الثاني عشر «التضخُّم وارتفاع الأسعار».
يُطلق مصطلح «التضخُّم» على ظواهر ومؤشِّرات وتقلُّبات عديدة ذات علاقة وثيقة بالاقتصاد، ترتبط بالأجور والأرباح وارتفاع التكاليف… وما يعنينا في هذا المقال هو، التضخُّم الَّذي يُعرف بأنَّه الزيادة الَّتي «تظهر بشكلٍ مُستمرٍّ على الأسعار الخاصَّة بالخدمات والمنتجات، ولَمْ تتمكَّن السُّلطات الحكوميَّة من فرض السيطرة عَلَيْها»، والَّتي تُرهق كواهل المواطنين، وتجعل الأجور عاجزة عن تحقيق أبسط متطلَّبات وتكاليف المعيشة.
ومؤشِّرات القلق البالغ الَّتي تتسرب إلى صانعي السِّياسة، في بلداننا العربيَّة، هذه الأيَّام، مبعثها الضغوطات النَّامية بسبب ارتفاع نسب التضخُّم وزيادة أسعار السِّلع الغذائيَّة في الأسواق المحلِّيَّة بنسب عالية جدًّا، بدافع من تأثيرات جائحة «كوفيد١٩» وما صحبها من إجراءات وإغلاقات مشدَّدة، والمواجهة الروسيَّة الأوكرانيَّة، والأحداث المأساويَّة في فلسطين أخيرًا، والفساد الَّذي ينخر في شرايين اللوبيَّات النَّافذة والمتحكِّمة، وما تسبَّب فيه من عِلَلٍ وأسقام وأضرار بليغة حطَّمت طموحات وأحلام المواطن العربي الَّذي تعرَّض على مدى عقود للظلم وحرمانه من حقوقه في التعليم والصحَّة والعمل والمساواة والشراكة في صناعة القرار، والتنعُّم بخيرات بلاده، فأصبحت الفئة القليلة جدًّا، هي المتحكِّمة في القرارات والثروات والسِّياسات، والمالكة للأموال والنفوذ والقوَّة… ارتفاع معدَّلات التضخُّم وأسعار السِّلع بما يفوق بكثير قدرات المواطن العادي والبسيط على توفير متطلَّبات معيشة أُسرته، يخيف الأنظمة السِّياسيَّة العربيَّة من أن يتسبَّبَ في ثورات شَعبيَّة جديدة، وانطلاق «ربيع عربي» آخر، لَنْ تكُونَ نتائجه بالطبع كسابقه، الكثير من القِمم العربيَّة المصغَّرة الَّتي تنعقد على فترات، دافعها ـ وفقًا لتسريبات صحفيَّة ـ دعم كُلٍّ من مصر والأردن، ماليًّا لكَيْ تتمكَّن من محاصرة التضخُّم والإبقاء على دعم بعض السِّلع الأساسيَّة، وتثبيت أسعارها، ومساندة العملة المحلِّيَّة، ودرء البلدان العربيَّة مظاهر الاحتجاج والغضب الشَّعبي وانفلات الأمن والثورات العارمة… كُلُّ تلك الجهود ـ من وجهة نظري الشخصيَّة ـ لَنْ تتجاوزَ المسكِّنات المؤقَّتة، ولَنْ تُحقِّقَ خصوصًا على المديَيْنِ المتوسط والبعيد أيَّ أثَرٍ يقي غضب الشَّارع العربي ويُعِيد له سكينته واستقراره ويهدِّئ غضبه. الإصلاحات السِّياسيَّة والاقتصاديَّة الجادَّة الَّتي تقودنا إلى إحداث التحوُّل الحقيقي هي ما يضْمَن هدوء الشَّارع ويُحقِّق رضا المواطن، ويُعزِّز الأمن والاستقرار ويبني نهضة عربيَّة حقيقيَّة تضيء سماء المستقبل وتُسهم في الركب الحضاري. وقَدْ تناولتُ هذا الموضوع وفصَّلتُه في عددٍ من المقالات الَّتي نشرتها على فترات، مؤكِّدًا على استحالة تعافي العالَم العربي من أسقامه ومشاكله وتحقيق رضا مُجتمعاته بِدُونِ «إصلاح سياسي حقيقي، وخطوات عمليَّة وجادَّة لرفع وتوسيع صلاحيَّات وأداء المؤسَّسات التشريعيَّة والرقابيَّة ووسائل الإعلام وأجهزة الرقابة والمساءلة وتحقيق استقلاليَّتها التَّامَّة عن ضغوط وهيمنة السُّلطة التنفيذيَّة لِتحققَ مبدأ الشراكة والتمثيل الحقيقي للمُجتمع وتتمكنَ من مساءلة كبار المسؤولين والنافذين وسدِّ منافذ الفساد وكفالة القانون لحُرِّيَّة التعبير، ومراقبة وتقييم تنفيذ وتطبيق أداء البرامج والخطط والرؤى الاقتصاديَّة، ومحاسبة كُلِّ مَن تسبَّب ويتسبَّب في إخفاقاتها وإعاقة تحقيقها لأهدافها. نَعَم لَنْ يتحققَ الإصلاح، وتنهضَ المُجتمعات وتتقدمَ الأوطان، وترتفعَ مؤشِّرات الإنجاز في كُلِّ شيء بما في ذلك «براءة الاختراع والابتكار والتصنيع وتكنولوجيا الذَّكاء الاصطناعي…» ويطبَّقَ القانون وتضمحلَّ بؤر الفساد وتُردمَ، وتتطوَّر مؤسَّسات التعليم ومراكز البحث العلمي وتُحتضن المواهب في بيئة لَمْ تترسخْ بعد فيها قِيَم الديمقراطيَّة، ولا مؤسَّساتها ومُثلها الإنسانيَّة، فتحقيق التقدُّم والثورات العلميَّة المتتابعة وتطبيق الرؤى والاستراتيجيَّات والخطط ونجاحها أصبحت لصيقة ونتاجًا للنُّظم الديمقراطيَّة كما نراه نموذجًا واضحًا في أوروبا وأميركا واليابان والصين الَّتي أحدثت إصلاحات جوهريَّة في نظامها السِّياسي وغيرها الكثير من القوى الناشئة». وفي مقال آخر تحدَّثتُ عن المشكلات العميقة الَّتي «يواجهها المواطن الخليجي محدود الدخل الَّذي يعتمد على مصدر واحد لا غير هو الراتب الشهري، راتب وظيفة، ضمان اجتماعي، أو تقاعد…» حيث يَقُودُ الارتفاع الكبير في أسعار السِّلع ورفع الدَّعم عن الخدمات وزيادة وفرض الضرائب إلى تآكل «القِيمة الحقيقيَّة لهذا الدخل»، الضعيف أصلًا، «وتئد الكثير من طموحاته وتنسف خططه المستقبليَّة الَّتي وإن بدَتْ بسيطةً إلَّا أنَّها تعكس مستوى ودرجة معيشته وعدد الريالات الَّتي يأخذها في نهاية كُلِّ شهر… وأخيرًا تقضي على قِيمة مدَّخراته. فالمواطن الَّذي بدأ يدَّخر الريال على الريال من أجْلِ تحقيق حلمه في بناء منزل يلمُّ شمله وأُسرته أو شراء سيارة أو استثمار صغير في مجال عقاري أو في سُوق الأوراق الماليَّة يضْمَن له مصدرًا آخر يُعزِّز دخله البسيط إنَّما يدَّخره على حساب الكثير من الاحتياجات الَّتي يحرم مِنْها نَفْسَه وأفراد أُسرته. لكنَّ الارتفاع المتواصل للأسعار الَّذي شمل كُلَّ شيء من السيَّارة، مرورًا بموادِّ وتكلفة البناء، وانتهاء بالمستلزمات الاستهلاكيَّة الأساسيَّة تقف عقبة كأداء أمام التطلُّعات وتحقيق الغايات، وقادت المواطن إلى تجاوز البنود الَّتي حدَّدها لتلبية الاحتياجات الشهريَّة الثابتة، بل وأتَتْ على البند الزهيد المخصَّص للادخار، وألجأته فوق ذلك إلى الاقتراض مُتعدِّد الأوجه…»، لقَدْ تضاعفت أسعار «السِّلعة الواحدة لأكثر من مرَّة في فترة وجيزة، فالسِّلع الاستهلاكيَّة ـ على سبيل المثال ـ الَّتي يشتريها الإنسان البسيط بقِيمة خمسين ريالًا قَبل أعوام قفزت إلى أكثر من مئة ريال عُماني. إنَّ تضاؤل القوَّة الشرائيَّة بسبب ارتفاع الأسعار المستمرِّ سوف يفضي إلى آثار خطيرة اجتماعيَّة واقتصاديَّة وأمنيَّة وإلى تهديد الطبقة الوسطى عماد المُجتمع الَّتي يتناقص عددها…». مجلس الشورى، ومن منطلق تمثيله لمصالح المُجتمع تناول هذه المُشْكلة الخطيرة عَبْرَ أكثر من نافذة وأداة برلمانيَّة وفي ملاحظاته على مشروعات الخطط والميزانيَّات ونقاشه مع الوزراء المختصِّين، مُطالِبًا بمراقبة السُّوق وزيادة أو الإبقاء على الدَّعم الحكومي للسِّلع الأساسيَّة، ومراجعة سياسات الضرائب والرسوم ورفع الأجور… لمكافحة التضخُّم وارتفاع الأسعار، واستعرض التحدِّيات الَّتي سوف تواجه «التنمية الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة في البلاد خلال المرحلة المقبلة..» وأهمُّها على الإطلاق «التفاوت الكبير والمتنامي في الدخول بَيْنَ شرائح المُجتمع المختلفة وزيادة نسب فئات ذوي الدخول المتدنِّية للغاية…»، وهو ما تَعُودُ أسبابه إلى ضعف الأجور و»الزيادة الكبيرة في أعداد الباحثين عن العمل..». وطالب المجلس بـ»ضرورة إجراء دراسة شاملة حَوْلَ متوسطات الدخول والمستوى المعيشي لمختلف شرائح المُجتمع في مختلف مناطق السَّلطنة للتعرف بطريقة علميَّة على مستويات المعيشة ونسبة شرائح المُجتمع الَّتي يُمكِن أن تصنفَ على أنَّها تقع تحت خطِّ الفقر، ومراجعة تشريعات ونُظُم الضمان الاجتماعي وتوفير الموارد الماليَّة اللازمة لمعالجة أوضاع هذه الشرائح… مع لفْتِ النظر إلى أنَّ المجلس أعدَّ كذلك، دراسة شاملة حَوْلَ «التضخُّم وارتفاع الأسعار»، رفعت إلى السُّلطان في يناير 2009م. ولو أنَّ مجلس الوزراء والمؤسَّسات الحكوميَّة المتخصِّصة راجعت تلك التنبيهات والرؤى والتوصيات وحلَّلتها وأمعنت فحصها، ما وصلنا إلى ما بلغه المُجتمع من ضعف في الرواتب وارتفاع كبير في الأسعار وأعداد نامية باستمرار من الباحثين عن العمل وصف المواطنين الطويل الَّذين يبيعون في الشوارع للحصول على ما يكفي لتوفير متطلباتهم الرئيسة، وهذا السخط والإحباط ومرارة الشكوى الَّتي تضجُّ بها وسائل التواصل من الواقع المعيشي…
سعود بن علي الحارثي
Saud2002h@hotmail.com
المصدر: جريدة الوطن
كلمات دلالية:
الکثیر من
الم جتمع
إقرأ أيضاً:
خلافات حادة تضرب حزب المؤتمر الوطني المحلول
بورتسودان ـ تاق برس
نفى حزب المؤتمر الوطني المحلول أنه لم يطلب ثلث الأعضاء ولا المكتب القيادي أن تنعقد دورة فوق العادة نسبة للظروف التي تمر بها البلاد .
وأضاف الحزب في بيان أنه لكل دورات الانعقاد عادية كانت أم فوق العادة فإن المكتب التنفيذي هو الذي يعتمد المسائل التي تعرض على مجلس الشورى .
وذكر البيان أنه يقدر المكتب القيادي أن الوقت الحالي ليس مناسباً لانعقاد دورة لمجلس الشورى بسبب انشغال العضوية بالقتال ضد التمرد واستشهاد الكثير منهم ومن عضوية الشورى من هم ضمن أبناء شعبنا وقواته النظامية .
وأكد الحزب الى ان واقع الاستقطاب الحاد وسط العضوية والمحافظة على سلامة المجتمعين هي الأخرى تبرر تأجيل الاجتماع في هذا الوقت .
ولفت الإنتباه الى ان الحكمة تقتضي المحافظة على وحدة صفنا كحزب وكشعب وألا تُثار أي مواضيع خلافية في هذا الظرف فتكون ثغرة ينفذ الأعداء من خلالها ليفتوا في عضدنا.
وقال الحزب ان الذين قاموا بتنفيذ المؤامرة على الحزب والدولة والشعب السوداني عام 2019 وزجوا بقياداته في السجون هم الذين يعملون الآن لشق الصف بالإصرار على إقامة اجتماع لمجلس الشورى .
وطالب الحزب عضوية الحزب عامة وعضوية مجلس الشورى خاصة للالتزام بمواثيق الحزب وقرارات مؤسساته لمواجهة التمرد ومن يقف خلفه.
التنفيذيالمؤتمرالمكتب