الكتاب: التطهير العرقي في فلسطين
الكاتب: إيلان بابه
الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بط1، بيروت لبنان 2007.
عدد الصفحات: 396 صفحة


ـ1 ـ

جاء في تعريف مؤسسة الدراسات الفلسطينية الناشرة لكتاب " التطهير العرقي في فلسطين "أن "الحرب الفلسطينية ـ الإسرائيلية سنة 1948 هي في نظر الإسرائيليين "حرب الاستقلال"، بينما بالنسبة إلى الفلسطينيين ستظل إلى الأبد النكبة.

فبالإضافة إلى نشوء دولة إسرائيل أدت الحرب إلى واحد من أكبر التهجيرات القسرية في التاريخ الحديث إذ طرد نحو مليون نسمة من بيوتهم بقوة السلاح، وارتكبت مجازر بحق المدنيين ودمرت مئات من القرى الفلسطينية عمداً. ومع أن الحقيقة بشأن الطرد الجماعي الهائل شوهت وجرى طمسها بصورة منهجية فإنه لو كان حدث في القرن الحادي والعشرين لكان سمي "تطهيراً عرقياً.  ويعمل الأكاديمي البارز إيلان بابه كاتب الأثر،  إلى إقناع الرأي العام الدولي بأنّ ما حدث لا يمكن إلا أن يصنّف ضمن دائرة التطهير العرقي ويدعوه إلى ممارسة دوره ليُعامل الجناة باعتبارهم مجرمي حرب.

ـ2 ـ

ليسلط الضوء على جرائم إسرائيل، يعالج المسألة من داخل الفكر اليهودي نفسه. فيذكر أنّ أرض فلسطين، كما تسمى في الديانة اليهودية، كانت دائما محلّ تبجيل اليهود على مر القرون بصفتها قبلة حج ولم يكن يدور بخلدهم قط أن تكون مكاناً لدولة علمانية مستقبلية. فالدين والتراث اليهودي يأمرانهم بانتظار مجيء المسيح المنتظر في نهاية الزمن، ليعودوا إلى أرض إسرائيل شعبا يتمتع بالسيادة في دولة دينية يهودية.

ولم يعد المسيح لكن بريطانيا أوجدته في شكل وعد بلفور مستغلة الصهيونية الناشئة وقتها. فقد برزت هذه الحمّى في أواخر الثمانينيات من القرن التاسع عشر في أوروبا الوسطى وأوروبا الشرقية ثم توسعت لتشمل كامل القارة، فكانت حركة إحياء قومي ناشئ عمّا كانوا يواجهونه هناك من ضغط متنام يخيّرهم بين الاندماج الكامل في القيم المسيحية أو تعرضهم للاضطهاد. ومن البديهي أنّ دولة جديدة بشعب جديد لن تقوم دون محو شعب وفسخ تاريخه وتطهير الأرض عرقيا.

لا يخفي الكاتب وهو يقدّم أثره، أنه لا يعرض جرائم التطهير العرقي الإسرائيلية جمعا وتنظيما وتفسيرا، بروح المؤرخ بقدر ما يعلن التزامه بقضية ودفاعه عن حقوق، فيذكر في مستهلّه:  "هذا الكتاب ليس مكرساً رسمياً لأحد، وقد كتب أولاً وقبل كل شيء من أجل الفلسطينيين، ضحايا التطهير العرقي في سنة 1948، وكثيرون منهم أصدقاء ورفاق، وكثيرون غيرهم أجهل أسماءهم، لكن منذ يوم عرفت عن النكبة رافقتني معاناتهم وفقدانهم وآمالهم. وعندما يعودون فقط سأشعر بأن هذا الفصل من النكبة بلغ أخيراً النهاية التي نرجوها، والتي من شأنها أن تتيح لنا جميعاً العيش في سلام وانسجام في فلسطين".

ـ 3 ـ

ظهر تعبير "التطهير العرقي" إبان الحرب العالمية الثانية. فقد استخدمه النازيون وحلفاؤهم في يوغسلافيا، كالميليشيات الكرواتية. ولكن لا شكّ أنّ الطرد الجماعي لأصاحب الأرض من قبل الغزاة ظاهرة قديمة جدّا تعود بداياتها إلى زمن التوراة ويستمرّ حتى أيامنا هذه. فهو سياسة ممنهجة لدى مجموعة معينة من الأشخاص تهدف إلى إزالة مجموعة أخرى من أرض معينة، على أساس ديني أو عرقي أو قومي. فتعرّفه موسوعة هاتشينسون بكونه طردا بالقوة لسكّان من عرق معيّن (أو أكثر) من أجل إيجاد تجانس عرقي في إقليم أو أرض يقطن فيها سكان من أعراق متعددة. ويعمل مدبّروه على ترحيل أكبر عدد ممكن من السكان بكل الوسائل المتاحة بما في ذلك التمييز والإبادة أو الوسائل غير العنيفة. وما يميّز عنفه دعم القوات النظامية التي تؤازر مدنيين في تنفيذ خطط التهجير والاستيلاء على ممتلكات هؤلاء السكان الأصليين من منطلقات إيديولوجية قومية.

وينطوي كل تطهير عرقي على انتهاك لحقوق الإنسان والقانون الدولي كاتفاقيات جنيف لسنة 1949، أو البروتوكولات الإضافية لسنة 1977. ويصنّف في المعاهدات الدولية بكونه جريمة ضد الإنسانية، كما في المعاهدة التي قامت على أساسها المحكمة الجنائية الدولية ، وسواء أكانت الجريمة المزعومة أم معترفاً بها تماماً، ويخضع للمحاكمة، وقد أنشئت محكمة جنائية دولية خاصة به في لاهاي.

يؤكد الكاتب أنّ هذا التعريف يحظى بقبول وزارة الخارجية الأميركية التي تؤكد أنّه لا يحدث إلا بتواطؤ جهات تمتلك نفوذ السلطة وقوة السلاح. ويبقى هدفه الأكبر هو اقتلاع تاريخ الإقليم المعني بكل الوسائل الممكنة، لذلك فهو ينتهي دائما إلى خلق مشكلة لاجئين. وتذكر وزارة الخارجية الأميركية ما حدث في شهر ماي 1999 في مدينة بيك في كوسوفو الغربية من إخلاء هذه المدينة في غضون 24 ساعة مثالا على ذلك. وصادر على أنّ مثل هذا العمل لا يمكن إنجازه دون تخطيط مسبق تنخرط فيه جهات سياسية وعسكرية.

ـ 4 ـ

ولمّا كانت إسرائيل تنكر باستمرار ارتكابها لعمليات تطهير عرقي، عمل هذا الكتاب على تعريف التطهير العرقي من مصادر عديدة ووصله بالوقائع والقوانين الدولية والمفاهيم تورطها. فكان يقف عند التطابق بين ما تذهب إليه التعريفات في سياقات عامّة وما يرتكبه الإسرائيليون. فأهم الدراسات وأوسعها اشتمالاً تربط التطهير العرقي بإنشاء الدول الجديدة على أساس قومي. وهذا ما قامت عليه دولة إسرائيل ووظفت في سبيله الخطة الإسرائيلية داليت (أو د)، وهي خطة وضعتها منظمة الهاجاناه في فلسطين بين خريف 1947 وربيع 1948 وأُقرت في سنة 1948، وكانت تهدف إلى تأمين تأسيس دولة يهودية في فلسطين، عبر السيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي الفلسطينة وطرد أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين وفرض سياسة الأمر الواقع على الأرض.

فقد جاء في الأوامر للألوية بالانطلاق في العملية ما يلي: «سوف تنتقلون إلى الحالة دالت من أجل التنفيذ العملي للخطة.. سيتم تحديد القرى التي يجب احتلالها وتطهيرها أو تدميرها بالتشاور مع مستشاريكم في الشؤون العربية وضباط الاستخبارات"  فيما كانت تقتضي في الأصل أن يعرض على القرى خيار الاستسلام. فلم تستثن قرية من هذا التدمير والتهجير. ثم يأخذ في عرض مخطط التطهير العرقي وتنفيذه في نحشون ودیر یاسین وتدمير المدن الفلسطينية وتطهير حيفا من العرب وعكا وبيسان ويافا وتحويل القدس إلى مدينة أشباح..

