، اعتقادًا منهم لوهلة أنها الغرفة الأكثر أمنا في العمارة، وأن جدرانها أجدر بحمايتهم من القذائف والصواريخ إذا ما سقطت بعد هذا الهدوء الموحش.

ساجدة التي نجحت بإحضار والدها الصحفي إلى البيت، لم تكن تعلم أن عيون الموت كانت تطارده، تلاحقه، تتبعه، وكانت قادرة على اصطياده منفردا وهو في طريق عودته إلى منزله، لكنها منحت الحقد، وصنّاعه زمنا خبيثا لكي يدخل منزله، فكان سعيه نحو طفلته وما دله عليها سوى صراخها الناعم، والمبحوح، وما إن اقترب من ساجدة، متجاوزا أقدام، وأجسام المحشورين في الغرفة، حتى كانت عيون الموت قد استدعت الصاروخ الأول فالثاني ليتحول كل المكان بكل من فيه وما فيه إلى رماد وأشلاء.

ماتت ساجدة وسكت صوتها، وبقيت دميتها في حضنها، ويدها المغسولة بالدم، والغبار تحيط جسدا بلا روح، لعلها تؤنسها بقبرها، وينبت لها لسانا أمام الله لتشهد لصاحبتها الطفلة بظلم قاتلها بدون ذنب ارتكبته سوى أنها خافت من صوت طائراته، وارتعبت من انفجارات قذائفه!. ماتت ساجدة ووالدها وعشرة آخرون، بعد أن خانتهم غرفة مظلمة، سميكة الجدران، سقطت بأركانها وسقفها لتكوم لحومهم شظايا أمام عالم يرى ويسمع ولا يفعل سوى البكاء.

ناصر عطا الله صحفي وكاتب فلسطيني من غزة

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

شرطة ديالى تطيح بشخص أقدم على إحراق زوجته حتى الموت

شرطة ديالى تطيح بشخص أقدم على إحراق زوجته حتى الموت

مقالات مشابهة

  • قبل غزة… صرخة الأنصار فضحت الجميع
  • شرطة ديالى تطيح بشخص أقدم على إحراق زوجته حتى الموت
  • ذا سينرز.. درس في تحويل فيلم رعب إلى صرخة سياسية
  • "سناء جميل: 95 عامًا من الإبداع والجَدَل... أيقونة الفن المصري التي لا تنسى"
  • هل زرع ترامب الرعب في قلوب الأميركيين في أقل من 100 يوم؟
  • ‏‏عن موت (السواقة)!
  • 22 يونيو| حجز محاكمة المتهمين بإنهاء حياة الطفلة ساجدة للحكم
  • صرخة في وجه العالم .. لا للإبادة
  • نوبة صَحَيَانْ، لكافة أهل السودان
  • قنوات مفتوحة لنقل مباراة ريال مدريد وبرشلونة في نهائي كأس ملك إسبانيا