نشرت صحيفة "الغارديان" مقالا للصحفي أوين جونز تساءل في بدايته عن المخالفة التي ارتكبها عالم الأحياء الحسابي مايكل آيزن والتي أدت إلى إقالته من منصبه كمحرر في مجلة "eLife"، وهي مجلة علمية مرموقة متخصصة في علوم الطب الحيوي وعلوم الحياة.

وكان آيزن، اليهودي الأمريكي المنتمي لعائلة إسرائيلية، شارك منشورا من موقع "The Onion" الساخر، تحت عنوان "انتقاد سكان غزة المحتضرين لعدم استخدام الكلمات الأخيرة لإدانة حماس".



وقال جونز في المقال الذي ترجمته "عربي21"، إن هذه "الفكاهة السوداء" تحدثت عن حقيقة لا تقبل الجدل: لقد مات الفلسطينيون بسبب منطق الذنب الجماعي، كما أقره الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتزوغ، الذي أعلن أن الأمة بأكملها هي المسؤولة. وأشاد آيزن بـ "أونيون" لامتلاكها "شجاعة وبصيرة ووضوح أخلاقي أكبر من قادة كل مؤسسة أكاديمية" وأدان حماس أيضا. وبعد عشرة أيام تم فصله.

وأصدر مجلس إدارة "eLife" بيانا يشير فيه إلى أن "نهج آيزن في القيادة والتواصل ووسائل التواصل الاجتماعي كان في الأوقات المهمة ضارا بتماسك المجتمع الذي نحاول بناءه وبالتالي بمهمة "eLife". وفي ظل هذه الخلفية، ساهم حدوث المزيد من هذا السلوك في قرار مجلس الإدارة". وإذا كان هناك أي مرة أخرى، فإنهم لم يذكروا تفاصيل عن تلك المرات المزعومة السابقة.


وأضاف كاتب المقال أنه "منذ ردت إسرائيل على فظائع حماس بهجوم شرس أدى إلى مقتل أكثر من 8000 فلسطيني، كانت هناك محاولة لإسكات وترهيب ومضايقة المتعاطفين مع الفلسطينيين. ومن المحتم أن الفلسطينيين هم الذين يعانون وطأة الحملة الرامية إلى وصم حتى أبسط المعارضة للمذابح التي يتعرض لها شعبهم".

وتابع قائلا: "خذ على سبيل المثال عدنية شبلي، الكاتبة الفلسطينية الشهيرة الحائزة على جائزة LiBeraturpreis الألمانية لعام 2023 عن روايتها تفصيل ثانوي، التي تحكي القصة الحقيقية لاغتصاب جندي إسرائيلي لفتاة بدوية فلسطينية في عام 1949 وقتلها. وبعد بدء الفظائع الحالية، أجل المنظمون حفلها بسبب الحرب التي بدأتها حماس، والتي يعاني منها ملايين الأشخاص في إسرائيل وفلسطين".

وأشار جونز إلى استهداف شخصيات أدبية غير فلسطينية أخرى. أجرى فييت ثانه نغوين، ابن اللاجئين والمتعاطف مع النازحين الآخرين، محاضرة في مركز 92nd Street Y centre  في نيويورك بعد أن وقع على رسالة مفتوحة تطالب "بوضع حد للعنف والدمار في فلسطين". يصف المركز نفسه على موقعه على الإنترنت بأنه "منظمة يهودية تفتخر"، وفي بيان لرويترز، قال المركز إنه يريد أن يستغرق بعض الوقت ليقرر أفضل السبل لاستخدام منصته "لدعم مجتمع 92NY بأكمله".

وتساءل الكاتب عن الحملة الأمريكية من أجل حقوق الفلسطينيين، التي تم إلغاء مؤتمرها الطويل في هيوستن بعد أن وصفت غرفة التجارة اليهودية الأرثوذكسية الحدث بأنه "مؤتمر لمؤيدي حماس"، وأشار فندق هيلتون إلى مخاوف أمنية كسبب للإلغاء.

وذكر أن المتحدثة الرئيسية، رشيدة طليب، أول عضوة منتخبة في الكونغرس من أصل فلسطيني على الإطلاق، تعرضت لحملة تشهير من قبل الجمهوريين، في محاولة لتوبيخها بتهمة "النشاط المعادي للسامية" و"التعاطف مع المنظمات الإرهابية" - وكلها هجمات لا أساس لها من الصحة.

وفي الوقت نفسه، ورد أن قناة MSNBC  منعت ثلاثة من مذيعيها المسلمين من تقديم برامجهم، دون أي تفسير. ووصفت هيئة الإذاعة أي تغيير في البرامج بأنه "محض صدفة"، بحسب المقال.

وأردف جونز في مقاله: "هنا في بريطانيا، قيل لنا منذ فترة طويلة أن الطلاب "المتيقظين" [woke وهو مصطلح يستخدم للناشطين الحقوقيين مثل الذين شاركوا في أنشطة حياة السود مهمة] يشكلون تهديدا للحرية الأكاديمية. لكن لم تكن هناك إدانات عالية لجامعة ليفربول هوب بعد أن أجلت محاضرة للمؤرخ الإسرائيلي البريطاني آفي شلايم، الذي تحدى عمله الرواية التاريخية الرسمية لإسرائيل. وكان دفاع الجامعة هو أن القرار تم اتخاذه مع الأخذ بعين الاعتبار مصلحة وسلامة الطلاب والموظفين".



ودافعت الوزيرة في مجلس الوزراء البريطاني ميشيل دونيلان عن مشروع قانون التعليم العالي (حرية التعبير) العام الماضي بزعم أن "الحرية الأكاديمية في هذه المؤسسات يتم تقويضها بطريقة تعرض ديمقراطيتنا بأكملها للخطر"، مضيفة: "نجد الأكاديميين يمارسون الرقابة الذاتية على أنفسهم بدافع الخوف"، بحسب ما أورده المقال. 

ومع ذلك، في نهاية الأسبوع الماضي، في رسالة إلى هيئة البحث والابتكار في المملكة المتحدة، أعربت عن "اشمئزازها وغضبها" من تعيين اثنين من الأكاديميين في مجموعتها الاستشارية المعنية بالمساواة والتنوع والشمول، وأحدهما - على حد تعبيرها - "يدين العنف من كلا الجانبين لكنه يشير إلى 'الإبادة الجماعية والفصل العنصري'" اللذين تمارسهما إسرائيل.

ونوه المقال إلى إدانة إسرائيل بسبب الفصل العنصري من قبل منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش ومنظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية بتسيلم، في حين حذر خبراء الأمم المتحدة من "خطر الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني".

وأضاف أن هذه مواقف مشروعة تماما للتعبير عنها من قبل الأكاديميين، لكن مناصرة دونيلان لحرية التعبير تتلاشى عندما تتسبب الآراء حول القمع الإسرائيلي العنيف للفلسطينيين بإزعاجها.

في هذه الأثناء، قام حزب العمال بإيقاف آندي ماكدونالد عن العمل بسبب كلمته خلال المظاهرة المناهضة للحرب يوم السبت في لندن، وأقتبس مباشرة: "لن نرتاح حتى نحصل على العدالة، وحتى يتمكن جميع الناس، الإسرائيليين والفلسطينيين، بين النهر والبحر من العيش في حرية سلمية".

وعلق الكاتب بالقول: لكي نكون واضحين، كان ماكدونالد يعبر ببلاغة عن دعمه الحماسي لحل الدولتين: ولكن في حزب العمال الذي ينتمي إليه ستارمر، يعتبر هذا المطلب الإنساني بالتعايش السلمي مشينا أخلاقيا، على عكس دعم الصواريخ التي تنهمر على المدنيين، بما في ذلك الأطفال. كما تم إقالة النائب المحافظ بول بريستو من دوره كمساعد حكومي لمطالبته بوقف إطلاق النار. في بريطانيا الحديثة، أولئك الذين يعارضون الإبادة الجماعية هم الذين يعتبرون خارج نطاق القانون.

وشدد الكاتب على أن قضية فلسطين تفضح نفاق ما يسمى بثقافة الإلغاء. لقد طُلب منا منذ فترة طويلة أن نعتقد أن هناك إسكاتا جماعيا للشخصيات العامة بسبب قولها أشياء تحقر وتهين الفئات المهمشة - من الأشخاص المتحولين جنسيا إلى اللاجئين. وعلى عكس المتعاطفين مع الفلسطينيين، فقد رددوا شعارات مشتركة على نطاق واسع بين النخب السياسية والإعلامية. ولكن أولئك الذين يتحدون النظام الاقتصادي أو السياسة الخارجية الغربية ــ أو كليهما ــ كانوا يواجهون دائما إسكاتا حقيقيا، بحسب جونز.

واختتم الكاتب مقاله بالقول إن مجرد معارضة العنف ضد المدنيين هو تعريض الحياة المهنية والسمعة للخطر. ولهذا الترهيب عواقب مميتة؛ فهو يقوض الضغط الشعبي على حلفاء إسرائيل الغربيين لوقف المذبحة وإنهاء الاحتلال والاستعمار والفصل العنصري الذي يغذي هذا الكابوس. والرد بطبيعة الحال لا يكمن في الخوف، بل في رفع الصوت أعلى من أي وقت مضى.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي صحافة غزة الفلسطينيون بريطانيا الغربية بريطانيا فلسطين غزة الاحتلال الإسرائيلي الغرب صحافة صحافة صحافة سياسة سياسة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة

إقرأ أيضاً:

قتل المدينة.. ذكريات تتلاشى في ضاحية بيروت التي دمرتها إسرائيل

بيروت، لبنان- تحتفظ زينب الديراني، مثل كثيرين من سكان الضاحية الجنوبية، بذكريات دافئة عن الحي الذي نشأت فيه، عن حفل خطوبة ابنة عمها حيث اجتمع الأهل والجيران يرقصون في الشارع أمام منزلهم في الطابق الأرضي، وعن والدها الذي كان يقصد صالون الحلاقة القريب ليحصل على حلاقة مميزة على يد إبراهيم الشهير بـ"بوب الحلاق".

لكن اليوم، لم يتبقَ من كل تلك التفاصيل سوى صور عالقة في الذاكرة، بعدما تحولت شوارع الحدث -الحي الذي ترعرعت فيه وعاشت فيه 20 عاما- إلى أنقاض بفعل القصف الإسرائيلي خلال الحرب الأخيرة.

حلاق بضاحية بيروت الجنوبية (الجزيرة) مجرد ذكريات الآن

كانت الديراني (25 عاما) تعيش في منطقة الحدث، إحدى ضواحي بيروت الجنوبية، التي استهدفتها إسرائيل بشراسة خلال الحرب. في 27 سبتمبر/أيلول 2024، شنّت إسرائيل غارة مدمرة على حارة حريك، مسفرة عن تدمير 6 مبانٍ ومقتل الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، وفقا للتقارير الإسرائيلية.

بعد ساعات فقط من الهجوم، وبينما كان اللبنانيون يترقبون مصير نصر الله، أصدر المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي باللغة العربية أوامر إخلاء لسكان مناطق واسعة من الضاحية، مما دفع آلاف العائلات إلى مغادرة منازلها في حالة من الذعر.

إعلان

يصف المشهد خضر عيدو -وهو طاهٍ تنفيذي (26 عاما) ويعيش في بشامون قرب الشويفات- قائلا: "كانت الليالي الأولى تحت القنابل مرعبة. أصوات الانفجارات كانت تحطم الصمت، وتبث الخوف في كل زاوية من المدينة. مع كل دويّ، كنا نشعر بأن وجودنا نفسه أصبح هشا أكثر من أي وقت مضى".

امرأة نائمة على كورنيش بيروت بعد فرارها من الغارات الجوية الإسرائيلية في الضاحية الجنوبية 14 أكتوبر/تشرين الأول 2024 (أسوشيتد برس)

على مدى الأسبوعين التاليين، شهدت الضاحية أعنف قصف إسرائيلي منذ حرب 2006، حيث استهدفت الغارات الجوية المنطقة بشكل غير مسبوق. كانت وسائل الإعلام اللبنانية تبث الدمار على الهواء مباشرة، في حين أضاءت سماء الليل ألسنة اللهب البرتقالية والحمراء، حتى بدت وكأنها شروق جديد، لكنه محمّل بالرعب بدلا من الأمل.

حياة تحت الأنقاض

زعمت إسرائيل أنها تستهدف مخازن أسلحة حزب الله، لكن الواقع على الأرض كان مختلفا، فقد أسفر القصف عن مقتل أو تشريد عشرات الآلاف من المدنيين، في وقت تحولت فيه مئات المنازل والمتاجر إلى ركام، ولم يتبقَ من حياة الناس سوى ذكريات تائهة بين الأنقاض.

تصاعد الدخان والنيران بعد غارة جوية إسرائيلية على الضاحية الجنوبية في بيروت، السادس من أكتوبر/تشرين الأول 2024 (الأناضول)

زينب الديراني كانت واحدة من هؤلاء الذين فقدوا منازلهم. تحاول استجماع كلماتها وهي تصف حجم الدمار الذي لحق بمسكنها: "لقد قصفوا بجوار منزلي.. المبنى لا يزال قائما، لكن كل شيء بداخله دُمر بالكامل"، وتتوقف للحظة قبل أن تتابع بصوت مخنوق: "غرفتي أصبحت لها شرفة الآن بسبب القنبلة".

ورغم أن منزلها لا يزال واقفا جزئيا، فإن ما حوله لم يكن محظوظا بالقدر نفسه، إذ فقدت الحيّ بأكمله، فقدت صالون الحلاقة الذي كان يقصده والدها، وفقدت معلمتها التي كانت تعدّها شخصية ملهمة في طفولتها.

إعلان

وتضيف بأسى: "لقد قصفوا منزلها وقتلوا كل أفراد عائلتها بداخله.. زوجها، ابنتها، ولديها.. كلهم رحلوا في لحظة. كل يوم ترى شخصا يموت".

ألسنة اللهب والدخان تتصاعد من غارة جوية إسرائيلية على الضاحية في السادس من أكتوبر/تشرين الأول 2024 (أسوشيتد برس) قتل مدينة

منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، قُتل أكثر من 2500 شخص في لبنان على يد القوات الإسرائيلية. وفي حين استهدفت الهجمات عديدا من المناطق، كانت بيروت والضاحية الجنوبية من بين أكثر الأماكن تضررا، مما دفع بعض الخبراء إلى تصنيف ما يحدث هناك على أنه "إبادة حضرية" أو "قتل المدينة".

تصف منى حرب، أستاذة الدراسات الحضرية والسياسة في الجامعة الأميركية في بيروت، ما يحدث قائلة: "إنه ليس مجرد دمار مادي، بل إنه محو هائل للمكان والناس وذكرياتهم".

وتضيف: "الأمر يتجاوز المباني المدمرة، لقد فقدنا أيضا الأشياء غير الملموسة.. العادات، الممارسات، تفاصيل الحياة اليومية التي اعتاد الناس القيام بها في تلك الأماكن. إنه تدمير لما يحمله الناس في ذاكرتهم".

يرى أحد الباحثين في مركز "أستوديو الأشغال العامة"، وهو مؤسسة تهتم بالتخطيط الحضري وصنع السياسات في لبنان، أن الحرب لم تدمر الأبنية فحسب، بل قطعت الروابط التي تشكل نسيج المجتمع. يقول الباحث، الذي فضل عدم الكشف عن اسمه، للجزيرة: "الهجمات الإسرائيلية تفكك الصلة بين الناس وأحيائهم، وتقطع الروابط الاجتماعية التي تحدد هوية المجتمع".

ويتابع: "نتيجة لذلك، لا تواجه هذه المناطق الدمار المادي فحسب، بل تشهد أيضا تفككا اجتماعيا عميقا، حيث يضطر السكان إلى التخلي عن الأماكن التي شكلت حياتهم وذكرياتهم وهوياتهم".

امرأة تمر أمام سيارة مرسيدس بنز قديمة من ستينيات القرن العشرين متوقفة أمام جدارية لحزب الله في الضاحية أثناء الحرب الأهلية في 12 يونيو/حزيران 1986 (غيتي) الضاحية من بساتين الزيتون إلى مدينة نابضة بالحياة

في عام 1955، قرر محمد، جد ديانا يونس، مغادرة مدينة بعلبك في وادي البقاع شرقي لبنان، بحثا عن مستقبل جديد، فاستقر في المنطقة الواقعة جنوب بيروت، التي كانت آنذاك مجرد بساتين زيتون ممتدة على مد البصر.

يتذكر يونس تلك الفترة قائلا: "لم تكن هناك ضواحٍ كما نعرفها اليوم، لم يكن هناك سوى أشجار الزيتون وأراضٍ واسعة، لا مبانٍ ولا شوارع مزدحمة". وسط هذا الامتداد الأخضر، قرر محمد وزوجته بناء بيت صغير بأيديهما، وضعا فيه الأساس لحياة جديدة، غير مدركين أن المنطقة التي اختاراها ستتحول يوما ما إلى واحدة من أكثر المناطق حيوية وكثافة سكانية في لبنان.

مع مرور السنين، ومع توسع العمران، بدأت المدارس والجامعات تظهر في المنطقة، وهو ما جعلها مقصدا لعديد من العائلات الباحثة عن الاستقرار. كبرت عائلة محمد، وكبرت معها الضاحية، التي لم تعد مجرد مجموعة من البيوت الريفية، بل أصبحت مجتمعا حضريا متكاملا.

إعلان

اليوم، يُعرف هذا الامتداد رسميا باسم "سهل المتن الجنوبي"، لكنه لا يزال يُشار إليه ببساطة بـ"الضاحية"، اسم أصبح مرادفا للتنوع والتاريخ والتحولات السكانية التي شهدتها المنطقة على مدار العقود الماضية.

