صدمة الصرف الأجنبي.. اشارات لتصحيح منظورالسياسة الاقتصادية الكلية
تاريخ النشر: 2nd, November 2023 GMT
على وقع الصدمة الجديدة لارتفاع سعر صرف الدولار عن مستواه المستهدف الى خارج حدود عتبة 1600 دينار للدولار الواحد في السوق الموازي مطلع الربع الاخير، وما نتج عنها من ارتفاع في المستوى العام للاسعار، بات الدينار العراقي يعاني انخفاضا كبيرا في قيمته الحقيقية مسببا انخفاضا في مستويات الدخل الحقيقي للافراد والوحدات الاقتصادية، ومع تزايد التوقعات باستمرار اتساع الفجوة فيما بين السعرين الفعلي والمستهدف، فان حركة الصرف الاجنبي وما تتعرض له من صدمات متكررة ، تعد مدخلا مهما في تحليل واقع الاقتصاد النقدي والسياسة الاقتصادية الكلية،عبرالمحاورالآتية :
ثنائية نظام الاسعار وقيد الانفاق العام في ظل غياب التوازن الاقتصادي التقليدي، اذ يعاني النشاط الاقتصادي من مشاكل حقيقية في بنيته الداخلية تنعكس في طريقة ادارة سعر الصرف واختيار النظام المناسب لادارته، وما يصاحب مخرجات هذه الثنائية من قيود اقتصادية تعمل على عدم استدامة استقرار سعرالصرف ضمن المستهدف ومنه انخفاض فاعلية السياسة الكلية في بلوغ هدفيها استقرار المستوى العام للاسعار والنموالاقتصادي.ارتفاع مرونة قنوات التحويل المالي المستخدمة في التجارة الخارجية في ظل تقادم قنوات وسائل التحويل المالي ، مما يخلف صعوبة في ادارة عرض الدولار تخفيضا للطلب عليه وخفض سعر الصرف الفعلي، لذا تعد المحدودية الفنية لادوات سلطة الدولة على تدفقات الدولار من التحديات الحقيقية للوضع المالي في العراق. سياسات البنك الفيدرالي الاميركي ،وحزمة الشروط المالية والنقدية والتجارية التي يطلب من الحكومة والبنك المركزي تطبيقها لاجل تخفيف حدة تهريب او خروج الدولارللدول المحاصرة بعقوبات اقتصادية . انخفاض كفاءة ادوات السياسة المالية والضريبية على منافذ التجارة الخارجية مما يسمح بحدوث حركتين سالبتين ضد ايقاع ضبط النقد الدولاري وسعر الصرف: سياسات الاغراق المتبعة من قبل الدول المحاصرة ما يزيد في الطلب على الدولار . خروج نسبة كبيرة من كتلة الدولار النقدي للدول المذكورة آنفا. انخفاض امتثال بعض المصارف لادوات الرقابة المالية والنقدية بالشكل الذي تنخفض معه قدرة السياسة النقديةعلى ضبط ايقاع التحويل المالي وبيع الدولار. ضعف مخرجات التنسيق بين السياستين المالية والنقدية : ان عدم تطبيق القوانين الداعمة لسياسة الحماية التجارية ومنها قانون التعرفة الكمركية وقانون حماية المنتج المحلي وقانون المنافسة ومنع الاحتكار وقانون حماية المستهلك، والتي تُعد من أهم الخطوات لفاعلية السياسة النقدية وتمكينها من أداء وظائفها تجاه هدف الاستقرار في المستوى العام للاسعار. تذبذب حركة تدفق مستحقات الايراد الدولاري لصادرات النفط من حساب العراق الدائن وحدوث بعض الاختناقات التي تؤثر سلبا على عرض الدولار.
لذا فان استمرار تعرض السوق لتقلبات صدمات الصرف الاجنبي انما يظهر انخفاض درجة استجابة نظام الصرف لادوات السياسة النقدية ، فاذا ما استمر انتقال سعر الصرف الى ما بعد عتبة 1600 فان من المتوقع ان يؤثر التضخم تأثيرا أكثر على دورة الدخل وسلوكيات الوحدات الاقتصادية وحركة الاستهلاك والاستثمار والادخار مما يؤدي ذلك الى اعادة تقييم ميزانياتها العمومية تبعا لتغيرات التضخم .الامر الذي سينعكس على جميع مفاصل الحياة الاقتصادية فاستمرار الارتفاع في التضخم معناه سيادة التوقعات التضخمية التي تغذي ارتفاعات اخرى مما يعمق من المشكلة.
وعلى الرغم من الاجراءات المتعددة والمستمرة المتبعة من قبل البنك المركزي تجاه تقييد حركة الدولار حول المستهدف ورفع استجابة نظام الصرف لادواته النقدية ، فان مؤشر التضخم مازال مرتفعا مما يعني ان الاستجابة مازالت منخفضة ، بسبب كون الاقتصاد يحتاج الى تظافر سياسات عدة لاجل تهدئة واستقرارالتضخم عند المستهدف.
