مفهوم التحرُّر كهدف جوهريّ للمعركة الدوليّة على فلسطين
تاريخ النشر: 4th, November 2023 GMT
أحدثتْ غزّةُ أزمةً ونقاشًا دوليًّا في المُستويات المُختلفة. في الجانبِ السياسيِّ، ازدواجيّةُ الموقف الغربيّ تتجلّى بأكثر صورِها وضوحًا منذ انتهاء الحِقبة الاستعماريّة. وفي الجانبِ الإعلاميّ، انكشافٌ فاضحٌ في فوضى المعلومات وتوظيفِها، وعجز وسائل الإعلام عن مجاراة الموقف السياسيّ، مقابلَ بساطة الحقيقة.
ينعتقُ الغربُ من عقالِه في الموضوع الفلسطينيّ عند كل ملمح في إمكانيّة إعادة إنتاج نضال الفلسطينيين، في كونه نضالَ تحرر وطنيّ. وهو ما يبرزُ في كل أشكال التخويف والفوبيا التي تنتجُها ماكيناتُ السياسة والإعلام الغربي تجاه خطاب المقاومة الفلسطينية. تمَّ إنهاء فكرة التحرّر مع إنهاء منظمة التحرير الفلسطينية عبر مسارات تسوية مخاتلة، أعطتِ المنظمةَ سُلطةً بدون سيادةٍ، وشعبًا بدونِ أرضٍ. وقد صنعَت أوسلو السلطةَ الفلسطينية لتنقل النضال الفلسطيني من كونه تحررًا إلى مشروع بناء حكم ما تحت قواعد الهيمنة الإسرائيلية- الغربية. بالنسبة للرعاة الدوليين لإسرائيل، تكمن إشكالية هذه الجولة من الحرب على غزة- وبدرجة أقلّ جولات القتال السابقة منذ 2008- في أنَّها تعيد المشهدَ بدرجة إلى ما قبل أوسلو، إلى مرحلة التحرّر الوطنيّ. وهي إشكاليّة تنبع من كون فكرة العمل المسلح ضد إسرائيل- بغضّ النّظر عن الاتفاق أو الاختلاف معها أو جدواها أو كونها ضد عسكريين أو مدنيين- هي بذاتها معضِلة؛ ليس قلقًا من القوّة غير المتكافئة أبدًا، وإنما الخوف من إمكانية تجاوز تعليب القضيّة الفلسطينيّة في كونها أزمةً إنسانيةً وإعادة رسمها كحركة تحرُّر.
كسر الحصارلم يكن لدى الغرب مشكلةٌ كبيرة مع فكرة سفن تنطلق من أوروبا وتحمل مساعدات تحت عنوان: "كسر الحصار عن غزة". لم يكن لديه مشكلة في مئات الحملات الخيريّة التي انطلقت من أجل غزة. ونسبيًا يتغاضى قليلًا عن إدانات مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة المتكررة لإسرائيل، مع محاولات لتدجين المجلس. ولا يتحرّك بقوَّة لكبح تصاعد تقارير الإدانة الدوليَّة من قبل منظمات حقوق الإنسان لممارسات الاحتلال، رغم أنَّها لا تعجبه. لكنه يَستشْرِس في تجنيد مستشاريه القانونيين للبحث في أدقّ تفاصيل الثغرات القانونيَّة في منظومته الديمقراطية من أجل منع رفع علم فلسطينيّ، أو منع متضامنين من الهتاف: "فلسطين حُرّة من البحر إلى النهر". الهتافُ الذي بات يشغل حكوماتٍ بأكملها، وتحوّل إلى نقاش في أعلى مستويات صناعة القرار والإعلام في أوروبا، من أجل تفسيره واستخراج ما يمكن استخراجه من فقه وأصول في عدوانية الكلمات وتداعياتها. يرى كوفيةَ الفلاح الفلسطينيّ- التعبير الثقافي الهُوِيّاتي- من علامات الكراهية؛ لأنَّها ارتبطت بحقبة الثورة الفلسطينية.
