الحرب على غزة وعقيدة التفوق الغربي الصهيوني
تاريخ النشر: 4th, November 2023 GMT
عبد النبي العكري
أُثيرت مُؤخرًا قضية مُهمة كشفت عنها الحرب الصهيونية الجارية ضد الشعب الفلسطيني في غزة وتجليات العدوان ضد الشعبين الفلسطيني واللبناني، والتي ترقى إلى كونها حرب إبادة وتطهير عرقي، إلى عدم اكتراث الصهاينة والغرب بالشرائع الدولية لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، وهي تكشف أن الغرب وحليفه الكيان الصهيوني لا يرى قيمة متساوية للإنسان الغربي مع الإنسان غير الغربي وهو هنا الفلسطيني أو العربي، فيما يطرحه من مواثيق ودساتير وغيرها؛ بما في ذلك ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني العالمي واتفاقيات جنيف الأربع وغيرها، وما يترتب عليها من مواقف وإجراءات؛ بل إن المعنيّ بها الغرب فقط.
منذ البداية يجب التأكيد أن دول الغرب الكبرى، وفي مقدمتها أمريكا هذه المرة شريك للكيان الصهيوني في جرائمه ضد الشعب الفلسطيني، وليس داعمة فقط كما في الحروب السابقة، وهو شريك له في مخططه لإبادة الشعب الفلسطيني كما أباد المستوطنون الأوربيون سكان الأمريكتين الأصليين.
اتفقت دول العالم بقيادة الدول المنتصرة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وهزيمة النازية والفاشية على تبني ما عُرف بحقوق الأمم وحقوق الإنسان المتساوية، والتي تجسدت في الأمم المتحدة الشرعية الدولية، والتي كان من المفترض أن تؤسس لنظام عالمي عادل للأمم والأفراد، لكن الدول الغربية الكبرى لم تكن مخلصة لهذه المبادئ وهو ما يكشف عنه سجل حروبها الاستعمارية ونهبها لثروات الشعوب حتى اليوم. أما العقيدة الصهيونية، فهي تقوم أساسا على نفي الوطن الفلسطيني وحقوق الشعب الفلسطيني لصالح وطن قومي لليهود وتحويل الشعب الفلسطيني إلى لاجئين أو مقيمين دون حقوق كمواطنين أو بشر.
جرت العادة في مجرى الصراع ما بين الصهاينة من ناحية والفلسطينيين والعرب من ناحية أخرى، أن يكون الضحايا الفلسطينيون والعرب أضعاف الخسائر الصهيونية، وأن ارتكاب المجازر ضد المدنيين الفلسطينيين والعرب شيء اعتيادي، وأن أسيرًا صهيونيًا يساوي 1000 أسير فلسطيني أو عربي. كما إن جميع جرائم الصهيونية؛ وهي بمثابة جرائم ضد الإنسانية ترقى إلى الإبادة الجماعية تجد لها دعمًا وتبريرات لدى الغرب؛ باعتبار حق الكيان الصهيوني في الدفاع عن النفس وعن الشعب المهدد في وجوده، وعادة ما تستحضر المحرقة النازية بحق اليهود لتبرير المحارق المتكررة ضد الفلسطينيين والعرب. إذا فما هو مختلف هذه المرة في موقف الكيان الصهيوني والغرب هو ما جرى ويجري في غزة واستطرادا ما يجري بحق الفلسطينيين في باقي فلسطين؟
المبادرة الفلسطينية والرد الصهيوني الغربي
منذ حرب النكبة في 1947-1948، وباستثناء حرب أكتوبر 1973، فقد كان الكيان الصهيوني هو من يبادر بالحرب على الفلسطينيين والعرب، والذين يتكبدون أضعاف خسائر "الإسرائيليين" في الأرواح والمعدات، وتحتل أراضيهم وتدمر حواضرهم ومنشئاتهم. أما في هذه الحرب التي بدأت يوم السبت 7 أكتوبر 2023، بادرت قوات المقاومة الفلسطينية (القسام) الذراع العسكري لحركة حماس، بشن عملية "طوفان الأقصى" ضد المستوطنات المحيطة بغزة، وكانت عملية مفاجئة للعدو الصهيوني، وألحقت به خسائر جسيمة تمثلت في 1400 قتيل وآلاف الجرحى، معظمهم من العسكريين. وقد أحدث ذلك صدمة قوية في الكيان الصهيوني وحلفائه الغربيين، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة، بحيث أطلقوا عليها بأنها أكبر كارثة بعد المحرقة النازية لليهود.
في ضوء ذلك، تقرر شن حرب إبادة ليس ضد حماس فقط المعنية بالحرب وإنما ضد الشعب الفلسطيني في غزة وعمليات انتقام واسعة للفلسطينين في باقي الأراضي المحتلة. وهنا لن نذهب في تفاصيل الحرب، وإنما سنقتصر على الجانب العقائدي وقناعة التفوق الصهيوني الغربي.
بعد قرار حكومة الحرب الصهيونية برئاسة نتنياهو، بات واضحًا أنها لن تلتزم بأي من قواعد الحرب التي أقرتها الشرعية الدولية والقانون الدولي الإنساني لحماية المدنيين والمنشآت والمؤسسات والبنية المدنية كما نصت عليه اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 والبروتكولات الملحقة لعام 1976. وفي هذا الصدد، فإن أمريكا شريك للكيان الصهيوني، والغرب داعم للكيان في هذه الحرب وما يترتب عليه.
وبناءً على ذلك، فقد قرر الكيان إحكام الحصار التام على قطاع غزة بقطع إمدادات الماء والكهرباء والأدوية والوقود والأغذية والقيام بقصف جوي وبحري وبري على القطاع لتدمير كل ما هو قائم على الأرض من مبان وبنية تحتية بما في ذلك المدارس والمساجد والكنائس، حيث بات عدد الشهداء قريبًا من 10 آلاف شهيد و2000 مفقود وعشرات الآلاف من الجرحى، والأعداد مرشحة للازدياد.
اللافت للأمر أن الكيان الصهيوني مُصِرٌ على المضي في الحرب بما في ذلك الاجتياح البري حتى استئصال حماس أو الأحرى المقاومة الفلسطينية- كما يزعم- ولو تطلب الأمر إبادة عشرات الآلاف من الفلسطينيين. وقد أيدت الدول الغربية الكبرى ذلك برفض وقف لإطلاق النار وإغاثة الضحايا قبل تحقيق الهدف "الإسرائيلي" بالقضاء على المقاومة وتهجير فلسطيني غزة في نكبة فلسطينية ثانية.
الدلالات الأبدية
في أعقاب بيانه بفرض الحصار على غزة، وصف وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف جالانت، الفلسطينين بأنهم "وحوش بشرية" فيما وصف رئيس الوزراء الصهيوني نتنياهو هذه الحرب بأنها حرب بين الحضارة (التي يمثلها الكيان الصهيوني وحلفاؤه) والشر الذي يمثله الفلسطينيون وحلفاؤهم. كما وصفها بأنها الحرب الثانية للاستقلال.
الكيان الصهيوني وحلفاؤه الغربيون يعتبرون المقاومة الفلسطينية "منظمات إرهابية" تستحق الإبادة، وأن الشعب الفلسطيني "حاضنة الإرهاب"، ويترتب على ذلك ليس استهداف منظمات المقاومة "الإرهابية" وإنما حاضنة لهذه المنظمات أيضًا. وعلى هذا الأساس برر المتحدث العسكري الجنرال ريشارد هيشت تدمير مخيم جباليا بوجود أحد قادة القسام، حيث ت بعلي ذلك أكثر من 500 قتيل ومصاب.
أما الحجة الثانية لاستهداف أي مبنى بما في ذلك المستشفيات، ومنها مستشفى الشفاء، هو وجود ما يزعمون أن أنفاق حماس تحتها. وفي تصريح يائير لبيد قائد المعارضة الإسرائيلية أكد أن "أسوأ ما في التغطية الإعلامية هو مساواة دولة إسرائيل الديمقراطية في حمايتها لمواطنيها بحماس المنظمة الإرهابية"!! بل وصل الأمر بأحد قادة الكيان أن يُبرر قتل الأطفال الفلسطينيين أنهم "مشروع إرهابيين" ومن ثم لا بأس بتصفيتهم احترازيًا!
وباستثناء تصريحات خجولة للمسؤولين الغربيين ضرورة مراعاة الأطراف المتحاربة لسلامة المدنيين في الجانبين، فإنهم يؤكدون حق "إسرائيل" في الدفاع عن نفسها وشعبها، مع استمرارهم في دعمها ومعارضتهم لوقف إطلاق النار ولو لأسباب إنسانية، ومنع مجلس الأمن من ذلك، وتعطيل منظمات الأمم المتحدة للإغاثة، وتهميش الأمين العام للمنظمة الأممية أنطونيو جوتيرش.
من أهم دلالات حرب الإبادة الصهيونية هو أن الكيان الصهيوني والغرب لا يعتبر الفلسطينيين، بشرًا على قدر المساواة مع "الإسرائيليين" واليهود عمومًا، وبالتالي لا تنطبق عليهم قواعد الشرعية الدولية في زمن الحرب والنزاعات وبذي يجب أن تمتع المدنيين منهم بالحماية؛ بل هم دون ذلك الذي لا بأس أن يمضي الكيان الصهيوني ي حربه لتحقيق كامل أهدافه بغض النظر عن الثمن البشري الباهظ، بما في ذلك ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ترقى إلى حرب الإبادة، وذلك ينطبق أيضا في تعامل الصهاينة مع المقاتلين والأسرى الفلسطينيين وعائلاتهم.
وعندما نتحدث عن ضحايا سكان غزة المدنيين، فإن نصفهم من الأطفال، وأن ثلثيهم من الأطفال والنساء، وأن عائلات بأكملها قد أبيدت أو دُفنت تحت الأنقاض. وتستهدف القوات الصهيونية أطقم الإسعاف الطبية والأطباء وأصحاب المهن الطبية وعائلاتهم والصحفيين وعائلاتهم. ويشمل التدمير أحياء سكنية بأكملها ومدارس ومستشفيات ومساجد وكنائس، والتي يلجأ إليها الآلاف من النازحين، وكذلك منشآت وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين (الأونروا) المفترض أنها تملك الحصانة؛ حيث استُشهد العشرات من موظفيها. كما يشمل القصف والتدير مناطق طلب الجيش الصهيوني من أهالي غزة التوجه إليها من مناطق سكناهم باعتبارها آمنة، لكنه تم تجميعهم لا استهدافهم بالقتل.
سيسجل التاريخ أن الحرب الصهيونية على الفلسطينيين في غزة لا سابق لها في مدى الإبادة والتدمير الهائل لشعب من 2.3 مليون نسمة، محشورين في رقعة مكشوفة ومنبسطة ومزدحمة بالمباني المتلاصقة في مساحة لا تتعدى 370 كم2. وسيسجل التاريخ أن الكيان الصهيوني وبمشاركة من دول غربية وتواطؤ من الغرب وحلفائه وخذلان عربي مشين ولا مبالاة من غالبية العالم، قد شن حرب إبادة لاإنسانية وتطهيرًا عرقيًا وانتهاكًا خطيرًا للقيم والشرائع الحضارية الإنسانية، من دون أن يترتب عليه أي عقاب؛ بل العكس حصل على المباركة والدعم من قبل ما يُعرف زورًا بـ"العالم الحر"!!
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
من حق الشعب الفلسطيني اي يفرح باتفاق وقف الحرب
قبل أكثر من ستة شهور، وفي صباح السبت 13 يوليو 2024، كتبت ونشرت مقالا في هذا المكان نفسه عن احتمالات عقد صفقة وقف النار في «غزة»، قلت فيه ببساطة، إنه لا فرصة لاتفاق من هذا النوع، إلا مع أجواء تنصيب دونالد ترامب رئيسا في 20 يناير 2025، ولم أكن وقتها أقرأ الرمل ولا أضرب الودع، بل كان التوقع مبنيا على سلوك بنيامين نتنياهو رئيس وزراء العدو، وعلى فرصه المتاحة للمناورة مع ساكن البيت الأبيض المنصرف جو بايدن. كان بايدن وقتها قد لقي هزيمة مخزية في المناظرة الأولى مع ترامب، وكانت الأصوات تتعالى لإخراجه واستبداله في سباق الرئاسة، وكان بايدن في وضع «البطة العرجاء» بل المشلولة تماما.
وفي عام الرئاسة الأمريكية الأخير كالعادة، يصعد نفوذ اللوبي الصهيوني ـ «الأيباك» وأخواتها ـ إلى أعلى ذراه، وهو ما يفهمه جيدا نتنياهو، الذي صعد دوره إلى درجة إذلال إدارة بايدن، مع استغلال طموح ترامب لنيل رضا «اللوبي الصهيوني» ونتنياهو شخصيا، وبالغ ترامب على طريقته الفجة في إبداء المحبة والولاء لكيان الاحتلال الإسرائيلي، ولقي نتنياهو استقبالا حافلا عامرا بمئات نوبات التصفيق خلال خطابه في الكونغرس، بمجلسيه يوم 24 يوليو 2024، وبدا كأنه سيد البيت الأبيض الأول، إضافة لرئاسته حكومة «إسرائيل» الفرعية في تل أبيب.
ومن موقع القوة المتضخمة، واصل نتنياهو تنفيذ خطته، أي (استمرار الحرب في غزة، وربما مدّ الحرب إلى لبنان، حتى يأتي ترامب إلى البيت الأبيض) كما كتبت حرفيا في مقال 13 يوليو الماضي، ونفذ ما أراد، ذهب إلى الحرب البرية مع «حزب الله»، وإن لم يتمكن من جلب صورة «نصر ساحق» كان يحلم بها.
واضطر للموافقة على «اتفاق هدنة»، وواصل بشراسة حرب الإبادة الجماعية على غزة، ولم يتمكن هنا أيضا من تحقيق أهداف حربه المجنونة، وإن أعاق التفاوض مرات حول اتفاق وقف النار وتبادل الأسرى، وتصدى بصلف وعجرفة لكل رغبات إدارة بايدن، ولكل اقتراحاتها الإسرائيلية أصلا.
وأطاح بما عرف بعنوان «صفقة بايدن» المعلنة مساء 31 مايو 2024، ولترجمتها الحرفية في قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2735، ولكل مسودات اتفاقات التفاوض في باريس والقاهرة والدوحة، التي شارك وضغط بها كل مبعوثي إدارة بايدن، وأولهم مايكل بيرنز مدير المخابرات المركزية الأمريكية، وكان الاتفاق المطروح في كل هذه الجولات، هو نفسه الذي اضطر أخيرا للموافقة عليه، بعد أن تغيرت معادلة التفاعل مع البيت الأبيض بعد فوز ترامب على نحو ساحق في الرئاسة والكونغرس، فبعد أن ظل نتنياهو لشهور آمرا مطاعا يخضع له بايدن وترامب معا، انقلبت الموازين إلى صيغة أخرى، يتحكم بها ترامب وحده، ويخضع له بايدن ونتنياهو معا، وبدا ظل ترامب حاضرا في اتفاق هدنة لبنان وأكثر في مفاوضات اتفاق غزة.
وربما تنطوي القصة على مفارقة ظاهرة، فقد بدأ ترامب سيرته مع قصة غزة على نحو مختلف، وأطلق تهديدا بالذهاب إلى «جحيم»، تصوره ضاغطا على «حماس» وأخواتها في التفاوض، وبدا التهديد وقتها مثيرا للسخرية، فما كان بوسع حكومة «إسرائيل» في واشنطن أن تفعل أكثر، وهي شريك كامل الأوصاف في حرب الإبادة الجماعية، وفعلت كل ما بوسعها من «جحيم» عبر نحو 16 شهرا من الحرب البربرية، ومن دون أن يتحقق شيء من الأهداف المعلنة والضمنية للعدو الأمريكي «الإسرائيلي»، اللهم إلا مضاعفة التوحش في إبادة الحجر والبشر والشجر، ووضع أهل غزة في عذاب أسطوري.
ولكن من دون أن يخفت صوت المقاومة الأسطورية، التي زادت في تحديها البطولي لقنابل وحمم متفجرات بلغت زنتها نحو مئة ألف طن، ألقيت على رأس غزة، وقتلت وأصابت وقطعت أشلاء نحو مئتي ألف فلسطيني معلوم ومفقود، أغلبهم من النساء والأطفال الأبرياء، في أبشع مجزرة ومحرقة شهدتها الحروب، فقتلت الأبرياء بالقصف والتجويع والتجمد في الصقيع، وحرمت الضحايا من كل إغاثة طبية بالتدمير شبه الكامل للمرافق والمستشفيات والمدارس والبيوت وحرق الخيام، ومنع فرق الإسعاف المدني من الوصول إلى المصابين والشهداء، وترك الجثث في الخلاء تنهشها الكلاب الضالة.
المقاومون من حماس وأخواتها، يبدعون على نحو مذهل، ويعيدون تدوير قذائف العدو
وقتل النازحين في كل مكان يذهبون إليه، حتى في الأماكن الموصوفة كذبا بالآمنة، ورغم كل هذا الهول الأفظع، كانت قوات الاحتلال تتلقى الهزائم المتلاحقة في ميادين القتال المتلاحم، وكان المقاومون من «حماس» وأخواتها، يبدعون على نحو مذهل، ويعيدون تدوير قذائف العدو التي لم تنفجر، ويضيفون زادا جديدا إلى ورش التصنيع الحربي الذاتي، ويدبرون الكمائن المميتة لنخب قوات الاحتلال من شمال غزة إلى جنوبها، ويفشلون «خطة الجنرالات» الهادفة للتطهير العرقي الشامل في جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون شمال مدينة غزة، وإلى حد دفع العدو الأمريكي «الإسرائيلي» إلى حافة جنون، عبر عنه أنتوني بلينكن وزير خارجية بايدن، بإعلانه قبل أيام، أن قوات «حماس» عادت إلى حجمها الأول صباح 7 أكتوبر 2023، وأن آلافا متكاثرة جرى تجنيدها من قبل «حماس» وأخواتها.
