تابعت عددا من التقارير والمقاطع المرئية التي أظهرت ما يمكن أنْ يراه البعض تحيزا وعنصرية تمارسها نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدية مثل «شات جي بي تي ChatGPT»؛ حيث تُظهر بعض التجارب التي عرضتها هذه التقارير تحيزا لأنظمة الذكاء الاصطناعي لصالح الكيان المحتل عبر سؤال عن أحقية الفلسطينيين في الحرية والدولة المستقلة، وفي المقابل سؤاله عن حق اليهود في الحرية والوطن المستقل، وكانت إجابات النموذج التوليدي «شات جي بي تي ChatGPT» كما يعرضها صاحب التجربة في المقطع المرئي منحازة بشكل صريح مع الكيان المحتل؛ إذ تُقرر بكل وضوح حق هذا الكيان ومستوطنيه نيل الحرية والوطن ذي السيادة المستقلة، بينما يعطي إجابة عامة للوضع الفلسطيني في أنها قضية معقّدة ولا يمكنه التغلغل في تشعباتها السياسية؛ وبالتالي يفهم البعض أن لمثل هذه النماذج الذكية رأيًا يوافق رأي المحتل أن لا حقوق للشعب الفلسطيني، ولا وجود لقضيته كما يوحي ذلك عبر أسلوب التهرّب من الإجابة الصريحة والموضوعية -إثبات حق شعب ما في نيل حريته وحقوقه وتأسيس دولته المستقلة-.

وفقا لهذا السيناريو المعروض؛ تفترض المسألة -حسب البعض- وجود انحياز متعمد وموّجه من مصممي هذه النماذج إما عبر التوجيه الممنهج لخوارزميات أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدية وإما عبر البيانات التي تتغذّى عليها هذه النماذج أو حتى عبر الطريقتين معا، وبالتالي تنتفي صفة الذكاء عن هذا الكائن الرقمي في حال عدم امتلاكه للاستقلالية البعيدة عن التأثير البشري -على الأقل بعد مرحلة التدرّب-. سأحاول أن أعطي وجهة نظري العلمية والموضوعية -قدر المستطاع- لهذه القضية التي تخص آلية عمل نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدية وإمكانية تحيزها من عدمه وحدود هذا التحيّز -إن وُجِد-، وكذلك عرض تجربة سريعة سأجريها مع نموذج «شات جي بي تي ChatGPT» عبر أسلوب السؤال والجواب فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية والكيان الصهيوني.

قبل الولوج إلى مَعرِض هذه القضية وما يُمكن تقديمه من آراء علمية من المهم أن أذكّر أنه سبق التحذير من مخاطر نماذج الذكاء الاصطناعي -بشكل عام- المتعلقة بالتحيّز والعنصرية -سبق ذكره في مقالات سابقة نشرتها في جريدة عُمان- الذي أُثبتَ حدوثه؛ فثمّة تقارير علمية منشورة أكدت وجود حالات تحيّز لصالح عرق أو ديانة على حساب عرق وديانة أخرى مثلما حدث وما يزال يحدث في أنظمة -تعمل بواسطة نماذج الذكاء الاصطناعي- مراقبة الأشخاص عبر تمييز السلوك الإجرامي من ملامح الوجه التي يُعمل بها في بعض الأماكن العامة والمطارات في بعض الدول التي رُصِدَ أنها تمارس تحيزا غير عادل؛ إذ من الشائع أن نماذج الذكاء الاصطناعي تقوم بالتركيز على من تشتبه خوارزمياتها بهم من أصحاب عرق ولون معيّن دون غيره من الأعراق والألوان، وفُسّرَ هذا أنه نتيجة تدرّب النموذج الذكي على بيانات وأنماط خاصة -مثل بيانات لجرائم حصلت في مجتمعات ذات عرقيّة ما ومجرمين من العرقيّة ذاتها- أسفرت عن ممارسة النموذج الذكي لمثل هذه السلوكيات المنحازة وذي الطابع العنصري.