لذا لايمكن للسلطة النقدية وحدها ان تتمكن من تطويق نطاق المشكلة، بل يتطلب تنسيقا مع السياسات الاخرى ذات العلاقة ، لتصحيح درجة في منظورالسياسات الاقتصادية الكلية واعتماد خطة حكومية بمسار قصير الامد والآخر متوسط الامد تحد من الصدمات المتكررة وتبلغ هدف تقليل فجوة الصرف بين السعرين الفعلي والمستهدف، طبقا للاشارات الآتية:
تخفيض فجوة الطلب على الدولار، من خلال استحداث بدائل فاعلة لتحقيق التوازن بين عرض الدولار والطلب عليه في ظل تدقيق وفحص حركة الحوالات عبرالاعتمادات المستندية طبقا للمنصة الالكترونية وتدقيق حركة الدولار النقدي . تطوير اداء اذرع السياسة المالية عبر احكام منافذ حركة التجارة الخارجية وفحص وتنظيم عمليات الاستيراد بالضوابط واللوائح الكمركية التي من شانها ان تحد من ظاهرة الاغراق السلعي ومنه رفع مرونة الاستيراد تجاه بضائع الدول المحاصرة ، لدعم المنتج المحلي، او لتحويل مسار جزء من التجارة بعيدا عن تلك الدول .من ثم العمل على خفض تاثير المتغير الخارجي بزيادة الاستجابة لسياسات الفيدرالي وحزمة الشروط المالية المقترحة على الحكومة للتضييق على نشاطات تهريب الدولار وتعزيز شفافية نشاطات التحويل الدولي. الحفاظ على معدل تدفق مستحقات الايراد النفطي ضمن معدلها الطبيعي من حساب العراق الدائن لتلافي الاختناقات المتكررة، من خلال اعادة تنظيم المنظورالعملي للسياسة الاقتصادية الكلية وسياسة الفيدرالي.المصدر: وكالة الإقتصاد نيوز
كلمات دلالية: كل الأخبار كل الأخبار آخر الأخـبـار
إقرأ أيضاً:
السياسة الأمريكية تجاه السودان: من صراعات الماضي إلى حسابات الجمهوريين الباردة
شهدت العلاقة بين الولايات المتحدة والسودان محطات متباينة عبر التاريخ، حيث تأرجحت بين الانخراط الدبلوماسي والعقوبات الاقتصادية، وكان السودان دائمًا في موقع حساس داخل الاستراتيجية الأمريكية تجاه إفريقيا والشرق الأوسط. منذ استقلال السودان، تعاملت واشنطن معه وفق اعتبارات الحرب الباردة، فكانت تدعمه حين يكون في المعسكر الغربي، وتضغط عليه حين يميل نحو المعسكر الشرقي أو يتبنى سياسات معادية لمصالحها. خلال السبعينيات، دعمت إدارة نيكسون والرؤساء الجمهوريون الذين جاؤوا بعده نظام جعفر نميري، خاصة بعد أن طرد الأخير الخبراء السوفييت وتحول إلى التحالف مع الغرب، لكن هذا الدعم لم يكن بلا مقابل، فقد جاء مشروطًا بفتح السودان أمام المصالح الأمريكية، سواء في ملفات الاقتصاد أو الأمن الإقليمي.
مع وصول الإسلاميين إلى السلطة عام 1989 بقيادة عمر البشير، دخل السودان في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة، خاصة بعد استضافته لأسامة بن لادن وجماعات إسلامية أخرى، وهو ما أدى إلى تصنيفه دولة راعية للإرهاب في 1993. العقوبات الاقتصادية التي فرضتها واشنطن عزلت السودان دوليًا، لكنها في ذات الوقت لم تمنع النظام من بناء تحالفات بديلة مع الصين وروسيا وإيران، ما جعل السودان يتحول إلى ساحة مواجهة غير مباشرة بين القوى الكبرى. ومع اشتداد الحرب في جنوب السودان، لعبت الولايات المتحدة دورًا غير مباشر في دعم المتمردين، وهو ما قاد إلى اتفاق السلام في 2005 الذي مهّد لانفصال الجنوب عام 2011. غير أن واشنطن، ورغم دورها الحاسم في تقسيم السودان، لم تفِ بوعودها تجاه الخرطوم، إذ استمر الحصار الاقتصادي لسنوات طويلة بعد الانفصال، ما زاد من تعقيد المشهد الداخلي وأدى إلى أزمات اقتصادية وسياسية عميقة.
