ترجمة - أحمد شافعي -

في حقبة يسمها تغير الديناميات العالمية، تجد الولايات المتحدة نفسها خائضة في مياه تموج بأثر من صعود الصين ومواجهة الحرب الروسية الأوكرانية، وفي ظل هذه الخلفية، يصوغ قادة منطقة الخليج العربي وما هو أوسع منها مسارات جديدة لأنفسهم، بتشديد واضح على الدبلوماسية الاقتصادية، وتهدئة التصعيد السياسي، وتنويع الاصطفافات الاستراتيجية.

كانت دعوة مجموعة بريكس في أواخر أغسطس لضم ستة أعضاء جدد إلى الكتلة تأكيدًا للتحديات التي تواجه الولايات المتحدة في التكيف مع هذه التحديات، وبخاصة في الشرق الأوسط.

برغم أن بعض الدول لم ترد على الدعوة رسميا حتى الآن، فالمرجح أنها جميعا -أي الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وإيران ومصر وإثيوبيا والأرجنتين- سوف تنضم إلى البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا في عضوية مجموعة بريكس في يناير.

تضرب جذور أغلب إعادات الترتيب في الشرق الأوسط والخليج في سعي المنطقة إلى تنويع السياسة الخارجية، ومن الممكن تتبع هذا الدافع وصولًا إلى صعود الاقتصادات الآسيوية قبل عقدين من الزمن، بل ويمكن تتبعه إلى ما هو أهم من ذلك وهو «محور آسيا» الأمريكي خلال فترة حكم إدارة الرئيس باراك أوباما.

كما أن التصور المتنامي لنأي الولايات المتحدة بنفسها أو تذبذبها في التزامها بأن تكون مرساة الأمان الرئيسية في المنطقة قد تسبب في البحث عن أطر سياسية جديدة، وفيما تشهد منطقة الخليج نموًا اقتصاديًا سريعًا، تنحرف السياسات الوطنية عن المصالح الأمريكية، حتى وإن استمرت المنطقتان في الحفاظ على ترتيبات منضبطة في الشؤون الأمنية.

وفي حين أن الانسحاب الفوضوي المباغت من أفغانستان سنة 2020 قد أدى دورا حاسما في دفع بلاد الشرق الأوسط إلى النظر في ما وراء واشنطن، فإن ثلاثة أفعال على الأقل، تمت بقيادة أمريكية، وصاغت نظرة المنطقة الجديدة.

أولا: عزفت كثير من دول الخليج والشرق الأوسط عن دعم غزو العراق الذي تم بقيادة أمريكية سنة 2003، خوفا من أن يؤجج ذلك توسع إيران الإقليمي في بغداد ما بعد صدام حسين، ومصداقًا لهذه المخاوف، أتاحت سنوات الاضطراب التالية صعود ميليشيات وأحزاب مدعومة من طهران في العراق وباتت في حالات كثيرة معادية لدول الخليج العربي.

ثانيا: في حين أشار البعض في المنطقة بعدم مساندة واشنطن للإطاحة بحسني مبارك من حكم مصر سنة 2011، لم تلق نصائحهم المتخوفة آذانا مصغية، وبات الشرق الأوسط منذ ذلك الحين يعاني تداعيات سياسات متطرفة.

وأخيرا، برغم المعارضة الإقليمية للصفقة النووية مع إيران، وقعت الولايات المتحدة على خطة العمل الشاملة المشتركة في عام 2015، ثم أدى التراجع عنها لاحقا -ثم التراجع عن التراجع الذي لم يكتمل بعد- إلى مزيد من التشويش لصور الولايات المتحدة في المنطقة.

أتت هذه الأحداث على مصداقية أمريكا، ونتيجة لذلك، بدأ لاعبو المنطقة يتولون الأمور بأنفسهم في اليمن، مما زاد من توتر علاقتهم بواشنطن، وفي الآونة الأخيرة جاءت هجمات حوثية بطائرات مسيرة على المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة في ما بين 2019 و2022 لتختبر شراكة الولايات المتحدة مع المنطقة.

لم يتبين بعد إلى أي مدى سوف يضيف القتال بين إسرائيل وحماس مزيدا من التأثير على موقف الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وبخاصة في حال حدوث تصعيد يجتذب ميليشيات وكيلة لإيران في المنطقة.

