يعتقد أستاذ علم الاجتماع في جامعة السوربون الدكتور برهان غليون، أن سر قوة إسرائيل واستمرار تصدرها للمشهد في الشرق الأوسط، يعود إلى الدعم الغربي غير المحدود لها.

وأوضح غليون في هذا الفصل من كتابه "المصير" الصادر مطلع العام الجاري، والذي يختص بتحليل "المسألة الإسرائيلية"، والذي اختار إعادة نشره بالتزامن بين "عربي21" وصفحته على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، أن إسرائيل ليست الطفل المدلل للغرب، كما شاع في أدبياتنا العربية، بل سلاحه الأمضى في الاحتفاظ بعلاقة خاصة مع موارد المنطقة وموقعها.

.

ويشرح ذلك في هذا النص الذي ننشره في جزأين:

من أجل إضاءة إضافية على الحرب الإسرائيلية الفلسطينية رأيت أن من المفيد نشر هذا الفصل الذي كرسته لتحليل المسألة الإسرائيلية والموقع الجيوسياسي والدور الذي أنيط بها من قبل المركز الغربي في خدمة مصالح التكتل الأطلسي ما بعد الاستعماري.

ولا يترك الانخراط غير المسبوق للدول الغربية المركزية في حرب الإبادة التي أعلنتها تل أبيب ولا تزال تنفذها منذ ما يقرب الشهر على المدنيين بالدرجة الأولى مجالا لأي شك أن هذه الحرب ليست ضد فلسطين، دولة وشعبا، فحسب وإنما هي ايضا حرب غير مباشرة على دول المشرق في سبيل تقويض تطلعاتها الاستقلالية الخجولة وإعادتها إلى بيت الطاعة والإبقاء على إخصائها الاستراتيجي وإجبارها على الخنوع والاستمرار في الدوران في فلك التكتل الأطلسي والسير وراء سياساته العدوانية.

"لا توجد أي مصلحة للغرب في الفصل بين القضية اليهودية والمصالح الغربية الاستراتيجية. كما أن مثل هذا الفصل يفقد إسرائيل أهميتها ونفوذها في الغرب والعالم. وما دامت هذه المصالح ذات طابع استثنائي، سوف تبقى العلاقة أيضًا بين التكتل الغربي وإسرائيل استثنائية، ولن تكون هناك إمكانية للتوصل إلى تسوية عربية ـ إسرائيلية أو إسرائيلية ـ فلسطينية. ولن تقوم علاقات ندية بين الدول العربية وإسرائيل ما لم تقم مثلها بين العرب والغرب ويتقدم مفهوم الحوار والمصالح المتبادلة على مفهوم الإملاء أو الحماية أو الوصاية والتعامل مع المنطقة كحقل صيد لا كشريك محترم وصاحب مصالح وقرار.

نستنتج من هذا التحليل أن إسرائيل ليست الطفل المدلل للغرب، كما شاع في أدبياتنا العربية، بل سلاحه الأمضى في الاحتفاظ بعلاقة خاصة مع موارد المنطقة وموقعها. وهذه هي الحال أيضًا بالنسبة إلى الموقف من العرب والمسلمين في الشرق الأوسط. فليست ثقافتهم أو ديانتهم ولم تكن هي المشكلة، بل ما تضمره وحدتها من فرص لتقريب شعوب المنطقة من بعضها بعضًا واحتمالات تشكيل تحالف أو تعاون جدي أو اتحاد يعيد رسم خطوط القوة في المتوسط ويغير التوازنات الجيواستراتيجية أيضًا، وما ينطوي عليه من إمكانيات التقدم والتنمية التقنية والعلمية والعسكرية. وما كان هذا الموقف سيتغير لو كان ما يجمع شعوب المنطقة جنوب المتوسط ثقافة واحدة يونانية أو أفريقية أو يهودية".

المسألة الإسرائيلية :

لا يمكن فهم المنحى الذي اتخذه تاريخ الشرق الأوسط الحديث من دون ذكر مشروع إقامة دولة يهودية في فلسطين بقرار بريطاني ودعم غربي مشترك، وتوسيع دائرة الاستيطان على حساب مصالح السكان الأصليين، ورفض أي تسوية معهم، من حروب ومواجهات عسكرية، ولا ما نجم عن ذلك كله من آثار على السلام والاستقرار ووضعية الدولة والاقتصاد والثقافة والأيديولوجيات السائدة في عموم المنطقة الشرق الأوسطية. وليس من المبالغة القول أن هذه المسألة، وما دار حولها من صراعات وارتبط بها من سياسات، هي التي شكلت الجزء الأبرز من تاريخ المشرق منذ أكثر من قرن.

يستدعي هذا الفهم تمييز المسألة الإسرائيلية من المسألة اليهود ية. فالمسألة الإسرائيلية تعني ما أحدثه قيام دولة إسرائيل من وقائع ونزاعات وتحالفات مستجدة غيرت وجه الشرق الأوسط، وبكلمة أبسط التكلفة السياسية والجيوسياسية لقيام إسرائيل دولة يهودية في عام 1948 على حساب دولة فلسطين التي سبقتها وفي مكانها، وإن كانت في ذلك الوقت تحت الانتداب. وهي تختلف عن المسألة اليهودية الأوروبية التي تتعلق جوهريًّا بالتمييز العنصري الديني ضد شعب أو طائفة خلال قرون طويلة بسبب دينها أو عرقها، والتي ارتبطت تاريخيًّا بالمسيحية الكاثوليكية الأوروبية. كما تختلف عن المسألة الفلسطينية التي تعنى بمصير شعب أجبر على الخروج من وطنه في إطار تطبيق الوعد الذي قدمه وزير خارجية دولة استعمارية كبرى، بريطانيا، لقادة المنظمة الصهيونية، ومن ثم كفاحه من أجل العودة والاعتراف بوجوده كشعب وحقه في تقرير مصيره.

لا يترك الانخراط غير المسبوق للدول الغربية المركزية في حرب الإبادة التي أعلنتها تل أبيب ولا تزال تنفذها منذ ما يقرب الشهر على المدنيين بالدرجة الأولى مجالا لأي شك أن هذه الحرب ليست ضد فلسطين، دولة وشعبا، فحسب وإنما هي ايضا حرب غير مباشرة على دول المشرق في سبيل تقويض تطلعاتها الاستقلالية الخجولة وإعادتها إلى بيت الطاعة والإبقاء على إخصائها الاستراتيجي وإجبارها على الخنوع والاستمرار في الدوران في فلك التكتل الأطلسي والسير وراء سياساته العدوانية.نجمت المسألة الإسرائيلية عن زواج لا شرعي بين شعب مضطهد هو الشعب اليهودي ونظام استعماري يضطهد الشعوب الأخرى، وجعل من المضطهدين "بالفتح" أداة في يد المضطهدين "بالكسر" ضد شعب لم يشارك لا من قريب ولا من بعيد بهذا الاضطهاد النابع من التمييز "ضد السامية". ومن هنا ارتبط تحقيق الحلم اليهودي، الذي واكب في القرن التاسع عشر حلم أكثر الشعوب بالخلاص من الاضطهاد والتمييز والشتات من خلال تأسيس دولة خاصة ومستقلة، بالخطط البريطانية والفرنسية لتقاسم ممتلكات السلطنة العثمانية بعد رحيلها. وجاء حصول اليهود على دولة مستقلة على حساب شعب آخر، واقتضى تأكيد الهوية اليهودية للدولة، انضواء هذه الدولة ضمن مشاريع السيطرة الاستعمارية على المنطقة وخططها وخياراتها الاستراتيجية وأجنداتها الإقليمية.

هكذا لم تعد إسرائيل مشروع دولة يهودية فحسب ـ تحرير اليهود من اللاسامية والتمييز العنصري ـ بل وسيلة إضافية في يد السلطات الاستعمارية الأوروبية للتدخل في شؤون الشعوب المشرقية للحفاظ عليها في دائرة نفوذها. وصارت حروبها لتأكيد وجودها وتوسيع رقعة سيطرتها واستيطانها اليهودي جزءًا من حروب السيطرة الاستعمارية البريطانية ـ الفرنسية.

وهذا ما أدى إلى تماهي الطرفين في الواقع في تطبيق سياسة معادية للعرب ومناهضة لتحررهم، وزاد من نظر العرب إلى إسرائيل بوصفها دولة أداة ومخلب قط أكثر مما هي ملجأ لشعب يهودي مسالم يريد التحرر من وطأة التمييز الممارس عليه في الدول التي أصبحت الداعمة الرئيسية له في حربه ضد الشعوب العربية، ودفع العرب إلى أن يروا في هذه الحرب المستمرة منذ ما يقارب القرن حربًا بالوكالة لمصلحة العواصم الغربية.

هكذا أصبحت إسرائيل هي المشكلة الجديدة التي حلت محل المشكلة الاستعمارية والتعبير عن استمرارها في المشرق العربي بعد انحسار حقبتها الكلاسيكية، أي بعد تصفية الاستعمار في نهاية الحرب العالمية الثانية. وبالفعل، بقي الشرق الأوسط وحده يرزح تحت عبء قوة قاهرة خارجية، مسلحة ومدعمة ومكفولة من الغرب، وأمام حركة استيطان تهدف إلى إحلال مهاجرين "بيض" محل سكان البلاد الأصليين، تحمي قرارها بقوة السلاح الذي ضمن لها الغرب حق استخدامه من دون رادع ولا قانون، وأمن لها التفوق المطلق على جميع دول المنطقة، مجتمعة أو منفردة، ومن ثم حرية الحركة من دون مساءلة ولا حساب ولا عقاب. وكان بعد كل حرب على جيرانها يكافؤها على الانتصار بتقديم المزيد من المنح والمساعدات والدعم السياسي والعسكري لها.

هكذا تحول الشعب اليهودي الضعيف والضحية إلى مارد لا يقهر، وأصبحت دولة صغيرة لا تعد بضعة ملايين من السكان قادرة على سحق أمة من شعوب بمئات الملايين من البشر. أصبحت إسرائيل أسطورة في الغرب، بمقدار ما بدت تعويضا عن نهاية الاستعمار وانتقاما من الشعوب التي طالبت به. وصار سحرها والتماهي معها يطغى على كل ما تفعله وما ينجم عن حروبها من زعزعة لم تتوقف لاستقرار المنطقة وتوازناتها المادية والمعنوية، ومن تسميم للعلاقات بين دولها وشعوبها وتدمير لمعنويات جمهورها واستقراره النفسي العميق. هذا ما جعل المشرق يعيش، بخلاف أوسع مناطق العالم، مناخ الحقبة الاستعمارية الكلاسيكية وينتج ردود أفعالها وقيمها وتقاليدها ويفقد شيئًا فشيئًا معالم التقدم والازدهار الفكري والاجتماعي والتفاؤل الذي حققه في الحقبة السابقة.

استخدم الغرب في العقود الماضية، من دون أدنى شك إسرائيل، لتمرير خياراته وتأمين مصالحه الاستراتيجية والاقتصادية في بلدان المشرق، وكانت حكومات إسرائيل سعيدة في أن تقوم بالخدمة لما يحققه لها ذلك من مكانة عالية في الغرب ومن رادعية أو قوة ردع كافية ومضمونة ضد شعوب المنطقة الطامحة، في ما وراء الدفاع عن القضية الفلسطينية، إلى استقلال حقيقي.

هذا ما يفسر سياسة الغرب تجاه تسوية النزاع العربي ـ الإسرائيلي وتجاهله لجميع المبادرات التي قامت بها دول عربية رئيسية، مثل مصر والمملكة العربية السعودية لوضع حد للنزاع مع تلبية التطلعات اليهودية الأساسية. فبدل أن تعمل الحكومات الغربية، بيسارييها ويمينييها، على المساعدة على إيجاد حل للمعضلة الإسرا ئيلية، سعت بالعكس إلى تأجيجها لدفع البلدان العربية إلى مزيد من الالتصاق بهذه الحكومات والخضوع لمطالبها. أصبح جيش إسرائيل القوي السوط الذي يمسك به الغرب لتطويع القيادات العربية "الناشزة" وتركيعها.

من هنا، لم يطور الغرب أي مسعًى لوقف مسلسل الحروب الإسرائيلية الدائمة، ولم يقم بأي إجراء جدي للحد من سياسة الاستيطان، بل غالبًا ما كان يشجع تل أبيب عليها ويقدم المساعدات السخية لتطويرها، من وراء الكلام الاستهلاكي عن "أن الاستيطان لا يخدم قضية السلام" الذي اعتاده العرب والإسرائيليون معًا.

وليس من الصحيح أن المسألة الإسرائيلية مستعصية على الحل، ولا يوجد مجال للتدخل لإنهائها ما دام الأمر نزاعًا على الأرض ذاتها من شعبين كما يشاع. فهكذا كان الحل في جنوب أفريقيا، وكان الحل هو بالضبط ما اكتشفه الغرب نفسه قبل قرنين أو أكثر، أي دولة ديمقراطية لجميع مواطنيها، بصرف النظر عن أصولهم ودياناتهم. وهذا ما يطلبه من الدول العربية إزاء الأقليات. فقد كان الحل موجودًا دائمًا منذ البداية في هذه الدولة العلمانية التي تساوي بين جميع مواطنيها وكان يمكن لفلسطين أن تكون منذ عام 1948 دولة العرب والي هود الذين ولدوا فيها أو قدموا إليها من البلدان الأخرى، هذه الدولة الديمقراطية اللاعنصرية.

لم تعد إسرائيل مشروع دولة يهودية فحسب ـ تحرير اليهود من اللاسامية والتمييز العنصري ـ بل وسيلة إضافية في يد السلطات الاستعمارية الأوروبية للتدخل في شؤون الشعوب المشرقية للحفاظ عليها في دائرة نفوذها. وصارت حروبها لتأكيد وجودها وتوسيع رقعة سيطرتها واستيطانها اليهودي جزءًا من حروب السيطرة الاستعمارية البريطانية ـ الفرنسية.لكن الغرب فضل، لمصالح استراتيجية محض، خيار الدولة العنصرية التي تقصي شعبًا لحساب آخر، ولم يعترض على طرد الفلسطينيين ولم يسع إلى إعادتهم إلى وطنهم الإصلي، بل تبنّى موقف التيار الصه يوني الإقصائي، وعززه بتبنيه أيضًا خطاب زعماء إسرا ئيل حول العرب وعدوانيتهم واستحالة التعايش معهم، وهم الذين حضنوا الي هود وشاركوهم شؤونهم كلها، بما فيها السياسية، عندما كانت المجتمعات الغربية تفرض عليهم العيش في معازل مغلقة وتمارس العنصرية ضدهم.

كما أنه ليس من الصحيح ما يدعيه الغربيون وأصبح ترداده وسيلة لذر الرماد في العيون، وقبل به الفلسطينيون والعرب، أن عدم التوصل إلى حل، سواء بتطبيق قرارات الأمم المتحدة المتتالية أو بفتح مفاوضات جدية بين الطرفين على أساس مبدأ حل الدولتين، ناجم عن عصيان الحكومات الإسرا ئيلية بالرغم من التنامي المستمر في غطرسة قادتها.

إن الإبقاء على النزاع العربي ـ الإسرائيلي هدف قائم بذاته، فهو يخلق بؤرة توتر دائمة في المشرق العربي يعطل الجهود العربية ويستنزف موارد دولها ويشغلها عن قضايا التنمية الحضارية الرئيسية، إضافة إلى كونه مدخلًا للضغط والتأثير واحتواء تمرد الحكومات وتذكيرها بدونيتها في أي لحظة. فإسرائيل الرافضة أي سلام مع العرب هي، بصرف النظر عن المسألة اليهودية، أهم أسلحة الغرب اليوم في تأبيد السيطرة على المنطقة وإخضاع حكوماتها واستتباعها.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير المصير الفلسطينية احتلال فلسطين رأي مصير أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الشرق الأوسط دولة یهودیة هذا ما من دون

إقرأ أيضاً:

ما الذي تريده إسرائيل من سوريا الجديدة؟

تتسم المقاربة الإسرائيلية تجاه سوريا الجديدة بنهج عدائي شديد الوضوح، فقد نظرت القيادة الإسرائيلية إلى التحولات الجيوسياسية الناشئة كتهديد للأمن القومي الإسرائيلي، حيث شرعت منذ اللحظات الأولى لسقوط نظام الأسد بشن سلسلة من الاعتداءات والغارات الجوية وقامت بتوغلات برية أسفرت عن ضم واحتلال مزيد من الأراضي السورية. وقد أعلنت إسرائيل دون لبس أو مواربة عن عدائها للقيادة السورية الجديدة، وكشفت عن رغبتها وعزمها على إبقاء سوريا دولة هشة وضعيفة ومفككة ودون وجود سلطة مركزية قوية. وعبّرت إسرائيل بجلاء عن قلقها وخوفها من تنامي النفوذ التركي المتصاعد، وأكدت على خوفها وخشيتها من عودة وإحياء الإسلام السياسي السني الذي بات يسيطر على دمشق، وأثره وتداعياته على أمن الكيان الإسرائيلي وخطورته على أمن المنطقة.

شكّل سقوط نظام آل الأسد الوحشي الطائفي في سوريا بعد عملية "ردع العدوان"، على يد فصائل المعارضة المسلحة بقيادة "هيئة تحرير الشام" في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024، مفاجأة غير سارة للكيان الإسرائيلي، لكنه كان خبرا سعيدا لتركيا، ففي الوقت الذي تريد تركيا أن تكون سوريا الجديدة دولة ناجحة، ترغب إسرائيل بوجود دولة سورية جديدة فاشلة، ولذلك سارعت إسرائيل بالتزامن مع سقوط نظام الأسد، بشن سلسلة من الهجمات، ولم تكتف تل أبيب بالدخول إلى المنطقة العازلة، بل سيطرت على مرصد وقمة جبل الشيخ الاستراتيجية، وشنت أكثر من 300 غارة جوية أدت إلى تدمير البنية التحتية العسكرية التي تركها النظام السوري ومستودعات السلاح والصواريخ الإستراتيجية ومراكز البحث العلمي والتصنيع العسكري.

انهيار "محور المقاومة" الذي تقوده إيران في سوريا، وانكفاء نفوذه الإقليمي وتراجع مشروعه الطموح الذي كان يمتد من إيران والعراق عبر سوريا إلى لبنان حزب الله، مثّل نعمة أمنية آنية بالنسبة لإسرائيل، فسرعان ما شعرت إسرائيل بالقلق من أن المحور الإسلامي السُنّي الجديد بقيادة تركيا قد يصبح خطيرا بنفس القدر، وربما يتفوق على الخطر الإيراني مع مرور الوقت
ورغم أن تركيا وإسرائيل استفادتا بشكل كبير من تفكك المحور الذي تقوده إيران، وخاصة في سوريا، لكن تركيا كانت الرابح الأكبر، بينما تضاربت المشاعر الإسرائيلية وأفضت إلى نشوة مؤقتة أعقبها قلق دائم، فالعداء بين إسرائيل وتركيا لا يقارن بالصراع الطويل والدموي بين إسرائيل وإيران ووكلائها، والتحديات التي تواجه العلاقات التركية الإسرائيلية في الشرق الأوسط بعد الأسد تشير إلى تشكل منعطف حاسم في الجغرافيا السياسية الإقليمية، الأمر الذي يغير بصورة جذرية الديناميكيات التي طبعت العلاقات التاريخية بين تركيا وإسرائيل، والتي تأرجحت بين نسق من التحالفات البراغماتية والانقسامات الأيديولوجية، وقد أدى زوال عدوهما المشترك في سوريا إلى تحول في توازن القوى الإقليمي، وهو ما خلق تحديات جديدة وأخل بمرونة علاقاتهما الهشة.

إن انهيار "محور المقاومة" الذي تقوده إيران في سوريا، وانكفاء نفوذه الإقليمي وتراجع مشروعه الطموح الذي كان يمتد من إيران والعراق عبر سوريا إلى لبنان حزب الله، مثّل نعمة أمنية آنية بالنسبة لإسرائيل، فسرعان ما شعرت إسرائيل بالقلق من أن المحور الإسلامي السُنّي الجديد بقيادة تركيا قد يصبح خطيرا بنفس القدر، وربما يتفوق على الخطر الإيراني مع مرور الوقت، فالدعم التركي العلني الذي يقدمه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لأعداء إسرائيل وفي مقدمتهم حركة حماس، قد يتطور إلى آفاق بعيدة.

وبحسب تقرير لجنة "جاكوب ناجل" بشأن ميزانية الدفاع الإسرائيلية، الذي نُشر في السادس من كانون الثاني/ يناير 2025، فإن طموحات تركيا إلى "إعادة التاج العثماني إلى مجده السابق" تشكل تحديا أمنيا ملحا، وقد أوصت اللجنة في تقريرها إلى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، بالاستعداد لحرب محتملة مع تركيا، في ضوء مخاوف متزايدة لدى تل أبيب من تحالف أنقرة مع الإدارة الجديدة في دمشق بعد سقوط نظام بشار الأسد. ونبهت اللجنة في تقريرها إلى خطر التحالف السوري التركي، الذي ربما "يخلق تهديدا جديدا وكبيرا لأمن إسرائيل"، وقد يتطور إلى شيء "أكثر خطورة من التهديد الإيراني"، وفقا للجنة التي تم تشكيلها عام 2023، قبل بدء الحرب على غزة، لتقديم توصيات لوزارة الدفاع الإسرائيلية بشأن مواطن الصراع المحتملة التي تواجهها إسرائيل في السنوات المقبلة، ويترأس اللجنة يعقوب ناجل، الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي.

إن التهديد الذي تشكله تركيا لإسرائيل يشكل تحديا جديا كبيرا لأمن إسرائيل في ضوء التحولات الجيوسياسية الدولية والإقليمية، وهو تحد بالغ الخطورة بالنسبة لإسرائيل، إذ يعد الجيش التركي أحد أكبر الجيوش وأكثرها قوة في الشرق الأوسط، ويتألف الجيش التركي من 425 ألف جندي نشط و380 ألف جندي احتياطي. ووفقا لمصادر أمنية، فإن النفوذ المتزايد لتركيا في سوريا كقوة مهيمنة يستلزم دراسة جدية لقدراتها العسكرية، وتشكل المليشيات العسكرية الموالية لتركيا في سوريا، مثل "الجيش الوطني السوري"، تهديدا محتملا لإسرائيل، وخاصة على طول الحدود السورية الإسرائيلية. ويمكن للرئيس أردوغان أيضا الاستفادة من مجموعات مثل هيئة تحرير الشام بقيادة الرئيس الحالي أحمد الشرع ضد إسرائيل.

وقد أعلن الجولاني، في السابق ذات مرة أنه "بعون الله، لن نصل إلى دمشق فحسب؛ بل إن القدس تنتظرنا". وكان أردوغان قد أصدر تهديدات مباشرة لإسرائيل، ففي 28 تموز/ يوليو 2024، صرح في مؤتمر لحزب العدالة والتنمية بالقول: "كما دخلنا قره باغ وليبيا، سنفعل الشيء نفسه مع إسرائيل".

إن السيناريو الإسرائيلي المفضل في سوريا هو التفتيت والتقسيم وخلق كيانات هشة ضعيفة على أسس عرقية ومذهبية، وهي الطريقة الوحيدة التي تجعل من إسرائيل دولة طبيعية في المنطقة من خلال كيانها اليهودي العنصري. ففي سوريا تتحقق رؤيتها من خلال تأسيس دويلات هشة وضعيفة على أسس عرقية إثنية ومذهبية دينية، وهي ذات الرؤية الاستعمارية التقليدية، فأُمنية "إسرائيل" هي رؤية سوريا مقسمة إلى بضعة جيوب؛ الأكراد في الشمال الشرقي، والدروز في الجنوب، والعلويون في الغرب.

وكانت وكالة رويترز كشفت نقلا عن أربعة مصادر مطلعة أن إسرائيل تسعى للضغط على الولايات المتحدة من أجل بقاء سوريا ضعيفة ومفككة ودون سلطة مركزية قوية، بما في ذلك السماح لروسيا بالاحتفاظ بقواعدها العسكرية لمواجهة ما سمته النفوذ التركي المتزايد في البلاد. وأضافت المصادر أن إسرائيل أبلغت واشنطن أن من سمتهم الحكام الإسلاميين الجدد في سوريا، المدعومين من أنقرة، يشكلون تهديدا لحدودها. ووفقا لرويترز، فقد ذكرت ثلاثة مصادر أميركية أن إسرائيل تشعر بقلق بالغ إزاء الدور الذي تلعبه تركيا كحليف للإدارة السورية الجديدة.

في هذا السياق أطلق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في 23 شباط/ فبراير الماضي تحذيرا أشبه بإعلان حرب للإدارة الجديدة في دمشق، إذ قال: "لن نسمح لقوات النظام السوري الجديد بالانتشار جنوب دمشق"، وطالب بإخلاء جنوبي سوريا من هذه القوات بشكل كامل، وأكد نتنياهو على أن إسرائيل "لن تتسامح مع أي تهديد للطائفة الدرزية" في المنطقة. وتزامنت هذه التصريحات مع سلسلة هجمات واستهدافات عسكرية شنتها إسرائيل في ريف دمشق وجنوبي سوريا، ولاحقا شنت إسرائيل سلسلة هجمات في 25 شباط/ فبراير الماضي على مواقع عسكرية في ريف دمشق ودرعا والقنيطرة، كما توغلت برا في بلدات وقرى على الحدود الإدارية بين المحافظتين.

وقال وزير الحرب الإسرائيلي يسرائيل كاتس في بيان إن الهجمات "جزء من السياسة الجديدة التي حددناها لإخلاء جنوب سوريا من السلاح، والرسالة واضحة: لن نسمح لجنوب سوريا أن يصبح جنوب لبنان".

وعقب حالة التوتر في الأول من آذار/ مارس 2025، جراء اشتباكات بين عناصر أمن تابعين للسلطة السورية الجديدة ومسلحين محليين دروز في ضاحية جرمانا قرب دمشق، أسفرت عن مقتل شخص وإصابة تسعة آخرين بجروح، أصدر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يسرائيل كاتس تعليمات للقوات الإسرائيلية "بالاستعداد للدفاع" عن مدينة جرمانا ذات الأغلبية الدرزية، وقال بيان صادر عن مكتب كاتس إن المدينة "تتعرض حاليا لهجوم من قبل قوات النظام السوري"، وقال كاتس: "لن نسمح للنظام الإسلامي المتطرف في سوريا بإيذاء الدروز. إذا آذى النظام الدروز، فسوف نضربه". وأضاف: "نحن ملتزمون تجاه إخواننا الدروز في إسرائيل ببذل كل ما في وسعنا لمنع إيذاء إخوانهم الدروز في سوريا، وسنتخذ كل الخطوات اللازمة للحفاظ على سلامتهم".

تستند إسرائيل في سياساتها العدوانية في سوريا إلى دعم أمريكي عسكري وسياسي مطلق، فما تقرره القيادة الإسرائيلية كضرورة للحفاظ على أمنها القومي تصادق عليه الإدارة الأمريكية، وتعتبر واشنطن ممارسات إسرائيل العدوانية بداهة استراتيجية من باب حق الدفاع عن النفس، فالمستعمرة الاستيطانية الصهيونية حجر الزاوية الأساس في مشروع الهيمنة الأمريكية على الشرق الأوسط، والاشتراطات الأمريكية على القيادة السورية الجديدة هو الالتزام بأمن إسرائيل ومحاربة أي مجموعة أو كيانات تناهض إسرائيل، وهو ما عبرت عنه واشنطن بوضوح، فعندما التقى القائد العام للإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع، بوفد دبلوماسي أمريكي رفيع المستوى في دمشق في 20 ديسمبر/ كانون الأول 2024، كانت مسألة الحفاظ على أمن إسرائيل ومحاربة الجماعات التي تهدد أمن المستعمرة والتي تختزل بتسميتها بالإرهابية هي جوهر البحث والمداولة. فقد قالت مساعدة وزيرة الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأدنى باربرا ليف عقب اللقاء:سوريا الجديدة سوف تبقى تحت وطأة التصورات التي تحددها المستعمرة الصهيونية، والتي تصادق عليها الولايات المتحدة دون قيود، وتتجلى الرؤية الإسرائيلية بوجود دولة سورية هشة وضعيفة ومفككة ودون وجود سلطة مركزية قوية، وتستند إلى مقاربة استعمارية تقليدية تقوم على مبدأ "فرق تسد" من خلال التلاعب بالمكونات الإثنية العرقية والدينية الطائفية. فوجود كيان حكم سني يشكل كارثة وخطرا ينذر بولادة تحالف سني أكبر إن أبو محمد الجولاني التزم خلال الاجتماع في دمشق بعدم السماح للجماعات الإرهابية بالعمل في سوريا وتهديد الولايات المتحدة والدول المجاورة (إسرائيل)، فالولايات المتحدة على مدى عقود، ترتكز في مقاربتها للمنطقة على ضرورة مكافحة الإرهاب (الإسلامي) وضمان أمن إسرائيل (الصهيوني).

خلاصة القول أن سوريا الجديدة سوف تبقى تحت وطأة التصورات التي تحددها المستعمرة الصهيونية، والتي تصادق عليها الولايات المتحدة دون قيود، وتتجلى الرؤية الإسرائيلية بوجود دولة سورية هشة وضعيفة ومفككة ودون وجود سلطة مركزية قوية، وتستند إلى مقاربة استعمارية تقليدية تقوم على مبدأ "فرق تسد" من خلال التلاعب بالمكونات الإثنية العرقية والدينية الطائفية. فوجود كيان حكم سني يشكل كارثة وخطرا ينذر بولادة تحالف سني أكبر يؤدي إلى تنامي النفوذ التركي المتصاعد، ويشير إلى عودة وإحياء الإسلام السياسي السني، الذي تخشى الولايات المتحدة من تداعيات انتشاره على أمن الكيان الإسرائيلي وخطورته على أمن المنطقة.

ولذلك لن تفلح تطمينات النظام الجديد في سوريا، وسوف يبقى تحت وطأة التصنيفات الأدائية السياسية للإرهاب، وسوف تبقى الإدارة الأمريكية مخلصة في تأمين وجود ومصالح الاستعمار الصهيوني في المنطقة، وتلبية المتطلبات الإسرائيلية الأمنية والسياسية. ومهما قولبت "هيئة تحرير الشام" من أيديولوجيتها وبعثت برسائل تطمينية للعالم ودول المنطقة، لن تحصل على الرضى والقبول الأمريكي الإسرائيلي، وسوف تبقى تحت وطأة الضغوطات والتخريب بذريعة "الإرهاب"، ولن ترضى الإدارة الأمريكية والإسرائيلية عن الحكم الجديد دون شرط الخضوع التام، ولذلك فإن أولوية سوريا الجديدة هي تعزيز روابط التحالف مع تركيا، والعمل بجد على تأسيس جيش موحد قوي، وإخضاع كافة النزعات الانفصالية. فالرد على الكيان الاستعماري الإسرائيلي يجب أن يكون داخليا أولا باتخاذ قرارات وإجراءات قانونية وعسكرية وسياسية حاسمة تجاه المكونات الانفصالية؛ بدءا بقوات سوريا الديمقراطية ثم الانعطاف إلى بقية الكيانات الموازية.

x.com/hasanabuhanya

مقالات مشابهة

  • مناطق ج قلب الضفة الغربية الذي تخنقه إسرائيل
  • أيهما يهدد الآخر العرب أم إسرائيل؟
  • شيخ الأزهر: ندعو الله أن يوفِّق القادة العرب في القمة العربية ووضع حدٍّ للغطرسة والفوضى التي يتعامل بهما الداعمون للكيان المحتل
  • أوكرانيا والدرس الذي على العرب تعلمه قبل فوات الأوان
  • الوسطاء العرب: إسرائيل هي من خرقت اتفاق غزة وبشكل صارخ
  • رمضان في مختبرات الغرب.. كيف يحل الباحثون العرب معادلة الصيام والإنجاز؟
  • بعد التهنئة برمضان.. ما أبرز الفتاوى اليهودية التي تشجع على قتل الفلسطينيين والعرب؟
  • بعد التهنئة برمضان.. ما أبرز الفتاوى اليهودية التي تشجيع على قتل الفلسطينيين والعرب؟
  • ما الذي تريده إسرائيل من سوريا الجديدة؟
  • القضايا العربية والمتغيرات العالمية