مآلات المشهد السياسي في المنطقة بعد الحرب على غزة
تاريخ النشر: 4th, November 2023 GMT
توعد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بإعادة تشكيل الشرق الأوسط بعد عملية طوفان الأقصى التي أطلقتها كتائب القسام -الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية حماس– في السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
وتشير تصريحات نتنياهو إلى أن إسرائيل تريد استغلال التأييد والدعم الأميركي والغربي إلى أقصى قدر ممكن بما يحفظ ويعظّم مكتسباتها من الحرب.
أحداث السابع من أكتوبر لها ما بعدها إذ سوف تعيد تشكيل الشرق الأوسط مستقبلا، وفقا لقواعد الصراع بين المشاريع الكبرى في المنطقة، المشروع الأميركي الغربي الإسرائيلي، والمشروع الإيراني والمشروع التركي.
نوعية العمليةذات التخطيط الذي استخدمه الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات في حرب السادس من أكتوبر من عام 1973 في يوم الغفران أو يوم كيبور" يوم التطهر من الذنوب"، باغتت القوات المصرية الجيش الإسرائيلي وحققت انتصارا كبيرا استعادت به الأرض المصرية المحتلة.
وبذات أيام الغفران كررت حركة حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي ذات الهجوم النوعي المباغت على المستوطنات والمواقع العسكرية الإسرائيلية في غلاف غزة.
وتأتي نوعية هذه العملية للمقاومة من عدة أوجه:
حجم الخسارة الكبيرة التي لحقت بإسرائيل: فهي ثاني أكبر خسارة تلحق بالقوات الإسرائيلية بعد حرب عام 73، إذ قتلت المقاومة الفلسطينية أكثر من 1400 وأصابت أكثر من 5132 آخرين، وأسرت ما يزيد على 250 جلهم من العسكريين وبعضهم ضباط في رتب مرتفعة في الجيش. عملية المقاومة ضربت الهجرات اليهودية في مقتل: إذ إن وعود الأمن والرفاه والعيش الرغيد التي تروج للمهاجرين لإسرائيل قد تبددت بعد العملية فلا أمن بعد نجاح المقاومة في اقتحام المستوطنات والمواقع العسكرية بهذه الطريقة التي شاهدها كل العالم. العملية شكّلت ضربة كبيرة لصورة إسرائيل الاستخباراتية: بعد أن باغتت العملية إسرائيل دون أي تسريب أو توقع مسبق فكانت العملية شاهدا على فشل ذريع للاستخبارات الإسرائيلية. العملية أظهرت هشاشة إسرائيل العسكرية فالدولة التي تقدم نفسها للتطبيع مع الأنظمة العربية بالتفوق الأمني والعسكري أظهرت أنها عاجزة عن حماية نفسها وأنها عندما شعرت بالخطر الحقيقي لجأت للحليف الغربي ليحميها في المنطقة، فمن كان يقدم نفسه أنه الحامي للمنطقة والأنظمة الحليفة اليوم يطلب الحماية من أميركا والغرب. العملية أعادت الثقة بفكرة المقاومة وجدواها في مسيرة التحرير الفلسطيني، هذه الثقة التي انهارت بسبب حرب النكسة وتكريس فكرة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر على مدار أكثر من نصف قرن، وخاصة بعد أن فشل خيار التسوية الذي اتبعته السلطة الفلسطينية على مدار 30 عاما في تحقيق أي شيء يذكر للفلسطينيين. سيناريوهات الحرب الحاليةالسيناريو الأول:
انتصار إسرائيلي ساحق على المقاومة الفلسطينية: الانتصار الذي تريده إسرائيل هو اجتثاث حماس نهائيا وجعل غزة منزوعة السلاح واسترداد الأسرى، وأي حديث عن بقاء حماس أو بقاء السلاح في غزة والتفاوض على الأسرى يعني بالنسبة لإسرائيل هزيمة منكرة، الانتصار الذي تريده إسرائيل هو انتصار صفري وأن الخصم يجب أن يستسلم وينتهي تماما وهذا هو الهدف الإسرائيلي والأميركي المعلن.
هذا الهدف له ما يدعمه وما يخدم تحققه على الأرض من وجود ضوء أخضر أميركي وغربي باستخدام القوة ضد غزة دون أي خطوط حمراء، والجسر الجوي من الأسلحة الأميركية المتطورة، وبوارج الردع التي تمنع توسع الحرب في المنطقة، والدعم المالي الكبير الذي يقدمه الغرب لإسرائيل حتى بلغ في آخر مطالبات الرئيس الأميركي جو بايدن للكونغرس بالموافقة على تخصيص 14 مليار دولار دعما عسكريا لإسرائيل.