بعد إنفاق ثمانية تريليونات دولار في حربي العراق وأفغانستان و«الحرب على الإرهاب»، أنفقت الولايات المتحدة الآن خمسة وسبعين بليون دولار إضافية لمساعدة أوكرانيا في صد العدوان الروسي، مع وعود بدعم إضافي، ولم يزل أغلب الشرق الأوسط -الذي سعى إلى البقاء على الحياد في مسألة أوكرانيا- ينتظر أن يحين وقته لتعظيم الفوائد التي قد تعود من الترتيب العالمي الجديد على القوى المتوسطة.

وفي الوقت نفسه، تستغل الصين في هدوء فرصها الاقتصادية في الشرق الأوسط.

يدعم من شراكات في الطاقة والتجارة والتكنولوجيا والاستثمار، بلغت صفقات الصين مع دول مجلس التعاون الخليجي الست 223 بليون دولار في عام 2021، بزيادة كبيرة عن 134 بليون دولار قبل عقد من ذلك. بالمقارنة، قدِّرت التجارة الأمريكية مع دول مجلس التعاون بقرابة ستين بليون دولار في عام 2019، انخفاضا من مائة بليون في 2011.

حجم الطاقة والتجارة بين دول مجلس التعاون ونظرائها الآسيويين -ومنها الهند وكوريا الجنوبية واليابان ومجموعة جنوب شرق آسيا- تفوق كثيرا صفقاتها مع الولايات المتحدة، هذه العلاقة بين كبار منتجي النفط ومستهلكيه في آسيا أثرت على السياسة الخارجية لمجلس التعاون الخليجي واستراتيجياته الأمنية.

وليست التجارة هي المؤشر الوحيد على أن التحالفات تتغير، فمنظور المنطقة الاستراتيجي أيضا ينحرف عن منظور واشنطن، ففي حين أن الروابط الدفاعية والأمنية مع الغرب تظل أساسية، فإن مساعي بذلت هذا العام لضبط العلاقات مع خصوم إقليميين، من قبيل إيران، في تغير دال للتركيز يعطي أولوية للدبلوماسية الاقتصادية، وهذا النهج المتطور يعكس الاستقلال الذاتي الاستراتيجي المعزز للمنطقة.

تتباهى دول كثيرة في الشرق الأوسط اليوم بأن لها اقتصادات أقوى وقدرات عسكرية أكبر مما كان عليه الوضع في الماضي، وفي حين أن المنطقة لم تزل بعيدة عن تحقيق اكتفاء ذاتي كامل، فإنها تقوم تدريجيا بتنويع شراكاتها، وهي تفعل ذلك بشروطها الخاصة، وكلما ازدادت واشنطن اعترافا بهذا التحرك نحو تقرير المصير الاستراتيجي، ازدادت مسايرة لطموحات المنطقة وأولوياتها.

تسعى منطقة الخليج العربي، في جوهرها، إلى أن تكون مجالا يعلو فيه التعاون على المواجهة. ويتردد صدى هذه الروح في تفضيل القادة للحوار والدبلوماسية والتحالفات المتنوعة على التدخلات العسكرية وسياسات الوكالة.

ويؤكد عدم تجانس الاستراتيجيات داخل دول مجلس التعاون الخليجي على ضرورة قيام الولايات المتحدة بإعادة ضبط نهجها، فالطريق إلى تجديد الشراكة بين الولايات المتحدة والخليج والشرق الأوسط يتطلب فهما دقيقًا لرؤية المنطقة للعالم.

ليس الشرق الأوسط، وبخاصة كتلة مجلس التعاون الخليجي، منطقة متجانسة، إذ تتبنى الدول منفردة استراتيجيات متنوعة ترتكز على تفسيرها الفريد للاستقلال الاستراتيجي.

واستيعاب تصور الشرق الأوسط للشؤون العالمية، وتوسيع مبادرات من قبيل الاتفاقيات الإبراهيمية، وتأييد أطر التعاون المتخصصة من قبيل I2U2 (الهند وإسرائيل والإمارات والولايات المتحدة)، وتوسيع التحالفات من خلال دمج دول مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة واليابان، يمكن أن يكون خطوات مبدئية لتجديد علاقات المنطقة مع واشنطن.