الجوهريُّ في عدوانيّة الغرب للفلسطيني، يتركّز في حربه على كل ما يشير إلى قضيّته كمشروع تحرّر وطنيّ. ولا بأسَ في دعم كل ما يجعلها في نطاق الأزمة الإنسانية. يمكنُك الحديث حتى الصباح عن الجرائم بحقّ الأطفال، ولكن إياك أن تذكر شيئًا عن طفل رمى حجرًا باتجاه سيّارة عسكرية للاحتلال. قد تسمح لك بعض المنصّات بأن ترفعَ صورة أطفال فلسطينيين مُمزقين بفعل آلة القتل الإسرائيليَّة، ولكن ليست صورة فارس عودة، وهو يرمي حجرًا على دبّابة إسرائيليّة. تحدّثْ بحُرية عن القانون الدولي الذي يحمي المدنيين وحقوقهم، وعن القانون الذي يجرّم الاحتلال وممارساته، لكن إياك أن تتطرّق للقانون الدوليّ الذي يسمح بمقاومة الاحتلال، أو الذي يعطي شعبًا تحت الاحتلال حقًا في الدفاع عن النفس. وضمن هذه الإطارات، يتم التضييق على حركة التضامن العالميّة مع فلسطين؛ بهدف صناعة قوالب للخطاب التضامني يشبه إلى حدّ بعيد نداءات الأمم المتحدة للتضامن مع ضحايا أيّ زلزال أو عاصفة جويّة.
نزع صفة التحررعِمادُ المواقفِ الغربيّة، هو نزعُ صفة التحرّر عن الشعب الفلسطينيّ ونضاله، والقتال من أجل ألا تتحوّل رواية المأساة الفلسطينية إلى ذلك. ما حدث في 7 أكتوبر، مرعبٌ بالنسبة لإسرائيل والغرب من هذه الزاوية، أكثر من كونه عملًا استهدف فئاتٍ مدنيةً ما، وألحق خسائر بشرية ومادية، أو في كونه كشفًا عن فشل المنظومة الأمنيّة والعسكرية الإسرائيلية، جلب لها إذلالًا غير مسبوق وغير متوقّع، مع أهمية ذلك كله في تفسير المشهد. ولذلك كان نزعُ السياق عن عمليّة 7 أكتوبر، قاعدةً راسخة في محدّدات الخطاب السياسي والإعلامي الغربي.
يكتب الصحفي البريطاني الأشهر " أندرو مار"- الذي كان المحررَ السياسي لـ "بي بي سي" ومقدمًا لأهم برامجها السياسية- في مقاله على موقع "نيوز ستيت مان" بالحرف: "…، ليس هذا وقت الصحافة غير الجدلية. نُطالب بعدم الربط بين تاريخ الاحتلال الإسرائيليّ والإرهاب البغيض الذي شنّته حماس. لكن بدون سياقٍ، بدون شرحٍ، كل ما نبقى معه هو فوضى شرّ بشري لا يمكن تفسيره، ولا يوجد معه مخرج سياسي". النخبة السياسية والإعلامية الغربية، تدرك تمامًا أن ما يحدث اليوم هو ثمن سياسات ممتدة في تأمين حصانة كاملة لانتهاكات إسرائيل، ولسلب الفلسطينيين حقَّهم في الأرض وفي النضال، وفي التعبير عن ذلك. إنَّهم يَعُون حقيقة المشهد وبشاعته وتأثيراته، لكن يُنظر لما بعد الحرب، عندما يتقدّم المجتمع الدولي لطرح مشاريع حلّ سياسي، يريدونها أن ترتكز على قاعدة الأزمة الإنسانية للفلسطينيين، لا على قاعدة المطالب التحرّرية كشعب له وجود ومطالب وطنية في أرض يملكها منذ آلافِ السنين. فانحيازُ الغرب، ضدّ الفلسطينيين، ليس تجاهلًا لحاضرهم ومأساتهم فقط، وإنما سرقة لتاريخهم كشعبٍ يسيرُ من أجل التحرّر من الاحتلال وتحقيق استقلاله الوطنيّ. كما أنَّ الدعم الإنساني- دون جدل حول حجمه وقيمته، الذي يقدّمه الغرب لسكّان غزة- سيبدو إجابة معقولة تجاه مأساة إنسانيّة هو شريك بها، بينما لن تبدو مساعداته الإنسانية كافية للردّ على مطالب الحقّ في التحرّر الوطني.
