أماني أبوسليم
قراءة في الفيلم الذي احترم فن و صناعة السينما و احترم المشاهِد، فاستحق ما ناله من تقدير.
.
الفيلم اهتم بأي تفصيل في كل مشاهده و لقطاته، حتى ان كلٍ منها استحق الكتابة عنه منفصلاً.
بدأ الفيلم باكرم المتجهم الوجه دائما و زوجته منى المستسلمة له دائما و هما ينظران من علٍٍ الى مجموعة من الجنوبين المحتجين على مقتل جون قرنق و اكرم يصفهم بالعبيد.
اكرم الذي يمثل السلطة بكل انواعها، السياسية و الاجتماعية و الثقافية. و منى تمثل المواطن السوداني الشمالي الذي يُظَن انه يتمتع بالامتياز على الجنوبي في حين انه مسلوب الارادة، مكبوت الصوت، مسجون في الوضع و الافكار المفروضين من السلطة التي يمثلها اكرم. تظهر منى و هي تنظر من علٍ و كأنها في ذات مستوى اكرم إلا انها تنظر من خلف حديد النافذة الذي يحاكي قضبان السجون.
مجموعة من الجنوبيين يعلنون غضبهم على مقتل قائدهم باثارة الفوضى و الخوف في الشارع.
الصورة في المشهد الاول تختصر الوضع، سلطة ظالمة متسلطة و علاقتها بنوعين من المواطنين، ابن الشمال او المركز، و ابن الجنوب او الهامش، الاول ارتضى ان يتنازل عن حريته و قيمته الانسانية و يعيش في خنوع و استسلام مقابل الاستقرار الظاهري، و آخر لا يجد غير التنفيس عن الغضب بالتكسير و التهشيم.
سيستمر الفيلم شارحا هذه العلاقة الثلاثية باختيار للمَشاهِد و اللقطات بعناية لكل تفصيل و لو صغير. سنرى منى/ المواطن الشمالي و هي تتعرض للشك و التفتيش و الاستجواب في كل حركة و تصرف، و مع تزايد الضغط و اضطرارها للتنازل عن كل حلم او فكرة او محاولة تغيير و لجؤها دوما للكذب و المراوغة و محاولات الارضاء للنجاة من العقوبة و هي المزيد من الحبس و سلب الحرية و في آخره الطلاق.
و سنرى ايضا جوليا و سانتينو و ماجير من الجنوب و كيف يقابلون تسلط اكرم، بالغضب و التحدي من سانتينو و ماجير و بالاستسلام من جوليا.
اهم ما يسلبه اكرم من المواطن الشمالي و الجنوبي على السواء، حرية التفكير و التعبير و اهم صورها الفنون و اختار صناع الفيلم الغناء ليمثل كل انواع الفن و الثقافة. في استسلامهم او تحديهم، في التعامل مع السلطة سيتوارى العمل الفني و الثقافي الفاعل، سيقومان به خلسة و في الخفاء فلا يلعب دوراً في اكتشافهم انفسهم و لا في تقريبهم لبعضهم البعض رغم انهم يعانون نفس المعاناة من التسلط الغاشم.
نتيجة خوف منى من المساءلة من اكرم، و خوفها من تحمل مسؤولية نفسها و فعلها، كمواطن شمالي قد سلم امره للسلطة، سيلاحقها سانتينو مطالبا اياها بحق ابنه، و سيقتله اكرم بدعوى الدفاع عن الدولة او الشعب/منى. هذا المشهد يمثل النتيجة الحتمية للمشهد الاول. المشهد الاول الذي يعبر عن تسلط اكرم و استسلام منى و حبسها خلف قضبانه و تبريره فظاظته على الجنوبيين بادعاء الحماية و الدفاع عن البيت/البلد بالاستعلاء عليهم و انكاره حقهم. النتيجة الحتمية كانت ان يقتل اكرم سانتينو. و القتل هو سلب الحياة و الابعاد عن الفاعلية في المشهد و الارض او الدولة. سيتواطأ الجار و الشرطة و بعض الفاعلين لاخفاء الجريمةو اخراج اكرم من الورطة، و هو ما يحدث في الواقع، تتواطأ اجسام مع السلطة لاخفاء جريمة السلطة/الدولة في سلب حق الجنوب في لعب دور فاعل في الدولة، اجسام ربما مثل الاحزاب، القبائل او اي من له تأثير.
الفيلم يُحَمِّل الجميع المسؤولية، في عدم القدرة على التعايش و رفد الحياة بمزايا التنوع، و التركيز على الفوارق و نتائجها في التسلط او الاستسلام او الغضب و التحدي.
منى و جوليا وجهان لنفس العملة، الاستسلام لمنطقة الراحة، اكل و شرب و تعليم و لبس و سقف، دون العمل على تغيير الواقع بما يملكون من مواهب او الاستفادة مما نالاه من تعليم. منى/ المواطن من الشمال تعيش في بيت لا تملك فيه رأيا و لا قرار حتى فقدت الرغبة في مشاركة فاعلة، لا تتذكر لون ستائر بيتها و تستخدم ذات الاواني القديمة و الاثاث القديم لوالدي اكرم، شعب يعيش على الافكار القديمة و يتعامل مع الحياة و بناء دولته بادوات لم تعد تفيد احد، بدلا من فرض رأيه و مشاركته، يعيش على ارضاء السلطة و كسب ودها حتى يتقي شرها. المشاهد التي تعرض اهتمام منى بزينتها لزوجها و زجاجات العطور التقليدية التي يفضلها الزوج التقليدي/السلطة التقليدية و مشهد اهتمامها ايضا بتفاصيل التزين التقليدي/الدخان/ يعد من اهم مشاهد الفيلم للتعبير عن سلوك المواطن الذي يتزلف للسلطة ليتمكن من العيش حسب رأيها و قوانينها. متنازلا عن روحه و رغبته الحقيقية في العيش بطريقة اخرى.
جوليا ايضا تتنازل عن حق المطالبة بعقاب قاتل زوجها و تسكت في مقابل السكن و الاكل و الشرب و التعليم. جوليا و منى هما المواطن السلبي الذي يقعد عن العمل من اجل التغيير للافضل و يدفن فنه و ابداعه و يفضل ارضاء السلطة طلبا للسلامة.
في مشهدين ستتعرض كلٍ من جوليا و منى للتحرش، ستعلنان رفض الفعل في وجه المتحرش و تزجرانه، و هو ما يحدث من المواطنين السلبيين، يصرخون في مثل هذه المواقف ليقنعوا انفسهم بانهم يحافظون على الاخلاق و الفضيلة و ليعوضوا انفسهم عن شعورهم بالخذي و هم يتنازلون عن حرياتهم و حقهم في العيش الكريم مقابل اتقائهم شر السلطة عند ابداء رأيٍ مخالف.
اكرم و ماجير هما ايضا وجهين لنفس العملة، اختيار العنف و التحدي و فرض الرأي على الآخر، فتكون النتيجة العنيفة بالقتال لفرض الرأي و الثقافة بالقوة.
في كل ذلك لا ينتبه ابطال العمل للنهر الذي يجري بين اقدامهم، النهر الذي يجمعهم شمالا و جنوب، التعايش بلطف الذي حدث بين الجميع بسلاسة. لم يتمكنوا ان يروا تلك الامكانية بعيدا عن مشاعر الغضب من جهة و مشاعر الشعور بالذنب من الجهة الاخرى. العلاقة بين منى و جوليا و بين اكرم و الطفل دانيال، بين سانتينو و ميرغني، بين منى و جيمس. و في كل ذلك الفنون بصفتها الانسانية التي تجمع الناس باختلاف الوانهم و ثقافاتهم. بكل بديهية طلبت جوليا من منى ان تغني لسيد خليفة، تجاوب الجنوبيون في الكنيسة مع الاغنية، هذا وجدان مشترك ساهمت فيه الفنون رغم التسلط، جاري و انا جارو بتعذب بنارو، يا بت انا ود الحلة و عاشق وحياة الله، هذه كلمات تم اختيارها بعناية في هذا الفيلم. الجيرة التي تمثل علاقة اللطف و الود و السكن معا او بالجوار و لكن بحب.
هل يمكن ان اذهب بعيدا و اقول ان اختيار سيد خليفة ايضا كان لرمزية، فهو الفنان من جنوب الوادي الذي تفاعل معه الوجدان في شماله الذي غنى لملك مصر و السودان ابان وحدة وادي النيل، و فضل جنوبه الاستقلال على الوحدة و نال استقلاله في ظروف تشبه ما بين جزئ السودان على الاقل في البعد الثقافي، و اختيار منى الدندنة باغنية مصرية لوردة جاء لمعاني كلماتها، اطير و ارفرف في الفضا زي اليمامة، و للتلميح لعلاقة موضوع الفيلم للعلاقة بين مصر و السودان، و السودان و جنوبه.
كأن الفيلم يقول، كانت هناك طرق كثيرة للتلاقي و للود و لكن ضيعها الجميع بالتركيز على الفوارق. الفراق كان نتيجة حتمية للتسلط و الهيمنة و فرض الرأي من جهة و توالي التنازلات من جهة. قرار الطلاق و مغادرة زوجته لبيت الزوجية كان من اكرم لأنه لا يقبل التنازل عن طريقته، و قرار انفصال الجنوب كان نتيجة حتمية لذات التسلط.
اذا كانت الحياة حتى على المستوى الدقيق للاسرة، مبنية على استمرار تنازل طرف للآخر، و عدم اكتراث طرف لمشاعر الآخر فستكون حياة تعيسة و اجرائية فقط بلا روح لن تثمر و لن تزهر و هو ما مثلته حياة اكرم و منى و عدم انجابهما، شعب يرزح تحت التسلط الثقافي لطرف لن يثمر و لن يزهر و سيظل متأخرا. او شعب يتكون من مجموعة اسر تعيش الدكتاتورية في بيوتها لا تنتظر ان تنتج شوارعها حرية في التعبير تظهر بازدهار فنونها.
هذا فيلم كل مشهد و لقطة فيه تدرس في فن السينما. فيلم احترم فن و صناعة السينما و احترم المشاهد، فكان لا بد ان يلقى هذا الاحترام.
اداء سيران رياك/ جوليا و هي تمثل الحيرة و قلة الحيلة كان آسرا، و كذلك الطفل دانييال كلهم كانوا رائعين، ايمان يوسف و نزار جمعة و جير دواني.
الفيلم يدور باضواء خافتة، الاضاءة الخافتة ربما اشارة للوعي المنخفض، و عدم وضوح الرؤية لايجاد الطريق و المخرج من الوضع المرهِق للطرفين، انخفاض الوعي بالحب و التسامح و التعبير عن الابداع و قيمة و حق الحياة بسلام و ود و لطف. الاضاءة الخافتة تشير للارتباك الذي يسود في العلاقة بين الابطال و ما يمثلونه في الواقع ينتقل للمشاهِد الذي سيجتهد مع الابطال في ايجاد حل لهذه الربكة و البحث معهم عن حل.
التعالي و الشعور بالذنب و الغضب و التنازل، مشاعر معيقة للتقدم، للفرد و للشعوب لابد من التصارح و الاعتذار، لتأتي المسامحة و التصالح. انتزع ماجير الاعتذار من اكرم بالقوة، لن يجدي. وقوف منى لحقها و تحقيق حلمها امام اكرم رغم انها ستخسر حياتها الزوجية، و سعيها للاعتذار لجوليا، هو بداية الطريق للتعافي، و بداية علاقة جديدة تعتمد على المكاشفة و تحمل التبعات ثم يأتي التعاطف و التفهم و الاتكاء على الاخر في واحد من اجمل مشاهد الفيلم، حين اتكأت منى على حجر جوليا و سالت دموعها بينما تضع جوليا يدها برفق على كتفها سألتها عن دانييل بشوق، كان دليل الوشائج التي نمت و كان من الممكن ان تتشابك و تتجذر اكثر و لا يحدث فراق. بديل عدم الاعتراف و المكاشفة و الاعتذار سيكون المغاضبة و العنف الذي سيستمر كما ف مشهد ماجير و دانييال بالسيارة.
ربما يتمكن الجنوبيون من المسامحة كعمل فردي كما قال ماجير و لكن المصالحة عمل جماعي يأتي بارادة الطرفين، و ان لم يأت سيستمر العنف و الجفوة و الاقتتال، ليس بين شمال السودان و جنوبه فقط لكن بين كل الناس جماعات او قبائل او شعوب، او حتى افراد. على مستوى الاسرة الواحدة.
الفيلم يمكن قراءته على كل المستويات، الاسرة، البلد ، الرجل/المرأة، العالم.، لأنه يطرح ظرف انساني في محاولات العيش بانسانية في كل المجتمعات، العيش بحيث الامكانية في التعبير بحرية لنتيح فرصة للابداع و الفن، و للضوء ليسطع و يعكس جمال الحياة.