ويقف خلف ذلك، ماكينة إعلامية غربية متعاطفة وداعمة لإسرائيل، ظروف لن تتركها القيادة الإسرائيلية السياسية والعسكرية دون السعي لإنهاء حماس والمقاومة وسلاح غزة للأبد، فهذه فرصة لن تتكرر لإسرائيل من وجهة نظر القيادة الإسرائيلية.
السيناريو الثاني:
بقاء المقاومة وقيادة المقاومة وسلاح المقاومة وبقاء الأسرى تحت يد المقاومة سواء كانوا أحياء أو أمواتا، فمجرد بقاء المقاومة سواء كان ذلك مع خسائر برية إسرائيلية أو دون خسائر إسرائيلية سيمثل فشلا وهزيمة للحملة الإسرائيلية، فكل ما هو دون اجتثاث المقاومة وسلاحها هو انتصار فلسطيني.
هذا السيناريو له ما يدعمه بالتجارب السابقة في حروب إسرائيل البرية فحرب 2006 في لبنان فاجأت الجميع وصمد حزب الله، وخضعت إسرائيل بالنهاية لصفقة تبادل الأسرى وتكبدت خسائر لم تكن تتوقعها.
ويمكن تكرار النموذج اللبناني في الحرب البرية على غزة، ولكن هذا يعتمد على مقدار ما أعدته المقاومة الفلسطينية للحرب البرية، وهذا ما سوف تحكم عليه الأسابيع الأولى للحرب البرية.
ما بعد الحربفي حال تحقق لإسرائيل السيناريو الأول وحققت نصرا ساحقا واستطاعت احتلال غزة مرة أخرى وإنهاء وجود المقاومة ونزع سلاحها فإن المشهد العسكري والسياسي لصالح إسرائيل في المنطقة سيكون على الشكل التالي:
خروج نتنياهو منتصرا من الحرب فهذا يعني تشديد قبضة اليمين الإسرائيلي على مقاليد الحكم في أي انتخابات مقبلة ولسنوات طويلة. سوف يعمد نتنياهو إلى استثمار الانتصار والسعي لحرب أخرى وتكرار ذات الانتصار في جنوب لبنان على حزب الله مستفيدا من الدعم الغربي والأميركي اللامحدود، وخاصة بعد أن دخل جنوب لبنان في الحرب ولو بشكل محدود حتى الآن. تثبيت وتعميق إسرائيل سياسة قوة الردع وسياسة إدارة التوحش العسكري التي انتهجتها في حروبها مع الجيوش العربية وحركات المقاومة الفلسطينية على مدار تاريخ القضية الفلسطينية. إضعاف أي فرصة لأي انتفاضة فلسطينية ثالثة في الضفة الغربية، والذهاب إلى الخطة الأهم لدى اليمين الإسرائيلي بالتقسيم المكاني للمسجد الأقصى وتوسيع التقسيم الزماني للمتشددين اليهود وتسريع خطة تهويد المسجد الأقصى. انتصار إسرائيل سوف يعني تسليم غزة للسلطة الفلسطينية على الغالب والعمل بشكل متسارع على تنفيذ بنود صفقة القرن بالقوة وبفرض الأمر الواقع، وذلك بضم غور الأردن والمستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية التي تستحوذ على أكثر من 43% من أراضي الضفة لإسرائيل وإقامة حكم ذاتي فلسطيني بكنتونات جغرافية غير متصلة مع العمل على البدء بسياسة التهجير الناعم. وكشفت دراسة مسربة الخطة الإسرائيلية في توطين مليوني فلسطيني في مصر بقيمة 8 مليارات دولار لبناء مدن للفلسطينيين في سيناء ودفع تعويضات قد تصل إلى 30 مليار دولار للدولة المصرية على أن يتم تجريف غزة بالكامل وبناء مستوطنات إسرائيلية عليها. تراجع المشروع الإيراني في المنطقة وتراجع ما يسمى محور المقاومة وتقدم وتفوق المشروع الأميركي الغربي الإسرائيلي، وهذا يعني تسارع دوران عجلة التطبيع العربي مع الكيان الصهيوني لتصبح إسرائيل القوة الكبرى في المنطقة، وإعادة المشروع التركي إلى مربع التفاهمات مع المشروع الأميركي الإسرائيلي لا مناكفته ومنافسته.أما في حال تحقق انتصار للمقاومة وهنا أقصد بالانتصار "بقاء المقاومة وسلاحها في غزة والتفاوض على الأسرى"، فإن المشهد السياسي في المنطقة سيكون مختلفا تماما وعلى النحو التالي:
انتصار المقاومة يعني تجذير حماس لتكون القوة الأولى في القضية الفلسطينية وعلى المجتمع الدولي وإسرائيل أن يتعاملا معها كاللاعب الأهم في تقرير مصير القضية الفلسطينية وتراجع دور السلطة الفلسطينية التي أصبحت هيكلا بلا مضمون ولا محتوى. تراجع اليمين الإسرائيلي وانتهاء الحياة السياسية لنتنياهو وحمل الولايات المتحدة الأميركية والتيار الأقل يمينية في إسرائيل على إعادة التعامل مع الرواية والسردية والتصور الأردني الذي ما زال متمسكا ومدافعا عن خيار المبادرة العربية بحل الدولتين وإعادة إنتاج فكرة إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة على حدود السابع من يونيو/حزيران لعام 67 بإقامة دولة فلسطينية على كامل أراضي الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية وغزة والغور الأردني. إعادة ترتيب الشرق الأوسط وصعود أقوى لإيران في كثير من ملفات المنطقة، مما سوف يخلق تفاهمات عربية إيرانية وتمدد التيار المناوئ للمشروع الأميركي، مع احتمال تقارب تركي إيراني أكبر تدعمه روسيا، تقارب سيعزز مكانة ونفوذ روسيا في المنطقة. ارتياح أكبر لدول الطوق وخصوصا الأردن ومصر وذلك بالتخلص من مشروع التهجير وإن كانت تلك الدول تقبل استفادة الإسلام السياسي مرحليا كعرض من أعراض انتصار المقاومة في غزة مع قدرتها على إبقاء الإسلام السياسي تحت السيطرة والإضعاف بمقابل التخلص من هاجس التهجير وإعادة التوطين في مصر والأردن بما يمثله من تهديد إستراتيجي للأمن القومي لبلدان الطوق. انحسار موجة التطبيع العربي الإسرائيلي حيث إن التطبيع كان محمولا بدافعية التفوق العسكري والأمني الإسرائيلي، فالخسارة الإسرائيلية سوف تظهر قوة إسرائيل بحجمها الحقيقي بعيدا عمّا تروجه إسرائيل عن نفسها كحليف قوي ومتفوق أمنيا وعسكريا، يمكن التعاون معه من قبل الدول العربية في مواجهة المشروع الإيراني. حرب مختلفةنتائج الحرب لا أحد يستطيع التكهن بها، فالدعم الأميركي الغربي لإسرائيل غير محدود ولا مشروط ولم يوضع له سقف زمني ولا يوجد ضغط شعبي غربي حتى الآن يكفي لوقفه، مما يجعل هذه الحرب مختلفة تماما عن مثيلاتها منذ عام 2008 وحتى عام 2023 على غزة.
وفي الوقت ذاته فإن قوة المقاومة البرية لا أحد يستطيع تقديرها حيث إن حماس تنظيم شديد السرية وحجم السلاح ونوعيته الذي تدفق إليها لا يستطيع أحد تقديره، مما يجعل كل احتمالات الحرب مفتوحة.
من المؤكد أن ما قبل السابع من أكتوبر لا يشبه ما بعده، وأننا مقبلون على أحداث وتطورات سياسية كبيرة تجعل كل الأطراف المتأثرة بالقضية الفلسطينية يقظة ومتوجسة ومتخوفة ولا تريد أن يكون حل القضية الفلسطينية لصالح إسرائيل على حسابها.
كل ما جرى حتى الآن في الحرب الإسرائيلية والقصف الجوي لا يغير شيئا على الأرض وأن نتائج الحرب البرية وحدها هي من سيعيد تشكيل المنطقة وتقوية محاور وإضعاف أخرى وتقدم مشاريع وتراجع أخرى. الحرب البرية لطوفان الأقصى قد تكون الحدث الأكبر في القرن الحادي والعشرين في الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: المقاومة الفلسطینیة القضیة الفلسطینیة السابع من أکتوبر الشرق الأوسط فی المنطقة أکثر من
إقرأ أيضاً:
المقاومة بالسرد الجميل.. تجربة القصة الفلسطينية القصيرة من محمود شقير إلى زياد خداش
عبّرت القصة القصيرة في مسيرتها الطويلة عن حياة الإنسان الفلسطيني وعن واقعه، ونهضت بأدوار مختلفة، تمتد من الدور الجمالي المرتبط بالأدب وأجناسه، مرورا بأدوار سياسية واجتماعية وتربوية وتثقيفية متشابكة.
