دارفور وكردفان كانتا وما تزالا الرافد الحيوي للحراك الوطني السوداني منذ اندلاع الثورة الوطنية الأولى، فاذا ما عطس الاقليمان أصيبت الخرطوم بالزكام وربما الكورونا، فالمراقب لحركة الفعل السياسي والعسكري في الإقليمين المثيرين للجدل، يلحظ قوة الدفع العظمى التي يتمتع بها هذان الجزءان الممتدان من جغرافيا وديموغرافيا السودان، فعند حدوث التحولات الكبرى نرى هذين الجزئين ماثلين في الأحداث الكبرى المحددة لاتجاهات بوصلة الوطن الأم، ويأتي دورهما التاريخي في كونهما يعتبران المخزون الأول للمورد البشري والاقتصادي بالنسبة للدولة، فكان لهذين العاملين التأثير الفاعل في حسم المعارك التي تدور بين المتنافسين على السلطة المركزية، سواء كانت المنافسة الشريفة (الديمقراطية)، أو غير ذلك ( القاعدة العسكرية)، وللأسف تعاملت النخبة والصفوة الحاكمة بعد الاستقلال مع هذا المحزون البشري والمادي باستغلالية وانتهازية مشهودة، فلم يصحو ضمير النخبة لتعير بالاً للجوانب التنموية الريفية، وجعلت الاقليمين مجرد حدائق وزرائب خلفية تؤمن الغذاء ومردودات التجارة، لحفنة من الأفندية امتصوا طاقات شباب الريف لسنوات تجاوزت الستين، وحصروا المنفعة الاقتصادية في مركز البلاد ما أدى إلى الهجرات الجماعية للعاصمة وعواصم أقاليم أواسط السودان، ولم يدر بخلد المترفين أن التنمية المتوازنة هي أساس الاستقرار السياسي والاجتماعي.
ما أضر باستقرار المجتمعات السودانية هو استمراء النخب السياسية لممارسة سياسة فرق تسد الاستعمارية، فجعلوا من الصراع السياسي مدخلاً للحروب الأهلية، حيث أدى التضييق السياسي والديني بسكان جنوب السودان للاكتواء بنار الحرب منذ ما قبل الاستقلال منتصف القرن الفائت، وحتى مدخل الألفية الثالثة، الحرب التي استنزفت الموردين البشري والاقتصادي، وفي نهاية المطاف أجبرت الجنوب الحبيب على الذهاب لحال سبيله، فلم تتعظ الصفوة من خطيئة فصل الوطن، وتمادت في إحداث الفوضى الدستورية والعشوائية الإدارية، فتمددت رقعة الحرب الى اقاليم دارفور وكردفان والنيل الأزرق، ومثلما فعل جهاز الدولة المتحكم عليه بأقلية لا تتجاوز أصابع اليدين والقدمين، لم يتورع دهاقنة الحكم المركزي الباطش من الاستمرار في شن الغارات الجوية، على القرى والسكان الريفيين بهذه الأقاليم، إلى أن جاء القرار الجمعي للشعوب السودانية في ديسمبر الشهير، فانحنت الصفوة لعبور عواصف وأعاصير التسونامي الديسمبري، ثم اجهزت على جنين الثورة الوليد بعد حين، لكن إرادة الريفيين لا تقهر، فما فتئوا أن انقضّوا على الصفوة منتصف ابريل من العام الحالي، حينما أخذ التجبر والتكبر مأخذاً من النخبة، فقررت إبادة الريفيين إبادة لا إنسانية عنيفة وبشعة، بالتآمر مع بعض الدوائر الإقليمية لحرق القوة العسكرية للريفيين التي أعانت ذات النخبة في يوم ما على الثبات على الكرسي.