وفي حين ترسم دول الخليج مسارات جديدة في مشهد جيوسياسي متغير، فمن الضروري أن يقوم صناع السياسة الأمريكيون بإعادة ضبط استراتيجياتهم بالمثل.

نيكولاي ملادينوف المدير العام لأكاديمية قرقاش الدبلوماسية.

نارايانابا جاناردان مدير الأبحاث والتحليل في أكاديمية قرقاش الدبلوماسية.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: مجلس التعاون الخلیجی الولایات المتحدة دول مجلس التعاون فی الشرق الأوسط المتحدة فی فی المنطقة فی حین

إقرأ أيضاً:

زيارة البابا يوحنا بولس الثاني إلى دمشق مايو 2001.. دعوة للسلام والوحدة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

تعد زيارة البابا القديس يوحنا بولس الثاني، إلى دمشق في 7 مايو 2001، واحدة من اللحظات التاريخية البارزة في العلاقات بين الكنيسة الكاثوليكية والعالم العربي، بالإضافة إلى تعزيز الحوار بين الأديان. 

شكلت هذه الزيارة نقطة تحول مهمة في العلاقات بين المسيحيين والمسلمين في منطقة الشرق الأوسط.

كان البابا يوحنا بولس الثاني، الذي تولى منصب البابا من 1978 حتى وفاته في 2005، معروفًا بنشاطه الكبير في تعزيز الحوار بين الأديان، خاصة مع المسلمين، وسبق أن زار عدة دول إسلامية في مسعى لتعزيز السلام والتفاهم المتبادل.
 

في عام 2001، كانت المنطقة تعيش في فترة حساسة، حيث كانت التوترات السياسية والدينية في تزايد، وكان البابا يوحنا بولس الثاني يطمح من خلال هذه الزيارة إلى تقوية العلاقات بين المسيحيين والمسلمين، وتقديم دعم للأقليات المسيحية في الشرق الأوسط.
 

وكانت أهداف الدراسة 

تعزيز الحوار بين الأديان: كانت زيارة البابا تهدف بشكل أساسي إلى تعزيز التعاون والتفاهم بين المسيحيين والمسلمين في المنطقة، في وقت كانت فيه التوترات السياسية والدينية تتزايد.

ودعم الأقليات المسيحية في الشرق الأوسط: كان هناك اهتمام كبير من البابا بزيارة سوريا ودعم المسيحيين الذين يعيشون هناك، خاصة أن المسيحيين في سوريا يشكلون أقلية ذات تاريخ طويل في المنطقة.

والسلام في الشرق الأوسط: كان البابا يوحنا بولس الثاني يعبر عن قلقه المستمر بشأن الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وكان يسعى إلى إظهار التزامه العميق من أجل السلام في المنطقة.
 

وصل البابا يوحنا بولس الثاني إلى دمشق في 7 مايو 2001، حيث استقبله الرئيس السوري بشار الأسد الأسبق إلى جانب عدد من الشخصيات السياسية والدينية في البلاد.

تم اللقاء بين البابا والرئيس السوري في قصر الشعب، حيث تم مناقشة العديد من القضايا المهمة، من بينها ضرورة تعزيز السلام في المنطقة، وحل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي.

 زار البابا يوحنا بولس الثاني العديد من المواقع الدينية الهامة في دمشق، أبرزها كنيسة القديس بولس و كنيسة القديسة حنة، حيث عُقدت صلوات مشتركة بين المسيحيين والمسلمين، مما يعكس روح التعايش والتعاون بين الديانتين.

خلال زيارته، قام البابا بإلقاء خطب في العديد من الفعاليات، حيث دعَمَ الحوار بين الأديان ودعا إلى تعزيز روح السلام والمحبة بين المسلمين والمسيحيين. كما كانت له تصريحات تؤكد على ضرورة التعايش السلمي في الشرق الأوسط.

 حضر عدد من رجال الدين المسيحيين والمسلمين اللقاءات التي تم تنظيمها خلال زيارة البابا. وكان للحوار بين الشخصيات الدينية أهمية خاصة في هذه الزيارة.

كما تم عقد اجتماع مع ممثلين عن الكنائس المسيحية في سوريا، حيث ألقى البابا كلمة مؤثرة دعم فيها المسيحيين في الشرق الأوسط، مشيرًا إلى دورهم المهم في بناء السلام والعدالة في المجتمع.

وكانت الزيارة تحمل رسائل منها دعوة للسلام: كانت الرسالة الرئيسية التي حملها البابا يوحنا بولس الثاني في زيارته إلى دمشق هي الدعوة للسلام والوحدة بين الأديان. شدد على ضرورة تجاوز الصراعات الطائفية والدينية من أجل بناء مجتمع يسوده السلام.

دعم الحوار بين الأديان: أكد البابا على أهمية الحوار بين المسيحيين والمسلمين في منطقة الشرق الأوسط. واعتبر أن هذا الحوار يمثل السبيل الوحيد لبناء مستقبل مشترك قائم على الاحترام المتبادل والتفاهم.

الحفاظ على القيم الإنسانية: تناول البابا القيم الإنسانية المشتركة بين المسيحيين والمسلمين، مثل العدالة والمساواة وحقوق الإنسان، مؤكدًا أنها تمثل الأساس لبناء علاقات قوية ومستدامة.

حظيت زيارة البابا يوحنا بولس الثاني إلى دمشق بتغطية إعلامية واسعة، سواء على مستوى وسائل الإعلام العربية أو العالمية. وقد كانت الزيارة مصدرًا كبيرًا للفرح والتفاؤل في أوساط المسيحيين والمسلمين في المنطقة، حيث شعر الكثيرون بأنها خطوة إيجابية نحو تحقيق السلام والاستقرار في المنطقة.

ونتج عنها تعزيز العلاقات بين الكنيسة الكاثوليكية والمسلمين: ساهمت هذه الزيارة في تعزيز الروابط بين الكنيسة الكاثوليكية والمجتمعات المسلمة، وشكلت نموذجًا للتعايش الديني في الشرق الأوسط.

دعم الأقليات المسيحية: شكلت الزيارة دعمًا معنويًا كبيرًا للأقليات المسيحية في الشرق الأوسط، حيث تلقوا رسالة من البابا بالاهتمام بهم وتقدير دورهم في المجتمع.

الاهتمام الدولي بالسلام في الشرق الأوسط: أكدت الزيارة على أهمية الدور الذي يمكن أن تلعبه الشخصيات الدينية الكبرى في تحسين الأوضاع السياسية والإنسانية في المنطقة.

تعد زيارة البابا يوحنا بولس الثاني إلى دمشق في 7 مايو 2001 محطة هامة في تاريخ العلاقات بين الأديان في الشرق الأوسط.

 وقد تركت هذه الزيارة تأثيرًا إيجابيًا على المستوى الديني والسياسي، وشجعت على تعزيز الحوار والتفاهم بين المسيحيين والمسلمين. 

كانت الزيارة بمثابة دعوة للسلام والوحدة في وقت كانت فيه المنطقة بحاجة إلى الأمل والتعايش بين مختلف الأديان والثقافات.

مقالات مشابهة

  • جورج مارشال أهم الشخصيات العسكرية الأمريكية.. لماذا عارض تأييد إسرائيل؟
  • زيارة البابا يوحنا بولس الثاني إلى دمشق مايو 2001.. دعوة للسلام والوحدة
  • التغييرات الجيوسياسية في الشرق الأوسط بين المد والجزر
  • ما الهزات السياسية الارتدادية المقبلة في الشرق الأوسط؟
  • الأمم المتحدة: الشرق الأوسط يشهد تصعيدًا خطيرًا للأعمال العدائية بين إسرائيل والحوثيين
  • في ظل مشهد عالمي متغير.. 3 سيناريوهات لأسعار النفط
  • بشير عبد الفتاح: نتنياهو يسعى لتحقيق هدفه بإعادة تشكيل شرق أوسط جديد (فيديو)
  • صحفي: إسرائيل تستغل الأحداث لتنفيذ أجندتها في الشرق الأوسط
  • 5 مشاهد من سيناريو الفتنة الكبرى في الشرق الأوسط
  • أبو شامة: إسرائيل تستغل الأحداث لتنفيذ أجندتها في الشرق الأوسط