قمت بتوجيه سؤال -باللغة الإنجليزية- لـ «شات جي بي تي ChatGPT» فحواه: «أيستحق الفلسطينيون دولة مستقلة؟» فكان جواب النموذج التوليدي -بعد ترجمة جوابه للغة العربية دون أيّ تعديل للنص الأصلي باللغة الإنجليزية-: «السؤال فيما إذا كان يستحق الشعب الفلسطيني دولة مستقلة هي مسألة تتعلق بالنقاش والمفاوضات الدولية؛ فالرغبة في وجود دولة فلسطينية مستقلة هي قضية رئيسة في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. الحق في تقرير المصير هو مبدأ أساسي في القانون الدولي، ونال نصيبه من الالتفات من قبل قرارات الأمم المتحدة المختلفة. تؤيد العديد من الدول والمنظمات الدولية فكرة الحل المتمثلة في وجود دولتين؛ حيث توجد إسرائيل ودولة فلسطينية مستقلة جنبًا إلى جنب، كل منهما بسيادتها وحقها في تقرير المصير. تخضع تفاصيل أيّ اتفاق سلام محتمل، وحدود دولة فلسطينية، وطبيعة سيادتها للمفاوضات بين الأطراف المعنية. في النهاية، سيعتمد حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وإنشاء دولة فلسطينية مستقلة على المفاوضات والدبلوماسية، وعلى إرادة الأطراف المشاركة في العثور على حل مقبول من جانبهم يحترم حقوق وطموحات كل من الإسرائيليين والفلسطينيين». عند توجيه هذا السؤال ذاته لشات «جي بي تي» لكن بوضع كلمة الإسرائيليين بدل الفلسطينيين وفقا لصيغة السؤال: «أيستحق الإسرائيليون دولة مستقلة؟»، كان جوابه: «نعم، الشعب الإسرائيلي لديه الحق في وجود دولة مستقلة، وتأسست دولة إسرائيل في عام 1948م، والتي نالت اعتراف الأمم المتحدة. كان تأسيس إسرائيل نتيجة للأحداث التاريخية والاتفاقات الدولية، وكان هناك رغبة في تحقيق تقرير المصير اليهودي بعد الحرب العالمية الثانية والهولوكوست. اعترفت الأغلبية الساحقة من الدول والمنظمات الدولية بشرعية دولة إسرائيل، بما في ذلك الأمم المتحدة. مثل أي دولة ذات سيادة، يحق لإسرائيل الوجود وتحديد حكومتها وسياستها الخاصة، وحماية حقوق وأمان مواطنيها. من المهم أن نلحظ أن المناقشات المتعلقة بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني غالبًا ما تدور فيما يخص اعتراف إسرائيل بحقها في الوجود جنبًا إلى جنب مع حقوق الشعب الفلسطيني، بما في ذلك حقهم في تقرير مصيرهم والحصول على دولة مستقلة. سعيًا نحو حل سلمي لهذا الصراع القائم منذ فترة طويلة، يتعين معالجة حقوق وتطلعات كل من الإسرائيليين والفلسطينيين».