ـ 5 ـ

ولأنه أكاديمي بارز انتهى إلى عرض مثال يختزل المأساة الفلسطينية كلّها. فيجد  في "البيت الأخضر" صورة مصغرة لإنكار الخطة الصهيونية الرئيسية لتطهير فلسطين عرقياً: يشير بكثير من السخرية إلى جامعة تل أبيب التي تقدّم نفسها باعتبارها مؤسسة مخلصة لحرية البحث الأكاديمي. ويذكّر بأن المقر الذي يضمّ الإدارة ونادي هيئة التدريس يسمّى ب"البيت الأخضر". وهو في الأصل بيت مختار قرية الشيخ مؤنس، ولكن المرء لن تكون قادراً أبداً على معرفة الكثير عن تاريخ هذه البناية، باستثناء إشارات عامة إلى أنّ المكان قد بني في القرن التاسع عشر. فيظلّ مالكه الأصلي شخصا خياليا عديم الملامح شبيها بكل السّكان الأصليين من عديمي الملامح الذين كانوا يعيشون ذات مرة في القرية المدمرة، التي بنيت جامعة تل أبيب على أنقاضها.

يستند الباحث إلى بحوث تكشف بوضوح أن جذور مفهوم الترحيل عميقة جداً في الفكر السياسي الصهيوني، وأنّ تطهير الأرض من سكانها الأصليين كان "خيارا شرعيّا" لدى القادة الرئيسيين للمشروع الصهيوني في فلسطين.ويتساءل ضمن أسلوبه السّاخر: هل أنّ جامعة تل أبيب مخلصة للبحث الأكاديمي السليم فعلا؟ فـ:

ـ المشاريع الاقتصادية الخاصة، والمصارف، والمقاهي والمطاعم والورشات والصيدليات والفنادق وشركات حافلات الركاب كلّها كانت ملكاً للفلسطينيين ، فهل قدّر علماء الاقتصاد فيها  قيمة الأملاك في دمار 1918 كي يوفروا قائمة يمكن أن تساعد مفاوضين مستقبليين على بدء العمل من أجل السلام والمصالحة؟.

ـ وأراضي اللاجئين التي صادرتها إسرائيل تعدّ بملايين الدونمات من الأرض المزروعة. فهل عمل الباحثون في الجغرافيا على رسم خريطة موضوعية تبين تلك المساحات؟

ـ والمصادر المختلفة والأرشيفات العسكرية والشهادات الشفهية الإسرائيلية، تثبت حدوث إحدى وثلاثين مجزرة مؤكدة حتى يناير 1949 ولديهم امتياز الاطلاع على الوثائق الرسمية العسكرية والحكومية والمادة الأرشيفية اللازمة لذلك، فهل في إمكان أساتذة الفلسفة في الجامعة أن يفكروا ملياً في المضامين الأخلاقية للمجازر التي ارتكبتها القوات اليهودية في أثناء النكبة؟

ينتهي إلى أنّ الجامعة التي يفترض أن تنتج المعرفة الحق المحايدة تسقط في دائرة الزيف وأنّ الأكاديميين المزيفين يبدون مطمئنين لتوظيف معارفهم في خدمة الأيديولوجيا المهيمنة، فيصفون جرائم 1948 بأنها حرب الاستقلال، ويمجدون الجنود والضباط اليهود الذين شاركوا فيها، ويجدون في إجرامهم أعمالا بطولية وبالمقابل يحطون من قدر الضحايا.

ـ 6 ـ

ربما يندهش البعض من كون جرائم التطهير العرقي هذه قد نسيت تماماً ومحيت من العقول والذاكرة. أما الباحث فلا يجد في ذلك أمرا غريبا. فالأيديولوجيا التي أدت إلى طرد نصف سكان فلسطين الأصليين إثر النكبة لا تزال قائمة إلى اليوم. ولا تنفكّ تدفع إلى طرد من بقي منهم بلا رحمة. والأدهى أنّ بعضها يتمّ أحياناً بطريقة غير مرئية والسبب في ذلك يرجع في تقديره إلى تعويل الإسرائيليين في المراحل السابقة للتطهير العرقي إلى ابتكار لغة جديدة تحجب النتائج المدمرة لممارساتها وتنجح في جعل الرأي العام الدولي يتكلمها. فتبدأ بتعابير ملطفة واضحة مثل انسحابات و"إعادة انتشاره للقوات". ثمّ يستمرّ هذا التمويه بمسميات مضللة أقل وضوحاً، مثل «احتلال»، فتُصور أقاليم من الأراضي الفلسطيني  بكونها "محررة"، أو "مستقلة"، أو أن معظم فلسطين ليس واقعاً تحت احتلال عسكري مباشر، كما الأمر في قطاع غزة بعد الانسحاب الإسرائيلي. وهم بذلك يحولون دون المحامين المدافعين عن حقوق الإنسان لمنعهم حماية سكانه. فيخرجون ضحاياهم هكذا من نطاق المواثيق الدولية المتعلقة بالاحتلال العسكري.

وإجمالا فالخلاصة العامة التي ينتهي إليها الكاتب هي أن التطهير العرقي يظل أولوية إسرائيلية تعمل وفق طريقة ممنهجة. فتشمل كلّ الفلسطينيين. فأهل بيت المقدس مثلا يتعرضون لتطهير عرقي شأنهم شأن الذين يعيشون بالقرب من جدار الفصل العنصري أما أولئك الذين يعيشون في وهم أنهم آمنون من عرب 1948 فيصبحون هدفاً المستقبل. وقد أعرب 86 في المائة من اليهود الإسرائيليين عن رغبتهم في التخلّص منهم.

ـ 7 ـ

يستند الباحث إلى بحوث تكشف بوضوح أن جذور مفهوم الترحيل عميقة جداً في الفكر السياسي الصهيوني، وأنّ تطهير الأرض من سكانها الأصليين كان "خيارا شرعيّا" لدى القادة الرئيسيين للمشروع الصهيوني في فلسطين. ومن هذه الخلفية تبنّى ليو موتسكين، في سنة 1917 تصوّرا يرى أن استعمار فلسطين يجب أن يسير في اتجاهين: استيطان اليهود في أرض إسرائيل، وإعادة توطين عرب أرض إسرائيل في أراض خارج البلد.

ولمواجهة هذا الانحراف الثقافي يدعو هذا الإسرائيلي المتحرّر من عمى الإيديولوجيا والمتصالح مع إنسانيته ومع صفته الأكاديمية إلى تجذير التطهير العرقي التي يحدث في فلسطين في الذاكرة والوعي بصفته جرائم ضد الإنسانية، خاصّة أنّ مرتكبيه ليسوا مجهولين. فهم  مجموعة محددة يُمجّدون ويُشار إليهم باعتبارهم أبطال حرب الاستقلال، و"أسماؤهم مألوفة جداً لدى معظم القراء والقائمة تبدأ بزعيم الحركة الصهيونية غير المنازع في زعامته، دافيد بن ـ طوريون، الذي نوقشت في منزله الخاص وحبكت نهائياً الفصول الأولى والأخيرة في قصة التطهير العرقي".

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب فلسطين عرض احتلال احتلال فلسطين كتاب عرض كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة التطهیر العرقی فی فلسطین عرقی فی من أجل

إقرأ أيضاً:

السلام على الأرض ومحبة تتجاوز الحدود .. الكنائس تحتفل بذكرى ميلاد السيد المسيح.. صلوات وقداسات في فلسطين وسوريا لوقف نزيف الحرب

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

في ظل ما تمر به منطقة الشرق الأوسط من نزاعات وحروب مدمرة، تأتي ذكرى ميلاد السيد المسيح هذا العام كرمزٍ للأمل والسلام وسط الظلام الذي يكتنف العديد من البلدان.. فبينما تعيش المنطقة تحديات جسيمة من حرب وصراع، تظل رسالة الميلاد التي حملها المسيح، منذ أكثر من ألفي عام، دعوة للتسامح والمحبة والإيمان بقوة النور في أحلك الظروف.

تحتفل الكنائس في مختلف دول الشرق الأوسط، من فلسطين إلى سوريا، لبنان، العراق، واليمن وغيرها من المناطق التي تمزقها النزاعات، بميلاد المسيح في الوقت الذي يعاني فيه العديد من أبناء هذه البلدان من الألم والدمار. ورغم كل ما يحيط بالمنطقة من مآس، تظل رسالة الميلاد ماثلة في قلوب المؤمنين: "السلام على الأرض" و"المحبة التي تتجاوز الحدود".

تأخذ هذه الذكرى طابعًا خاصًا في هذا السياق، حيث تجد الكنائس نفسها في دورٍ عميقٍ من التأثير الروحي، من خلال دعوتها للسلام، وترسيخ الأمل في النفوس، وتأكيد أن الميلاد ليس فقط حدثًا تاريخيًا، بل هو تذكير دائم بأن المحبة والرحمة هما السلاح الأقوى في مواجهة التحديات.

قال البطريرك يوحنا العاشر، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، ورئيس مجلس كنائس الشرق الأوسط عن العائلة الأرثوذكسيّة، "الشعوب اكتتبوا بأمر قيصر وأما نحن المؤمنين فقد كُتبنا باسم لاهوتك"، بهذه الكلمات وبلسان ناظمة التسابيح كاسياني تدعونا الكنيسة المقدسة إلى تأمل ميلاد المسيح. تدعونا للتأمل في تلك الأيام التي جرى فيها اكتتاب أو إحصاء المسكونة. تضع ذلك أمام أعيننا وتدعونا أن نكتتب قلباً وقالباً لاسم المسيح. تدعونا أن نكون له وحده، شهوداً لمحبته، شهوداً لعظم تنازله، شهوداً لإنجيله، و التي ما أنفت أن تتنازل لتخاطب جبلةً أحبت وبشريةً تهاوت في كبريائها فهوت من مجدها فوافاها مخلصاً يعيدها إلى المجد الأول.

وتابع البطريرك يوحنا العاشر: في بيت لحم الهاجعة على أنغام الرعاة جاءنا الساهر على الدنى من علياء مجده. جاءنا من أمٍّ عذراء التحفت الخفر والوداعة. جاءنا وديعاً يناجي الإنسانية الهاجعة في مغاور قلوبها والمتطلعة إلى نور قيامة وفيض رجاء.

واستطرد “العاشر”، من مغارةٍ في باطن الأرض أطل على البشرية الملتحفة بضعفها دثاراً وبكبريائها برقعاً. جاءها طفلاً يناجي أطفالها. جاءها متوسداً في حشا العذراء حشا كل ذهن بشري. أراد أن يلاقيها ببشارة الخلاص وهي التائهة في براري العتو والصلف. جاءها متواضعاً وهي التي شمخت بزيف كبريائها. دخلها مقتدراً كاسراً الأسوار وهي التي تدرعت بأسوار تجبرها وزيف قدرتها.

وفي كل عام تتذكر البشرية ميلاد ذاك الطفل وسط قعقعة حروبها ووسط حروبها التي لا تنتهي. وهي تذكره اليوم وهي تغلي بالحروب ونار الصراعات. تذكره اليوم وفي الذكرى مناجاة لرب السلام. تذكره بعيون كل طفل يتوق إلى سلامه. تذكره في الأرض التي ولد فيها ومن الشرق الذي حضن تلاميذه وأطلق إنجيله إلى كل العالم. تذكره وهي تفتقد حضوره في نشيد الملائكة مجداً لله في علاه وسلاماً على الأرض ومسرةً لبني الأنام. تذكره اليوم وفي الذكرى تلتمع تلك الحروب الآثمة التي تحصد الأرواح وتخطف بهجة الناس. تذكره وهي تتخبط في أوحال السياسة وفي وهاد المصالح التي تدوس كرامة الإنسان وتسلّعها في سوق كبار هذا الدهر.

ورغم كل هذا يبقى لنا الرجاء النابع من عيون ذاك الطفل الإلهي، من عيون طفل المغارة الذي نسأله اليوم الرأفة بعالمه كما ونسأله أيضاً من أجل هذه البشرية التي تترنح من مرارة حروبها وتتوق إلى رحيق سلامه. نسأله أن يطفئ نار الحروب بعذوبة سلامه وأن يضع في النفوس شيئاً من رويّته.

كن معنا يا يسوع ولامس قلبنا بعذوبة قلبك. كن معنا، كما أنت دوماً، وأنعم على بلادنا بروح سلامك. تعهد هذا الشرق الذي ولدت فيه واحفظه بفيض رأفتك. كن، كما أنت دوماً، مع إنسانك المعذب الذي يقاسي ويلات الحرب قتلاً وترهيباً وجوعاً ودماراً وتهجيراً وخطفاً. سكن يا رب هياج هذا العالم وأخمده بجبروت صمتك. أرح نفوس من سبقونا إلى لقيا وجهك القدوس.

البطريرك يوحنا العاشر

أما المطران الدكتور سني إبراهيم عازر؛ مطران الكنيسة الإنجيلية اللوثرية في الأردن والأراضي المقدسة قال: المولود هنا في بيت لحم، فلسطين، ليجلب النور لجميع البشر لاسيما في عالم تسوده النزاعات والاضطرابات.

ويأتي علينا عيد الميلاد المجيد مرة أخرى ونحن في حالة حداد وحزن على أهلنا في قطاع غزة الذين يواجهون الحرب والقتل والدمار حيث قُتل عشرات الآلاف من الرجال والنساء والأطفال، وسجن آلاف آخرين ظلمًا، إضافة إلى الأعداد التي لا حصر لها من الجرحى والمفقودين تحت الأنقاض أو في أماكن مجهولة، وملايين المشردين والنازحين الذين يتعرضون للمجاعة والأوبئة والامراض، ويعانون برد شتاء قارس آخر بينما لا تلقى النداءات لوقف إطلاق النار أي استجابة، ولا نعلم كم من الأرواح ستُزهق قبل أن تنتهي هذا الحرب.

والحال في الضفة الغربية والقدس الشرقية ليس بالأفضل.. فنحن نعاني من فرض قيود مشددة على حرية الحركة، والعديد من عائلاتنا وأصدقائنا وجيراننا يعانون من الوضع الاقتصادي المتردي نتيجة تدهور القطاع السياحي حيث لا تزال العديد من الفنادق والمطاعم مغلقة ويبقى شعبنا محروم من فرص العمل والتعليم، ومحروم من حقهم في الوصول لأماكنهم المقدسة في القدس. ومع زيادة وتيرة وحدة المداهمات وهجمات المستوطنين، لا أحد منا يعلم ما ستؤول له الأمور.

وهنا في بيت لحم، سنحتفل مرة أخرى بميلاد مخلّصنا بدون الاحتفالات التقليدية، بدون إضاءة الأشجار، وبدون بهجة الاستعراضات الكشفية، وبدون الحجاج الذين يأتون بحثًا عن طفل المذود. ورغم أننا نحتفل بمجيء النور إلى عالمنا المتجسد بميلاد المسيح، إلا أننا نمر بأيام عصيبة ومظلمة. ولكننا نستمد الأمل في كلمات بولس الرسول في الرسالة إلى العبرانيين، الإصحاح 13 والآية 8:

"يسوع المسيح هو أمسًا واليوم وإلى الأبد."

وهنا تكمن رسالة كنيستنا منذ أكثر من 170 عامًا. وكجزء متأصل من مكونات المجتمع الفلسطيني، واجهت الكنيسة على مر العقود تحديات جمة مثلها مثل باقي اطياف الشعب الفلسطيني الذي عانى من الحروب والنزوح واللجوء وغياب الحريات الأساسية. من خلال كل هذا، نتمسك برسالة أن يسوع يبقى كما هو في كل الأوقات والمصاعب. لا يمكن لمصائب هذا العالم أن تغير محبة المسيح لنا، والأمل الذي يجلبه إلى العالم. هذا هو ما يجعلنا ثابتين وراسخين في أرضنا وفي إيماننا. ومن خلال خدمتنا الكنسية وبرامجنا المجتمعية، نسعى إلى نشر هذه الرسالة في مجتمعنا. شكل ميلاد يسوع المسيح ثورة. فقد غيّر العالم جاء يسوع إلى العالم في وقت كان شعبه في أمس الحاجة إليه. وهو يأتي إلينا في وقت حاجتنا وعوزنا أيضًا. على مدار خدمته، سواء عندما كان يدعو التلاميذ، أو يصنع المعجزات، أو يعلّم الجموع، لم ينتظر يسوع الناس ليأتوا إليه. بل ذهب إليهم.

مهمتنا ورسالتنا في هذه الأرض هي الاستمرار في هذا العمل الثوري، والذهاب إلى الناس حيثما تواجدوا. كل يوم نحاول أن نعيش ونختبر هذه الرسالة، على الرغم من العقبات الجمة التي تواجهنا. فمن خلال مدارسنا ورسالتنا التربوية، نجلب أمل التعليم لأطفالنا ونخلق جيلا متنورا ومثقفا، ومن خلال كنائسنا، نشارك وعد الإنجيل مع بعضنا البعض ومحبة الله لنا، ومن خلال مركز التعليم البيئي، نعزز صلتنا بأرضنا وبخليقة الله ونسعى لحماية البيئة التي أوكلها الله لنا، من خلال مركز الخدمة الاجتماعية، نقدم الطعام والمأوى والرعاية الطبية والدعم النفسي لمجتمعاتنا. ومن خلال مكتب العدالة بين الجنسين، نعمل معًا من أجل مستقبل أكثر عدالة ومساواة للجميع. لا نسعى من خلال خدمتنا الكنسية أن نكون يدَي المسيح وقدميه في عالمنا فحسب، بل نرى صورة المسيح في أولئك الذين نخدمهم ونتبارك بخدمتهم.

وطالما نحن باقون على هذه الأرض، يبقى يسوع معنا أيضًا. وُلد قبل 2000 عام في بيت لحم، ويولد من جديد في حياتنا اليوم وسيبقى معنا إلى الأبد. ورغم أننا نعرف جيدًا اليوم حقيقة قصة الميلاد: قصة نزوح وخوف والعيش تحت سطوة الإمبراطورية، فإننا نعلم أيضًا أنه اختار أن يأتي إلى العالم من خلال هذه  القصة وبما أنه اختار أن يُولد في مغارة متواضعة لشعب يرضخ تحت سلطة الإمبراطورية فإننا على يقين بأنه لن يتركنا. هو الذي أرسل الأخبار السارة للرعاة يرسل الأخبار السارة لنا اليوم ويظهر لنا أنه حتى في أحلك الليالي، هناك نجمة تضيء طريقنا إلى المذود.

متّكلين على هذه الرسالة والأمل الذي تجلبه، نرفع قلوبنا إلى يسوع المسيح الذي هو أمسًا واليوم وإلى الأبد. نصلي أن يغير ميلاده العالم مرة أخرى ويجلب عدله المقدس وسلامه الدائم لشعبنا الفلسطيني ولشعوب الأرض كافة.

المطران الدكتور سني إبراهيم عازر 

وقال الأنبا إبراهيم إسحق؛ يتميّز عيد الميلاد بمظاهر وعلامات خارجيّة عديدة، مثل المغارة وشجرة الميلاد وغيرها. هي لطيفة طالما أنّها لا تشتّت انتباهنا، بل تساعدنا على أن نعيش المعنى الحقيقيّ والمقدّس لعيد ميلاد يسوع، بحيث لا يكون فرحنا سطحيّا بل عميقًا. 

عيد الميلاد

يأتي عيد ميلاد رب المجد يسوع المسيح، ليجـدّد الـيقين بـأنّ الله حـقّا حـاضـر لنا، يأتي كي يلتقي بنا: «ولد لكم اليوم مخلّص». لـم يـكتف ِ الخالق بـأن يُظهـر لنا آيـات رائـعة أو أن يكلّمنا ليـرشـدنا، بل شـاركـنا حدود إنـسانـيّتنا ووهـبنا آفاق محبته الإلـهيّة.

« أخذ الذي لنا وأعطانا الذي له » كما نردّد في مدائح شهر كيهك. هذا هو سرّ التجسد الذي میّز وما زال يميّز تاريخ الإنسان «لأَنه هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ.. .(يو ٣: ١٦-١٧)

اختار عمانوئيل (الله معنا) أن يحضر في تاريخنا البشريّ بحدوده ومآسيه، في عالم يعاني من شر الانقسامات والحروب، ليعلن، بطريقة لا مثيل لها، عن قلب رحيم ومحبٍ للبشر.

 

الميلاد هو لقاء

الميلاد قبل كلّ شيء هو لقاء. اللقاء بشخص عمانوئيل، الله معنا، مع كلّ واحد منّا. هو النور الحقيقيّ الذي يهزم الظلمة التي تحاول غمر حياتنا وحياة الإنسانيّة كلّها. «النور أضاء في الظلمة والظلمة لم تدركه» (يو ١، ٥).

من هنا تأتي هدية الميلاد متى قبلنا مولود بيت لحم بقلبنا وحياتنا وسمحنا له أن يدخل ويبارك حياتنا.  فبالميلاد الثاني الفوقاني تعود الحياة ويتعافى الـقلب ويتجـدّد الـرجـاء. ويصير عيد المـيلاد فرصة للاحـتفال بـالـثقة التي تغلب اليأس، والرجاء الذي يهب المعنى، فالله معنا ومازال يثق بنا.

وفي الميلاد، نلتقي حنان ومحبّة الله الذي ينحني فوق محدوديّتنا وضعفنا وخطايانا.

 

الميلاد دعوة ورجاء

وقف الله مرّةً وإلى الأبد إلى جانب الإنسان ليخلّصه وينفض عنه غبار بؤسه  ويمحو خطاياه.

ليلة الميلاد يولد رجاء للإنسانيّة بشكل عام وللكنسية بشكل خاصّ. فميلاد الرب يسوع هو مبادرة تجدّد فينا قدرة  التغلّب عــلى القلق الــذي راح يــسيطر عــلى نفوس الكثيرين.  

فإننا نشعر أن جزءاً منّا، وهو الأكرم، مهدور. وبالرغم من تعدّد وتقدّم تقنيات التواصل، صار كثيرون يميلون الي الـبقاء فـي عـزلـة أضعفت قدرتهم عـلى الـتواصـل! فظهرت معاناة فقدان التوازن واختلال الهوية.

في ليلة الميلاد تبيت البشرية، العطشى الي الله، خارج مغارة بيت لحم - مثل الـرعـاة البسطاء- الذين سيقودهـم الـروح الـقدس إلـى مـغارة بـيت لحم، ليلتقوا بمريم ويوسف والطفل تمامًا كما قيل لهم.وبـــعد أن رأى الـــرعـــاة "الله الظاهر في الجسد" أخـــبروا عـــنه بـــما قـــيل لـــهم

فـــصاروا شـــهودًا ومـــعلنين للبشـــرى الـسارّة.

"أَنتُمُ الَّذينَ اختارَهمُ اللهُ فقَدَّسَهم وأَحبَّهم، اِلبَسوا عَواطِفَ الحَنانِ واللُّطْفِ والتَّواضُع والوَداعةِ والصَّبْر". (كول 3: 12)

لنبتهج فـي الـرب يـا أحـبائـي، ولـنفتح قـلوبـنا عـلى احـتياجـات مـن يـنقصهم الـفرح. "فقد أَرادَ الله أَن يُظهِرَ لِلأَجْيالِ الآِتيَة نِعمَتَه الفائِقةَ السَّعة بِلُطفِه لَنا في المسيحِ يسوع" ( اف 2: 7).

لـتساعـدنـا نـعمة مـيلاد رب المجد على الانفتاح والخروج مـن ذواتـنا، لـنكون شـهودًا عـلى مـثال الـرعـاة، الذين لــم يحتفظوا لأنفسهم بفرحه اللقاء بالمخلّص، بل شاركوا آخرين بما اختبروا.

لـيــكن احــتفالــنا وتــبادلــنا الــتهانــي فــي هــذا الــيوم تــعبيرًا عــن فرحة إيماننا أنّ الله مــعنا ويريد أن يرافقنا طريق حياتنا.

 

محبة واتحاد 

نرفع صلاتنا متّحدين مع قداسة البابا فرنسيس وأصحاب الغبطة بطاركة الشرق.

نــصلّي مــعا مــن أجــل الــبلاد التي تــعانــي ويــلات الحــرب والــدمــار والأزمــات خاصةً: ســوريــا، والسودان وأوكرانيا وفلسطين.

نـــصلّي مـــن أجـــل وطـــننا الـــغالـــي مـــصر، ومـــن أجـــل ســـيادة رئـــيس الجـــمهوريّـــة عـــبد الـــفتاح الـسيسي وكـل ّ معاونيه، سائلين الرب ان يلـهمهم الـحكمة والتدبير الحسن لمواجهة التحديات المحلية والأزمات الدوليّة.

يا ربنا محب البشر، هبنا أن نتعلم ألا نغلق قلوبنا، لنرى في كل شخص صورة لك

وأن نبني جسور المحبة والتفاهم بين جميع الناس

هبنا أن نرحّب بهدية سلامك  ونشاركةُ القريبين

الأنبا إبراهيم اسحق 

مقالات مشابهة

  • محللون: الاحتلال يمارس التطهير العرقي باستهداف مستشفيات غزة
  • ائتلاف القانون يحذر من مخطط الكيان الصهيوني لتقسيم العراق عبر إشعال حرب أهلية
  • الكيان الصهيوني يعتقل فلسطينيا من طولكرم
  • مؤسسة البحر الأحمر تحمل المجتمع الدولي مسؤولية استهداف الكيان الصهيوني لموانئها
  • موانئ البحر الأحمر تحمل المجتمع الدولي مسؤولية استهداف الكيان الصهيوني لموانئها
  • مجلس الشورى يطالب رابطة مجالس الشيوخ بالتحرك دوليا لإيقاف جرائم الكيان الصهيوني بغزة
  • أكاديمي أردني: الدول العربية لعبت دوراً في فضح جرائم دولة الاحتلال
  • السلام على الأرض ومحبة تتجاوز الحدود .. الكنائس تحتفل بذكرى ميلاد السيد المسيح.. صلوات وقداسات في فلسطين وسوريا لوقف نزيف الحرب
  • مستشفى كمال عدوان يواجه التطهير العرقي وحيداً كما ترك مجمع الشفاء
  • المقاومة مستمرّة: الكيان الصهيوني تحت مجهر القانون