ورغم انشغالها القدري بالتعبير عن مواجهة الاحتلال، وباختلالات الواقع، وعما نتج عن التهجير وتجارب الشتات وحرب الإبادة المفتوحة، فإن انشغالها الموضوعي والفكري لم يصرفها عن التطور الفني، بل يمكن القول إن التحديات التعبيرية قد دفعتها إلى البحث عن سبل فنية جديدة تطوّر الشكل القصصي ليتسع للتعبير عن هذه التجارب المختلفة.
وفي المسيرة الطويلة نجد علامات تستحق الالتفات لدورها المركزي في تطوير القصة، وبوجه خاص تجارب الريادة التاريخية المتمثلة في خليل بيدس، وعارف العزوني، ونجاتي صدقي، ومحمود سيف الدين الإيراني، وصولا إلى جبرا إبراهيم جبرا وإميل حبيبي وغسان كنفاني وسميرة عزام. وامتدادا إلى الأجيال اللاحقة في سبعينيات القرن العشرين وما بعدها، وحتى مآلها اليوم الذي نجد فيه أصواتا مميزة تواصل هذه الرحلة الفنية والجمالية السردية.
ولقد مثّل جيل "الأفق الجديد" القصصي، الذي ولد في ستينيات القرن العشرين في ظلال مجلة "الأفق الجديد" المقدسية، أهم حاضنة لأدباء تلك الحقبة، وقد ترأس تحريرها الأديب والشاعر الراحل أمين شنار، وصدرت بين عامي 1961-1966 في القدس، واستقطبت المجلة إنتاج معظم الأسماء البارزة في فلسطين والأردن ونجحت في اكتشاف الأسماء الأدبية الجديدة إلى جانب العناية بثقافة القصة ونقدها. وقد نضج هذا الجيل في المراحل اللاحقة وغدا موجة وتجربة قصصية بارزة في الكتابة القصصية في فلسطين والأردن.
إعلانوأسهمت الصحافة والمجلات الأدبية بسهم وافر في العناية بالقصة وتطويرها، إلى جانب موارد مهمة تشترك فيها القصة الفلسطينية مع القصة العربية منها -بإيجاز-: الاتصال بالقصة الغربية والعالمية، فما يحدث من تطور عالمي في القصة القصيرة نجد أصداءه في نماذج كثيرة، ولذلك فإن هذا العامل عامل مهم في تطوير القصة وانفتاح آفاقها. وهناك عنصر تراثي يتمثل في الموروث السردي العربي، الذي عرف ألوانا من القص الموجز أو القصير، كما عرف صورا من التقنيات والحيل السردية التي أفاد منها القصاصون.
وأخيرا عنصر المطبعة والطباعة وما تطور عنها من صناعة النشر، التي أسهمت في تعميم الكتاب القصصي، وتوسيع دائرة تأثيره على الكتاب والقراء معا، وتبعه تأثير الإنترنت ووسائل التواصل والمنشورات الإلكترونية التي أثرت في حياة الإنسان المعاصر، كما تركت تأثيرات ملحوظة في الآداب والفنون.
الأنواع الفرعية والوضعية البينية للقصة القصيرة
من مظاهر نضج الجنس الأدبي ولادة تفريعات له في صورة أنواع فرعية، تتفاوت في استمراريتها وقوة ظهورها وإمكانية التعرف إليها، وتدل فيما تدل على ثراء الجنس الأدبي واتساع إمكاناته.
