لماذا يُعنى الشيخ سلطان بتاريخ عُمان
تاريخ النشر: 4th, November 2023 GMT
على الرغم من أن الشيخ سلطان القاسمي حاكم الشارقة دارس للهندسة الزراعية بجامعة القاهرة، في نهاية ستينات القرن الماضي، إلا أنه منذ هذه الفترة المبكرة من حياته كان قارئًا نهمًا للثقافة العربية، مترددًا على منافذ بيع الكتب على سور الأزبكية، ثم مختلف المكتبات في أنحاء القاهرة، صديقًا للناشرين والمثقفين في مختلف صنوف الثقافة، لم تشغله دراسة الهندسة الزراعية عن شغفه بالقراءة في الأدب والفكر والتاريخ والفن، فضلًا عن حبه للمسرح الذي شغل حيزا من اهتماماته، ومنذ مطلع السبعينات من القرن الماضي حينما تبوأ منصب حاكم الشارقة، كانت الثقافة بكل مفرداتها موضع عنايته الأولى، حينما جعلها المدخل الرئيس لبرنامج التنمية في التعليم والكتاب والفن والأدب، لدرجة أن الشارقة أصبحت الآن واحة كبيرة للمعرفة بكل صنوفها، يقصدها المثقفون والمفكرون والفنانون من مختلف دول العالم.
اللافت للنظر أن الشيخ قد عُني عناية خاصة بعُمان، تاريخًا وثقافة، لدرجة أنه في معظم ما كتب كان هذا البلد الحاضر دائما، سواء في دراسته للدكتوراه أو فيما كتبه في الجغرافيا السياسية، أو فيما راح يكتبه من كتب تجاوزت الثمانين كتابًا، في التاريخ والجغرافيا والأدب والرواية والمسرح، ومختلف مجالات المعرفة، وقد أعطى اهتمامًا خاصًا بتاريخ عُمان، ابتداءً مما كتبه عن شرق إفريقيا أو اليعاربة أو البوسعيد، وقد فاجأنا هذا العام عند افتتاح معرض الشارقة للكتاب يوم الأربعاء الماضي بالإعلان عن موسوعته العلمية، التي خصصها لتاريخ عمان، وقد جاءت في 4 مجلدات. تناول المجلد الأول فيها تاريخ عمان من بداية الاستيطان البشري، ثم تناول في المجلد الثاني تاريخ ملوك النباهنة (١١٥٤ -١٦٢٢)، وأعتقد أن هذا المجلد قد أنصف دولة النباهنة، حينما اعتمد على وثائق ومخطوطات قديمة، لم يسبق أن تطرق إليها أحد من قبل، وخصوصًا وأن معظم ما كُتب عن النباهنة جاء في سياق دراسات أدبية وشعرية، بينما الشيخ سلطان قد غاص في المصادر القديمة، التي كشفت النقاب عن هذه الحقبة المهمة من تاريخ هذا البلد العريق.
خصص المجلد الثالث لتاريخ اليعاربة ( ١٦٢٤-١٧٤٧ )، وهي حقبة تعد من أهم الفترات التاريخية التي استطاع فيها العمانيون أن يواجهوا عدوا غازيًا، امتلك أسطولا بحريًا عملاقًا فاق كل إمكانات عمان، إلا أن إرادة هذا الشعب المثابر الجسور، الذي كان يخوض حربا على اليابسة، وفي مياه الخليج والمحيط الهندي، لذا كان هذا الصراع ملحمة تمكن فيها العمانيون من أن يُنزلوا بعدوهم هزائم ساحقة، وفي الوقت الذي كانت الحرب دائرة بكل ضراوة، كان العمانيون يخوضون حربًا في الداخل ضد أنصار التجزئة وسطوة القبائل، لكنها كانت ملاحم متواصلة، خاضها العمانيون بكل اقتدار، والجديد فيما كتبه الشيخ سلطان، اعتماده على مصادر برتغالية وهولندية وانجليزية، لم يسبق لأحد الباحثين أن اعتمد عليها من قبل.
خصص الشيخ سلطان المجلد الرابع لتاريخ أئمة البوسعيد ( ١٧٤٩-١٨٥٦)، وقد سجل ملاحم رائعة بدأها بالإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي والي صحار، والمؤسس الأول لدولة البوسعيد، وقد واجه حروبًا ضارية ضد الفرس الذين حاصروا قلعة صحار، التي اعتصم بها أحمد بن سعيد وراح يدافع عنها بجدارة بعد أن التف العمانيون من حوله، إلا أن قوة الفرس قد فاقت إمكانات العمانيين، لكن الأرض العمانية بشعبها ووديانها وجبالها كانت بمثابة الظهير الذي اعتمد عليه العمانيون لدرجة مكنتهم من طرد الفرس، وقد أجمع العمانيون وشيوخ القبائل والعلماء على طرد عدوهم. ويتوقف الشيخ سلطان خلال هذه الملحمة عند قضية كانت العامل الأهم في تاريخ حكام البوسعيد، الذين جعلوا من أنفسهم مواطنين كغيرهم من أفراد الشعب، وكان عنصر النجاح الحقيقي لأحمد بن سعيد، هو محبة الشعب والتفاف القبائل من حوله، وهي قاعدة أساسية في تاريخ عمان، ابتداء من عصر اليعاربة الذين خاضوا حروبًا ضارية، تفاوتت فيها الإمكانات مع عدوهم، لكن الشعب كان هو السند الحقيقي الذي خاض حربًا ضارية، سواءً في الخليج أو على اليابسة، وهي قاعدة رئيسة لكل نضالات العمانيين، الذين أدركوا منذ فترة مبكرة من تاريخ اليعاربة ومن بعدهم البوسعيديين أن قوةً الشعب والتفافه حول قيادته هي العامل الحاسم لكل الحروب التي خاضوها.