الشعب يحتاجفي نظر النخبة السياسية والإعلامية الغربية، فإنَّ الشعب الفلسطيني يحتاج مبادرات أمم متحدة، وكالة أونروا، جمعيات خيرية، مؤتمرات إعادة إعمار… إلخ. لكن لا يحتاجُ إلى حركة تحرّر وطني ولا بأي مستوى، لا سلمية ولا مسلحة. وخير دليل على ذلك، هو إمعان الاحتلال في تدمير حتى بنى السلطة الفلسطينية ومكانتها ككيانية سياسية، والإبقاء على دورها الأمني والخِدميّ الذي يعفي إسرائيل من استحقاقات احتلالها. حيث ترسّخت السلطة كجهاز بيروقراطي يعمل بقدر ما يحصل على أموال من الدول الغربية المانحة. وساهم الغرب مع الاحتلال الإسرائيليّ في منع قيام استدامة اقتصادية أو سياسية للسلطة. هذا لا علاقة له بجدليّة الدور الوطني والتمثيلي للسلطة الفلسطينية، وفي كونها لم تعد تمثلُ آمالًا تحرريّة للفلسطينيين، لكن واقعها اليوم هو جزءٌ من التطرّف الصهيوني الإسرائيلي والغربي ضد فكرة وجود جماعة لها كرامة وطنية وتطلّعات سياسية.
هذه الحرب ليست فقط ضدّ الشعب الفلسطينيّ كجماعة وطنية، إنَّما هي حرب ضدّ فكرته الأصيلة في التحرّر. والتّضييق الغربيّ على خطاب حركة التضامن الدولية مع فلسطين، هدفُه عدمُ السماح لرواية التحرّر الفلسطينيّ بالبروز من جديد، مع إبقائِها في أفضل الحالات أزمة إنسانية تحتاجُ حلًّا من نوعها.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssجميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: ة الفلسطینی فی کونه التحر ر ة الغرب من أجل
إقرأ أيضاً:
الخارجية الفلسطينية ترحب باعتماد المجلس الدولي للاتصالات قرارا حول حماية الصحفيين
رحبت وزارة الخارجية والمغتربين الفلسطينية، باعتماد المجلس الدولي الحكومي لتنمية الاتصال (IPDC)، في دورته الرابعة والثلاثين التي عقدت في العاصمة الفرنسية باريس، خلال الفترة من 21 وحتى 22 نوفمبر الجاري، قرارا حول حماية الصحفيين في فلسطين، متضمنا في تقرير المديرة العامة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة اليونسكو حول حماية الصحفيين ومسألة الإفلات من العقاب.
ويدين القرار الارتفاع المستمر في عدد الصحفيين الشهداء في قطاع غزة، وهي السنة الأشد فتكا بالصحفيين، كما يطلب القرار من المديرة العامة لليونسكو أن تبذل كل جهد ممكن لتلبية الاحتياجات الملحة للصحفيين في قطاع غزة في أقرب وقت ممكن من خلال تنفيذ التدابير اللازمة لحمايتهم ودعمهم، بحسب ما ذكرت وكالة الانباء الفلسطينية وفا، اليوم السبت.