تُعرف الضاحية الجنوبية لبيروت بأنها منطقة مترامية الأطراف، تضم بلديات رئيسية مثل الغبيري، وبرج البراجنة، وحارة حريك، والمريجة -تحويطة الغدير- الليلكي، إلى جانب مناطق عشوائية مثل الأوزاعي، وبئر حسن، وحرش الكتيل، وحي السلم، بالإضافة إلى مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في برج البراجنة وشاتيلا.

تصف منى حرب، الخبيرة في التخطيط الحضري، الضاحية بقولها: "إنها بحجم مدينة بيروت". وتضيف: "إذا بدأنا من هذا المفهوم، فسندرك أن هذه المنطقة ليست مجرد ضاحية، بل هي مجتمع متكامل متعدد الأوجه، حيث تعيش الأسر، ويعمل الناس، ويتنقلون، ويقضون أوقات فراغهم. لكل طبقة من الحياة هنا قصة خاصة بها".

لم تكن الضاحية كما نعرفها اليوم، بل تشكلت عبر موجات نزوح متتالية خلال العقود الماضية، وهو ما جعلها ملاذا لمئات الآلاف من العائلات الفارة من العنف والنزاعات.

الموجة الأولى (1975-1976) جاءت خلال السنوات الأولى من الحرب الأهلية اللبنانية، حيث طُرد نحو 200 ألف شخص من سكان الأحياء الفقيرة في شمال شرق بيروت، بعضهم تعرض لمجازر نفذتها مليشيات مسيحية يمينية، وهو ما دفعهم إلى الانتقال إلى الضاحية بحثا عن الأمان.

الموجة الثانية الكبرى وقعت خلال الغزو الإسرائيلي لجنوب لبنان في عامي 1978 و1982، وما تبعه من احتلال استمر حتى عام 2000. أسفرت هذه الأحداث عن نزوح ما يصل إلى 900 ألف شخص، معظمهم من المسلمين الشيعة، الذين استقروا في الضاحية بعد أن اضطروا لمغادرة قراهم الجنوبية.

مع هذه التحولات، تغيّرت التركيبة الديمغرافية للضاحية. كانت المنطقة تضم سابقا طائفة مارونية كبيرة، لكن كما توضح منى حرب، فإن الموارنة "هُجِّروا قسرا وبعنف" خلال موجات النزوح المتتالية. وعلى الرغم من أن بعض المسيحيين لا يزالون يعيشون في المنطقة، فإن الغالبية العظمى منهم لم يعودوا أبدا بعد تهجيرهم خلال الحرب.

إعلان

هكذا، لم تكن الضاحية مجرد امتداد عمراني للعاصمة بيروت، بل أصبحت مدينة بحد ذاتها، شكلها التاريخ، وطبعتها الهجرة القسرية، حتى باتت اليوم واحدة من أكثر المناطق تنوعا وكثافة سكانية في لبنان.

على الرغم من التغيرات الديمغرافية التي شهدتها الضاحية الجنوبية خلال العقود الماضية، فإن بعض مظاهر التعددية الدينية لا تزال قائمة. تشير حرب إلى أن "الكنائس والمقابر المسيحية تم ترميمها في العقد الأول من القرن الـ21، وظلت القداسات تُقام كل يوم أحد"، في تأكيد على أن الوجود المسيحي لم يُمحَ بالكامل من المنطقة، حتى لو أن أعداد السكان قد تغيّرت.

مع توافد موجات المهاجرين الجدد إليها، لم تعد الضاحية مجرد منطقة مجاورة لبيروت، بل أصبحت امتدادا حضريا كثيفا، يكاد يضاهي العاصمة من حيث الحجم والكثافة السكانية، حيث نما العمران بشكل متسارع، وتوسعت البنية التحتية لتستوعب الأعداد المتزايدة من السكان، مما جعلها إحدى أكثر المناطق ازدحاما في لبنان.

بالنسبة إلى محمد، جد ديانا يونس، الذي كان أحد أوائل من استقروا في الضاحية، شهد بأم عينيه كيف تحولت هذه المنطقة من بساتين زيتون هادئة إلى مدينة مكتظة بالحياة. وكما توسعت الضاحية، نمت عائلته أيضا؛ فمع مرور السنوات، تزوج كل واحد من أبنائه، وأصبح كل منهم يبني طابقا جديدا فوق بيت أبيهم، ليؤسس أسرته الخاصة، في مشهد يعكس التحولات السريعة التي طرأت على المنطقة.

اليوم، أصبحت الضاحية شاهدا على عقود من التغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، من منطقة زراعية بسيطة إلى واحدة من أكثر المناطق تأثيرا في المشهد اللبناني.

أنصار حزب الله يحملون الأعلام لتوزيعها على مشيعين في جنازة بالضاحية نهاية 2023 (غيتي) محطات تاريخية.. كيف تغيرت الضاحية؟

غالبا ما تصف وسائل الإعلام الدولية الضاحية الجنوبية لبيروت بأنها "معقل حزب الله"، في محاولة لاختزالها في بُعد سياسي وأمني فقط، متجاهلة تعقيداتها الاجتماعية والثقافية. حتى داخل لبنان، هناك من ينظر إليها باعتبارها "غيتو" شيعيا أو منطقة متمردة، كما أشارت منى حرب في مقال نشرته عام 2009 عن الضاحية.

بائعا خضروات وفاكهة يتجولان بعربة في مخيم شاتيلا للاجئين يوم 13 يناير/كانون الثاني 1984 (غيتي)

لكن حرب ترفض هذه النظرة التبسيطية التي تتجاهل واقع الحياة اليومية في المنطقة، وتقول في حديثها للجزيرة الإنجليزية: "مئات الآلاف من الأفراد ذوي الأصول والهويات المتعددة يعيشون هناك"، مشيرة إلى أن بيروت ولبنان عموما صغيران إلى حد يجعل من المستحيل العيش في الضاحية من دون أن تكون متصلا ببقية المدينة والمجتمع ككل.

إعلان

نشأت في الضاحية عدة تيارات سياسية وحركات اجتماعية منذ ستينيات القرن الماضي، لكن الحرب الأهلية اللبنانية غيرت موازين القوى فيها. خلال الحرب، سيطرت على المنطقة حركة أمل، الذراع المسلح لحركة "المحرومين" التي أسسها الإمام موسى الصدر.

لكن في عام 1984، بدأ حزب الله في كسب أنصار داخل الضاحية، وفي عام 1989، اندلعت مواجهات بينه وبين حركة أمل، انتهت بسيطرة الحزب على أجزاء واسعة من الضاحية، ليصبح لاحقا القوة السياسية والعسكرية الأبرز فيها. حتى اليوم، يحتفظ الحزب بشبكات سياسية واجتماعية واسعة النطاق داخل الضاحية، كما أن وجود أعلامه وتجمعاته وخطاباته العامة كان مشهدا مألوفا على مدار العقود الماضية.

خيام أقيمت ملاجئ مؤقتة للعائلات النازحة الهاربة من الغارات الجوية الإسرائيلية، على طول شاطئ الرملة البيضاء العام في بيروت في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول 2024 (أسوشيتد برس)

لكن على الرغم من وجود أنصار لحزب الله في الضاحية، فإن تصنيف المنطقة بـ"المعقل" يثير اعتراضات واسعة، ليس فقط بين الباحثين، بل أيضا بين سكانها أنفسهم. ترى حرب وآخرون أن استخدام مصطلح "معقل" يتجاهل التنوع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي في الضاحية، بل ويعمل على إضفاء الشرعية على العنف ضدها، وكأنها مجرد هدف عسكري وليس حيا نابضا بالحياة.

تقول حرب: "هناك صورة نمطية غير إنسانية تروجها وسائل الإعلام الغربية، تربط جميع سكان هذه المنطقة بتوجهات سياسية معينة، وهو أمر بعيد عن الواقع".

قبل أن تتحول الضاحية إلى ساحة حرب، جاءت زينب الديراني إليها عام 2021 من بلدتها قصرنبا في البقاع بحثا عن فرص عمل، في وقت كان فيه لبنان يواجه واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في تاريخه. كانت زينب تحمل طموحات كبيرة، وبذلت جهدا هائلا في حياتها المهنية، إذ عملت لأكثر من 14 ساعة يوميا إلى جانب دراستها للكيمياء والتشخيص الطبي.

إعلان

لم تكن تحب حيّها كثيرا، لكنها رغم ذلك تحتفظ بذكريات جميلة عن الجلوس مع والديها في نهاية اليوم، يتبادلان الأحاديث، وعن عمتها التي كانت تمرّ لزيارتهم باستمرار.

دعاء نابو (3 سنوات) تنام على زاوية أحد الشوارع بينما تقرر عائلتها إخلاء المنزل تحسبا لغارات جوية إسرائيلية في العاشر من أغسطس/آب 2006 (غيتي)

نشأت منى حرب في الضاحية الجنوبية، لكنها غادرتها قبل نحو 30 عاما. أما والدها، فكان يذهب إلى برج البراجنة لشراء الخبز واللحوم والجبنة واللبنة حتى أسابيع قليلة مضت.

تقول بأسى: "كان المنزل جيدا وآمنا"، قبل أن تتوقف للحظة وتضيف بصوت منخفض: "قبل ذلك".

اليوم، يجد أكثر من مليون شخص -أي ما يعادل 20% من سكان لبنان- أنفسهم في حالة نزوح قسري بسبب الحرب الأخيرة. وبينما دُمّرت منازلهم، لم يجد كثيرون منهم مأوى، فافترشوا الحدائق العامة، والشوارع، وحتى شواطئ البحر، في مشهد يعيد إلى الأذهان الأزمات الإنسانية التي عصفت بلبنان على مر العقود.

يقول الباحث في أستوديو الأشغال العامة: "بالنسبة إلى النازحين، الصدمة مزدوجة، ليس فقط لأنهم طُردوا من منازلهم تحت التهديد، ولكن لأنهم يشهدون أيضا محو روابطهم الثقافية والجسدية بأرضهم". وأضاف أن ما يحدث في الضاحية ليس مجرد قصف عشوائي، بل هو "محاولة متعمدة لمحو وجود المجتمع ذاته"، في إشارة إلى حجم الدمار الذي طال المنطقة منذ بدء العدوان الإسرائيلي.

ليالٍ مرعبة ودمار ممنهج

منذ 27 سبتمبر/أيلول 2024، شنت إسرائيل عشرات الغارات على الضاحية، وفقا لمصادر محلية. وبعد توقف استمر أسبوعا تقريبا، استؤنف القصف بوتيرة أعنف، إذ شهدت ليلة 23 أكتوبر/تشرين الأول 2024 واحدة من أشد ليالي القصف رعبا، حين شنت إسرائيل 17 غارة جوية أسفرت عن تدمير ما لا يقل عن 6 مبانٍ، كان من بينها مكتب قناة الميادين الإعلامية.

ويؤكد الباحث في أستوديو الأشغال العامة أن "رسم خريطة للدمار أمر معقد، لكن الواضح هو أن الضاحية تعرضت لهجمات وحشية يومية". ويضيف: "ما يميز هذه الضربات هو العنف العشوائي ضد المدنيين، حيث لم تعد تقتصر على أهداف عسكرية مزعومة، بل امتدت لتشمل الأبنية السكنية والشوارع والمحال التجارية".

إعلان

وكانت الأوامر الإسرائيلية بالإخلاء تصدر عبر منصة إكس، حيث نُشرت خرائط للضاحية مع تمييز المباني المستهدفة باللون الأحمر. وفي كثير من الحالات، مُنح السكان ساعة واحدة فقط للمغادرة، ومع كل ليلة كانت المهلة تقلّ، لتتحول إلى دقائق معدودة في بعض الأحيان.

يضيف الباحث: "المباني والشوارع والأحياء بأكملها تم تحديدها ورسم خرائطها بشكل منهجي، ثم استُهدفت بغارات جوية دقيقة، في إطار إستراتيجية مدروسة للقضاء على المساحات المدنية".

المأوى المفقود

يوم 27 سبتمبر/أيلول 2024، أجبرت زينب الديراني وعائلتها على مغادرة منزلهم. انتقل والداها للعيش مع شقيقتها في أحد الأحياء المسيحية، بينما وجدت زينب ملجأ مؤقتا في متجر بعين الرمانة.

ومع استمرار عمليات الإخلاء، انتقدت منظمة العفو الدولية الطريقة التي أُجبر بها السكان على المغادرة، ووصفتها بأنها "مضللة وغير كافية". وأشارت إلى أن بعض الهجمات وقعت بعد أقل من 30 دقيقة من إصدار التحذير، بينما جاءت هجمات أخرى من دون أي تحذير على الإطلاق.

صدمة الفقدان

بالنسبة لمازن، وهو صاحب محل هدايا وعطور في المريجة، لم يكن القصف مجرد كارثة مادية، بل كان فقدانا لكل ما كان يعني له الحياة. كان يعيش حياة هادئة مع قطته المحبوبة "سيسي"، التي أصبحت نجمة حسابه على "تيك توك". ولكن عندما ضربت غارة جوية المبنى الذي يسكن فيه حين كان خارجه لشراء بعض الحاجات، انهار المبنى بالكامل، تاركا سيسي تحت الركام.

وفي مقطع فيديو انتشر على "تيك توك"، ظهر مازن وهو يقف أمام أنقاض منزله يبكي بحرقة وينادي على قطته المفقودة، بينما انهالت التعليقات برموز تعبيرية باكية وأخرى تعبر عن الحزن.

يقول مازن للجزيرة: "ذهبت كل حياتي، لا مشكلة، سأجد منزلا آخر… لكن الشيء الوحيد الذي يهمني هو إذا ما كانت سيسي قد نجت. إن شاء الله لم تمت".

لم يفقد الأمل في العثور عليها، فكل يوم يذهب إلى موقع الدمار بحثا عنها، وينام في العراء، متنقلا بين الشوارع والشرفات، ويقول: "ما زلت أعيش حياة هادئة، لا يهمني أي حزب أو طائفة، أنا فقط أحب الحياة والقطط والحيوانات"، يقول بنبرة مفعمة بالألم والاستسلام.

إعلان تاريخ يعيد نفسه

لم تكن هذه المرة الأولى التي تعيش فيها الضاحية هذا النوع من التدمير الشامل. ففي حرب يوليو/تموز 2006، خاض حزب الله وإسرائيل حربا استمرت 34 يوما، قُتل خلالها أكثر من 1220 شخصا، معظمهم من اللبنانيين، في حين دُمر حوالي 245 مبنى وفق ما أطلق عليها الجيش الإسرائيلي "عقيدة الضاحية"، وهي تكتيك عسكري يقوم على التدمير غير المتناسب.

ورغم الحروب السابقة، فإن الضاحية استمرت في النمو واحتضنت سكانها النازحين من مناطق أخرى. لكن اليوم، يواجه بعض هؤلاء السكان واقعا مختلفا، إذ لم يعد كثيرون يرون في الضاحية مكانا يصلح للعيش بعد انتهاء الحرب.

نسيم (11 عاما) نازحة من الضاحية تعرض حجارة لونتها خلال أنشطة فنية أقامها متطوعون في بيروت يوم 16 أكتوبر/تشرين الأول 2024 (رويترز)

تقول ديانا يونس: "عائلة خالي قررت عدم العودة. يخططون لبيع كل ممتلكاتهم هنا والانتقال إلى مكان آخر. لم يعد أحد يريد الضاحية".

ذكريات تتلاشى وأحلام تتبدد

نشأت منى حرب في الضاحية، التي غادرتها قبل 30 عاما، وكان والدها حتى وقت قريب يذهب إلى برج البراجنة لشراء الخبز والجبنة، ليس لعدم توفرها في مكان آخر، ولكن لأن هذه الرحلة عبر الأزقة الضيقة كانت تمنحه شعورا بالانتماء والارتباط بالمكان.

تقول بحزن: "هذا مجرد مثال بسيط على شيء قريب مني تم محوه تماما".

أما زينب الديراني، التي حلمت دائما بحياة خارج الضاحية، فوجدت نفسها أمام واقع لم تكن تتمناه. "أردت الرحيل، لكن ليس بهذه الطريقة… أشعر أن كل أحلامي تنهار"، تقول بصوت يملؤه الألم والصدمة.

وتضيف: "ما زلت أعيش في حالة إنكار… وكأنني في كابوس لا أريد أن أستيقظ منه، لأنني عندما أفعل، سأجد نفسي أمام حقيقة قاسية لا أعرف كيف أتعامل معها".

ففي حين تتلاشى ذكريات الطفولة والأيام الجميلة، يغلب شعور الرعب والخوف من المستقبل على سكان الضاحية. وتختتم زينب حديثها بعبارة موجعة: "نحن نجلس وننتظر يومنا… من المؤسف أن أقول هذا، لكننا ننتظر اللحظة التي سنُقتل فيها مثل أحبائنا وأصدقائنا".

إعلان

مقالات مشابهة

  • شاهد| تصدعات وشروخات في 7 منازل بسبب أعمال هدم مدرسة بالمحلة.. والأهالي يستغيثون
  • تجميد المساعدات من قبل ترامب يعرض الملايين للخطر.. فمن يتدخل لسد العجز؟
  • كاتب صحفي: الشعب الفلسطيني متمسك بأرضه رغم صعوبة الحياة في غزة (فيديو)
  • متحدث «فتح»: إسرائيل تسعى لتجريد الضفة الغربية من مقومات الحياة
  • «فتح»: إسرائيل تسعى لتجريد الضفة الغربية من مقومات الحياة
  • المتحدث باسم «فتح»: إسرائيل تسعى لتجريد الضفة الغربية من مقومات الحياة
  • قتل المدينة.. ذكريات تتلاشى في ضاحية بيروت التي دمرتها إسرائيل
  • إخلاء عدد من مرتبات الأمن العام الذين حوصروا بسبب الغبار الكثيف في الجفر
  • عدد قتلى وجرحى إسرائيل الذين سقطوا بنيران صديقة
  • صحفي أوكراني: خسائر الجيش تفوق الأرقام التي أعلنها زيلينسكي