هذا الفيلم دليل ساطع ان الفنون يمكن ان تصنع الفرق. تصنع ارضية للتعايش في سلام و تعاون.
الفيلم من تأليف و سيناريو و اخراج محمد كردفاني و انتاج امجد ابوالعلا مخرج فيلم ستموت في العشرين
الوسومأماني أبوسليمالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
إقرأ أيضاً:
رسّام الحياة الحديثة .. الحداثة والعبقرية كما يعرّفهما بودلير
أذكر كنت فـي مكتبة «لوتس» أنبش الكتب بحثًا عن كتاب لقراءته وقتها، إلا وتتلقف يدي بغتة كتابًا كان على وشك السقوط، ابتهجت لحظتها لأنني عثرت على اسم كاتب أحبه، شارل بودلير أحد أعمدة القرن التاسع عشر وأبرز رواد الحداثة والرمزية، ثم استغرقت فـي عنوان الكتاب الطويل نسبيا، «نسبيا» هذه الكلمة التي ستتكرر فـي ثنايا الكتاب، «رسام الحياة الحديثة/الجمال المطلق للحظة الراهنة»، ترجمة الدكتور قاسم المقداد، وتقديم جيرالد فروادوفو الذي أرفق دراسة حول الحداثة البودليرية عنونها بـ«الحداثة والنزعة الحداثية، بودلير إزاء عصره».
وأذكر أنني كنت أقرأ الكتاب فـي أحد كراسي المكتبة المريحة، فقرأت فـي غلاف الكتاب الفقرة، وليست كأي فقرة، التي قالها جيرالد فـي تقديمه: «بودلير يقابل الحداثة العلمية والصناعية فـي عصره بنظريته حول الحداثة الثقافـية.
بهذا تراه يرفض السلطة المولدة ذاتية لأي شيء حديث، وكذلك لفكرة الحداثة. عندئذ نفهم أن الحداثة البودليرية ليست تمجيد إنجازات الإنسان المعاصر، فتبدو بمثابة مشروع إنقاذ، ويعبر عنها، إن لم يكن بإرادة العودة، فعلى الأقل بالرغبة فـي ترويض الشياطين التي أعتقها العقل الخلاق للإنسان الحديث».
لكن كل ذلك لم يشبع ظمئي وفضولي، فضلا عن أن الكتاب ثقيل بمحتواه الفكري، نوعا ما، ويحتاج إلى تركيز ووقت.
وأذكر أنني كنت ممسكًا بكتاب آخر لبودلير «الفراديس المصطنعة فـي الحشيش والأفـيون»، فعضضت عليهما بالنواجذ، وابتعت الكتابين مثلما يبتاع الأب لأبنائه سكاكر حلوة من السوق.
رسام الحياة الحديقة هو ثلاث عشرة مقالةً، فقط، يلخص فـيها بودلير رؤاه وهواجسه إزاء الإبداع والعبقرية والحداثة والجمال.
فحداثة بودلير لا ثابت ولا مطلق لها سوى التجديد، فحداثي اليوم سيصبح قديم الغد، وثمة مثال فـي ذهني يعزز رؤية بودلير، هو أن بودلير نفسه الحداثي الكبير فـي زمنه، أو المتقدم على عصره، غدا أدبه اليوم يصنف ضمن الكلاسيكيات القديمة.
فـي ذات الوقت لم تكن نظرة بودلير بمتطرفة إزاء الجميل القديم، فهو يؤمن بخلود الجمال الأصيل والعبقرية، فنجده يستشهد بعباقرة التاريخ والمبدعين القدامى والحديثين، هو المولع بمنابع العبقرية ومحاولة فهمها وتحليلها.
فـيشرح بودلير فلسفته إزاء الحداثة على نحوٍ مبسط فـيقول: «البكرات كلهن جذابات، أو بالأحرى كُنَّ جذابات بشكل مشروع فـي وقتهن قبل أن تدور العجلة، وتحلُّ بكرة جديدة محل البكرة السابقة، وتأتي بجميل مشروع بعد السابق ويحل مطلق محل آخر». فـي حين يقول فروادوفو فـي التقديم: «بودلير لا يخشى التناقض، لأن هذا التناقض، هو الحداثة نفسها».
كل هذا جعلني أستحضر ديلاكتيك هيغل ونهر هيراقليطس وتطور داروين، وأمورا أخرى كالهدم والتخريب لبناء الجديد.
وفـي رؤية أخرى لبودلير، يثبت فـيها أن كل جميل يتكون من عنصر ثابت دائم، وعنصر نسبي ظرفـي، فـيردف: «من دون العنصر الثاني، الذي قد يشكل غطاء مسليًا، أو مدغدغا، ومشهيًا للكعكة الإلهية، سيكون العنصر الأول عسير الهضم، ولا يناسب الطبيعة البشرية». وفـي سياق مشابه يقول: «تأملوا، إذا شئتم، ذلك الجزء الثابت أبدًا بوصفه روح الفن، والعنصر المتغير باعتباره جسده». نلاحظ أن لغة بودلير فـي الكتاب لا تخلو من الشعرية والصور الجمالية العذبة.
وينتصر بودلير لجماليات الهامش مستطردًا: «هناك أناسٌ ممن قرؤوا، ذات يوم، بوسويه وراسين فـيعتقدون أنهم امتلكوا تاريخ الأدب. لكن، لحسن الحظ، يبرز من وقت إلى آخر، من يصحح مثل هذه الأخطاء، من نقاد وهواة، وفضوليين، ليؤكدوا أن رافائيل لا يختصر الفن، وأن راسين لا يعني كل شيء، وأن لدى الشعراء الصغار ما يقولونه من جديد، ومتين ولذيذ».
والجمال فـي الأدب والفن بالنسبة لبودلير لا ينحصر على فئة أو مذهب أو شخوص، إلا أنه يميل دائما للأدب والفن اليومي الذي يمثل طبقة العامة والبسطاء والحياة المعيشة مجسدًا الحياة الحقيقية فـي تلك الفترة، وينتقد الفنون والآداب الشائعة فـي زمنه تلك التي تصور الطبقة المخملية من برجوازيين وأرستقراطيين ونبلاء وغيرهم.
وأنا أقرأ هذه الفكرة عدتُ بلا إرادة مني لتاريخنا العربي، التاريخ الأدبي على وجه التحديد، فضربت مثالا، ربما ينطبق على ما قاله بودلير، قد لاحظته سابقا، وهو أن السرد العربي كان دائما يمثل ويعكس هذه الطبقة الدنيا على عكس الشعر الذي كان معظمه يتغنّى ويمجّد بطبقات السلاطين والملوك والفرسان والنبلاء وهلم جرا، فإذا بكُتّاب السرد مكروهين منبوذين ومهمشين من البلاط على عكس الشعراء المقربين، باستثناء الشعراء الصعاليك طبعًا. فـي المقابل هذا لا يبخس أهمية ديوان العرب ليس للحضارة العربية بل حتى فـي تاريخ الآداب والفنون العالمية.
يحدثنا بودلير فـي معظم الكتاب عن هذه الشخصية العجائبية، هذا المثال الشامل الذي ينطبق على أغلب رؤى بودلير. وهو فنان، رسام ويكتب الشعر أحيانا، يرفض عادة ذكر اسمه، يسميه بودلير «بالإنسان العالمي»، ولا يمل بودلير من وصفه وسرد قصص عنه، فالذي يتمتع بثقافة موسوعية تتقصى الجمال فـي كل شيء، نذر حياته كلها للجمال اللحظي وللفن والأدب والإبداع. هذه الشخصية الفريدة التي ألهمت بودلير فـي كتابة هذا الكتاب الذي أخال أن روحه تحضر حتى فـي العنوان» رسام الحياة الحديثة/الجمال المطلق للحظة الراهنة».
وبالنسبة لبودلير تقف العبقرية جنبًا إلى جنب مع الطفولة، ذلك الفضول والدهشة الأولى عند الطفل والحساسية المرهفة هي ما يحتاجها المبدع، فـيقول: «العبقرية يمكن أن تنطلق من الفضول». ويقارن فـي سياق آخر بين العبقري والطفل فـيردف: يتمتع العبقري بأعصابٍ متينة؛ أما أعصاب الطفل فضعيفة. لدى الأول شغل العقل مكانًا كبيرًا، أما لدى الطفل فتشغل الحساسية كيانه كله. لكن العبقرية ليست سوى الطفولة المستعادة إراديًا».
وأختم هذا المقال باقتباس لبودلير حول الإلهام الذي يجتاح العبقري:
«أؤكد أن للإلهام علاقة معينة بالاحتقان، وأن أي فكر سامٍ يترافق بهزة عصبيةٍ قوية، إلى حد ما، يصل دويها إلى المُخيخ».