من سوء حظ الصفوة القليلة العدد أنها لم تقرأ تاريخ الإقليمين، الذين ينحدر منهما الريفيون المدججون بالسلاح تحت راية حماية الوطن، ولم تستفد الصفوة من دروس الثورة الأولى التي انطلقت من جبل قدير، فوقعت في شر أعمالها، وانقلب السحر عليها، وحدث ما حدث، لم يستطع غرور المنظرين الكبار للمعتدين المختطفين لقرار المؤسسة العسكرية، أن يكبح جماح المنحدرين من أصلاب أبطال الثورة الأولى، فأعاد التاريخ معارك شيكان والجزيرة أبا وفتح الخرطوم، مع اختلاف طفيف بين أعداء اليوم وأغراب الأمس، فاليوم يقاتل الوطنيون الأحرار عملاء المستعمر الأول الذي قضى على الثورة والدولة الأولى، وكذلك اليوم يتحصن العملاء بقلاع الجهوية والكراهية الصارخة، في سبيل دحر من أطلقوا عليهم العابرين للحدود الغربية، إمعاناً من الصفوة في حفر وتعميق المزيد من الجراح بين شعوب الوطن الإفريقي الواحد، لم يتخلص الصفويون من عقدة المستعمر، فتماهوا مع سلوكه وتبنوا لؤمه وخبثه، فكرّسوا للفصام المجتمعي ومازالوا، بين المكونات السكانية التي جمعتها الممالك القديمة والسلطنات العريقة المتجاورة والمتعاونة في السراء والضراء، وكما قاد اقليما دارفور وكردفان ثورة التحرير الأولى، ها هما الآن يقدمان الأنموذج السابق فداءً لضحايا جيش دويلة الصفوة الذي أسسه المستعمر، وبشريات النصر قد رفعت راياتها في مدن كردفان ودارفور، إيذاناً بانطلاقة ثورة التحرير الثانية، ومن جبل قدير أيضاً.
إسماعيل عبدالله
2نوفمبر2023
ismeel1@hotmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: دارفور وکردفان
إقرأ أيضاً:
السلم الاجتماعي في مرحلة ما بعد الحرب
على فراشِ الموت
يرسمُ الوطن خارطةً جديدة.
لكن الخطوط ترتعش،
كأنها تخشى أن تكون بدايةً،
لنهايةٍ أخرى.
(قصيدة: وطن معلق على حافة النسيان للشاعر ادوارد كورنيليو)
في مرحلة ما بعد الحرب، تبرز أهمية السلم الأهلي والاجتماعي كأولوية قصوى لإعادة بناء المجتمع والدولة في السودان، لا سيما في دارفور، حيث مزقت الحرب النسيج الاجتماعي وأضعفت الثقة بين المكونات السكانية. ولأن الدولة المركزية ومؤسساتها الرسمية (superstructure) باتت عاجزة، أو غير موجودة عملياً، في أغلب مناطق النزاع، فإن العبء الأكبر يجب أن تتحمله الإدارات الأهلية، كجزء من البنية التحتية الاجتماعية (substructure) التي ما زالت تتمتع بشرعية اجتماعية وقدرة على الوساطة والتأثير المحلي.
يمكن لآلية تقودها الإدارات الأهلية، إذا ما توفر لها الإطار الأخلاقي والمنهجي السليم، أن تلعب دوراً محورياً في رأب الصدع، خصوصاً في ملف دار مساليت الذي أصبح جرحاً مفتوحاً قابلاً للاستغلال من قبل أطراف متعددة. فبينما تعمدت بعض النخب المركزية على مدار عقود إلى بث الفتن بين مكونات المنطقة، ها هي اليوم تعمل على تجنيد شباب المساليت لأغراض التعبئة القبلية، وليس من أجل نزع الألغام المجتمعية والسياسية التي ظلت الاستخبارات العسكرية تستزرعها بوعي ممنهج.
أما الجهات الغربية، فقد اختزلت ما جرى في دار مساليت في سردية الإبادة الجماعية، متناسية أن الجريمة وقعت نتيجة لصراعات مركبة غذتها الدولة المركزية وأدارتها ضمن سياسة “فرّق تسد”، فتمّت عسكرة الهوية وتسييسها من أجل إضعاف أي إمكانية لبناء تحالفات محلية قادرة على فرض معادلة حكم عادلة أو إحداث اختراقات تنموية ذات طابع جهوي.
ولا يغيب عن أي متابع لتاريخ دارفور السياسي والاجتماعي التداخل العميق بين السودان وتشاد، خاصة في البعد العسكري. فزغاوة دارفور هم من اقتلعوا حسين هبري ومكّنوا إدريس دبي من الحكم، ومع ذلك فإن زغاوة تشاد اليوم يتحفظون على دعم مني أركو مناوي وجبريل إبراهيم، لسببين اثنين: أولاً، إدراكهم أن النخب العسكرية في المركز تريدها حرباً قبلية تُضعف الزغاوة والزرقة معاً وتخرجهم من معادلة الحكم. وثانياً، لعلمهم أن جبريل ومني لا يمثلان الهامش بصدق، فقد قبض الأول ثمن صفقة أبوجا ورهن نفسه لتجار الحروب، بينما استخدم الثاني حركة العدل والمساواة كأداة لتنفيذ أجندة الإسلاميين، لا سيما خلال تحالفه مع خليل إبراهيم الذي أدخل دارفور في أتون صراع لصالح مركز الخرطوم، لا لصالح أبنائها.
اليوم، دفعت ذات الحركة الإسلامية بالكادر التنظيمي صالح عبد الله، رئيس مجلس شورى الزغاوة، بهدف توظيف فصيلي جبريل ومناوي واستخدامهما لتفجير صراع بين أهل دارفور، وهو صراع لا يخدم الزغاوة بل يخدم المركز، وتحديدًا يخدم "عصابة الإنقاذ" التي تسعى للهيمنة على أي محاولة لبناء كتلة سياسية جديدة تنطلق من الهامش.
ما لم تعمل النخب الواعية بقضايا الدولة وأسس البناء السياسي على رأب الصدع بين مستويات الحكم والسلطة، بين الـsuperstructure والـsubstructure، فإننا نخاطر بإعادة إنتاج دولة فاشلة. ومجرد انفصال دارفور أو أي إقليم آخر عن السودان لا يضمن بالضرورة الخلاص من أمراض الفساد والاستبداد، ما لم تكن هناك مراجعات حقيقية للمنظومة السياسية والقيمية التي زرعها نظام الإنقاذ وأدمنتها نخب ما بعد الإنقاذ.
الحذر كل الحذر من اختزال تحرير الفاشر في كونه مناجذة قبلية، بل هذه انتفاضة شعبية يجب أن تعقبها مساومة تاريخية تقيم لكل قبيلة وزنها من مساهمتها في التنمية والسلام الأهلي والاجتماعي. هنالك دور مهم يجب أن تقوم به نخب الرزيقات والزغاوة خاصة، سيما أنهما الكيانان اللذان تم استغلالهما وتوظيفهما من قبل المركز العروبي الإسلامي، ولذا فهما يتحملان مسؤولية أكبر في محاولتهما لخلق السلام ورتق النسيج الاجتماعي.
وإذا ما ورثت حكومة التأسيس القادمة نظام المحاصصة الراهن، فإنها ستخفق في استقطاب الكادر المؤهل القادر على بناء الدولة، وسندخل ذات الدائرة الشريرة التي غرقت فيها دولة جنوب السودان. لا بد من تجاوز معيار كبر القبيلة أو صغرها، والانحياز بدلاً من ذلك إلى معيار العدالة والمشروعية، وتأسيس بنية قاعدية تشجع على الانتقال التدريجي من الوعي القبلي إلى الممارسة المدنية.
وإذ تعمد بعض نخب المركز إلى الدفع نحو خيار الانفصال لإحساسها بأن الكفة الديمغرافية والاقتصادية لم تعد في صالحها، فإن المطلوب اليوم هو مقاومة هذا الاتجاه الضيق، والانخراط في مشروع وطني يغلّب الخيار المدني الديمقراطي. فغرب السودان يمتلك الموارد البشرية والمادية، لكن عليه ألا يركن فقط إلى منطق السلاح، بل أن يقود مسار التحول الديمقراطي، مسلحاً بالفكر والرؤية الأخلاقية والسياسية العميقة.
auwaab@gmail.com