فى الوقت الذى تهتم فيه وكالات الأنباء بتلك الشاحنات المحملة بالمساعدات لأهالى غزة، رغم أنها تمثل منطقاً صورياً للأحداث وتؤكد على حالات الفشل لوقف الرعب والقتل للبشر، كما تمثل حالة من حالات الإلهاء لما يحدث على أرض الواقع من ضرب بالطائرات وبالمدافع، وتتناقض بشدة بين الرحمة والبغى والقسوة والقهر والاستبداد، وتُذكرنى بتلك المشاهد الدرامية التى كثيراً ما نُشاهدها فى أفلامنا السينمائية من حضور طبيب فى غرفة التحقيق ليُنشف دم المُحقق معه أثناء تعذيبه ودائماً ما تأتى المشاهد على الوجه التالى : مشهد 1 : ليلى داخلى : غرفة التحقيق : يجلس على مكتب كبير رجل غليظ الشكل وأمامه شخص نحيف يظهر عليه أثار الجوع والعطش.
لم نقصد أحدا !!
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: طبيب التعذيب حسين حلمي الشاحنات المحملة لأهالي غزة
إقرأ أيضاً:
طبيب على ضفاف النيل
طبيب على ضفاف النيل
Doctor on the Nile
ليلي أبو العلا
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه ترجمة لقصة قصيرة جديدة من تأليف الروائية ليلى أبو العلا ستكون ضمن قصص قصيرة وكتابات أخرى ستُجمع في كتاب قد يصدر العام القادم بإذن الله.
المترجم
******** ********* **********
الخرطوم
1/10/1950م
عزيزتي ماريون،
لا شك بأن السيد الشاب الذي يحمل لك هذه الرسالة سيقدم لك نفسه بنفسه. كنت قد قابلت مكاوي إسماعيل عند زيارتي لمنزل محمود أبو زيد الذي كان يتعافى من غيبوبة السكري. وكنت أفحص مريضي في غرفة مليئة بالضيوف، كما هي عادتهم. تكرم بالسؤال عنك، وأشار إلى مكاوي وهو يقول بأن الشاب سيسافر إلى لندن في الغد ليبدأ الدراسة لنيل دبلوم في مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية. وأضاف قائلاً: "إن كنت تريد أن ترسل أي شيء لبنتك، فمكاوي سيأخذه لها". وانتهزت أنا الفرصة لأرسل لك هذا الخطاب. فمن المؤكد أن البريد العادي سيتأخر ويغدو غير مضمون بعد أن أعلن عمال السكة حديد عن إضراب مفتوح عن العمل.
كيف حالك يا عزيزتي، وكيف تَقْضِينَ أيامك الأولى في الجامعة؟ أدرك مدى كراهيتك للعيش في مدرسة داخلية، ولكنك لن تدركي إلا حين ترزقين بأطفال في مقبل الأيام مدى الألم الذي اعتصرنا ونحن نرسلك للندن للدراسة. غير أني واثق تماماً من أن هذه الأيام الصعبة وأنت بعيدة عنا، سوف تجعلك أكثر استعدادا للدراسة في الجامعة. أتصور بلوغك التاسعة عشر من العمر (وهي سن متقدمة!) دون أن تخوضي تجربة الحياة في بيتك. لا ريب أنك ستكونين أقرب لشخصية "كولونيالية"، وهذا ما حاولنا تحاشيه. لقد شعرت أنا (وكذلك أمك) بالفخر وأنت تختارين مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية. لقد غرست فيك أمك تلك الرغبة في دراسة تاريخهم ولغتهم. لقد عَرَفْتِ شيئاً عن قصة الجنرال غوردون والمهدي وأنتِ في السادسة من العمر! كنا ذات مرة في حفل راقص بالقصر، في واحدة من تلك الدعوات العديدة التي كان يُحْظَرُ فيها اصطحاب المدعوين لأطفالهم، ولكننا – رغم ذلك - أخذناك معنا على أية حال. وَقَفْتِ ليلتها على الدرج وقُلْتِ بصوت عالٍ جداً: "يا ماما، هنا قُتِلَ الجنرال غوردون بحربة". لقد أدليت بذلك التصريح بشكل بالغ الجدية وبكل تفهم وكأنك تستطيعين أن تتخيلي العنف حتى في مثل هذا الحفل الراقص، حيث كانت النساء يرتدين فساتين السهرة ويتحلين بالمجوهرات، وأرض القصر مضاءةً بأضواء كاشفة، وفرقة نحاسية تعزف بصوت عالٍ! لقد كنت طفلة مُبَكْرة النضج. لقد أحببت أن تسمعي قصة أرسال كتشنر جمجمة المهدي إلى قصر باكنغهام حيث اُسْتُخْدِمَتْ ثَقَّالة للوَرَق لمنعه من التطاير. لطالما شككت في صحة هذه القصة، غير أنها نالت إعجابك وكنت تحبين ترديدها.