يتضح من هذه التجربة البسيطة -التي تعتمد على منهجية الحوار عبر السؤال والجواب - وجود أسلوب غير منصف -عبر المقارنة بين الجوابين- يحمل طابع التحيّز لصالح الكيان المحتل، وعبر اللغة «الأسلوب والمفردات» المتعالية التي تعطي الشرعية المطلقة لتأسيس الكيان المحتل دون اعتبارات قانونية وأخلاقية واضحة لأصحاب الأرض من الفلسطينيين، ومن الممكن أن يرى البعض عدم وجود هذا التحيّز الكبير، ولكنّي أعطي وجهة نظري الخاصة من زاوية ذاتية ومن زاوية موضوعية نسبية، ولكن ما يهمنا من الناحية العلمية هذا السؤال: لماذا من الممكن أن يتصرّف النموذج التوليدي بهذا السلوك التحيّزي؟ والجواب ببساطة أن النموذج التوليدي يعتمد على بيانات ومعلومات ضُخت إليه، وقام بالتدرّب عليها؛ ليستطيع التنبؤ بالنصوص وفقا لما يُطلب منه ويُسأل عنه، ويمكن استنتاج -من الجوابين السابقين لشات «جي بي تي»- عدة نقاط أولها تأكيد أن التأثير الإنساني الممكن على نماذج الذكاء الاصطناعي أكثر ما يكون بواسطة نوع البيانات التي تُوفّر لخوارزمية الذكاء الاصطناعي التي بواسطتها تتحدد سلوكيات الخوارزمية، ومن البديهّي أن معظم البيانات التي تدرّب عليها النموذج التوليدي منتقاة بعناية -بواسطة صانعيه- ومن مصادر محددة، وهذا يؤسس للاستنتاج الثاني الذي يؤكد استقلالية النماذج التوليدية بعد مرحلة التدرّب من حيث قدرتها على التنبؤ النصّي وفقا لتدرّبها على البيانات وتحليلها لها بناء على آلية رياضية سبق أن شرحتها في مقالات سابقة؛ فمن حيث المبدأ العلمي تعمل خوارزمية الذكاء الاصطناعي وفق آلية رياضية ثابتة لا سبيل إلى التحكم بها سواء عبر البرمجة أو بوسيلة أخرى أثناء عملها الفعلي -إلا في مراحل تأسيس عناصرها الرياضية من حيث عدد الشبكات العصبية ودوال التعلّم وسرعته، وهذا بطبيعته لا يتداخل مع آلية التنبؤ والقرارات فترة عمل النموذج-، وحينها لا يمكن أن نُلصِقَ صفة التحيّز والعنصرية بآلة رقمية ذكية -نتيجة تشابه عملها ومنطقها التفكيري مع الدماغ البيولوجي للإنسان-؛ كونها لا تملك عنصر العقلانية الكلّية التي يملكها الإنسان؛ فالمشاعر الداعية لممارسة التحيّز والعنصرية غير موجودة في أصلها، ولكنها تتولد نتيجة بيانات تتفاعل مع خوارزمية رياضية فائقة الذكاء؛ وهذا ما يُفسّر عنوان مقال سابق لي «الذكاء الاصطناعي ليس عقلا».

د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: نماذج الذکاء الاصطناعی شات جی بی تی ChatGPT دولة فلسطینیة الکیان المحتل دولة مستقلة التی ت

إقرأ أيضاً:

ديب سيك.. يهز عالم الذكاء الاصطناعي

في عالم يتسارع فيه تطور الذكاء الاصطناعي بوتيرة غير مسبوقة، جاءت تقنية "ديب سيك"  (DeepSeek) لتكون أكثر من مجرد ابتكار تقني، بل حدثا زعزع التوازنات الجيوسياسية والتكنولوجية على مستوى العالم. لم يكن إطلاق هذه التقنية قفزة نوعية في الذكاء الاصطناعي فحسب، بل شكّل تحديًا مباشراً للهيمنة الأميركية في هذا المجال، ما دفع عمالقة التكنولوجيا إلى إعادة النظر في استراتيجياتهم وخططهم المستقبلية لمواجهة هذا التغيير الكبير.
اقرأ أيضاً..مقارنة شاملة بين «ChatGPT» و«DeepSeek»