إذا كان الشيخ سلطان قد توقف في الجزء الرابع عند نهاية حكم سعيد بن سلطان (١٨٥٦)، إلا أنني أعتقد أنه اكتفى بتاريخ عُمان في ظل حكام الأئمة، التي شكلت مرحلة متواصلة من النضالات التي لم تتوقف، حينما دخلت القوى الأوروبية لإجهاض هذه التجربة التي امتدت إلى شرق إفريقيا والتي رآها الأوروبيون خطرا على نفوذهم مما كان سببا في إجهاض هذه التجربة العظيمة، ورغم ذلك فقد بقيت عُمان تواصل رسالتها معتمدة على الإنسان العماني وإمكاناتها الطبيعية، في ظل برنامج تنموي كان هدفه الإنسان، معرفة وثقافة وبناءً ومحبة، وهو ما يفسر اعتلاء عُمان هذه المكانة الكبيرة في ظل عوالم مضطربة، استقوت فيها الدول الكبرى على مصير الدول النامية، ورغم ذلك فقد مضت عُمان في طريقها بعيدًا عن أي مراهنات سياسية وأمنية، كانت سببًا في دخول العالم إلى أتون حروب متواصلة.
مما يسجل للسياسة العمانية أنها مضت في طريقها دون أن تتورط في نزاعات دولية أو إقليمية، وهو ما جعل من عُمان وسيطًا موثوقًا به في الأزمات القائمة بالمنطقة.
تحية تقدير وامتنان إلى المؤرخ والمثقف الشيخ سلطان، الذي جعل من الشارقة عنوانًا كبيرًا للثقافة والمحبة والتسامح، فضلًا عن عنايته بعُمان، هذا البلد الذي تعرف على تاريخه بكل محبة، واقتطع قدرًا كبيرًا من وقته للكتابة عنه، لكي يعرف العالم ما أغفله المؤرخون عن عُمان منذ فجر التاريخ.
د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية (سابقا) ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية (سابقا).
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الشیخ سلطان إلا أن
إقرأ أيضاً:
يوم مشرق في تاريخ المجتمع الإنساني الدولي
زلزال هز الكيان الفاشي بعد أكثر من 400 يوم تُرتكب فيها الإبادة الجماعية، أم الجرائم وأخطرها بحق السكان المدنيين في قطاع غزة نساءً وأطفالاً وشيوخاً. لقد ظن ساسة هذا الكيان أنهم بمنأى عن الملاحقة القضائية بفعل الدعم غير المحدود من الغرب الاستعماري بقيادة الولايات المتحدة.
قرار الغرف التمهيدية في المحكمة الجنائية الدولية الذي صدر بالإجماع ويقضي بالمصادقة على مذكرات اعتقال نتنياهو وجالانت مثل ضربة قوية هزت الكيان والعواصم الداعمة منهم أعضاء في المحكمة، فقد أُسقط في يد هذه الدول التي قدمت الدعم لجرائم الكيان على كافة المستويات العسكرية والسياسية والاقتصادية.
إنه بحق يوم أسود في تاريخ الكيان ويوم مشرق في تاريخ المجتمع الإنساني الدولي أعطى بصيص أمل في إمكانية ملاحقة ومحاسبة من عدّوا أنفسهم لعقود طويلة أنهم فوق القانون فارتكبوا أفظع الجرائم وتجاهلوا حتى اللحظة كافة القرارات الأممية والدعوات لوقف جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزة.لعل أهمية القرار الأولى أنه صادر من أعلى هيئة قضائية دولية وبالإجماع وهو عنوان الحقيقة أسقط الرواية الغربية في حق الكيان في الدفاع عن النفس وكأن عمليات القتل اليومية والتدمير على طريق الإبادة الشاملة أمر عادي. فالتشكيك الذي اعتاده داعمو الكيان وإعلامهم بارتكاب نتنياهو وجالانت جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية أصبح بالضربة القضائية في مزبلة التاريخ، ومن الأفضل لهؤلاء الذين قدموا الدعم لجرائم نتنياهو أن يتحسسوا رؤوسهم ويحسبوا خطواتهم في علاقتهم مع الكيان مستقبلاً.
صانع القرار الوحيد في العالم، الولايات المتحدة الأمريكية، وهي ليست عضواً في المحكمة الجنائية الدولية تقف وحيدة وبكل وقاحة ضد هذا القرار، معتبرة أن إصدار المذكرات لم يسلك الإجراءات المعتادة في المحكمة على أساس أن الكيان لديه أدوات للملاحقة والمحاسبة والتحقيق في الجرائم المزعومة! هذا الموقف ليس غريباً على دولة أُسست على أول إبادة في التاريخ بحق السكان الأصليين وارتكبت أفظع الجرائم حول العالم.
أما الدول الأخرى، وفي مقدمتها الأوروبية وبريطانيا، وهي في معظمها داعمة لجرائم الاحتلال، تقف اليوم عاجزة أمام هذا القرار. فقبله كان الساسة ينفون ارتكاب الكيان لأي جرائم ويؤكدون على حق إسرائيل في الدفاع عن النفس، اليوم وبعد صدوره يعلنون أنهم يحترمون القرار وأن من صدرت بحقهم مذكرات اعتقال سيتم اعتقالهم إن وطأت أقدامهم أراضي هذه الدول.
ليس هذا فحسب، فإن 124 دولة هم أعضاء في المحكمة الجنائية الدولية ملزمون بتنفيذ هذا القرار ولا يمكنهم تجاهله بأي حال من الأحوال إن تجرأ وأقدم المطلوبون على زيارة إحداها. وحتى الدول غير العضو في المحكمة ملزمة أخلاقياً وقانونياً باعتقالهم. وعلى هؤلاء في وطننا العربي الذين طبعوا مع الكيان أن يعيدوا النظر في علاقتهم معه، فمن العار تجاهل قرار صدر من أعلى مستوى قضائي دولي.
ما يدور من أحاديث أن الدول الأطراف في المحكمة فقط ملزمة بتنفيذ القرار خاطئ تماماً. فكافة الدول الأعضاء في منظمة الشرطة الدولية “الإنتربول” أيضاً، وعددها 195 دولة، ملزمة قانوناً بتنفيذ القرار.
ففي عام 2004 وقع مكتب الادعاء العام في المحكمة الجنائية الدولية اتفاقية مع الإنتربول تنص على التعاون الشامل في ملاحقة الجرائم المنصوص عليها في اتفاقية روما. والأهم من ذلك أنه في المادة الرابعة من الاتفاقية، الإنتربول ملزم بتعميم نشرات حمراء بأسماء المطلوبين بناءً على طلب المدعي العام.
وأكثر من ذلك، لقد جعلت منظمة الإنتربول ملاحقة الجرائم الخطيرة المنصوص عليها في اتفاقية روما من صميم عملها. فأنشأت في عام 2014 وحدة خاصة لملاحقة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجريمة الإبادة الجماعية بالتعاون مع الدول الأعضاء والمحاكم الدولية المعنية في هذه الجرائم.
صحيح أننا على أعتاب حقبة تاريخية جديدة على طريق القضاء على وباء الإفلات من العقاب لكن الحقيقة المرة أنه رغم صدور مذكرات الاعتقال لا زالت الإبادة مستمرة بمختلف صورها البشعة.لقد اكتنف صدور هذه المذكرات مخاضاً عسيراً غير مسبوق، عمليات تجسس على موظفي المحكمة وتهديدات بالقتل طالت المدعي العام والقضاة وأسرهم لكنها لم تفلح في منع صدور المذكرات التي أنعشت القانون الدولي الإنساني بعد أن دخل في حالة موت سريري بفعل الضربات التي تلقاها على مدى أكثر من عام من عمر الإبادة.
أمام مكتب الادعاء العام عمل طويل لملاحقة الكثير من الجرائم المرتكبة قديمها وحديثها منذ أن خضعت فلسطين في يونيو 2014 لولاية المحكمة. وفي مقدمة هذه الجرائم الاستيطان، فالضفة الغربية مقبلة على عملية ضم كما بشر بذلك سموتريتش. فقائمة مرتكبي الجرائم في فلسطين المحتلة طويلة. فإن شمر المدعي العام عن ساعديه وتحرر أكثر من التهديدات والضغوط وسار في الإجراءات المطلوبة سيحطم الكيان الرقم القياسي في مذكرات القبض وسيكرس ككيان مارق.
إنه بحق يوم أسود في تاريخ الكيان ويوم مشرق في تاريخ المجتمع الإنساني الدولي أعطى بصيص أمل في إمكانية ملاحقة ومحاسبة من عدّوا أنفسهم لعقود طويلة أنهم فوق القانون فارتكبوا أفظع الجرائم وتجاهلوا حتى اللحظة كافة القرارات الأممية والدعوات لوقف جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزة.
صحيح أننا على أعتاب حقبة تاريخية جديدة على طريق القضاء على وباء الإفلات من العقاب لكن الحقيقة المرة أنه رغم صدور مذكرات الاعتقال لا زالت الإبادة مستمرة بمختلف صورها البشعة. فالمطلوب هو أن تعظم هذه المذكرات الجهود السياسية لاتخاذ إجراءات عملية رادعة تشل بشكل كامل آلة القتل والتدمير.