لم نكن أبوين عاديين، ربما بسبب السنوات الطويلة التي قضيناها في الخارج. لم تكن إيدث مثل الزوجات الأجنبيات هنا، حتى أولئك اللواتي كن يَشْغَلْنَ وظائف. كانت تستمتع بالاختلاط مع السودانيات وبتعلم عاداتهن وطرائق حياتهن. وكانت تأخذك معها لكثير من حفلات الأعراس حتى غَدَوْتِ "عالمة أنثروبولوجيا" صغيرة. غير أن إيدث لم تحب قط تقليدك لـ " رقصة العروس"، حين كنت تمدين ذراعيك مثل الحمامة - لكنكما استمتعتما برمي العريس لحُفُنات تمر في الهواء كي يلتقطها الضيوف. وكان أحد مدرسيك في المرحلة الأولية بمدرسة الكنيسة قد عاتب إيدث ذات مرة على ما وصفه بـ "بطرقها غير المعتادة" في تربية طفلتها، غير أنها لم تلق بالاً لكلامه وتخلصت منه بضحكة خفيفة.
تتحسن حالتي رغم مرور الأيام. وكان الناس هنا في غاية التعاطف. ظللت أتلقى منهم باستمرار دعوات للزيارة حتى لا أحس بالوحدة. غير أني كنت أرى كل مكان وكل مناسبة تزداد قتامة من دونها. وفي الأيام السيئة، عندما أقع ضحيةً لغباوتهم وغلطاتهم الفادحة، أقول لنفسي: "هذه هي السودنة عندهم". ومنذ أن انتهت الحرب العالمية الثانية، كانت سياسة الحكومة تقوم على مبدأ "السودان للسودانيين"، وفي نهاية المطاف سيخرج البريطانيون من السودان، وسيحل محلهم سودانيون... ما الذي سيحدث بعد ذلك؟ ستنخفض دون ريب المعايير والمستويات.
وفي دارنا كان آدم هو من يتولى – نظرياً – مسؤوليات إدارة المنزل وهو الآن رئيس الخَدَم به، وقد سعد بالترقية التي نالها. كان ما يطبخه لنا غريباً وغير مألوف لدرجة أني لم أكن أميز تماما ما كنت آكله. عادة ما يكون في ذلك الطبق نوع من هذا الخضار أو ذاك، وهو يسبح في صلصة طماطم بنية اللون مع بعض قطع لحم بائسة. كنت قد نويت أن أدربه وأقترح عليه طبخ أطباق أخرى، غير أنني لم استجمع بعد أطراف حماستي كي أفعل ذلك. لو لم يكن أمياً فقد كان بإمكاني أن أعطيه بعض الوصفات المكتوبة. غير أنه يجب أن أُقِر بأنه كان ينظف الخضروات جيداً، وكان اهتمامه بالنظافة العامة كبيرا، وتلك خصلة أنا شديد الامتنان له على الحفاظ عليها.
وكنت أقضي أغلب ساعات كل صباح في الوزارة في اجتماعات مطولة لا تجلب لي سوى الإحباط ونحن نخطط للحد من انتشار وباء اِلتِهاب السحايا المخية الشوكيَّة. كانت أولى الحالات قد اُكْتُشِفَتْ العام الماضي في دارفور، وسرعان ما انتقلت إلى مديريتي كردفان والنيل الأزرق، وفي الخرطوم أيضاً. نستخدم لعلاجها الآن أدوية السلفانومايد، ونراقب حزام ذلك المرض، ولكن كما قال لنا أحد الشباب فإن عبور حجاج غرب أفريقيا خلال تلك المناطق وهم في طريقهم لمكة، سيجعل السيطرة على المرض أمراً عسيراً للغاية. وستكون المناطق الأكثر تضرراً هي المناطق الريفية التي تنعدم فيها وسائل الصحة العامة وسبل الوقاية. وإذا كنا نحن هنا، في العاصمة نفسها، لا نزال نستخدم الجرادل، فلا ريب أن إصحاح البيئة واستخدام المياه في سائر مناطق البلاد سيستغرق عقوداً طويلة. ألا تذكرين عربات "الكارو" التي تجرها الجمال؟ كُنْتِ تُسْمِينَها "عرض منتصف الليل"، وكُنْتِ ترفضين أن تخلدي للنوم إلا إذا تَأَكَّدْتِ تماماً من أنهم وضعوا جرادل فارغة عوضاً عن الجرادل المحملة بالفضلات. وكانوا في بعض الحالات يذهبون دون تغيير الجرادل، وكان ذلك يصيبك بضيق ونكد شديدين. هل تذكرين كل تلك التفاصيل؟ أم أن كل ذلك صار بالنسبة لك من ذكريات الماضي البعيد التي نَسيتينها وأنت في لندن الآن؟ لقد كَتَبْتِ لي من الداخلية في لندن في إحدى خطاباتك أنك تعشقين البرد وتحبين لبس القفازات. شعرت أنا وأمك بالارتياح العميق، إذ لم نكن نرد لك أن تتعلقي بأكثر مما يجب بالشمس الساطعة هنا.
لا يزال الطقس هنا حاراً، غير أنه يغدو لطيفا بعض الشيء في الأمسيات. ليست لدي أي ارتباطات اجتماعية بعد فراغي من العمل في العيادة، لذا أذهب إلى النادي. وهناك أمارس السباحة ثلاث مرات في الأسبوع، وأَلْعَبُ التنس عندما أجد زميلاً يشاركني. وعادةً ما أصادف أحد الأصدقاء أو المعارف وأجلس معه على الشرفة لتناول بعض أقداح الشراب قبل تناول العشاء، وتكون هذه فرصة مواتية للفرار مما يطبخه لنا آدم. لطالما كنت أردد أن السودان بلد لا يصلح للعيش لمن يؤثر أن يَحْيَا منعزلاً عن الناس. فالحياة الاجتماعية النشطة به، ومشاعر الصداقة الحقيقية بالبلاد هي ما تجعل القذارة والحر الشديد به أمراً يمكن احتماله. أتخليك تحتجين على استخدامي لكلمة "قذارة" هنا. لقد كُنْتِ مغرمة بمراقبة غروب الشمس على شاطئ النيل الأزرق، والمراكب تعبر متجهةً لجزيرة توتي، وكُنْتِ تقولين دوماً أن ذلك منظر بديع. كان ذلك قبل أن تزورين الأراضي المرتفعة (The Highlands) ومنطقة البحيرات (Lake district)، وقبل أن تشاهدين اللوحات الفنية في متحف اللوفر. أتوق لمعرفة رأيك في زيارتك القادمة. ربما ستزدرين بالخرطوم الآن يا بنيتي المُتَمَدْيِنة التي جابت أرجاء العالم (المتحضر)!
أتطلع بشوق غامر للقائنا في عيد الميلاد. وفيما يتعلق برحلتك القادمة إلى الخرطوم فإني أقترح أن يكون خط سير الطائرة هو كامبيرلي – نيس – مالطا – بنينة – الخرطوم. لا أحبذ أن تركبين قطار القاهرة وأنت بمفردك؛ إلا أنني سوف أتحرى عن وجود أي واحد أو أكثر من معارفي سيسافر في تلك الأيام، ويمكنك أن ترافقيهم. وبالطبع ستكون زيارة "الأقصر" و"أبو سمبل" بالطبع آمنة، والطقس فيهما معتدل جداً، شريطة ألا تكوني بمفردك.
والدك المحب
أندرو ماكولوخ
***************
الخرطوم
3/11/1950م
عزيزتي ماريون،
لقد سعدت بأنك قد اِسْتَقْرَرْتِ بشكل جيد، وأنك تستمتعين بدراستك. لقد كانت آخر تجربة لي في لندن إبان الحرب، عندما كانت المدينة مُوحِشة وكئيبة نوعاً ما، وفررت منها – بحمد الله – ولم أعد لها تارةً أخرى. وعلمت منك بأنها تغيرت الآن، وهذا أمر جيد بالفعل، فأنا أكره فكرة مكوثك في مكان يخلو من البهجة والازدهار. أصبت بالطبع بخيبة أمل كبيرة من قرارك قضاء عيد الميلاد في أدنبرا وليس معنا هنا. لقد ظللت أعد الأسابيع، وأخبرت كل من أعرفه بأنك سوف تأتين للخرطوم. لم يكن هناك الكثير من الحب المفقود بيني وبين جدك وجدتك، ولا يسعني إلا أن أحسدهما، بل أكرههما، على متعة صحبتك. ومع ذلك، فمن المناسب أن تعيشين عيد ميلاد أسكتلندي حقيقي في بيئته الطبيعية، بالإضافة إلى ليلة رأس السنة الجديدة (Hogmanay)، على الرغم من شكي العظيم في مدى احتفالية تلك الليلة وأنتِ في صحبة جدك وجدتك! أتمنى لك الأفضل على أي حال وأتطلع إلى عيد الفصح.
لقد سررت وأنا أقرأ إنك ومكاوي إسماعيل قد صرتما صديقين بعد أن حمل لك آخر رسائلي لك. وأنا موقن بأن هذا أمر جيد بالنسبة له، إذ سينقذه من مصادقة أنواع سيئة من الناس. قابلت مصادفةً ذات يوم رجلاً من أعضاء "المجلس الاستشاري" أخبرني – بعد أن أفرط في الشرب – قصةً مثيرة للاهتمام ذكر فيها أنه أُرْسِلَ إلى لندن للقاء رجال مخابرات بريطانيين في وزارة الخارجية لمناقشة أمر الشيوعية بالبلاد. وفيما يبدو، كان أولئك الرجال يعتقدون أن الشيوعيين البريطانيين بالسودان هم من وراء المشاكل العمالية التي حدثت بالسودان مؤخراً. وكانوا يفعلون ذلك بمصادقة الذين كانوا – فيما يبدو – قد تعرضوا لمضايقات عنصرية من آخرين، ولم يجدوا غير الشيوعيين ليصادقونهم! ونتيجة لذلك أُقِرَّتْ سياسة جديدة تقضي بمراقبة كل شيوعي بريطاني يأتي للسودان مراقبة دقيقة، وكذلك مراقبة الطلاب السودانيين في بريطانيا. أرجو منك يا ماريون – وصديقك الجديد – الابتعاد عن مثل تلك العلاقات المثيرة للشبهات والمشاكل. يا لغرابة الزمن الذي نعيش فيه الآن! لا شك أن للشيوعيين تأثير كبير حتى في قيام أولاد المدارس بإضرابات. لقد كان تنظيم بعض تلك الإضرابات جيداً للغاية، مما يشير على وجود عملاء أجانب، إذ أن السودانيين لم يبلغوا بعد ذلك القدر الكافي من التمدن والتجويد للقيام بمثل تلك الأعمال المنظمة. وفي الواقع، يفتقر صغار المتعلمين السودانيين لمن يقوم على إرشادهم. غير أني لا أقول كذلك بأن النقابات لا يمكن أن تعمل في بلد يفتقر لمعرفة اجراءات التفاوض والتحكيم، ولم يعمل إلى الآن على تبني مثل تلك الإجراءات. إن الحل هو في التعليم، غير أن الإفراط فيه هو مضر كذلك.
استمتع كثيرا بالساعات القليلة التي أقضيها كل أسبوع في التدريس بمدرسة كتشنر الطبية؛ فطلابها مجدون في أعمالهم ويتمتعون بتهذيب شديد. غير أني لحظت مؤخراً أن لبعضهم معرفةً وذكاءً حاداً ولكنهم يفتقرون إلى اللباقة واللِّيَاقَةُ في استخدام تلك المعرفة وذلك الذكاء الحاد. لقد كان أولئك الطلاب يحتجون على اسم مدرستهم، وكذلك على اسم "كلية غوردون التذكارية". أنا شخصيا مغرم بالاسمين، ربما لأنهما أسكتلنديين. هل سيحدث تغيير اسم أي مؤسسة فرقاً يذكر؟ بالطبع تم تغيير مسمى وظيفة "وزير الصحة"، دكتور علي بدري. ربما أكون رجلا خيالياً، ولكني صرت – بشكل متزايد - ألحظ في وجوه من أحاضرهم أنهم ينتظرون - على أحر من الجمر - ساعة مغادرتي للانقضاض على وظيفتي وأخذ مكاني. سيمر بعض الوقت قبل أن يحدث هذا بالفعل، إذ أن تعيين المحاضرين البريطانيين مازال مستمراً. فرئيس قسمي مثلا هو بروفيسور روجر ستيفنسون، الذي كان يعمل سابقاً في جامعة أدنبرا. وقد كنت منشغلا في غضون الأسابيع الماضية في الطواف به وتعريفه – هو وزوجه شوانا – بالمدينة وما فيها. وهما يقيمان الآن في "الغراند أوتيل" في انتظار تجهيز سكن ملائم لهما. إن لقاء شخص من بلدي هنا هو أمر جد ممتع لي، واستمتع كذلك بسماع آخر مستجدات الأحداث، وسماع تعليقاتهما وانطباعاتهما الأولى عن السودان. وفي كثير من الأحيان، أتذكر بشكل مؤثر أيامنا الأولى (أنا وإديث) من خلال الكثير مما تغير وتم بناؤه منذ ذلك الحين.
أعجب روجر وشوانا – كما هو متوقع - بمعمار الخرطوم ومسطحاتها الخضراء التي يُحَافِظْ عليها بعناية فائقة. غير أنهما تعجبا من أن يوم الأحد هنا هو يوم عمل وليس عطلة أسبوعية، وهذا ما كنا نحن نراه أمراً غريباً في أول أيامنا هنا. أخذتهما لنادي السودان حيث دار بيننا نقاش مثير حول سبب كثرة أعداد الأسكتلنديين بالسودان. وكانت أكبر الجمعيات بالبلاد هي "الجمعية الكاليدونية"، وكان حفل العشاء الذي تقيمه تلك الجمعية في ليلة سانت أندروز هو أهم مناسبة في التقويم الاجتماعي. وأخذتهم أيضا إلى "حديقة الحيوان"، مكانك الأثير بالعاصمة. وأعادت لي تلك الزيارة ذكريات عائلية سعيدة. ونالت الزرافة إعجاب البروفيسور وزوجه، وقالا بأنهما سيعودان لزيارة الحديقة عندما يعتدل الجو قليلاً. لقد صدما من حرارة الجو هنا، وهذا عَكس المُنتظَر من أستاذ متخصص في أمراض المناطق الحارة؛ فقد كنت أعتقد بأنه سيكون أكثر استعداداً في هذا الجانب! وعلى الرغم من الجو حار بصورة خاصة هذا العام، إلا أن الحرارة في منتصف اليوم لا تزال محتملة، وتنخفض في الأمسيات فيغدو الجو لطيفا. فلننتظر حتى يأتي شهر يونيو بعواصفه الترابية!
بالأمس قالت لي شوانا ستيفنسون إنها تحتاج لفساتين قطنية جديدة، وخطر لي أن أدلها على خياطة ماما. أخذتها – وزوجها - في سيارتي إلى محل تلك الخياطة، وأتضح لي سريعاً إن ذلك لم يكن عملاً حكيما من جانبي. هل تذكرين مدام خرستو؟ إنها تعيش في منطقة المقرن، الذي أطلق عليه البعض "حي البيض الفقراء". لم أكن قد التقيت بمدام خرستو منذ فترة طويلة، ولم تكن قد سمعت بنبأ رحيل والدتك. أصيبت بصدمة شديدة عندما أخبرتها به وشرعت تعبر – بصوت عالٍ - عن أسفها وحزنها بلغتها اليونانية وبإنجليزية مكسرة، وأحدثت ضجة كبرى. لقد كان المشهد مزعجاً للغاية وغير ضروري على الإطلاق. ولحسن الحظ، وبعد انتهاء تلك الحادثة ذهبت بهما مباشرةً إلى سينما النيل الأزرق. وكانت تلك تجربة جديدة للسيدة ستيفنسون، إذ لم تكن قد دخلت من قبل إلى دار عرض سينمائي في الهواء الطلق بلا سقف. ومن حسن حظنا وجدنا مقصورة في منطقة جلوس خاصة (لوج) جلسنا فيها بمفردنا، وكان الجو لطيفاً. وبينما كان روجر ستيفنسون وزوجة يتفرجان على الفيلم، بقيت ساهماً أفكر في مقابلتي لمدام خرستو، وأتعجب من أنها لم تسمع بنبأ رحيل أمك، خاصة وأن الأخبار هنا تنتقل بسرعة البرق، وأن غالب زبوناتها هن من زميلات أو معارف إيدث في "جمعية النساء المتحدثات باللغة الإنجليزية"! غير أني هدأت قليلاً وشعرت بالارتياح، وبقيت استمتع وأنا أتأمل جمال السماء في تلك الليلة وهي مغطاة ببعض السحب، وأسمع بين حين وآخر أصوات الطائرات القادمة أو المغادرة لمطار الخرطوم. أتذكر تلك الأيام التي كنا نحضرك معنا لهذه السينما وأنت طفلة صغيرة. كنت تداومين على النظر للسماء وتأمل النجوم عوضاً عن مشاهدة الفيلم! لقد كنت دوماُ طفلة متميزة يا عزيزي.
والدك المحب
أندرو ماكولوخ
***************
الخرطوم
29/12/1950م
عزيزتي ماريون،
أكتب لك من شرفة "الغراند أوتيل"! الوقت الآن هو صباح الجمعة الباكر، والمكان فارغ من الزبائن تقريباً. أي أنني الزبون الوحيد الآن، وأن علي بلا شك أن أنتظر وقتاً طويلاً قبل أن يطبخوا لي إفطاري! استيقظت اليوم عند الفجر، ولم أستطع النوم مجدداً، لذا قررت أن أمتع نفسي بالخروج والمجيء لهذا المكان. الجو معتدل اليوم: بارد وتهب علينا من النيل الأزرق نسمات عليلة. ربما على أن أدخل لغرفة الطعام الآن من برودة الجو. منظر النهر في غاية الجمال، وتضفي عليه أشعة الشمس الساطعة جمالاً إضافياً، ويجعلني ذلك أسعد بوجودي هنا. وعلى الرغم من أن الأسبوع الماضي كان أسبوعاً صعبا علي، إلا أن مغادرة السودان لن يكون واحداً من قراراتي للعام المقبل. وبالإضافة لذلك، فإن علي أن أفكر في أمر معاش التقاعد!
أتمنى أن تكون بطاقة العام الجديد قد وصلتك في الوقت المناسب، وأن تعجبك الهدايا التي أرسلتها لك. واشكرك على الكتب التي أَرْسَلْتِها لي. وجدت أن كتاب "جوهر الموضوعThe Heart of the Matter " عسير القراءة، إذ أنه يتطلب تركيزاً افتقده هذه الأيام، ولكني بدأت في قراءة كتاب جورج أورويل "1984"، وأنت محقة تماماً في إعجابك به. لقد أخذني هذا الكتاب بعيداً عن نفسي وجعلني أنسى محيطي. أما بالنسبة لشاي "إيرل جراي Earl Grey"، فأنا أستمتع للغاية بأكواب منه وأنا أكتب هذه السطور. حملت علبة هذا الشاي معي وطلبت من النادل الحائر أن يغلي لي بعضاً منه.. لماذا لا يتوفر هذا الصنف من الشاي هنا؟ لا أدري.
ذهبت في صباح يوم عيد الميلاد للصلاة في الكنيسة. كان ذهابي للكنيسة من باب العادة، ليس إلا؛ ثم أدركت أن ماما هي من كانت تصر على أن نذهب معاً لها. لطالما كنت أحمل مشاعر متناقضة تجاه الكنيسة. كان أول الأطباء الذين عملوا بالسودان هم من المبشرين أو من الأطباء التابعين للكنائس، ولا يزال هنالك خلاف بين العاملين في الحقل الطبي حول سلامة أخلاقية هذا الأمر، ويجعلني هذا أحس بأنني مجرد منتحل خدّاع. أكن إعجابا كبيرا بالراهبات الكاثوليك وبمستشفى التوليد الممتاز الذي أقمنه، وهو المستشفى الذي وَلَدْتِ به. وهناك أيضا كل أولئك الأطباء الذين يعملون بالجنوب في مناطق خطرة ومتخلفة. غير أن فكرة المغامرات والعمل في تلك الأماكن القاصية بأحراشها المظلمة لم تُرَقْ لي قط. كان أسقف هذه الكنيسة رجلاً مفرط البساطة، وكان كان مدفوعاً بإحساس كبير بالواجب، وبطِمَاح يفتقر تماماً للواقعية لتنصير كل من بالسودان. كنت قد قمت على علاج ذلك الأسقف حين أصيب ذات مرة بحمى جعلته يهذي ويتحدث في غضب وحسرة عن أن الحكومة كانت تهتم بمصالحها الاقتصادية والسياسية بأكثر من مصالحها الروحية. ويبدو أن اللورد كرومر كان قد رفض بعد غزو السودان السماح للمبشرين بالعمل في السودان، ولكنه وافق لهم لاحقاً بالعمل في جنوب السودان فحسب. بل قُدم اقتراح للورد كرومر لتغيير يوم العطلة القومية الأسبوعية من الجمعة إلى الأحد، غير أنه أَبَى. وكل هذا يفسر الخطبة التي ألقاها علينا الأسقف في صباح عيد الميلاد. لا يمكنني وصفها بغير أنها كانت شديدة التعصب ولم يكن لها من داعٍ مطلقاً، خاصة في مثل هذا اليوم وفي هذا الزمان. فقد ذهب الأسقف إلى أنه لا يليق بتاريخنا وعرقنا أن نيأس ونفقد الأمل. غير أني كثيراً ما أحسست بالإحباط. وبالمقارنة مع الآخرين، فأنا الآن أقل تفاؤلاً بمستقبل هذا البلد. أتذكر مقولة جورج أوريل بأنه "لا مناص من التقدم، بَيْدَ أنَّهُ مخيب للآمال" أو شيء من هذا القبيل. لم يزر أورويل السودان قط، ولكن ذلك الوصف ينطبق عليه تمام الانطباق.
مرت على في عملي خلال هذا الأسبوع حادثتان فاجِعتان حقاً. أولاهما حادثة محزنة ولكنها ليست بالنادرة الحدوث، وكانت في هذه المرة حالة مفرطة الفظاعة. أُجْرِيَتْ لبنت في السادسة من العمر عملية ختان (في بيت والديها)، وحدثت في العملية أخطاء فادحة أدت لأن تُحضر البنت للمستشفى وهي مصابة بالإنتان (sepsis) ومشوهة بشكل بالغ السوء، وكانت عاجزة عن التبول، ومصابة بصدمة رعب شديد. كدنا نفقد تلك المريضة الصغيرة، وربما سيحدث ذلك. ولست متأكدا من أن كانت ستصلح لشيء بعدما فُعِلَ بها ما ذكرت. ويبدو أنها والدها كان رجلاً متعلماً بما يكفي لمعارضة ختان الإناث، غير أن أمها انتهزت فرصة غياب الأب، وفعلت فعلتها في غيابه. كان الوالد هائجا ينتحب وهو يحمل طفلته الصغيرة ويدخل بها للمستشفى. لن يبارح ذلك المنظر عقلي بسهولة. هذه البلد يصيب المرء بالإحباط الشديد. لقد تحدث كل زعماء كل الأحزاب السياسية الكبيرة وعلماء الدين الإسلامي ضد هذا النوع من الختان، ولكن ماذا حدث؟ أعلن الحزب الجمهوري، وهو حزب صغير وجديد، وعلى نحو شاذ، تأييد ممارسة الختان بدعوى أنه لا يحق للبريطانيين التدخل في تقاليد وممارسات السودانيين الخاصة! أين المنطق في هذه الدَّعْوَى. كانت "إديث" تكرر دوماً أن مثل هذه البربرية لن تنتهي إلا بتطوير التعليم في البلاد. ولكن حتى لو كان الوالد متعلماً (كما في هذه الحالة)، فإنه لن يكون قادراً على مجابهة جهل زوجه ونساء العائلة، خاصة الكبيرات في السن.
وكانت الحادثة الأخرى التي أُحضرت للمستشفى حادثة غريبة بالفعل. كان المريض هنا طفل صغير في الثالثة من العمر ومولود بعاهة خلقية. كان عموده الفقري مشوهاً وهو مصاب بتخلف عقلي. رفضته عائلته وألقته خارج الدار حيث قُيِّدَ من كاحله واُحْتُجِزَ في حظيرة ليست بعيدة عن حظيرة كلب. أعلم أنك تفكرين الآن في "ماوقلي Mowgli" أو "طرزان" لكن الواقع ليس رومانسياً، بل هو مفجع وفظيع. أكتشف رجل من فريق مكافحة الحشرات مصادفةً وجود ذلك الطفل البائس في تلك الحظيرة فأتى به للمستشفى. كان يبدو في صحة جيدة، بيد أنه كان متوحشاً وعدائياً، فقد ظل يصيح ويعض من يقترب منه بصورة منفرة ومثيرة للاشمئزاز. كيف يمكن لبعض الناس معاملة ابن لهم (من لحمهم ودمهم) بهذه الطريقة؟ لم يفهموا طبيعة أعاقة ذلك الطفل، ولديهم أطفال آخرين يتمتعون بصحة جيدة وعليهم رعايتهم. ولكن أين غريزة الحماية والرعاية! ينبغي أن يقدموا للمحاكمة. لا ندري ما يمكننا تقديمه لهذا الطفل وليس بمقدورنا الاحتفاظ به للأبد في المستشفى. سيكون عند الراهبات ما يكفي من التعاطف والرحمة والتَحَمُّل للتعامل معه. سأقوم هذه الأسبوع بالحديث معهن حول هذا الطفل المسكين.
أنا آسف يا عزيزتي لكوني أبدو كئيباً. هذه الأيام هي "موسم الحفلات" في الخرطوم، ولا بد لي أن أحكي لك عنها. لم أشترك هذا العام مع الجَوْقة التمْثيلية، ولكني ذهبت لمشاهدتهم وكانت جيدة - ترنيمة عيد الميلاد. وأقامت عائلة هوتون حفلها المعتاد بمناسبة عيد الميلاد، وكان على كل من يشهد الحفل أن يرتدي نفس الملابس التي كانت ترتديها كل شخصية في كتاب. نفرني ذلك الشرط، وكدت ألا أشارك في الاحتفال. غير أني أدركت في اللحظة الأخيرة أن بمقدوري اختيار شخصية سهلة بالنسبة لي. كل ما علي فعله هو ارتداء معطفي الأبيض وحمل سماعة، وسأصبح دكتور جيكيل! كان ذلك بالتأكيد أفضل من البقاء وحيداً وحزيناً بالبيت. ووجدت أن تلك الحفلة كانت عامرة بالأنس والسَمَر والألعاب المسلية. وعلى الرغم من أنني لم أكن في حالة مزاجية طيبة، إلا أنني استمتعت بمجرد المشاهدة والجلوس في الخلف. وحين رفضت المشاركة في الألغاز قال بروس: "حسناً، لا يمكننا أن نتوقع منه الكثير في أول عيد ميلاد له بعد رحيل إيدث". لم تكن اللباقة واحدة من أهم خصال بروس، غير أنه صديق حميم لي، ولا يمكنني تخيل الخرطوم من دونه.
وعلى ذكر الأصدقاء، لا بد أنك قد أفلحت في تكوين صداقات الآن. أرجو أن تكتبي لي عنهم أو عنهن. ألاحظ أنك تكثرين من ذكر مكاوي إسماعيل – وليس أي شخص آخر - في رسائلك؟ أعلم أنك لا تواجهين أي صعوبة في مصادقة الناس، لذا فإني لست قلقاً عليك بصورة خاصة في هذه الناحية. سأفكر فيك وأنت تقضين ليلة رأس السنة الجديدة في أدنبرا.
والدك المحب
أندرو ماكولوخ
***************
الخرطوم
15/1/1951م
عزيزتي ماريون،
فرغت للتو من قراءة خطابك ولا أكاد أصدق ما سَطَرْتِه فيه. أفقدت عقلك تماماً؟ بالطبع لا تعني عبارة " أَحْضِرِي صديقاً" إحضار رجل، وبالتأكيد ليس رجلاً سودانياً! ألا تعرفين طباع جدك وجدتك؟ من قبل لم يوافقا على ارتباطي بوالدتك الراحلة! بل كانا يؤمنان بأنني لست كفؤاً لها ....
alibadreldin@hotmail.com