خلال فترة حكم دونالد ترامب، تغيرت الاستراتيجية الأمريكية تجاه السودان من المواجهة المباشرة إلى نهج "المقايضة"، حيث تم ربط أي انفتاح أمريكي بمدى استعداد السودان لتقديم تنازلات سياسية وأمنية، وكان أبرز الأمثلة على ذلك اشتراط واشنطن تطبيع العلاقات مع إسرائيل مقابل إزالة السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب في 2020. هذا النهج عكس طبيعة السياسة الخارجية لإدارة ترامب التي قامت على البراغماتية المطلقة، بعيدًا عن أي التزامات أخلاقية أو ديمقراطية. هذه الواقعية الصارمة قد تعود مجددًا في حال وصول الجمهوريين إلى السلطة مرة أخرى، مما يعني أن تعامل الولايات المتحدة مع السودان سيكون محكومًا باعتبارات المصالح الجيوسياسية وليس بدعم التحول الديمقراطي.
من المرجح أن تعتمد الإدارة الجمهورية القادمة، سواء بقيادة ترامب أو أي بديل آخر، على سياسة المقايضة بدلًا من الدبلوماسية التقليدية. السودان قد يجد نفسه أمام معادلة واضحة: ماذا يمكنه أن يقدم مقابل الدعم الأمريكي؟ في ظل هذه البراغماتية، فإن القوى المدنية التي لا تمتلك أدوات ضغط حقيقية قد يتم تجاهلها، فيما يتم التركيز على الفاعلين العسكريين باعتبارهم الأقدر على فرض الاستقرار، حتى لو كان ذلك على حساب التحول الديمقراطي. كذلك فإن الإدارة الجمهورية قد تستخدم العقوبات بشكل انتقائي، فتضغط على قوات الدعم السريع باعتبارها مرتبطة بروسيا وفاغنر، بينما تغض الطرف عن الانتهاكات التي يرتكبها الجيش السوداني إذا كان ذلك يخدم المصالح الأمريكية في الإقليم.
التحالفات الإقليمية ستكون أيضًا محورًا أساسيًا في الاستراتيجية الأمريكية تجاه السودان، إذ من المتوقع أن تتعامل واشنطن مع الملف السوداني عبر قنوات غير مباشرة، مثل مصر والإمارات، بدلًا من التدخل المباشر. هذه المقاربة قد تؤدي إلى صفقات سرية تعيد ترتيب الأوضاع بما يخدم القوى العسكرية المدعومة من هذه الدول، وهو ما سيجعل أي حل سياسي محتمل بعيدًا عن التوافق الوطني الحقيقي. في سياق أوسع، فإن السودان قد يتحول إلى ورقة ضغط في الصراع بين الولايات المتحدة وروسيا، حيث قد تسعى واشنطن إلى منع موسكو من توسيع نفوذها في البحر الأحمر عبر قاعدة بورتسودان، كما قد تستخدم الأزمة السودانية للضغط على الصين التي تمتلك استثمارات ضخمة في البلاد.
المسألة الأكثر حساسية في العلاقة بين السودان والإدارة الجمهورية القادمة ستكون ملف إسرائيل، إذ أن واشنطن قد تربط أي دعم سياسي أو اقتصادي بمزيد من التنازلات السودانية تجاه تل أبيب، سواء من حيث التعاون الأمني أو الاقتصادي. ترامب، في ولايته الأولى، استخدم سياسة فرض التطبيع كشرط مسبق للدعم، ومن المرجح أن يعود إلى نفس الأسلوب إذا فاز بولاية ثانية. هذه السياسة قد تضع السودان في مأزق داخلي، حيث أن التطبيع ما زال ملفًا خلافيًا في الساحة السودانية، ما يعني أن أي ضغط أمريكي في هذا الاتجاه قد يفاقم التوترات الداخلية.
في النهاية، فإن مستقبل العلاقة بين السودان والولايات المتحدة في ظل الجمهوريين سيتحدد وفق معادلة المصالح البحتة، بعيدًا عن أي التزام بدعم الديمقراطية أو الاستقرار طويل الأمد. واشنطن قد تدعم حلًا عسكريًا سريعًا للأزمة السودانية إذا كان ذلك يخدم مصالحها الإقليمية، لكنها لن تلتزم بمساعدة السودان على بناء نظام سياسي مستدام. كما أن السودان قد يجد نفسه في قلب صراع بين القوى الكبرى، حيث تسعى واشنطن إلى احتوائه ضمن استراتيجيتها لمواجهة النفوذ الروسي والصيني، مما قد يعقد الأزمة أكثر بدلًا من حلها. في ظل هذه التعقيدات، فإن السودان سيكون أمام خيارات صعبة، إما الخضوع للضغوط الخارجية وقبول حلول مفروضة، أو مواجهة سيناريو صراع طويل الأمد يعمّق أزماته السياسية والاقتصادية.
zuhair.osman@aol.com