ترجمة: حافظ إدوخراز -

كشفت الحرب في أوكرانيا عن نوعٍ من الانجراف القاري، خاصّةً مع ابتعاد الجنوب، الذي نطلق عليه الآن اسم «الجنوب العالمي»، عن الشمال. ويُحيل هذا الأخير في الجغرافيا السياسية الحالية على الغرب. من المؤكد أنه ليس ثمة وحدة داخل الجنوب العالمي، غير أن هذا لا يمنع من وجود استياء مشترك تُجاه القوى الغربية ورفض سياسة العقوبات ضد روسيا وعزلها.

كل شيء يدفع إلى الاعتقاد بأن الأزمة التي تهزّ الشرق الأوسط عقب الهجوم الذي شنّته حركة حماس ضد إسرائيل سوف تفاقم هذا الشّرخ بين الغرب والجنوب.

ثمة درس مهم آخر يمكن أن نستخلصه من الحرب الروسية ضد أوكرانيا، يكمن في التقادم الغادر الذي يلحق الآن بأحد التابوهات المتمثل في عدم اللجوء إلى القوة، والذي شكّل الأساس الذي قام عليه ميثاق الأمم المتحدة. وتتكاثر الحالات التي تقوم فيها دولة ما، خلافا لأحكام الميثاق، باستخدام القوة ضد دولة أخرى دون إذنٍ من مجلس الأمن، كما فعلت الولايات المتحدة عندما أقدمت على غزو العراق عام 2003.

إننا نشهد ما يسمّيه عالم السياسة الفرنسي اللبناني غسان سلامة بـ «تحرير اللجوء إلى القوة». الكيانات الموالية لإيران في العراق أو سوريا، وتدخل تركيا في سوريا، واستعراض الصين للقوة في بحر الصين الجنوبي، أو حتى هجوم أذربيجان على إقليم ناغورنو كاراباخ، كلّ هذا يندرج في المنطق نفسه.

ينتمي هجوم حماس إلى سجلٍّ آخر، لكنه يؤكد أنه في عالم يفتقر إلى القواعد - وبدون دركيٍّ يعمل على فرض هذه القواعد - فإن كل الصراعات «المجمّدة» مهدّدة بالانفجار عمّا قريب. فهل يتوافق هذا الوضع حقّا مع مصالح دول الجنوب على المدى الطويل؟ وفي السياق نفسه، هل بإمكاننا أن نستسلم أمام انتهاكات القانون الدولي الإنساني؟ في كلتا الحالتين، يجب أن يكون الجواب هو لا.

وعلاوة على ذلك، هل يعي القادة الغربيون ضرورة إعادة مدّ الجسور مع الجنوب العالمي، وبشكل خاص مع القوى الصاعدة الكبرى؟ يبقى ذلك محتملا في الواقع. لقد اعتمدت قمة مجموعة الدول السبع في أوكيناوا، في عام 2022، مجموعة من التدابير لصالح البلدان الهشّة. وتبذل إدارة بايدن كل ما في وسعها للتقرب من الهند أو المملكة العربية السعودية، بعد أن وضعت جانبا خارطة الطريق الأولية ضد الأنظمة السلطوية. وعقدت فرنسا في يونيو الماضي قمّة حول ميثاق مالي دولي جديد. ولقد أثيرت فيه مسألة إصلاح حوكمة المؤسسات المالية الدولية (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي) من أجل أخذ الثقل الذي اكتسبه الجنوب العالمي بعين الاعتبار.

غير أن كل هذه المبادرات تركّز في المقام الأول على القضايا الاقتصادية أو «التحديات العالمية»، مثل التنمية أو التحول البيئي أو تدبير المحيطات. نرى أن الوقت قد حان، في ظل الاضطرابات الرهيبة التي نمر بها، لكي يقترح الشمال على الجنوب حوارا يمتد إلى قضية الأمن العالمي، خاصة وأن التوترات الجيوسياسية لا يمكن إلا أن تعيق حوكمة القضايا العالمية.

أشرنا سابقا إلى عدم اللجوء للقوة. لقد اقترحت فرنسا منذ فترة طويلة الحدّ من استخدام حق النقض المخوّل للأعضاء الدائمين في مجلس الأمن في حال وجود خطر وقوع جرائم جماعية. وعلى الرغم من أن هذا الاقتراح يظل سديدا، إلا أنه لم يعد كافيا. لا بد الآن من وضع آلية تهدف إلى احتواء مخاطر العدوان. وينبغي أن يصبح الخضوع لالتزام الوساطة هو القاعدة بالنسبة إلى الدول. وبوسع أعضاء مجلس الأمن أن يكونوا مثالا يحتذى به من خلال الالتزام مقدّما بتطبيق مثل هذه الآلية على أنفسهم. كما يمكن للأعضاء الدائمين، إذا كانوا طرفا في صراع ما، أن يقيّدوا استعمال حقهم في النقض (عدم المشاركة في التصويت؟ على سبيل المثال).

لا ريب أن شرعية مجلس الأمن قد أصبحت محلّ اعتراض متزايد بسبب تركيبته. وهنا أيضا، تقتضي مصلحة الغربيين إعادة فتح هذا الملف. في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة سبتمبر المنصرم، تبنّى الرئيس الأمريكي جو بايدن موقفا منفتحا بخصوص توسيع مجلس الأمن. إن الروس والصينيين هم من كانوا يعرقلون الفكرة من بين الأعضاء الخمسة دائمي العضوية، لكنهم خلال الاجتماع الأخير لمجموعة البريكس، دعموا ترشيح كلٍّ من الهند والبرازيل. ومن الممكن أن يشجعهم السياق الأوكراني على التحرك، خاصة الجانب الروسي الذي يحتاج إلى حلفاء.

وفي انتظار تحقق مثل هذا التقدم، يمكن للأعضاء الغربيين الثلاثة دائمي العضوية في مجلس الأمن أن يقترحوا إجراء مشاورات منتظمة بشأن الأزمات مع الدول الأربع المرشحة للتوسيع (ألمانيا والبرازيل والهند واليابان)، وكذلك مع إفريقيا (من المفترض أن تلتحق دولتان من القارة بالأعضاء الدائمين المستقبليين)، أو حتى مع قوى الجنوب الأخرى بحسب الملفات.

وربما أن الإجراء الأكثر إلحاحا من دون ريب يتمثل في إنشاء منتدى غير رسمي على الفور يمكن لدول الشمال والجنوب أن يعملوا فيه معا، على أساس كل حالة على حدة، من أجل حل أزمات معينة. ما من شك أن التمرين سيكون صعبا، لكن المخاطر الضاغطة المتراكمة في الشرق الأوسط ستبرر بالتأكيد إنشاء تحالف يضم الفاعلين الإقليميين والغربيين للدفع بالحلول إلى الأمام. وبالطبع ثمة العديد من الأفكار الأخرى تبقى ممكنة.

كيف يمكن تنظيم الحوار بين الشمال والجنوب بشأن الأمن العالمي؟ ما هي البلدان التي ينبغي أن نجمعها حول الطاولة؟ دعونا نترك الأمر للدبلوماسيين ولهم أن يقترحوا الصيغة المناسبة أكثر. ولكن دعونا نقترح أن يكون الهدف هو البقاء قدر الإمكان ضمن إطار الأمم المتحدة، التي تظل الفضاء العالمي الوحيد الذي تجتمع فيه الدول.

ويمكن للقمة المقبلة المزمع عقدها من طرف الأمم المتحدة في عام 2024 أن تكون فرصة لإضفاء الطابع الرسمي على مثل هذا الحوار بين الشمال والجنوب حول قضية الأمن. ومن الممكن أيضا أن يكون منتدى باريس للسلام، الذي من المقرر أن تعقد نسخته السادسة في العاشر والحادي عشر من نوفمبر المقبل، حاضنا لهذا الحوار.

ميشيل دوكلو دبلوماسي فرنسي سابق

عن لوموند الفرنسية

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الجنوب العالمی مجلس الأمن

إقرأ أيضاً:

أول تحرك اوربي جاد .. بريطانيا تدعو عبر مجلس الأمن يدعو لضمان حظر توريد الأسلحة إلى اليمن وتحديدا الأسلحة الإيرانية

  

في أول تحرك أوروبي جاد تجاه المليشيات الحوثية في اليمن دعت المملكة المتحدة، الخميس، لضمان حظر توريد الأسلحة إلى اليمن، خصوصا إيران التي اتهمها بمواصلة الأنشطة المزعزعة للإستقرار في المنطقة.

 

جاء ذلك في كلمة نائب المندوب الدائم لبريطانيا لدى الأمم المتحدة؛ جيمس كاريوكي، في اجتماع مجلس الأمن بشأن اليمن، والتي طالب خلالها كافة أعضاء الأمم المتحدة للامتثال الكامل لحظر الأسلحة إلى اليمن المنصوص عليه في قرار مجلس الأمن رقم (2216).

 

وقال كاريوكي إن آلية الأمم المتحدة للتحقق والتفتيش (UNVIM) في اليمن تلعب دوراً هاماً وحاسماً في منع تهريب الأسلحة غير المشروعة، و"على المجتمع الدولي تقديم الدعم الثابت لها وضمان حصولها على التمويل اللازم للوفاء بالتزاماتها وتنفيذ مهامها".

 

وأكد دعم بلاده الكامل لقرار الأمم المتحدة وقف عملياتها الإنسانية في محافظة صعدة، شمال اليمن، جراء الممارسات التعسفية للجماعة ضد عاملي الإغاثة.

 

وأضاف: "نحن ندعم بشكل كامل قرار الأمم المتحدة بإيقاف العمليات الإنسانية في محافظة صعدة، والذي يأتي نتيجة مباشرة لتهديد جماعة الحوثيين بتقويض أمن وسلامة العاملين في مجال الإغاثة".

 

وجدد كاريوكي، التزام بلاده بتحقيق السلام الدائم في اليمن، والذي قال إنه "لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال تسوية سياسية شاملة بقيادة الأمم المتحدة

 

مقالات مشابهة

  • ميشال عيسى.. من عالم المال والسيارات إلى الدبلوماسية الأميركية في لبنان
  • وول ستريت جورنال: ترامب يقلب النظام العالمي الذي بنته أميركا رأسا على عقب
  • التعاون الإسلامي تعتمد مخرجات القمة العربية وخطة إعمار غزة وتدعو لدعم دولي عاجل
  • تحرك مفاجئ لأربع دول بشأن اليمن.. ما الذي يجري في الكواليس؟
  • "التعاون الخليجي" يدعو إلى موقف أممي حازم إزاء ممارسات الحوثيين في اليمن
  • تحليل: هل يمكن لحلف الناتو أن يصمد دون الولايات المتحدة؟ وما قدراته أمام روسيا؟
  • "أنقذ القطة".. الكتاب الذي غيّر قواعد لعبة كتابة السيناريو في العالم
  • أول تحرك اوربي جاد .. بريطانيا تدعو عبر مجلس الأمن يدعو لضمان حظر توريد الأسلحة إلى اليمن وتحديدا الأسلحة الإيرانية
  • مندوب بريطانيا في مجلس الأمن يدعو لضمان حظر توريد الأسلحة إلى اليمن
  • إحاطة جديدة للمبعوث الأممي أمام مجلس الأمن بشأن اليمن.. ماذا قال؟