وفي حالة القصة القصيرة تمكن ملاحظة أنواع فرعية من أمثلتها:
القصة القصيرة جدا وهي أكثر الأنواع كثافة وإيجازا. المتوالية القصصية أو سردية الحلقات القصصية التي تبنى من عدة قصص مترابطة. القصة الحوارية التي تبنى على عنصر الحوار ذي الطابع المسرحي. القصة المشهدية التي تفيد من التقنية السينمائية ومن مبدأ عين الكاميرا، فتتجول وتتظاهر بعدم التدخل، سوى التقاط أطراف المشهد ومكوناته.أما الناحية الثانية التي يمكن أن تساعدنا في ملاحظة تحولات القصة القصيرة فتتمثل في التركيز على الوضعية البينية التي رافقتها منذ نشأتها، أي أن هذه الوضعية تمثل سمة أصيلة فيها وليست سمة طارئة أو مستجدة، وما يفعله القصاصون لا يجاوز تلوينها بصور وألوان جديدة تدل على انفتاحها وعلى قابليتها للتطور. ومن صور هذه البينية الصور الآتية:
إعلان التأرجح بين الدرامي والغنائي، فمن الدرامي تتأتى حمولة الأحداث المؤثرة وألوان الصراع التي تعبر عنها القصة، ومن الغنائي تتفجّر شعرية القصة القصيرة، وأبعادها التأثيرية وحمولتها العاطفية. المراوحة بين الشعر والقص مما يتمثل في شعرية القصة القصيرة، وهي تكاد تكون سمة خاصة لبعض أنواعها كالقصة القصيرة جدا، مثلما تكاد تلحق بكثير من نصوصها، في مستوى ملاحظتها لموضوعها أو لغتها وبنيتها. الدمج بين الحقيقيّ والسيريّ والمتخيل: بحيث تغدو بعض القصص أقرب إلى ما يسمى بالمتخيل الذاتي، وهو لون فرعي يختلف عن السيرة الذاتية ذات المنزع الواقعي، ويختلف عن القصة القصيرة بصفتها التخييلية المعروفة. الواقعي والحلمي/الكابوسي: وكثيرا ما تلجأ القصة القصيرة إلى عالم اللاوعي ذلك المورد الحيوي للأدب والفن بوجه عام، وهو ليس موردا جديدا ولا اكتشافه بجديد، وإنما يكتسب صورا وأمثولات جديدة في كتابات جديدة. التفاعل مع وسائل الاتصال، ومع تأثيراتها الأسلوبية واللغوية ومع موضوعات وأفكار مستوحاة من هذه الوسائل الجديدة، وكذلك تصوير علاقات البشر/الشخصيات في هذا العالم الجديد. ولا شك في أن الاتجاه إلى موضوعات ومضامين جديدة يستدعي تطويرات وتغييرات تلقائية في الأبنية والأشكال الفنية وصولا إلى اكتساب النوع نفسه سمات جديدة. ضروب الميتاسرد "قصة القصة": لم تعد القصة تكتفي بالواقع الحقيقي أو المتخيل مادة لها، بل غدت مشاغل الفن القصصي مادة للقص نفسه. بحيث تتأمل القصة نفسها وتتأمل تاريخها وتقنياتها، وقد تعرض لكتاب أو قصاصين ولقصص سابقة، وقد تعبر عن آراء نقدية أو فنية، فلم يعد الحديث عن القصة ومشاغلها وتاريخها حكرا على النقد والبحث وإنما أصبحت النصوص الإبداعية تشارك في هذه المراجعات والتأملات. ويمكن النظر في هذه المسألة بصفتها ضربا من البينية التي تصل الإبداع الأدبي بنقده وقراءته. التنوع في لغة القصة القصيرة: فغالبا ما تكتب بالعربية المعاصرة المتحررة من البيان التراثي، ومن صفات عبّر عنها القدماء بالجزالة والفحولة، لصالح لغة طيّعة، تتداخل فيها الفصيحة المعاصرة مع مستويات مختارة من اللهجة المحكية، ولذلك فمعجمها ينتمي إلى المستوى المعاصر وإلى ما يقرب من اللغة التي طورتها الصحافة والطباعة الحديثة، في حين تحافظ على سلامة التراكيب بالحدود التي يسهل على القارئ العام التواصل معها، وتبتعد عن التراكيب الصعبة الموروثة. الجمع بين الجد والهزل من خلال تطوير استعمال السخرية والفكاهة في معالجة مواقف الواقع. وأخيرا المراوحة بين السرد الواقعي والسرد المتصل بعالم الإنسان والانتقال منه إلى سرد متصل بالعالم الطبيعي، كما في السرد على ألسنة الحيوان ومفردات طبيعية أخرى، وهو لون قديم في التراث العربي والإنساني، ولكنه يشهد توسعا أو عودة في السنين الأخيرة. إعلانإن أحد الموارد الكبرى في تطور الأجناس والأنواع يتمثل في انفتاح الأجناس وإفادتها من بعضها، كعلاقة القصة بالشعر والرواية والمقالة والمسرحية، وعلاقتها بأنواع غير أدبية كالأنواع الفنية، مثل السينما، وتقنيات الصورة، ووسائل التواصل، وإنتاجات الذكاء الصناعي مؤخرا. ولعل أية نظرة منصفة متأملة لأنواع القصة الفرعية ولسماتها البينية التي أشرنا إليها ستطلعنا على أن علاقة القصة بغيرها من أنواع أدبية وغير أدبية تمثل موردا مفتوحا للتجريب والتطوير، وهو في الوقت نفسه مبعث تعدد الأنواع الفرعية للقصة التي يمثل اتساعها مظهرا تجريبيا لا يخفى.
تجربة محمود شقير: رائد التجريب القصصي
يمكن أن نقف تطبيقيا عند تجربة الأديب محمود شقير (مواليد عام1941) نظرا لتميزها بالتجريب المتزن المدروس، وبما فيها من مظاهر التفاعل مع الواقع الفلسطيني داخل الوطن المحتل وخارجه، وإذا تجاوزنا كتاباته الواقعية في المرحلة الأولى من إنتاجه فسنوجّه أنظارنا إلى اهتمامه الواسع بتطوير القصة القصيرة جدا منذ صدور مجموعته (طقوس للمرأة الشقية) عام 1986م التي خصصها بشكل كامل لهذا النوع، وواصل هذه الرحلة التجريبية في مجموعات متتابعة بلغت 8 مجموعات صدرت آخرها بعنوان (حليب الضحى) عام 2021.
ويمكن تسجيل بعض المعالم التي تعيننا في تبين هوية هذا النوع استنادا إلى تجربة محمود شقير، ومن أهمها: قِصر الشريط اللغوي، والتركيز على بناء الحالة القصصية ويقتضي ذلك التخلي النسبي عن قصة "الحكاية" أو "الأحدوثة" لصالح قصة "الحالة" مما يسمح بالانتقال من الحبكة التقليدية إلى لقطة الحالة الوجدانية أو الموقف الإنساني ذي الطابع الغنائي، وينتج عن ذلك ويترافق معه ما نصفه بشعرية القصة القصيرة جدا، "وذلك عندما تقترب القصة من الشعر وتلجأ إلى بعض أدواته".
ومن أهم مظاهر شعرية القصة، ما يتمثل في المحتوى الوجداني-الانفعالي الحاد، كما يتمثل في اللغة التي تتظاهر بالتقشف والزهد الجمالي، ولكنها تلجأ في الوقت نفسه إلى تقنيات صياغة الجملة الشعرية التي تبرز فيها مكانة اللغة وقوتها وإيجازها وكثافتها واختزالها، إلى جانب إمكانات استعمال بعض الصور الشعرية والتخييلية المدروسة.
إعلانومن مظاهر التجريب وخصائصه الفنية، ما يتصل بتوظيف السمات العجائبية والغرائبية، والاعتماد على بلاغة المفارقة التي تبدو تعويضا فنيا عن قصر الشريط اللغوية، لضمان اتساع الدلالة وإشباع المعنى.
وهناك الاهتمام بطرق الافتتاح والاختتام، ذلك أن البداية والنهاية مهمتان إلى حد كبير في بناء القصة القصيرة جدا. وإذا كان الافتتاح يغلب أن يكون بجملة قابلة للانفتاح والاستئناف ليشكل مظلة للعبارات اللاحقة، فإن الختام ينبغي أن يقفل القصة وأن يميل إلى تركيز الدلالة المفتوحة. "إخفاق النهاية قد يؤدي إلى إخفاق هذا النوع الدقيق".
المتوالية القصصية تمثل كتابا قصصيا تاما تشكل فيه القصة القصيرة جدا وحدة صغرى، مثل: "القدس وحدها هناك" لمحمود شقير (الجزيرة) جماليات المتوالية القصصيةوفي مجموعات أخرى طوّر محمود شقير كتابته من كتابة قصص قصيرة جدا مستقلة ومنفردة لصالح نوع أقرب إلى المتوالية القصصية التي تمثل كتابا قصصيا تاما تشكل فيه القصة القصيرة جدا وحدة صغرى، تمتلك اكتمالها الداخلي واستقلالها النسبي، ولكنها تسمح بالانفتاح على القصص اللاحقة المكونة للكتاب.
استعمل هذا البناء الجديد في مجموعات مثل: "القدس وحدها هناك"، و"احتمالات طفيفة"، و"مدينة الخسارات والرغبة". وهي خطوة غير هينة في التحول من الجزئي إلى الكلي، وفي تطوير إمكانات القص المتناهي الصغر ليغدو مترابطا مع غيره، في بناء تجربة كلية، لا تتحول إلى رواية أو نوفيلا، وإنما تبقى من ناحية مكوناتها الأساسية ضمن دائرة القصة القصيرة جدا.
تمثل "المتوالية القصصية" نوعا قصصيا آسرا من الناحية الشكلية ومن ناحية تجربة الكتابة والقراءة، فهو يتطلب تجربة موسعة أو موحدة ويتجاوز ما ألفناه في المجموعات التقليدية التي تجمع قصصا متباينة، ولا بد للمتوالية من نقطة ارتكاز تمثل سر وحدة الكتاب وأساس بنائه، وقد تستند إلى ما يقرب من المكونات الروائية التي تضمن وحدة التجربة وما يقرب من وحدة المكان والزمان أحيانا، ولكن مع ضمان الوحدة العامة.
إعلانفلا بد من احتراف مبدأ الوحدات الصغيرة التي ينبغي أن تظهر مستقلة ويمكن قراءتها بصفتها قصصا مكتملة قبل البحث عن روابطها مع غيرها، وهكذا تتأسس هذه التجربة على مبدأيْن لم نألف الجمع بينهما ونعني الفصل والوصل بمصطلحات البلاغة، حيث تقتضي المتوالية توفر المبدأين معا وليس واحدا منهما، ولذلك فإنها تظل ضمن الأنواع القصصية الفرعية بالرغم من تلقيها في صورة تجربة متصلة أو مكتملة.
تجربة زياد خداش: قصص التخييل الذاتييمثل زياد خداش (مواليد 1964م) جيلا آخر هو جيل التسعينيات القصصي، وهي مرحلة ذهبية نشطت فيها كتابة القصة القصيرة في فلسطين والأردن، كما تتميز تجربة خداش بالاستمرار والإخلاص في الكتابة وتبني الأشكال والطروحات الحديثة، مما أسهم في بقاء تجربته مفتوحة على التجريب والتجديد.
وقد أصدر في مسيرته عددا من المجموعات القصصية منها: نومًا هادئا يا رام الله (1993) بالاشتراك مع وداد البرغوثي، خذيني إلى موتي (1996)، خطأ النادل (2015)، أسباب رائعة للبكاء (2016)، غارقون بالضحك (2019)، وآخر إصداراته: الجراح تدل علينا (2023).
تتشكل قصة زياد خداش في إطار قصدي من تحولات التخييل الذاتي، الذي يقرب أن يكون "كتابة حرّة تتولى الصدع وتتعهده، إن لم تتعهد الانكسارات الوجودية وتتولاها" على ما تقول إيزابيل جريل، في كتابها عن "التخييل الذاتي". ومن مظاهر التخييل الذاتي اعتماد الكاتب على وقائع حياته اليومية والواقعية وعلى الأحداث والتفاصيل التي مرت في تجربته، وبناء قصة تنقل المعاناة بحسّ فكاهي يخفف من تراجيدية الواقع، ويوفر أفقا قرائيًا ممتعا، ينفتح على تفاصيل الحياة اليومية التي لا يغيب عنها الاحتلال وأعوانه. ولكن في كل حال فإن شخوص القصة وأماكنها ومناخاتها أليفة يومية تضج باصطياد المفارقات.
أيضا يمكننا أن نلاحظ في كتابة خداش القصصية ذلك الطابع التجريبي وعدم الالتفات الحاسم أو القطعي لمسألة التجنيس بصفة مركزية والتفلت منها تحت تسميات مواربة مثل: نصوص، كتابات.. وكأن ذلك صدى للدعوات التي ترى في التجنيس قيودا على الإبداع، إلى جانب ما يؤدي إليه التخييل الذاتي من التقاطع مع السيرة الذاتية وألوان الأدب الشخصي، مما يعلي العنصر الذاتي ويضبّب العنصر الموضوعي ليغدو ثاويا في تجربة الذات وليس مستقلا أو منفصلا عنها.
إعلانويمكن ملاحظة الاعتماد البليغ على ضمير المتكلم لا بصفته ضميرا سرديا يشير إلى الراوي الذي اعتدنا على تمييزه عن المؤلف في النظرية السردية التقليدية، بل بصفته ضميرا يجمع المؤلف بالراوي، وهذا الجمع هو الصيغة التي دافع عنها رواد كتابة المتخيل الذاتي منذ صَكّ "دوبروفسكي" المصطلح في مواجهة مصطلحات فيليب لوجون وتحديداته في السيرة الذاتية.
إنه صيغة جديدة ليست تخييلية ولا وقائعية تامة، إنها في منطقة بين بين، تعتمد على الوقائع المرتبطة بالحياة الحقيقية للفرد، ولكنها لا تعد بلزوم الصدق الذي تعد به السيرة الذاتية في ميثاقها الأصلي. وهكذا يتيح التخييل الذاتي للفرد أن يروي أطرافا من وقائع حياته، دون خوف الوقوع في دعوى الكذب ذات الحساسية الأخلاقية، بل يتاح له أن ينتقل من الواقع إلى الخيال بحرية تامة، وبما يسمح له بتأويل الواقع ونقده والسخرية منه إذا شاء.
تحتاج تجربة زياد خداش إلى دراسة تفصيلية، وإلى تأويل يأخذ بعين الاعتبار تمثيلها للمهمش الفلسطيني سياسيا واجتماعيا خصوصا في مرحلة "ما بعد أوسلو"، فهذا الكاتب الذي ولد في القدس لأسرة مهجرة من إحدى قرى الرملة، وأقام معظم سني حياته في مخيم الجلزون قرب رام الله، ودرس في بير زيت وجامعة اليرموك قبل أن يقضي عدة عقود في التعليم، حاول أن يقاوم جهامة الواقع وأكاذيبه بالسخرية والمواربة والمفارقة، وباكتشاف طاقة الحياة خلف الطبقة الظاهرة من الحياة الفلسطينية.
يستعمل خداش اسمه الحقيقي (زياد) أو كنيته الشعبية (أبو الزوز) صراحة في قصصه، كما لو كان يروي فصولا ذاتية ومواقف حقيقية، ولكنه لا يقف بها عند حدود الحقيقة، وإنما يصعّد تلك الوقائع ليغدو لها معنى في إطار الوجود الفلسطيني والحياة المدججة بالصراع ومواجهة الاحتلال وأحوال الحياة في ظلال السلطة الفلسطينية الهشّة.
إعلانإنه يكتب عن جيرانه ومعارفه وأصدقائه، ويورد أسماء حقيقية ويخلط الواقع بالخيال في تركيبة عجيبة لا يصلح لها إلا أن تصنف تحت مسمى قصة التخييل الذاتي، إطارا موسعا لها يمكّن من تسويغ وجودها ومن إنصافها في التلقي والتأويل.
وإذا كانت المكونات الواقعية والتاريخية واضحة المعالم فإنها تنجدل مع سمات تخييلية في مقدمتها سمة التغريب أو إعادة التفريد عبر إضفاء صفة الغرابة وصفة التعجيب على مكونات الواقع، سواء عبر التحول (الكافكاوي)، الذي يأخذ صيغة فلسطينية في كتابات خداش، أو عبر التهيؤات والكوابيس التي تفتح كوى في جدران الواقع الصلد، وتسمح بمعاينته وتأويله من جديد.
وكثيرا ما يضفر الكاتب السمات الغرائبية والعجائبية بمسحة شعرية تسمح بدمج الحقيقي بالتخييلي استنادا إلى ما يوفره الموقف الشعري واللغة الشعرية من رحابة تخييلية.
المجموعة الأخيرة لزياد خداش (الجراح تدل علينا) الصادرة عن منشورات المتوسط، إيطاليا، 2023 (الجزيرة) الجراح تدل علينا: تحويل الواقع إلى قصص غرائبيةفي مجموعته الأخيرة (الجراح تدل علينا) الصادرة عن منشورات المتوسط، إيطاليا، 2023 يواصل زياد خداش استثمار الطريقة المميزة التي انتهجها وطورها على مر السنين، إنه يحدّق بعينين مفتوحتين على الواقع الفلسطيني الذي ينخرط فيه، ولكنه يبقي على مسافة الأمان الضرورية استنادا إلى اللغة القصصية التي يكتب بها، وعبر تحويل الواقع إلى قصص يكابد ما يكابد في قراءة هذا الواقع ونقده دون أن ينفصل عنه.
ولعل صيغة الاندماج بين المؤلف والسارد أو الراوي في حالة هذه الكتابة ليست إلا صيغة من صيغ المواجهة المواربة، وليس تحويل الذات المتمثلة في ضمير المتكلم إلى راو أو شخصية قصصية إلا صيغة تصالحية على مستوى الكتابة، بينما هي صيغة تعارضية على مستوى الموقف والرؤية.
وأخيرا فإن القصة القصيرة في فلسطين والعالم العربي تشهد تقدما ملحوظا يلمسه القارئ المتابع، وهو تقدم فني وموضوعي هادئ بعيد عن ضجيج الاحتفاء بالرواية التي ملأت فضاءات الإعلام ودور النشر والجوائز وغيرها، ولعل هذه الوضعية من الهدوء النسبي أفادت القصة فنيا وسمحت لها بقدر من الصنعة الفنية التي وجدنا أمثلة قوية عليها في تجربتي محمود شقير وزياد خداش.
إعلانوعلى امتداد العالم العربي هناك صور أخرى من جماليات القصة القصيرة نجدها في تجارب تسير في هذا الطريق القصصي الجديد، ومنها على سبيل المثال: تجربة أنيس الرافعي (المغرب)، وضياء الجبيلي (العراق)، وأماني سليمان داود (الأردن)، ومحمد رفيع (مصر) ونحو ذلك من تجارب السرد الجديد.