أكد مدير مستشفى المسرة على ما يؤديه الطب النفسي الجنائي من دور مهم في تحليل المخاطر وتقييم وضع المحالين من أجهزة العدالة الجنائية لتقييم وضعهم النفسي، موضحا عدم صحة بعض المفاهيم الخاطئة المنتشرة ومنها أن أغلب المرضى النفسيين يرتكبون الجرائم وأن المريض النفسي أو من لديه تاريخ مرضي غير مسؤول عن أفعاله وأن تقييم الطب النفسي الجنائي يساعد في التخفيف من العقوبة، ولكن في الحقيقة لا يعفي الشخص من المسؤولية الجنائية إلا في بعض الحالات، مبينا ارتفاع مستويات ارتكاب الجريمة لدى مدمني المؤثرات العقلية والكحولية ومضطربي الشخصية المعادية للمجتمع، رغم تمييزهم بين الخطأ والصواب والحكم على عواقب الأمور.

وقال الدكتور بدر بن علي الحبسي، طبيب استشاري، مدير مستشفى المسرة في حواره مع «عمان»: يعد الطب النفسي الجنائي في مستشفى المسرة أحد الفروع الدقيقة للطب النفسي المختص بتقييم المحالين من أجهزة العدالة الجنائية المشتبه بإصابتهم باضطراب نفسي أو لتقييم المرضى النفسيين وعلاجهم، ويؤدي الطب النفسي الجنائي دورا مهما في تقييم المخاطر وذلك باستخدام اختبارات ومقاييس نفسية دقيقة جدا تساعد في تقييم المخاطر المحتملة؛ حيث تساعد في تحديد إمكانية دمج المريض النفسي في المجتمع العام.

وتشتمل اختصاصات مجال الطب النفسي الجنائي على دراسة وتحليل العلاقة المركبة بين الاضطراب النفسي والسلوك الجرمي، فضلا عن الدور المحوري في التنسيق مع مختلف الجهات القانونية المختصة؛ بهدف توفير الدعم والرعاية للمرضى النفسيين وحماية المجتمع.

تطور متسارع

ويضيف الحبسي: يستند الطب النفسي الجنائي تاريخيا إلى قاعدة «ماكنوتن»، التي بدأ العمل بها منذ حوالي قرنين في القضاء الإنجليزي، بعد واقعة مقتل إحدى الشخصيات من مريض نفسي يدعى ماكنوتن، حيث تبيّن لدى ارتكابه للجريمة أنه كان تحت تأثير أعراض المرض الذهنية، مما جعله غير مذنب نتيجة للخلل في الإدراك الناجم عن مرضه النفسي. وعن التطور الحاصل في مجال الطب النفسي الجنائي، أوضح: الطب يتطور بشكل متسارع، وينطبق ذلك على الطب النفسي الجنائي، حيث إنه في الفترة الماضية حدثت طفرة واسعة في مجال تقييم المخاطر، حيث يمكن تقييم المخاطر المحتملة لارتكاب جرم ما، ويتم تحديد نوع الجرم المحتمل حدوثه وكذلك الفترة الزمنية وتحديد وجود ضحية معينة من عدمه، وذلك عن طريق استخدام مقاييس نفسية عالمية، ولا تعمل تلك المقاييس على تحديد الخطورة فحسب، وإنما تحدد عوامل الوقاية والتي بدورها تخفف من حدة الخطورة.

الجرائم الغامضة

وسألنا الطبيب الاستشاري حول إمكانية أن يساعد الطب النفسي الجنائي في الكشف عن الجرائم، فأجاب: لا يوجد له دور مباشر في الكشف عن الجرائم وتحديد المجرم، والطبيب الجنائي هو المعني بهذا الدور، إلا أنه يُستعان أحيانا بالطبيب النفسي الجنائي في بعض الجرائم الغامضة، مثال على ذلك الجرائم التي تتكرر بالسيناريو نفسه والضحايا من العمر نفسه أو الجنس أو ما شابه ذلك، ولم تتمكن السلطات من القبض على المشتبه به، يُستعان حينها بالطبيب النفسي الجنائي، حيث يمكن تقصي أحداث الجريمة ومحاولة معرفة شخصية المتهم بالتعاون مع الطبيب الجنائي.

وحول العلاقة بين المرض النفسي وارتكاب الجريمة، أفاد الدكتور الحبسي: ليس كل مريض نفسي يشكل خطرا على المجتمع ويرتكب جريمة؛ فالأمراض النفسية كثيرة جدا، وقد دلت الدراسات على أن بعض الأمراض النفسية ومنها الاضطرابات الذهانية، والتي يعاني المصابون بها من أوهام وضلالات وتكون أحيانا مصاحبة بهلاوس مختلفة الشكل، قد تزيد من احتمالية المريض النفسي لارتكاب جرم معين، لكون المريض النفسي تحت سيطرة الأعراض الذهانية وقت ارتكابه للجرم، ولا يمكنه جزم بعواقب أفعاله، وقد دلت الدراسات على أن نسبة ارتكاب الجريمة عالية لدى فئة مدمني المؤثرات العقلية والكحولية وكذلك لدى الأشخاص الذين لديهم اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع، وهؤلاء لديهم البصيرة في التمييز بين الخطأ والصواب والحكم على عواقب الأمور. وتابع في حديثه: انتشرت بعض المفاهيم الخاطئة منها أن المريض النفسي أو من لديه تاريخ مرضي أو سجل طبي نفسي فهو غير مسؤول عن أفعاله، ولكن في الحقيقة لا يعفى المريض من المسؤولية الجنائية إلا في الحالات التي تثبت فيها العلاقة المباشرة والمسببة للسلوك الجرمي، على سبيل المثال مريض الفصام قد لا يكون مسؤولا عن أفعاله، إذا ما أقدم على ارتكاب سلوك عنيف تجاه من يتوهم ضده، بأنه يمثل تهديدا لحياته، في حين أن مريض الفصام ذاته لو ارتكب جريمة السرقة بدافع الحصول على المال فقط، فإن المرض النفسي في هذه الحالة لا يعفيه من المسؤولية الجنائية.

وأضاف: يعد مرض الفصام مرضا نفسيا شديدا، وتشتمل أعراضه على الاضطراب في التفكير والأوهام والهلاوس والخلل في الوظائف الإدراكية مع عدم الاستبصار بالمرض؛ إلا أنه كما ورد في المثال أعلاه قد لا يعفيه مرضه النفسي دائما من المسؤولية الجنائية؛ حيث لوحظ أن بعض المحالين إلى المستشفى ليس لديهم أمراض نفسية، بل إن هناك من يدَّعي المرض النفسي لمحاولة التنصل من المسؤولية، فيجب إخضاعه إلى العديد من الاختبارات والمقاييس النفسية العالمية ومتناهية الدقة في الحكم للتأكد من ذلك، فهناك الكثير من المحالين يدَّعي فقدانه للذاكرة وقت ارتكابه للجرم.

ومن المفاهيم الخاطئة أيضا أن أغلب المرضى النفسيين يرتكبون الجرائم، وليس هذا ما تشير إليه الإحصائيات، حيث إنهم لا يمثلون سوى نسبة قليلة جدا من إجمالي المدانين في القضايا الجرمية، وكذلك من المفاهيم الخاطئة أن تقييم الطب النفسي الجنائي يساعد في التخفيف من العقوبة، ولكن على عكس ذلك ففي بعض القضايا التي تصنف جُنحًا، وبعد إجراء تقييم الخطورة، يتّضح أن المجرم يشكل خطرا على المجتمع العام، ويظل تحت الخطة العلاجية التي تستمر فترة طويلة جدا مقارنة بالعقوبة المحددة لتلك الجنح، والمريض النفسي الذي يحكم عليه قضائيا بامتناع العقوبة الجزائية عنه لثبات عدم مسؤوليته عن أفعاله، توفر له الرعاية الطبية النفسية في بيئة آمنة تحت الحراسة لحمايته وحماية المجتمع من المخاطر التي قد تصاحب الانتكاسات الحادة للاضطراب النفسي، والتي غالبا ما تحدث نتيجة لعدم انتظام المريض النفسي في تناول العلاج وعدم توفر الإشراف المباشر في محيطه المجتمعي.