وأكدت الخارجية في بيان صحفي، أهمية هذه القرارات في الحفاظ على حقوق الشعب الفلسطيني في كافة مجالات عمل اليونسكو، في ظل ما تقوم به إسرائيل، القوة القائمة بالاحتلال، من جرائم ضد الصحفيين، وخاصة في قطاع غزة، خلال حرب الإبادة المستمرة، في تجاهل تام للقانون الدولي وأحكام اليونسكو، وتجاهل أوامر محكمة العدل الدولية، والفتوى القانونية، وقرار الجمعية العامة الذي أكد ضرورة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي غير القانوني، الذي أكد عدم الاعتراف بالوضع الناشئ للاحتلال وإنهاء سياساته غير القانونية.
وأشارت، إلى أن اعتماد هذه القرارات يعد شاهدا على إمكانية المجتمع الدولي القيام بمسؤولياته من خلال تسليط الضوء على الوضع المأساوي للعمل الصحفي في فلسطين، والعدد غير المسبوق من الصحفيين الذين فقدوا حياتهم في الحرب في قطاع غزة وتوفير شكل من أشكال الحماية لهم، بالإضافة إلى دعوة المجلس الحكومي إلى إدانة استهداف الصحفيين عمدا وقتلهم، والتأكيد على أهمية حماية الصحفيين وحرية التعبير.
وأوضحت الخارجية، أن القرار يسلط الضوء على الدور المهم للصحفيين والإعلاميين في توفير المعلومات الدقيقة والمستقلة للجمهور، وضرورة حماية حقوقهم وسلامتهم أثناء قيامهم بعملهم في ظل العدوان الإسرائيلي الحالي.
وقالت: تكمن أهمية القرار في حث جميع الأطراف المعنية على احترام حقوق الصحفيين وضمان سلامتهم في مناطق النزاع، والتأكيد على مسؤولية اليونسكو في توفير الحماية للصحفيين وضمان سلامتهم، وإدانة أي استهداف لهم على النحو الذي ينص عليه إعلان اليونسكو بشأن حماية الصحفيين المعتمد في عام 1997، وتحرص دولة فلسطين على تعزيز حماية الصحفيين الفلسطينيين من خلال الالتزام بمبادئ سلامة الصحفيين ومكافحة الإفلات من العقاب على الجرائم المرتكبة ضدهم.
كما يعد القرار الخاص بحماية الصحفيين الفلسطينيين في قطاع غزة ضمن ولاية اليونسكو خطوة مهمة نحو حماية حرية الصحافة، وتعزيز تطوير وسائل الإعلام والاضطلاع بواجب منع الجرائم المرتكبة ضد الصحفيين في الأرض الفلسطينية المحتلة وتقيد الدول الأعضاء بالتزاماتها بموجب قواعد القانون الدولي المعمول بها، والالتزام بجميع قرارات الأمم المتحدة التي تدعو لحماية الصحفيين والإعلاميين في مناطق النزاع.
وأعربت الخارجية عن شكرها للدول الأعضاء في المجلس الحكومي الدولي لتنمية الاتصالات في إطار التزامها بمبادئ منظمة اليونسكو وحماية الصحفيين، وتحقيق مسؤولية تنفيذ وإنفاذ هذه الحماية بما يتماشى مع البرنامج الدولي لتنمية الاتصالات، ومبدأ حماية جميع الصحفيين، بمن في ذلك الصحفيون الفلسطينيون، وقدرتهم على القيام بعملهم دون خوف من القتل أو الاستهداف المتعمد.
وبدورها، طالبت القائمة بأعمال سفير دولة فلسطين لدى اليونسكو المستشار هالة طويل، المديرة العامة والدول الأعضاء في المنظمة بإعلاء صوتهم في إدانة الاحتلال الاسرائيلي وجرائمه بحق الصحفيين في فلسطين ولبنان.
اقرأ أيضاً«الخارجية الفلسطينية»: قرار إسرائيل إلغاء اعتقال المستوطنين يشجع على المزيد من الجرائم
رسالة عاجلة من «الخارجية الفلسطينية» للمجتمع الدولي بشأن المجازر والتهجير والتجويع في غزة
الخارجية الفلسطينية: الفشل الدولي في وقف حرب الإبادة شجع الاحتلال على إعلان مخططاتها لضم الضفة