بينما ذهب الجنرال جيئورا آيلاند إلى إعلان فشل «خطة الجنرالات» التي وضعها بنفسه، وقال إنه لا أمل في تنفيذها، وإنه لا بديل عن الانسحاب «الإسرائيلي» بالكامل من غزة، وكان ترامب وإدارته يتابعون حقائق الميدان عن قرب، وأدركوا أن حرق «حماس» وأخواتها في الجحيم غير ممكن ومحض وهم، فالمقاومة تنمو وتتوالد ذاتيا، ودونما حاجة إلى مدد لم يأت عبر الحدود، وأن استنزاف قوات العدو ماض إلى نهايته، وهو بعض ما دفع ترامب البراغماتي إلى وجهة أخرى، تضغط على نتنياهو لتجرع سم اتفاق وقف النار، بعد أن ثبت مرارا وتكرارا أن القوة الأمريكية «الإسرائيلية» الإبادية لم ولن تفوز أبدا في المنازلة النارية مع الشعب الفلسطيني ومقاومته.
وأنها لن تنجح في تهجير الشعب الفلسطيني إلى خارج أرضه المقدسة، رغم كل هذا العذاب الأسطوري، وأنه لا سبيل لاجتثاث حركات المقاومة الأسطورية، وأن ما أخفقوا في إحرازه بقوة السلاح قد يكون أيسر في التحقق، لو تحولوا إلى السياسة، وانتقلوا إلى اتفاق ثلاثي المراحل لوقف الحرب، تدور عناصره الأساسية، كما صمم عليها المفاوضون الفلسطينيون، حول التدرج في وقف النار من الموقوت إلى المستديم، وحول فتح سبل إغاثة الشعب الفلسطيني وإعادة الإعمار اللاحقة، وإطلاق سراح آلاف من الأسرى الفلسطينيين، وانسحاب قوات الاحتلال من غزة على مراحل، وفتح معابر الإمداد الإنساني، وإعادة كل النازحين الفلسطينيين من جنوب «غزة» إلى سكناهم في الشمال، وهذه هي الملامح الكبرى للاتفاق الجديد القديم، الذي دأبت حكومة الاحتلال على رفضه وإعاقته لثمانية شهور مضت، ثم يخضع له اليوم ترامب ونتنياهو معا، ربما على أمل الاستعاضة عن فشل حرب غزة، والانتقال إلى حرب العصف بالضفة الغربية، وعقد اتفاقات «إبراهام» جديدة مع دول عربية مضافة.
ومع وقف النار في حرب غزة، وضعف الثقة في ضمانات تنفيذ أي اتفاق مع كيان الاحتلال، إلا أن تكون المقاومة على الموعد في أحوال الإخلال الإسرائيلي الوارد طبعا، و في كل الأحوال، فجولة الحرب الأخيرة لم تكتب كلمة النهاية، ولم يحقق العدو فيها نصرا بأي معنى، رغم كل ما جرى من دمار وقتل، وهذه هي الخاتمة ـ التي صارت معتادة ـ لكل حرب تخوضها «إسرائيل» مع المقاومة الجديدة، وفي صورة حروب غير متناظرة، يملك فيها العدو ما لا تملكه المقاومة، والعكس بالعكس، لكن النتائج تظل كما هي.
فالعدو ينهزم حين لا تتحقق أهدافه، والمقاومة لا تهزم حين لا تفنى، وحين تثبت قابليتها للتجدد، رغم قسوة الظروف، فبقاء المقاومة يعني المقدرة على استئناف المواجهات الحربية، وبقاء المقاومة يعني تجدد الأمل في نصر كامل، تستعاد به الحقوق المقدسة للشعب الفلسطيني المظلوم، الذي أثبت مقدرته اللانهائية على الصبر وتحمل التضحيات بغير حدود، فقد أثبتت تجربة الحرب بعد «طوفان الأقصى»، أن بوسع الشعب الفلسطيني المحاصر، أن يتفوق ويهتدي بتجارب كفاح الجزائريين والفيتناميين، وأن يواصل الاستمساك بمقاومته العنيدة حتى تعود النجوم إلى مداراتها، ويستعيد حقه كاملا في الحياة والحرية، مهما بلغت التضحيات وتضاعفت العذابات، ومهما خذله المتخاذلون، ومن حق الشعب الفلسطيني اليوم أن يفرح بالاتفاق الجديد، وأن يفخر بدماء الشهداء التي هزمت سطوة وجبروت سيف العدو، وأن يحلم بالنصر الكامل في قابل الأيام والحروب.
القدس العربي