تقييم شامل

وأشار الدكتور بدر الحبسي إلى أن المتهم الذي ليس لديه تاريخ مرضي سابق يحال للتقييم النفسي، لتحديد إذا ما كان لديه اضطراب نفسي من عدمه، وإذا ثبتت إصابته بذلك وجب تحديد مدى تأثير هذا الاضطراب على إدراكه ومسؤوليته عن أفعاله فيما يختص بالجريمة، ويتم التقييم النفسي للمحالين من خلال فريق تخصصي يضم أطباء نفسيين ومهنيين في مجالات متعددة من طواقم التمريض وعلم النفس والبحث الاجتماعي والتأهيل.

كما يتضمن التقييم الشامل عدة مراحل من أهمها إدخال المُحال إلى القسم الداخلي للطب النفسي الجنائي للملاحظة المستمرة والمباشرة وإجراء الفحوصات السريرية والاختبارات النفسية، فضلا عن التقييم الطبي لأية أمراض عضوية قد تكون مسببا للاضطرابات النفسية. ولا يصدر التقرير الطبي النهائي، إلا بعد استكمال جميع إجراءات التقييم الدقيقة مع التنبيه بأن الرأي الطبي ليس من صلاحياته الحكم النهائي بالمسؤولية أو بعدمها، ولكن قد يستند القضاء إلى الرأي الطبي في إصدار الحكم.

وأكد الحبسي أن توفير سبل الدعم الأسري والمجتمعي حق من حقوق المريض النفسي فضلا عن رعايته الطبية المستمرة، كما أن توفير الرعاية المتكاملة للمريض النفسي من جميع الجهات المختصة يمثل إحدى الركائز التي تحد من تورط المريض النفسي في قضايا جرمية قد تعرّضه وتعرّض أفراد المجتمع للخطر، مشيرا إلى أن مستشفى المسرة سيطلق قافلة توعوية تجوب المحافظات تُعنى بالصحة النفسية بهدف التذكير بأهمية العناية والاهتمام بالصحة النفسية وهذا العام ستكون بمحافظتي شمال الباطنة وجنوب الشرقية وتهدف القافلة التوعوية إلى رفع الوعي بأهمية الصحة النفسية وتصحيح المفاهيم حولها وتعزيز الوعي بالخدمات التي يقدمها مستشفى المسرة لدعم الصحة النفسية، وتعزيز المعرفة والوعي لدى طلبة المدارس حول كل ما يتعلق بالصحة النفسية للوقاية من الأمراض النفسية والمؤثرات العقلية والمخدرات.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: المفاهیم الخاطئة المریض النفسی النفسی فی

إقرأ أيضاً:

الاعتلال النفسي والاضطرابات العصبية المرتبطة به

الاعتلال النفسي هو حالة معقدة متعددة الأوجه؛ حيث يتميز بمجموعة من السمات العاطفية والتفاعلية، كنقص التعاطف أو الشعور بالذنب أو الندم، بالإضافة إلى الاندفاعية والجاذبية السطحية، بالرغم من الفهم الواسع لتقييم الاعتلال النفسي، إلا أنه لا يزال هناك فجوة كبيرة في فهم الاضطرابات العصبية المرتبطة بهذا الاضطراب النفسي الحاد، الذي يقدر بأنه يصيب حوالي 1% من سكان العالم. التعمق في الأسس العصبية الحيوية للاعتلال النفسي يتم من خلال دراسة ثلاث مناطق حيوية في الدماغ؛ وهي اللوزة الدماغية والقشرة الجبهية والهياكل شبه الحوفية الممتدة، حيث تلعب كل من هذه المجالات دورًا محوريًا في التشوهات السلوكية والعاطفية التي لوحظت في الأفراد ذوي السمات النفسية المرضية، إحدى المناطق الرئيسية المتأثرة في أدمغة الأفراد الذين يظهرون سماتٍ نفسية هي اللوزة الدماغية، وهي المنطقة المسؤولة عن معالجة المشاعر كالخوف والقلق. المصابين بالاعتلال النفسي يظهرون نشاطًا ضئيلًا في اللوزة؛ ما قد يفسر استجاباتهم الخافتة للخوف وضعف قدرتهم على إدراك الضيق لدى الآخرين، ويعد هذا الخلل الوظيفي بالغ الأهمية في فهم سبب انخفاض حجم المناطق الأمامية من الدماغ لدى الأفراد المصابين باضطراب الشخصية المعادية للمجتمع بنسبة 18% تقريبًا، عند تعرض المصابين بالاعتلال النفسي لصور تظهر وجوهًا مخيفة أو انتهاكات أخلاقية ينخفض نشاط اللوزة الدماغية بشكل ملحوظ مقارنةً بالأفراد غير المصابين بالاعتلال النفسي، ويبرز هذا النقص في الاستجابة الانفصال العاطفي، وعدم الحساسية الأخلاقية وهما من السمات المميزة للاعتلال النفسي؛ ما يقدم تفسيرًا عصبيًا بيولوجيًا لهذه السمات السلوكية، من المناطق الحرجة الأخري المتورطة في الاعتلال النفسي، هي قشرة الفص الجبهي التي تلعب دورًا أساسيًا في الوظائف التنفيذية مثل مراقبة السلوك، وتقييم النتائج، ودمج العواطف في عمليات صنع القرار، غالبًا ما يظهر المصابون بالاعتلال النفسي انخفاضًا في حجم قشرة الفص الجبهي، ما يضعف بشدة قدرتهم على التعلم من التجارب العاطفية، وبالتالي يؤثر على اتخاذهم للقرارات المستقبلية، وقد يدفع هذا النقص المصابين بالاعتلال النفسي إلى التقليل المستمر من عواقب أفعالهم، حيث لا يستطيعون معالجة ردود الفعل العاطفية ودمجها بشكل كامل، وكلما زاد الخلل الوظيفي في هذه المنطقة زادت شدة السلوك النفسي، حيث يتسبب بانخراط الأفراد المصابين في سلوكيات متهورة وغير مسؤولة دون مراعاة النتائج السلبية المحتملة، يتجاوز الخلل في الدماغ السيكوباتي الجهاز الحوفي، ليصل إلى المناطق المجاورة له، والتي تعرف مجتمعةً بالجهاز شبه الحوفي، حيث ترتبط هذه المناطق بمجموعة أوسع من الوظائف الإدراكية، بما في ذلك معالجة الذاكرة والتجارب، المصابين بالاعتلال النفسي يعانون من انخفاض في المادة الرمادية داخل هذه المناطق، ما يسهم في حدوث تشوهات في الذاكرة والإدراك، وقد يفسر هذا الانخفاض في حجم الدماغ سبب معالجة المصابين بالاعتلال النفسي للذكريات بطريقة مختلفة جذريًا، حيث غالبًا ما ينظرون إلى دورهم في الأحداث الماضية بانفصال أو تحريف، ويمكن أن تعزى الفجوة العاطفية الملحوظة لدى الأفراد المصابين بالاعتلال النفسي إلى ضعف قدرة هذه المناطق الدماغية، ما يعقد قدرتهم على التواصل مع الآخرين وفهم الأهمية العاطفية لتجاربهم، وكلها تؤدي إلى العجز العاطفي وضعف اتخاذ القرار والتشوهات المعرفية الملحوظة لدى الأفراد المصابين بالاعتلال النفسي.

NevenAbbass@

مقالات مشابهة

  • قائد قطاع قنا للتأسيس العسكري ومدير تعليم نجع حمادي يتفقدان المدارس العسكرية
  • الاعتلال النفسي والاضطرابات العصبية المرتبطة به
  • تطور الخدمات الطبية في المخا يخفف معاناة المرضى ويعزز الأمل بالشفاء
  • ورشة تدريبية في كلية التربية بالرستاق لتعزيز مفاهيم ريادة الأعمال
  • “حماس”: ما تضمنه تحقيق “ما خفي أعظم” يفضح حجم الفظائع التي ارتكبها جيش العدو
  • قانون العقوبات يحدد أنواع الحبس وصلاحيات تطبيق العقوبات وفق خطورة الجرائم
  • قذيفة خاطئة تصيب سيارة شرطة أثناء مناورة للمارينز في كاليفورنيا
  • مستشفى الحريري يعيد افتتاح وحدة الصحة النفسية في هذا اليوم
  • حاكم النيل الازرق يلتقي محافظ الرصيرص ومدير هيئة الغابات بالاقليم
  • هل يصل ثواب الصدقة التي نقدمها للميت؟.. الأزهر يوضح الحقيقة