"ديب سيك": أكثر من مجرد نموذج ذكاء اصطناعي
تشير مصادر تقنية إلى أن "ديب سيك" لم يكن مجرد إنجاز تقني، بل خطوة استراتيجية أعادت تشكيل مشهد الذكاء الاصطناعي عالميًا فقد أدى إدراج نماذج "ديب سيك" ضمن منصات كبرى مثل "أزور" من مايكروسوفت و"AWS" من أمازون و"هواوي كلاود" و "علي بابا كلاود" إلى تعزيز فكرة التعاون العابر للحدود، مما يشير إلى بداية عصر جديد من الشراكات التكنولوجية.
ردود فعل عمالقة التكنولوجيا..أوبن إيه آي وجوجل وميتا 
لم تقف الشركات المنافسة مكتوفة الأيدي أمام "ديب سيك". حيث أطلقت "أوبن إيه آي" نموذجها الجديد "Reasoning o3"، إلى جانب وكيل "Operator AI" وأداة البحث العميق "Deep Research"، بهدف الحفاظ على ريادتها في الابتكار
من جهتها، كشفت جوجل عن "Gemini 2.0" و"Google Agentspace لتؤكد التزامها القوي بمواصلة المنافسة في سوق الذكاء الاصطناعي .
من جانبه علق مارك زوكربيرج على التطورات الأخيرة، مشيرًا إلى أن عام 2025 قد يكون العام الذي تصبح فيه النماذج مفتوحة المصدر الأكثر تطوراً،  مؤكدا بأن "Llama 4" المزمع طرحه خلال هذا العام سيكون أكثر أدوات الذكاء الاصطناعي تقدما واستخداماً حول العالم.
الصين تدخل بقوة عبر علي بابا
لم يكن التأثير مقتصرًا على الشركات الغربية فقط، إذ قدمت "علي بابا" نموذج "Qwen2.5-Max"، والتي زعمت أنها تفوقت على النموذج الشهير "DeepSeek-V3".
التأثير الاقتصادي والاستراتيجي
أحد أبرز الآثار التي أحدثها "ديب سيك" هو إثبات أن الأداء الفائق للذكاء الاصطناعي لا يستوجب ميزانيات ضخمة، مما قد يؤدي إلى انتشار أوسع للتقنيات المتقدمة وجعلها في متناول الشركات الناشئة والباحثين المستقلين.
دفع عجلة المصادر المفتوحة
من خلال تبني نهج المصادر المفتوحة، عزز "ديب سيك" بيئة تعاون أوسع بين المطورين، ما قد يفتح المجال لابتكارات جديدة ويقلل من هيمنة الشركات الكبرى على قطاع الذكاء الاصطناعي.

أخبار ذات صلة «تريندز» يطلق تقريراً بحثياً حول «الأثر الاقتصادي للذكاء الاصطناعي في الإمارات» جامعة أبوظبي و«شنغهاي ستمستار» توقعان اتفاقية لتطوير البحث العلمي

إعادة تشكيل الاستثمارات التقنية
اضطرت الشركات الكبرى إلى إعادة التفكير في استثماراتها، لا سيما في مجالات تصنيع الرقائق الإلكترونية ومراكز البيانات، وهو ما قد يؤثر على عمالقة الصناعة مثل "إنفيديا" و"إنتل".
أثارت "ديب سيك" موجة من التفاعل في أسواق المال، حيث لاحظ المحللون أن الشركات المنافسة اضطرت إلى تسريع إصداراتها الجديدة لطمأنة المستثمرين والحفاظ على حصصها السوقية
هل نحن أمام تحول جذري؟
بينما يعتقد بعض المحللين أن ردود الفعل الأولية كانت مبالغًا فيها، فإن التأثيرات الاستراتيجية والاقتصادية الحقيقية التي أحدثتها "ديب سيك" لا يمكن إنكارها. فقد أجبرت اللاعبين الرئيسيين في السوق على إعادة تقييم خططهم المستقبلية، مما يثبت أن هذه التقنية لم تكن مجرد إعلان عابر، بل نقطة تحول رئيسية في سباق التفوق في الذكاء الاصطناعي.
بهذه التطورات، يظل السؤال المطروح: هل ستظل الشركات التقليدية قادرة على التكيف مع هذه الموجة الجديدة من الابتكار، أم أننا نشهد بزوغ فجر عصر جديد في الذكاء الاصطناعي؟

المصدر: الاتحاد - أبوظبي

مقالات مشابهة

  • محدش يهددنا.. أحمد موسى: الثوابت العربية قائمة على إقامة دولة فلسطينية مستقلة
  • محلل سياسي سعودي: تنسيق مستمر بين مصر والمملكة في ملف القضية الفلسطينية
  • الإمارات وفرنسا توقعان إطار عمل للتعاون في مجال «الذكاء الاصطناعي»
  • أمازون تتوقع ارباحاً دون التقديرات بسبب الذكاء الاصطناعي
  • أوبن إي آي تطور طريقة تفكير نموذج الذكاء الاصطناعيo3-mini
  • ديب سيك.. يهز عالم الذكاء الاصطناعي
  • DoxAI لحلول الذكاء الاصطناعي تنضم إلى مبادرة الجيل التالي من الاستثمارات الأجنبية المباشرة
  • الأمم المتحدة تؤكد مجددًا دعمها لحل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية مستقلة
  • غوتيريش: أي سلام مستدام يتطلب إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية مستقلة
  • مندوب فلسطين بالأمم المتحدة: يجب إقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية