يحيى عياش.. مهندس المقاومة وكابوس الاحتلال
تاريخ النشر: 3rd, November 2023 GMT
"بإمكانهم اقتلاع جسدي من فلسطين، غير أنني أريد أن أزرع في الشعب شيئا لا يستطيعون اقتلاعه".
(يحيى عياش)
في الثالث عشر من مايو/أيار عام 2021[1]، وفي خضم معركة سيف القدس بين غزة وقوات الاحتلال الإسرائيلي، أطلقت كتائب القسام صاروخا موجها لم يعرفه الاحتلال من قبل، قصفت به بلدة "إيلوت" المتاخمة لمطار رامون الإسرائيلي بجنوب الأراضي المحتلة.
بمدى يصل إلى 250 كم، أعلن "عياش 250" خضوع الأراضي المحتلة كلها لنطاق صواريخ المقاومة، في رمزية تربط السلاح الجديد بالرجل الذي جعل للمقاومة الفلسطينية سلاحا وبأسا شديدا على عدوها، إنه أبو البراء، "يحيى عبد اللطيف ساطي محمود عياش"، خريج الهندسة الكهربائية بجامعة بيرزيت، ومهندس التفجيرات الأهم بكتائب القسام خلال النصف الأول من التسعينيات، والمطلوب رقم واحد عند دولة الاحتلال حتى نال الشهادة، والرجل الذي نقل المقاومة الفلسطينية نقلة نوعية كبيرة عبر إستراتيجيات السيارات المُفخَّخة والتفجيرات الاستشهادية التي لم يختبرها الاحتلال من قبل، ليُقدِّم لنا حياة -على قصرها- ثرية بفصول تستحق أن تُروى. ومع الحرب الدائرة حاليا بين فصائل المقاومة الفلسطينية وجيش الاحتلال على تخوم قطاع غزة المحاصر، وبروز العبوات المفخخة، والتطور النوعي لأسلحة المقاومة، فإن اسم عياش يحضر جليّا بوصفه أحد المهندسين والقادة الذي أسسوا للعمل النضالي المسلح في مواجهة الاحتلال.
من الريف إلى المدينةفي يوم الأحد الموافق 6 مارس/آذار 1966، وفي قرية رافات التابعة لنابلس، كان الشيخ "عبد اللطيف ساطي" يستقبل مولوده البكر الذي أسماه "يحيى" تيمنا باسم نبي الله يحيى بن زكريا عليهما السلام. وقد نشأ الصغير في بيت ريفي بسيط لأبوين مُتديِّنين، غَرَسا فيه مقومات التديُّن التي جعلت شخصيته هادئة متزنة منذ الصِّغَر[3].
ومنذ اللحظات الأولى لدراسته الابتدائية ظهرت على "يحيى" أمارات الذكاء والنبوغ العلمي، حتى إنه كان يفوق قدرات صفِّه الدراسي بعام أو عامين على حد وصف والده[4]. وقد حصل يحيى على شهادته الثانوية من مدرسة "بديا" بمعدل عام 92.8%، وبمعدل 95% في الفيزياء والرياضيات[5]، ومن ثمَّ انفتحت أبواب كلية الهندسة أمام هذا العقل الفذ.
في سلوك متسق مع شخصيته البارَّة المتواضعة، رفض "يحيى" الالتحاق بالجامعة الأردنية أو جامعة اليرموك -رغم تأهله للالتحاق بهما- حتى لا يبتعد عن والديه، ولكي يوفِّر أقصى قدر ممكن من نفقات دراسته، ولذا التحق بكلية الهندسة (قسم كهرباء) بجامعة بيريزت[6]، في اختيار كان له أبلغ الأثر في مستقبل المهندس الناشئ. في حفل الاستقبال السنوي عام 1984، التقى عياش بطلاب "الكتلة الإسلامية" بالجامعة، التي كانت الجناح الطلابي لحركة حماس (قبل تأسيس الحركة بصورة رسمية عام 1987)، وعرَّف نفسه إليهم فأظهروا اهتماما به.
يحيى عيّاش بين أمه وأبيه.. pic.twitter.com/v6jGS4hMYK
— أبو مَلَك (@Abuhawash10) November 24, 2019
سرعان ما انخرط عياش مع طلبة الكتلة الإسلامية وشارك بصحبتهم في مختلف الأحداث السياسية والاحتجاجات الطلابية ضد الاحتلال، فاكتسب مكانة ملحوظة في محيطه الجديد، وأصبح في عامه الدراسي الثاني عضوا بإحدى أسر الإخوان المسلمين برام الله، مُوظِّفا سيارة والده لخدمة الحركة الإسلامية في دأب شديد، حتى اعتبرته الفصائل الفلسطينية شيخ الإخوان في قريته رافات[7]. وقد شكَّل التعسُّف العنصري من قوات الاحتلال وممارساته تجاه الفلسطينيين الدافع الأكبر لدى يحيى للخروج من دائرة الاحتجاج الأوّلي والمظاهرات إلى دائرة أخرى يكون فعل المقاومة فيها أبلغ وأشد على الاحتلال، خاصة وتاريخه الأسري ينحدر من عائلة ذات ماضٍ نضالي منذ أيام الانتداب البريطاني على فلسطين[8].
من الحجارة إلى القنبلةيذكر الكاتب المهندس "غسان دوعر" في كتابه عن "عياش"[9] أنه رغم الانخراط الكبير لحركة "حماس" وأتباعها في الانتفاضة الأولى، فإن السنوات الأربع الأولى من هذه الانتفاضة تُعَدُّ أشد السنوات غموضا في حياة "عياش"، إذ كان يقاوم خلالها بعمليات فردية لا يعلم عنها أحد شيئا. ولم يتخرج "عياش" إلا بعد الانتفاضة، وتحديدا عام 1992، وهو العام نفسه الذي انضم فيه إلى كتائب عز الدين القسام -الذراع العسكري لحركة حماس- وترجم اقتراحاته على رفاقه بالكتلة الإسلامية إلى واقع حي؛ إذ كان "عياش" الطالب دائم الإشارة لاستخدام القوة في النضال لأجل القضية الفلسطينية[10]، وهو ما أخذ "عياش" المهندس العهد لتحقيقه.
شغف "يحيى" بالعلم قاده إلى بحث حول صناعة البارود، ووجد في تحضير البارود من عناصره الأولية منفذا للتغلب على شح الإمكانات العسكرية للمقاومة (الصورة: الجزيرة)في عام 1987، قامت الانتفاضة الأولى -أو انتفاضة الحجارة- على خلفية دهس مستوطن لمجموعة من العمال الفلسطينيين[11]. وقد أصبحت الانتفاضة بوابة "عياش" إلى العمل العسكري مع كتائب القسام، ووفقا للمهندس "عبد الحكيم حنيني"[12]، أحد مؤسسي القسام، فإن شغف "يحيى" بالعلم واطلاعه المستمر على محتويات المكتبة الجامعية قاده إلى بحث حول صناعة البارود، حيث أُعجِب بالأمر وتحمَّس له، ووجد في تحضير البارود من عناصره الأولية منفذا للتغلب على شح الإمكانات العسكرية للمقاومة، ثم عرض الفكرة على قادة "القسّام"، ومنهم "زاهر جبارين"[13] عضو المكتب السياسي لحماس حاليا، فنالت استحسانا وتشجيعا.
من مواد أولية مثل الكبريت والسماد والفحم، بدأ المهندس الاستثنائي تكوين خلطته المتفجرة، جنبا إلى جنب مع تطوير الدوائر الكهربائية اللازمة لصنع المتفجرات، مستغلا مخزونه العلمي والعقلي الفريد -بشهادة أقرانه- لتوفير السلاح التفجيري الأول للمقاومة الفلسطينية. وبعد فشل التجربة الأولى أتت التجربة الثانية بنتيجة أبهرت كل مَن شاهدها؛ حتى إنهم أخذوا في التكبير والعناق وكأنهم امتلكوا الدنيا بأسرها كما يروي "جبارين".
بعدئذ، عَكَف فريق التصنيع القسَّامي على صنع المتفجرات التي ابتكرها "عياش". وفي أثناء سنوات الانتفاضة، تحوَّلت المقاومة بالحجارة إلى مقاومة من نوع آخر تضمَّن السيارات المفخخة بجانب تجمُّعات الإسرائيليين، والعمليات الانغماسية الاستشهادية التي كان لها أبلغ الأثر في زعزعة معنويات الاحتلال. ففي حديثه عن "عياش" قال القيادي القسامي البارز "صالح العاروري"[14] إن العدو عندما يرى أصحاب الحق الذين يقاتلهم ذاهبين إلى الموت باختيارهم فإنه لن يجد مفرا من الهزيمة النفسية.
وقد توالت العمليات القسامية تحت إشراف المهندس الذي بات المطلوب الأول للمخابرات الإسرائيلية، حتى أتت مذبحة الحرم الإبراهيمي يوم 15 رمضان 1414هــ/ 25 فبراير/شباط 1994م، عندما اقتحم الطبيب الصهيوني "باروخ جولدشتاين" المسجد الإبراهيمي تحت أعين جنود الاحتلال، الذين أغلقوا بوابات المسجد ليمنعوا المصلين من الهرب، قبل أن يفتح "جولدشتاين" النار على المُصلين ويقتل 29 مصليا ويجرح 15 آخرين.
انقضَّ المصلون على الطبيب القاتل وقتلوه، لكن هذا لم يمنع الأمن الصهيوني من مفاقمة أرقام الشهداء والجرحى بأعمال عنف وإرهاب بالغة، ما جعل "يحيى" عازما على الثأر لأهله من هذه المقتلة، ولذا أتى الرد سريعا يوم 6 أبريل/نيسان من العام نفسه، حين تقدَّم المقاوم "رائد زكارنة" بسيارته المفخخة نحو محطة الحافلات المركزية بمدينة العفولة كما خطط "عياش". وفي لحظة شروع الركاب في الدخول إلى الحافلة، تجاوز "رائد" الحافلة وأوقف سيارته المفخخة عند مقدمتها، وما هي إلا ثوانٍ حتى كانت أصوات الانفجارات تملأ الشارع وتقتل في طريقها ثمانية مستوطنين[14].
بعد أسبوع واحد، في يوم 13 من الشهر نفسه، نُفِّذَت عملية الخضيرة[15] بتنفيذ الفدائي "عمار عمارنة" التي قتلت 7 إسرائيليين وأصابت العشرات، ثم عملية تل أبيب[16] في يوم 19 ديسمبر/كانون الأول 1994 بتنفيذ "صالح نزال"، الذي قتل 22 إسرائيليا وأصاب أكثر من 45 آخرين، فضلا عن الخسائر المادية البالغة مليونين و300 ألف دولار، والصخب الجماهيري الذي طالب باستقالة رئيس وزراء دولة الاحتلال "إسحاق رابين"[17].
مرَّت كل تلك العمليات برعاية "يحيى عياش" وفريقه الرباعي المكون من "زاهر جبارين" و"علي عاصي" و"عدنان مرعي"، الذين كانوا يُموِّلون العمليات من جيبهم الخاص؛ حتى إن "عياش" اضطر لبيع ذهب زوجته "أم البراء" لأجل تمويل الكفاح المسلح[18]. لكن هذه العمليات ومثيلاتها جعلت "عياش" على رأس هرم أولويات المخابرات الإسرائيلية وحكومتها من أجل تصفيته.
الشهيد"عيّاش حيٌّ لا تقل عياش مات.. وهل يجفُّ النيل أو نهر الفرات!".
(عبد العزيز الرنتيسي)
مع سطوع نجم "عياش" في التسعينيات، لم تترك أجهزة الأمن الإسرائيلية -بمتابعة مباشرة من رئيس الوزراء رابين- فرصة لملاحقة المهندس "الزئبقي" الذي لم يكن يعلم أحد مكانه وتحرُّكاته بسهولة. ومع اشتداد المطاردة والملاحقة لكل مَن له علاقة به، وخاصة أهله الذين خُرِّب منزلهم أثناء التفتيش عنه، قرر المهندس الخروج من الضفة إلى غزة؛ حيث مركز النفوذ الحمساوي.
وفي رحلة انتقاله إلى غزة، يذكر "دوعر" أن المطلوب رقم واحد في الأراضي المحتلة خرج من الضفة بصورة لم تجد لها الأجهزة الأمنية الإسرائيلية تفسيرًا، وذلك في الوقت الذي كان الآلاف من الجنود وحرس الحدود والشرطة مستنفرين لإلقاء القبض عليه. ووفقًا لما رواه ابنه "البراء"[19]، فإن "عياش" انتقل من الضفة إلى غزة في صندوق مُخبأ بشاحنة غذائية، ليتسرَّب أمام أعين الاحتلال دون أن يروه.
ومن حي إلى حي، ومن بيت إلى بيت كانت رحلة المهندس في التخفي شاقةً ومرهقة، ورغم ذلك فقد استمر العمليات ضد الاحتلال دون توقف. ومع كثرة الضغط الأمني على أهله في الضفة، أرسل "عياش" في طلب زوجته "هيام عياش" وولده البراء ليكونا إلى جواره بغزة، ففطنت المخابرات الإسرائيلية إلى احتمالية وجود عياش في غزة، وبدأت محاولة اغتياله عن بُعد.
ومن بيت البيوت التي كان عياش يختبئ بها، كان بيت صديقه "أسامة حمَّاد" ببيت لاهيا في شمال القطاع، وحينها تعرَّف عليه "كمال" خال صديقه، رجل الأعمال الذي كان على علاقة وثيقة -حسب روايته[20]- بمسؤول المخابرات الفلسطينية اللواء "موسى عرفات"، وهو ما قاده لاحقا للتعرف إلى بعض الشخصيات الكبيرة بالمخابرات الإسرائيلية (الشاباك) الذين طلبوا منه إعطاء هاتف خلوي معبأ بالمتفجرات إلى يحيى بأي طريقة.
وفي اليوم الموعود، هرع يحيى إلى منزل صديقه أسامة ليتصل بوالده ويبشره بمولوده الجديد "عبد اللطيف"، الذي تغيَّر اسمه لاحقا إلى يحيى بعد مقتل أبيه، وقد شوَّش الشاباك على الخط وأجبره على استخدام الهاتف الذي حمله إليه كمال[21]. وفي مكالمته الهاتفية مع والده صباح الجمعة الموافق 5 يناير/كانون الثاني 1996، كانت مروحية إسرائيلية تحلق بالقرب من مصدر الصوت حتى تتحكم في تفجير الهاتف بمجرد التعرف على صوت يحيى، وما هي إلا لحظات حتى صدر من الجوَّال صوت سمعه سكان الشارع بأسره وهرعوا على إثره إلى المنزل مُسرعين.
لقد كان انفجارا مدويا هزَّ أركان الحي، بل وهزَّ أركان فلسطين بأكملها. لقد انتهت العملية المُعقَّدة التي دأب عليها إسحاق رابين بنفسه بعد 4 سنوات[22]، بمكالمة أخيرة بين الوالد والولد. تفجَّرت الشريحة والهاتف وانتهت قصة المهندس الذي حرم قادة الأمن الإسرائيلي الراحة طيلة سنوات، لكن هذا المهندس يبدو أنه ترك وراءه إرثا عصيّا على الاندثار والنسيان.
لقد ترك موت عياش أبلغ الأثر في نفوس الفلسطينيين والمقاومة، فشيَّع جنازته عشرات الآلاف من الفلسطينيين، وعمَّ الإضراب مدينتَيْ القدس ورام الله، وأُلصقت صور المهندس الشهيد على الجدران في الشوارع، فضلا عن المسيرات والتظاهرات التي اشتبكت مع قوات الأمن الإسرائيلي في تعبير صادق وهائل عن حجم الغضب الشعبي لاغتيال رجل اعتبره الكثيرون "أسطورة" حية. أما آثار عياش فهي في أيدي المقاومة اليوم يُطوِّرونها يوما بعد يوم ويدكُّون بها حصون العدو بأطنان من المتفجرات التي كانت قبل "ثورة المهندس" مجرد حجارة في أيدي الغاضبين.
____________________________________________
المصادر
بعد ساعات من نقل الرحلات إليه.. القسام تقصف مطار رامون وشركات طيران دولية تلغي رحلاتها لإسرائيل. أبو عبيدة – المتحدث العسكري باسم كتائب القسام يعلن إطلاق صاروخ عياش 250 ذو المدى الأكبر│تغطية خاصة. غسان دوعر، المهندس: قصة الشهيد الرمز يحيى عياش. مقابلة بمجلة عبير (القدس)، العدد 42، يناير 1996، صـ 29. غسان دوعر، المهندس: قصة الشهيد الرمز يحيى عياش. مقابلة في صحيفة الوطن (غزة) العدد 14، 9/3/1995، صـ6 غسان دوعر، المهندس: قصة الشهيد الرمز يحيى عياش. اللواء الأردنية، العدد ،1185 24/1/،1996 صـ 19. غسان دوعر، المهندس: قصة الشهيد الرمز يحيى عياش. المصدر نفسه. استشهد فيها 1555 فلسطينيا وشهدت سياسة "تكسير العظام".. 35 عاما على انتفاضة الحجارة شاهد على العصر | عبد الحكيم حنيني (2) بداية العمل العسكري في الضفة الغربية المصدر نفسه الأسواق، العدد ،803 12/2/،1996 صـ 14. السبيل، العدد ،119 27//،1996 صـ 16. مجلة فلسطين المسلمة، العدد الثاني، السنة ،14 شباط (فبراير) ،1996 صـ15. السبيل، العدد ،54 8/11/،1994 صـ 12. Samuel M. Katz, The Hunt for the Engineer: How Israeli Agents Tracked the Hamas Master Bomber وثائقي مهندس الرعب – يحيى عياش لأول مرة بعد ٢٢ عاما العميل الذي اغتال يحيى عياش يظهر على الاعلام اغتيال يحيى عياش: تفاصيل يكشفها عميل لإسرائيل الحدث (الأردن)، العدد ،28 10/1/،1996 صـ8.المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: المخابرات الإسرائیلیة کتائب القسام التی کان
إقرأ أيضاً:
هل انتصرنا ولماذا كان الطوفان؟
قد يبدو للوهلة الأولى أن طرح السؤال في ظل المأساة الإنسانية في غزة تقليل منها أو عدم إدراك لأبعادها، بينما هو على العكس تمامًا سؤال ملحٌّ لأسباب عديدة في مقدمتها المأساة الإنسانية العميقة والمركّبة في القطاع، إضافة لطرح السؤال بأشكال مختلفة وبطريقة غير صحيحة من عدة أطراف، ولأهداف متباينة، ما يفرض النقاش والتقييم.
ذلك أن التضحيات الضخمة لأهل القطاع تُستخدم كقرينة على الهزيمة و/ أو خطأ قرار السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، تأثرًا بالخسائر الفادحة أو استغلالًا لها لأهداف سياسية. بينما الخسائر المادية المباشرة، البشرية والاقتصادية والعمرانية، ليست المعيار الوحيد، وقد لا تكون الأهم (على أهميتها الكبيرة) في تقييم الحروب التقليدية، فما بالنا بالحروب غير المتناظرة وتحديدًا مقاومة الاحتلال، التي تتميز باختلال موازين القوى، واحتمال الطرف الأضعف/ المقاوم خسائر أكثر بكثير من عدوه الأقوى/ المحتل.
فالتقدير لا يعتمد منظورًا إنسانيًا بحتًا، ولا يقيّم طرفًا واحدًا فقط، وإنما يهتم بالسياق والظروف والمتغيرات والفواعل والأهداف، مضافًا لذلك تفاصيل الاتفاق، فضلًا عن خسائر العدو قصيرة وطويلة الأمد، والأهم منظور التقييم المختلف جذريًا في هذه الحرب.
إعلان خسائر العدوتجري الحرب بين طرفين، فمن البديهي أن خسائر أحدهما ليست عاملًا كافيًا لتقييم النتائج، حتى في حال اعتماد الخسائر كعامل أساسي فيه. وعليه، فإنه مع كل التضحيات التي قدمها الغزيون، ينبغي النظر لخسائر الاحتلال.
وهنا، لن نتوقف فقط عند خسائره المباشرة، بين قتلى وجرحى وأسرى واقتصاد، والتي هي أكبر بكثير من حصيلة أي حرب سابقة، على أهمية ذلك، ولكننا سننظر في مساحات أكثر إستراتيجية.
فقد فشل الاحتلال في تحقيق أي من الأهداف الكبرى التي وضعها للحرب، فلا استعاد أسراه بالقوة ودون اتفاق، ولا قضى على المقاومة، ولا أقصى حركة حماس تمامًا عن غزة، فضلًا عن أن يمنع التهديدات ضد الداخل "الإسرائيلي".
في المقابل، حقق الفلسطينيون جلّ ما نادوا به شرطًا للاتفاق، أي وقف إطلاق النار، وصفقة لتبادل الأسرى، وإدخال المساعدات، وعودة النازحين، وإعادة الإعمار، مع انتظار التطبيق العملي في المدى المنظور.
أكثر من ذلك، فقد هشّمت المقاومة الفلسطينية يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول كلَّ مقومات الأمن القومي "الإسرائيلي"، وإستراتيجيات حربه، فتداعى "الردع"، وفشل "الإنذار المبكر"، ولم تدُرْ الحرب "على أرض العدو"، ولم يستطع الاحتلال "الحسم" السريع".
وكان من تداعيات ذلك خسائر إستراتيجية كبيرة لـ "إسرائيل"، التي لم تعد بالنسبة لمجتمعها واحة الاستقرار والرفاهية، ولا القاعدة الآمنة التي يمكنها حمايتهما ومنع أي طرف من مجرد التفكير في مقاومتها، فضلًا عن مهاجمتها، وقد انعكس ذلك في أعداد الهجرة المتراجعة إليها والمتزايدة منها للخارج.
يضاف لكل ما سبق خسارة الاحتلال صورة القوة والردع ليس فقط أمام المقاومة الفلسطينية وحلفائها وشركائها، ولكن أيضًا إزاء أطراف ليست بالضرورة في مواجهة مباشرة معه حاليًا، حيث تحدث وزير الخارجية التركي (رئيس جهاز الاستخبارات السابق) عن "الثغرات الكبيرة" التي تبدت في المنظومة الأمنية "الإسرائيلية"، بينما أقر رئيس جهاز الاستخبارات السعودي السابق تركي الفيصل بأن "عملية حماس حطمت صورة إسرائيل القوية أمام العالم".
إعلانومن الواضح أن هذه الخسائر من النوع الإستراتيجي، المفتوح على التفاعل مستقبلًا، والقادر على إذكاء مشاكل داخلية ومفاقمة بعضها الآخر، وأنه مما يرتبط بشكل مباشر بمسألة الصراع مع الفلسطينيين ومآلاته بعيدة المدى، لا سيما إذا ما أضيف إليها خسارة "إسرائيل" سمعتها ومعركة الصورة والسردية عالميًا، ومحاكمتها أمام محكمة العدل الدولية (بتهمة ارتكاب الإبادة)، والمحكمة الجنائية الدولية، وهذه أيضًا خسائر لا ينبغي الاستهانة بها.
لماذا الطوفان؟يفسر كل ما سبق، وغيره، لماذا يرى الكثيرون في "إسرائيل" أنهم مهزومون، وأن الفلسطينيين انتصروا، وأن بنود الاتفاق كانت لصالح الأخيرين لا لصالح الاحتلال، حتى وصفه بعضهم باتفاق الذل أو الاستسلام، فضلًا عن الاستقالات العديدة خلال الحرب، وبعد توقيع الاتفاق في المستويات السياسية والعسكرية والأمنية.
ورغم ذلك، سيبقى سؤال يتردد عند البعض. حسنًا، لقد فشل الاحتلال في تنفيذ أهدافه، وصمدت المقاومة، ثم حققت معظم أو كل أهدافها من الاتفاق، لكن بعض/ معظم ذلك منوط بأمور لم تكن موجودة أصلًا قبل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، فضلًا عن الفاتورة الفادحة، فلماذا كان قرار "الطوفان" إذن؟ وهل كان يستحق كل هذه التضحيات؟
يفترض هذا السؤال، ضمنًا، أن من اتخذ قرار السابع من أكتوبر/ تشرين الأول كان يتوقع كل هذه التداعيات بما فيها حرب الإبادة، ورغم ذلك اتخذ قراره، أو أنه "فشل في توقع" هذه الارتدادات. والحقيقة أن هذين الافتراضين، المتناقضين للمفارقة، لا يقومان على أساس نظري أو عملي صحيح.
عمليًا، كان واضحًا أن "طوفان الأقصى" مختلفة عما سبقها من مواجهات وحروب مع الاحتلال، وأن ردة فعله ستكون بالتالي أشد قسوة بما في ذلك الدخول البري للقطاع، والذي بات من الواضح أن المقاومة قد اتخذت احتياطاتها له على مستوى هيكلة كتائب القسام تحديدًا في مناطق القطاع، وكذلك الأساليب القتالية والأسلحة المستخدمة.
إعلانوأما نظريًا ومبدئيًا، فثمة مغالطة خطرة في هذا الطرح، الذي يعرض حرب الإبادة، ضمنًا، وكأنها رد فعل عادي ومنطقي ومتوقع كان ينبغي الاحتياط له أو تجنبه بخطوات محددة، وهذا غير صحيح، وغير أخلاقي كذلك.
فهل كان ينبغي على المقاومة الفلسطينية أن تتوقع أن تكون ردة الفعل على مهاجمة قوة غزة استباحة القطاع بالكامل، بناسه وبنيانه ومرافقه، وتنفيذ حرب إبادة وسيناريو تهجير المدنيين، وحصول "إسرائيل" على دعم غير مسبوق ولا محدود ولا مشروط – بل مشاركة فعلية – من المنظومة الغربية بقيادة الولايات المتحدة، بينما يقف العالم العربي والإسلامي بين متفرج ومتواطئ وعاجز عن إدخال أبسط المساعدات الإنسانية، وأن العالم سيتحمل مشاهد المجازر اليومية على مدى ما يقرب من 500 يوم متواصلة؟
فالإبادة لم تكن ممكنة لولا مواقف مختلف الأطراف طوال العدوان، فكيف يُتغاضى عن هذه الأدوار التي ساهمت بها، بينما يوجه اللوم للطرف الوحيد الذي اضطلع بمسؤولياته بشكل شبه مثالي؟
من جهة ثانية، فقد تغيرت مبادئ الأمن القومي "الإسرائيلي" في الحرب الأخيرة بشكل جذري وكامل، بعد أن انهارت الأسس السابقة، ما يصعّب كثيرًا إمكانية المقارنة مع المواجهات السابقة.
ولئن كان تهميشُ المنظومة الأمنية "الإسرائيلية" يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول أحد أهم الأسباب في هذا التغيير، لكنه لم يكن العامل الوحيد، حيث حضرت عوامل ذاتية وإقليمية ودولية مستقلة عن تلك العملية، بدليل تغير هذه المنظومة مع حزب الله في لبنان بدون تغيرات دراماتيكية في قواعد المواجهة في جنوب لبنان، والضفة الغربية مثال آخر.
بهذا المعنى، يمكن النظر للعدوان البري على غزة كحرب أو مرحلة مستقلة عن الطوفان وإن كانت متأثرة به، ولذلك فإن من يقيس قرار الطوفان على خسائر حرب الإبادة وكأنه يقيّم معركة/ حربًا بناءً على نتائج أخرى مختلفة عنها بالكلية.
إعلانكما أن هذه النظرة تتجاهل التداعيات بعيدة المدى للحرب على دولة الاحتلال، من حيث الانقسامات والخلافات الداخلية، والمحاكمات والاستقالات، فضلًا عما يرتبط مباشرة بمسألة البقاء والخطر الوجودي، من قبيل تهاوي الردع، والحاجة لدعم قوى عظمى، وتداعي الاقتصاد، وفقدان الشعور بالأمن، وتراجع الثقة بالمؤسسة العسكرية – الأمنية.
وأخيرًا، فإن رفض القيام بعمليات مبادِرة أو مهاجِمة من باب أن ردة فعل الاحتلال ستكون دموية يقدح في أصل فكرة المقاومة، التي مسؤوليتها ورسالتها التحرير وليس مجرد المناوشة، في ظل أن الاحتلال سيسعى دائمًا لتعظيم الثمن ضمن سياسة كيّ الوعي، وهو ما يتطلب حذرًا إضافيًا في ترديد سرديات قد تخدم بعض أهدافه في هذا السياق.
في الختام، لا شك أن مجرد نجاة شعبنا في غزة من المقتلة التي عرضهم لها الاحتلال كل هذه الشهور مكسب عظيم، ولا شك أن المشهد فيه من الجلال والرهبة ما يفرض الخطاب الرصين الهادئ أمام فداحة التضحيات.
لكن، ومن زاوية أخرى، فإن من حق هذا الشعب العظيم الذي قدم التضحيات العظيمة وصمد رغم الإبادة وأفشل خطط التهجير أن نقول له إن تضحياته لم تذهب هباءً، وإن صموده أينع نصرًا، وإن تراجع الاحتلال وإذعانه في الاتفاق الأخير لم يكن ليحصل لولا بسالة المقاومة وصمود شعبها الذي راهن الاحتلال على رفعه الراية البيضاء، أو تخليه عن المقاومة وتسليمها، وهو مما ينبغي لنا الفخر به كواجب تجاههم وليس فقط كحقّ لنا.
لقد انتصرت غزة، بأهلها ومقاومتها، ليس من باب الادعاء والرطانة اللغوية، ولكن بتقييم موضوعي للحرب ونتائجها قصيرة الأمد وبنود الاتفاق، والأهم بما مهدته من مسارات لاستكمال مشروع التحرير على المدى البعيد.
الأهم، أن يكون النظر واستخلاص الدروس للاستفادة في تحسين المسارات المستقبلية وتقديم النصح في هذا الاتجاه، وليس من باب التقريع وادعاء احتكار الحكمة والمصلحة، والأهم الاضطلاع بالمسؤوليات الفعلية وعدم الاكتفاء بالكلام على أهميته.
إعلانالآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية