لجريدة عمان:
2025-03-12@23:31:31 GMT

قصة كراج يجمع بين إستونيا ولاتفيا

تاريخ النشر: 1st, November 2023 GMT

في عرض ذي نمط مغاير بمهرجان الحرية في «نرفا»، قدمت في 18 أغسطس من العام الجاري مسرحية «كراجان» «Two Garages»، أو المرآبان إذا شئنا أن نكون أكثر دقة في اللغة العربية الفصحى، والمسرحية تقدم لقطات كوميدية مضحكة بل وساخرة أحيانا مع تنوع في العزف الموسيقى والغناء الحي في محاولة إلى تحقيق تواصل طربي ووجداني مرح مع الجمهور في المسرح، أو في الحقيقة هو «لا مسرح»، في كراج مهجور على شاطئ النهر جدرانه العارية شبه متآكلة تسندها قوام ودعامات حديدية تمتد بينها أسلاك كهربائية ومعلقات وتتناثر بين أرجائه أدوات أغلبها من النفايات والمخلفات وخردوات السيارات القديمة.

ولكن رغم كل تلك الأمور التي قد يراها المرء عيوبا أو نواقص أو مشاهد مزرية في الحالات العادية، بل وقد يتجنبها حفاظا على سلامة نظره وحواسه الأخرى، ناهيك عن ذائقته الجمالية أو الفنية أو المكنون الذاتي الخيالي، أريد أن أقول رغم كل ذلك تحول المكان بكل ما فيه وبفضل ارتجالات عفوية وموهبة فنانين مبدعين إلى روضة غنّاء وحالة من الوجد والتناغم رفيعة الحميمية.

كيف تفوز بقلب امرأة بقصاصة من ورق؟

يكتب منتجو المسرحية عن عرضهم بأنه بأمانة قصة مضحكة أن تكون بشرا.

رجلان من إستونيا ورجلان من لاتفيا كلاهما في كراج قديم في الوقت ذاته بعد حقبة الاتحاد السوفييتي السابق ليعبّروا عن همومهم العميقة وعن فلسفتهم الحياتية وعن سعيهم الحثيث إلى السعادة وأمانيهم بأن يحبُوا ويُحَبوا.

من خلال العرض سيجد المرء أجوبة عديدة على أسئلة مهمة، من وجهة نظرهم، مثل كيف تصنع شيئا مفيدا من قناني البلاستيك القديمة؟ كيف يمكنك الإقلاع عن التدخين؟ من هم الأسرع في التفكير الإستونيون أم اللاتفيون؟ كيف تظفر بقلب امرأة عندما لا يكون لديك شيء غير مجرد قطعة من قصاصة ورق؟ لماذا عندما تذهب إلى الشاطئ عليك أن تأخذ على الأقل قنينتي ليمون كبيرتين؟ ما هي فلسفة عبوة معجون الأسنان الفارغة؟ إن العرض يقدم إجابات مضحكة وحزينة في الوقت ذاته لا سيما عندما نعرف على الأقل أن شخصا واحدا مرَّ بتجارب شبيهة بمثل تلك الحالات، وفي مسرحيتنا هنالك 4 رجال، اثنان من إستونيا واثنان من لاتفيا.

إن ترتيب المكان واستخدام المرآب القديم في العرض المسرحي يحيلنا تلقائيا إلى عروض المسرح الحي، أو مسرح الاحتجاج والرفض كما يحب أن يطلق عليها البعض، في نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية في ستينيات القرن الماضي، ولنكون أكثر دقة هو مسرح ضواحي نيويورك وبعيد عن برودواي مركز المسرح الاحترافي الشهير في نيويورك، إنه خارج- خارج- برودواي، «Off- Off- Broadway»، وهو ليس خارج- خارج- برودواي مكانيا فقط بل وخارجها فلسفة وموقفا فكريا وأسلوبا أدائيا وفعليا!!! فهو مسرح سياسي احتجاجي بالدرجة الأولى يقدمه المهمشون والمشردون في المجتمع الأمريكي مثل «الهيبز»، والداعمون للعودة إلى الطبيعة، والسلام الأخضر، في رفض صاخب لزحف الكتل الأسمنتية على المساحات الخضراء من أجل طرق فارهة وعمارات سحابية يدجن فيها الإنسان في جحور ضيقة بالكاد تكفي لمد ساقيه، ويُقولب الإنسان البسيط ليكون مجرد ترس في طاحونة رأسمالية ضخمة ومتوحشة تزيد الأغنياء الملاك ثراء وتمعن في نهش الفقراء ليزدادوا فقرا، بل وتكاد باستغلالهم المفرط أن تفقدهم طبيعتهم الإنسانية بحجة أن كل أمر يهون من أجل تحقيق الحلم الأمريكي الذي قد يأتي في نهاية المطاف، ولن يأتي الحلم الأمريكي أبدا؛ لأنه حلم مصادر لفئة معينة لن تحيد الأحلام عنها أبدا.

لعلنا في الحديث عن المسرح الحي أن نذكر تجربة الشاعر والمخرج المسرحي «جوليان بيك»، وزوجته الممثلة «جوديث مالينا» اللذين قدّما عروضهما المسرحية في أحد الكراجات مستخدمَين قطع السيارات القديمة كديكورات وأثاث ومستلزمات تنفيذية مع السلاسل الحديدية والحبال، وكانت عادة ما تنتهي عروضهم بمشاعل النيران الملتهبة، وعادة ما كان يخرج الفنانون المؤدون للعرض مع جمهورهم في مظاهرات احتجاجية صاخبة يسدون الشوارع بإطارات السيارات المشتعلة، وصار لاحقا ينضم إليهم الصحفيون والمثقفون، إما من باب مناصرة أفكارهم أو لمجرد الفضول والاطلاع على التجربة.

خيوط التداني والتنائي مع المسرح الحي

إن تلك الإحالة إلى المسرح الحي لا يمكن أن يغفلها الناقد المسرحي وهو يشاهد العرض المسرحي «كراجان»، فمساحات التماس بَيِنَه من حيث المكان «الكراج»، وكذلك من حيث حالة العرض وتوظيف سكراب السيارات والمخلفات البلاستيكية، والدعوة إلى العادات السليمة في المحافظة على البيئة والطبيعة، إلا أنه على الجانب الآخر التماس في الهدف السياسي يتضاءل بينهما بشكل واضح، فالمسرح الحي سياسي احتجاجي بشدة وبفعل ثائر، بينما في «كراجان» البعد السياسي يتوارى ليصبح فلسفيا عن حالة الإنسان المعاصر وتساؤلاته وهمومه اليومية.

عموما بقيت إشارة مهمة في هذا العرض المسرحي لا تخلو من البعد السياسي، وهذه الإشارة هي الكراج السوفييتي القديم المكان الذي التقى به رجلان من إستونيا وفي كراج مثله رجلان من لاتفيا، فكلا البلدين كانا جزءا من الاتحاد السوفييتي وكلا البلدين كَوَّنا ما يمكن وصفه بديمقراطية برلمانية حرة أقرب إلى النظم الغربية، يمكن للكراج السوفييتي القديم هنا أن يحمل أكثر من دلالة، منها أن الإرث الماضوي ما زال يلقي بظلاله على الحياة المعاصرة، ومنها أن الديمقراطية والحرية جاءت ومعها إشكاليات حياتية أخرى على الفرد أن يواجِهها، ودلالات أخرى قد يتفق أو يختلف حولها المتلقي.

بين أقطاب قوى الصراع هل يبقى مكان لمحايد يقف على خشبة مسرح؟

المسرحية تشير تحديدا إلى الفترة منذ الاستقلال في 1991 في البلدين حتى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، بما عرف بالتسعينيات الجامحة، حيث شهدت تلك الفترة اضطرابات وتغيرات اجتماعية وسياسية سريعة جدا بل بسرعة جنونية على وقع الصراع المحتدم بين دعاة المحافظة على الوضع الراهن ودعاة التغيير، بين المواطن السوفييتي الذي يريد أن يبقى سوفييتيا وبين المواطن الذي يريد أن يتحرر تماما من ربقة الماضي ويلج عالم الغرب بكل تجلياته وتحدياته وأحلامه الواعدة.

الرجال الأربعة، في المسرحية، تساءلوا ماذا عن أولئك المحايدين الذين لم ينحازوا إلى هذا الطرف أو ذاك؟ أين مكانهم؟ فكانت إجابتهم الكراج أو المرآب هو المكان الآمن الوحيد الذي يمكن أن يحتضنهم، هل أرادوا أن يتحرروا من كل أوزارهم، أوزار الماضي والحاضر في المرآب السوفييتي القديم؟

إن كلمات مخرج العرض إلمارس سينكودوفس (Elmars Senkdvs) وهو يتحدث عن المسرحية وعن كراج أبيه وعن كراجه هو شخصيا تقدم للمشاهد الكثير من مفاتيح العرض المسرحي إذ يقول:

أبي كان لديه كراج

كان أبي يصلح ويغسل السيارات

أبي كان يقاتل المبتزين

أبي كان يغني بصوت عال

عندما وجدت شيئا في جيب أبي وسألته ما هذا؟ ظل صامتا لفترة طويلة ثم أجابني إنه دواء لصداع الرأس

أبي علمني كيف ألكم شخصا ما على وجهه إذا حاول الإساءة إليّ، أبي لم يكن يمرح معي عندما أريد ذلك، ولكنه كان يأخذني إلى السيرك، كان يحب المهرجين

أبي كان يعطيني نقودا عندما أحتاجها، هذا فقط عندما يكون لديه ما يعطيه، أبي سافر إلى إستونيا ذات مرة وجلب لي مغناطيس الثلاجات، ما زال المغناطيس لديّ، كراج أبي كان ممتلئا بالقناني البلاستيكية الفارغة... لا أدري لِمَ كان يجمعها؟

اعتاد أبي أن يدغدغني، هكذا كان يعبّر عن حبه لي، ثم توقف عن دغدغتي وبدا يريني خدعا بعلب السجائر عوضا عنها

اختفى أبي... ثم عاد في وقت لم يعُد أحد فيه ينتظر عودته

أبي انفصل عن أمي

أبي كان يدخن دائما حتى في البيت... رائحة السجائر ما زالت تذكرني بطفولتي

لم يعلمني أبي القيادة؛ لأنه ليس لديه رخصة سياقة، لربما كان هذا أفضل؛ لأنه فعلا كان كثير الشرب

لا أعرف بمَ كان يفكر؟ وبمَ كان يحلم؟

اعتدت أن أخجل من تصرفاته، الآن أقول: إنها لم تعُد تزعجني، في واقع الأمر أنها تزعجني

أبي ليس بالشخصية التي يمكن أن نخرج مسرحية عنه، هو ليس بطلا، رغم أنه يقاتل مع نفسه ومع الزمن طوال الوقت

أنا... أنا أيضا لدي كراج اسمه مسرح!!! (تمت الترجمة بتصرف)

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: العرض المسرحی أبی کان

إقرأ أيضاً:

من العثمانيين إلى طالبان.. تاريخ طويل يجمع تركيا وأفغانستان

تشهد العلاقات بين تركيا وحكومة تصريف الأعمال -التي تقودها حركة طالبان في أفغانستان– تطورا ملحوظا، إذ تزداد المؤشرات على تعزيز التعاون بين الطرفين في مختلف المجالات.

ويعتبر تسليم السفارة الأفغانية في أنقرة وقنصلية أفغانستان في إسطنبول لممثلي حركة طالبان من آخر مؤشرات تنامي العلاقات بين كابل وأنقرة.

وفي حين قطعت العديد من الدول أو خفضت علاقاتها الدبلوماسية مع أفغانستان بعد أن استعادت طالبان السيطرة على البلاد في 15 أغسطس/آب 2021، لم تغلق أنقرة سفارتها في كابل، مما يجعلها من الدول القليلة التي حافظت على علاقات دبلوماسية مباشرة مع أفغانستان.

وتعد تركيا هي العضو الوحيد في حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي يتمتع بحضور دبلوماسي نشط في كابل.

السفارة الأفغانية في أنقرة تمارس أنشطتها كالمعتاد (الفرنسية) نبذة تاريخية

تعود جذور العلاقات بين كابل وأنقرة إلى عهد الدولة العثمانية، وأما العلاقات الحديثة بين البلدين فترجع إلى بدايات القرن الـ20، وكانت تركيا من أوائل الدول التي أقامت علاقات دبلوماسية مع أفغانستان بعد استقلالها عن بريطانيا في 1919.

وقد شهدت هذه العلاقات تطورا مستمرا قائما على الاحترام المتبادل والتعاون في مجالات متعددة، مثل التعليم والبنية التحتية.

وفي عهد الملك أمان الله خان (1919- 1929)، اتسمت العلاقات بين الطرفين بالدفء والانفتاح في مختلف المجالات. ولأول مرة، أرسل الشاه عددا من الطلاب إلى تركيا للدراسة.

وعلى الرغم من شكوكهم تجاه الأجانب، فقد استعان الأفغان بالمدربين الأتراك لتطوير جيشهم، وتبنت القوات الأفغانية أساليب التدريب على غرار الجيش التركي.

إعلان

بيد أن هذه العلاقات فترت بعد انقلاب 17 يوليو/تموز 1973 الذي أطاح بالملك محمد ظاهر شاه الذي كان يميل للغرب، ليحل محله نظام محمد داود الذي اقترب من الكتلة الشرقية.

ويشير بعض الخبراء إلى أن العلاقة بين تركيا وأفغانستان تستند إلى إرث مشترك بين مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك وملك أفغانستان في عشرينيات القرن الماضي أمان الله خان، الذي كان معجبا بسياسات وأفكار أتاتورك.

ويقول ألبر كيسكين، وهو زميل في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، لـ"صوت أميركا": "هذا الإرث الإيجابي لم ينقطع أبدا على مر السنين".

أمان الله خان (يمين) وزوجته الملكة ثريا ترزي هانم بجانب مصطفى كمال أتاتورك (غيتي) موقف تركيا من غزو أفغانستان

خلال الغزو السوفياتي لأفغانستان (1979-1989)، تبنّت تركيا موقفا داعما للمجاهدين الأفغان، حيث استقبلت عددا من اللاجئين وقدّمت لهم مساعدات إنسانية وتعليمية، كما فتحت أبوابها لبعض قادة المقاومة الأفغانية الذين تصدوا للنظام الشيوعي المدعوم من موسكو، من بينهم زعيم الحزب الإسلامي قلب الدين حكمتيار وزعيم الجمعية الإسلامية برهان الدين رباني.

وبعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، شاركت تركيا ضمن قوات الناتو في أفغانستان، إلا أنها حافظت على موقف متوازن، حيث لم تشارك في العمليات القتالية ضد طالبان، بل ركزت على عمليات حفظ السلام والتطوير، مما جعلها طرفا مقبولا نسبيا لدى مختلف الأطراف الأفغانية.

ويوضح ألبر كيسكين أن تركيا حرصت طوال هذه الفترة على ضمان عدم انخراط قواتها في أي حرب نشطة ضد الشعب الأفغاني، ويعتقد أن هذا أمر يدركه نظام طالبان الحالي في أفغانستان أيضا.

وبحسب وزارة الدفاع التركية، فإن إحدى المهام الأخيرة للجنود الأتراك في أفغانستان كانت تقديم الخدمات التشغيلية والأمنية في مطار كابل، وقد سحبت تركيا قواتها من أفغانستان قبل الموعد النهائي الذي حددته حركة طالبان لانسحاب القوات الأجنبية في أغسطس/آب 2021.

تركيا شاركت ضمن قوات الناتو في أفغانستان إلا أنها لم تشارك في العمليات القتالية ضد طالبان (الفرنسية) علاقات طالبان مع تركيا

فتحت أنقرة قنوات اتصال مع حركة طالبان في وقت مبكر، وأسهمت بشكل فعّال في الجهود الدبلوماسية المتعلقة بأفغانستان.

إعلان

ووفقا لما صرّح به الكاتب والمحلل السياسي التركي البر تان، لموقع الجزيرة نت، فإن تركيا أبدت استعدادها لاستضافة محادثات السلام بين حركة طالبان والحكومة الأفغانية السابقة برئاسة أشرف غني مستغلة علاقاتها الجيدة مع جميع الأطراف الأفغانية.

وقبل أن تسيطر طالبان على أفغانستان، كانت تركيا قد أعلنت عن رغبتها في التعاون في توفير الأمن وإدارة مطار كابل، لكن الحركة صرحت في حينها أنها لن تسمح بوجود قوات أجنبية في أفغانستان.

ويرى مايكل كوغلمن، الباحث المتخصص في شؤون جنوب آسيا بمركز ويلسون، أن تركيا، رغم كونها جزءا من قوات الناتو في أفغانستان، نجحت في الحفاظ على علاقات مميزة مع الأطراف الأفغانية، هذه العلاقات مكنتها من التفاوض لتولي إدارة مطار كابل.

وبعد سيطرة طالبان على كابل في أغسطس/آب 2021، اتخذت تركيا نهجا براغماتيا في التعامل مع الحكومة الجديدة، حيث لم تعترف بها رسميا، لكنها أبقت على قنوات التواصل مفتوحة واستمرت في التعامل مع القيادات الجديدة في كابل.

وقد شهدت الفترة الأخيرة تقاربا واضحا، إذ تمت عدة لقاءات بين مسؤولين أتراك وقيادات طالبان، وتم التباحث في قضايا التعاون الاقتصادي والدبلوماسي وقام وزراء في حكومة تصريف الأعمال الأفغانية، مثل وزير الخارجية أمير خان متقي ووزير الأوقاف نور محمد ثاقب، بزيارة تركيا والتقوا مع مسؤولين أتراك.

وتستمر الوفود التركية من مختلف المجالات الأكاديمية والاقتصادية في زيارة أفغانستان بشكل دوري، حيث تلعب البلد الأوروبي دورا بارزا في تقديم المساعدات الإنسانية عبر الهيئات الإغاثية التابعة لها.

وغالبا ما تكون المنظمات التركية في طليعة الجهات المبادرة لتقديم الدعم خلال الأزمات، كما حدث في زلزال ولاية هرات عام 2023، وفيضانات ولاية بغلان عام 2024.

وتدير تركيا العديد من المشاريع الإغاثية والتنموية من خلال مؤسسات مثل وكالة التعاون والتنسيق التركية (تيكا) والهلال الأحمر التركي، مما يعزز حضورها الإنساني في البلاد.

إعلان

وبما أن طالبان سيطرت على بلد أنهكته الحروب وعانى من عدم الاستقرار لسنوات طويلة، تواجه الحكومة العديد من النواقص والتحديات في المجالات الاقتصادية والتعليمية والفنية والهيكلية والعسكرية والأمنية. ومن وجهة نظر بعض قيادات الحركة، تُعد تركيا من الدول القادرة على المساهمة في سد هذه الثغرات.

وتشمل المكاسب، التي تحققها طالبان من التعاون مع تركيا، تلبية الاحتياجات الاقتصادية، وسد النواقص الفنية، وتدريب الكوادر العسكرية والفنية، والمساهمة في إعادة إعمار أفغانستان، والحصول على اعتراف دولي بحكومتها.

ويرى المراقبون أن تركيا توظف خطابا دينيا معتدلا في علاقاتها مع طالبان، وتسعى لتعزيز نفوذها من خلال القواسم المشتركة في الهوية الإسلامية، خاصة أن غالبية السكان في كلا البلدين يتبعون المذهب الحنفي في الفقه وهناك طرق صوفية مشتركة لها أتباع في كل من أفغانستان وتركيا مثل الطريقة النقشبندية.

وفي خطوة قد تعكس الاعتراف الضمني بحكومة طالبان، سلمت تركيا أخيرا القنصلية الأفغانية في إسطنبول والسفارة الأفغانية في أنقرة لممثلي الحركة، مما يعكس تزايد مستوى التعاون الدبلوماسي بين البلدين.

ومن ناحية أخرى، تعد تركيا من الدول التي تستضيف عددا من الشخصيات المعارضة لحركة طالبان، سواء من القيادات أو النشطاء السياسيين الذين لجؤوا بعد سقوط الحكومة الأفغانية السابقة إلى تركيا مثل زعيم حزب الدعوة الإسلامية في أفغانستان عبد رب الرسول سياف، والمشير عبد الرشيد دوستم نائب رئيس الجمهورية السابق، ووزير الخارجية الأسبق صلاح الدين رباني نجل الرئيس الأفغاني السابق برهان الدين رباني.

وتتعامل أنقرة بحذر مع هذه القضية، حيث لا تريد توتير علاقتها مع حكومة تصريف الأعمال في كابل، ولكنها تبقي حبال التواصل ممدودة مع مختلف الشخصيات السياسية والفصائل الأفغانية.

عبد رب الرسول سياف أحد معارضي طالبان الذين تستضيفهم تركيا (الفرنسية) الحضور التركي في أفغانستان

تواصل الشركات التركية عملها في أفغانستان، لا سيما في مجالات البنية التحتية والصحة والتعليم. كما أن المؤسسات التعليمية التركية، مثل شبكة مدارس "معارف"، لا تزال تعمل في البلاد ولديها 46 مدرسة في مختلف مناطق أفغانستان، مما يعكس استمرار الدور التركي في القطاع التعليمي.

وتقدم تركيا منحا دراسية للطلاب الأفغان، فبحسب تصريحات للسفير الأفغاني السابق في أنقرة أمير محمد رامين للجزيرة نت، فإن هناك أكثر من 7 آلاف طالب وطالبة من أفغانستان يدرسون في مختلف الجامعات التركية.

ويقول بعض المحللين إن تركيا تمارس دبلوماسية عامة نشطة في أفغانستان من أجل زيادة شعبيتها داخليا.

إعلان

وفي هذا السياق، قال هارون ستاين، مدير الأبحاث في معهد السياسة الخارجية لصوت أميركا، "تحب أنقرة أن ترى نفسها كفاعل عالمي، ولذلك فإن مشاركة مؤسساتها ومنظماتها التعليمية في أفغانستان تعد مؤشرا سياسيا داخليا جيدا لإظهار أن لديها سياسة خارجية نشطة".

ومن المشاريع الكبيرة، التي نفذتها الشركات التركية في أفغانستان، إنجاز المرحلة الثانية من مشروع سد كاجاكي الكهرومائي في ولاية هلمند من قبل شركة "77 كونستركشن" التركية التي استثمرت في هذا المشروع ما يقارب 160 مليون دولار.

وحضر حفل افتتاح السد عدد من كبار المسؤولين في حركة طالبان وحكومة تصريف الأعمال، ومن بينهم عبد الغني برادر وعبد السلام حنفي، نائبا رئيس الوزراء، وأيضا السفير التركي في كابل جهاد إرجيناي الذي قال في كلمته أثناء الحفل: "على الرغم من أن سد كاجاكي يعد استثمارا مهما في العلاقات الاقتصادية بين بلادنا وأفغانستان، فإن علاقاتنا أكثر تنوعا وعمقا".

سد كاجاكي الكهرومائي في ولاية هلمند  (الفرنسية) المصالح المتبادلة بين تركيا وأفغانستان

في إطار سعيها لتوسيع نفوذها الإقليمي، تعمل تركيا على تعزيز حضورها في وسط آسيا وجنوبها، مستندة إلى الموقع الإستراتيجي لأفغانستان التي تربط بين المنطقتين. ويتيح التعاون مع حكومة طالبان لأنقرة فرصة لتعزيز دورها في التوازنات الإقليمية، خاصة وسط تنافسها مع إيران وروسيا.

إن الحضور التركي في أفغانستان، التي تضم مجموعات عرقية مثل الأوزبك والتركمان والتي لها امتداد عرقي وثقافي وتاريخي مع سكان دول آسيا الوسطى، من شأنه أن يسهل وجود ونفوذ تركيا في هذه البلدان، التي تشترك معها في الكثير من حيث الدين واللغة والتاريخ.

وفي هذا الصدد لا يمكن التغاضي عن المصالح الاقتصادية، لأن أفغانستان تمتلك ثروات طبيعية هائلة (مثل الليثيوم والمعادن النادرة)، لكنها تفتقر إلى القدرات التقنية لاستغلالها. وبفضل شركاتها في البناء والطاقة، ترى تركيا فرصا كبيرة للاستثمار والتجارة في أفغانستان ولديها اهتمام خاص بقطاع التعدين والبنية التحتية ومشاريع الطاقة والنقل.

إعلان

وتنصح تركيا حركة طالبان بتشكيل حكومة شاملة وضمان تعليم الفتيات تحت حكمها، كما تؤكد أنقرة مرارا على أهمية الاستقرار في أفغانستان لمنع تدفق المزيد من اللاجئين إلى تركيا.

وبحسب تقرير لقسم اللغة التركية في إذاعة "بي بي سي" وفق البيانات الصادرة عن إدارة الهجرة التركية، بلغ عدد اللاجئين الأفغان غير القانونيين الذين تم احتجازهم في تركيا 42 ألفا و674 شخصا حتى سبتمبر/أيلول 2024، وتأمل أنقرة في تقليل تدفق اللاجئين الأفغان عبر دعم استقرار أفغانستان، مما قد يتحقق بالتعاون مع طالبان في مشاريع إعادة الإعمار.

 

بالنظر إلى موقعها الجيوسياسي كعضو في الناتو، تسعى تركيا للعب دور الجسر بين الغرب وطالبان، مما يعزز مكانتها الدبلوماسية ويتيح لها توسيع نفوذها على الساحة الدولية.

وفي الوقت ذاته، تعمل أنقرة على ضمان استقرار أفغانستان لتفادي تحولها إلى بؤرة لعدم الاستقرار الإقليمي، إذ تولي أهمية كبيرة لاحتواء خطر الجماعات المتشددة التي قد تستغل الفراغ الأمني لتعزيز نفوذها.

وفي المقابل، تحتاج حكومة تصريف الأعمال بقيادة طالبان إلى استثمارات أجنبية لإنعاش اقتصاد أفغانستان المنهار، وتمثل تركيا شريكا محتملا بفضل خبرتها في البنية التحتية والتجارة.

كما تسعى طالبان للاعتراف بحكومتها وكسب الشرعية الدولية ويمكن لتركيا، كدولة مسلمة ذات وزن دبلوماسي، مساعدة طالبان في تحسين صورتها وتخفيف العزلة الدولية.

ويعتقد الأكاديمي الأفغاني محمد مصعب أن هناك مجموعة من العوامل التي تسهم في تعزيز حضور تركيا وتأثيرها في أفغانستان. من أبرزها: القواسم الدينية والثقافية المشتركة بين البلدين، إلى جانب النظرة الإيجابية التي يحملها الشعب الأفغاني تجاه تركيا. كما يلعب النفوذ الناعم التركي دورا مهما، مدعوما بعلاقات أنقرة الوطيدة مع الفاعلين المحليين والشخصيات المؤثرة.

إعلان

إضافة إلى ذلك، يشير مصعب إلى التعاون الوثيق بين تركيا وكل من قطر وباكستان، وهما من أبرز الأطراف المؤثرة على حركة طالبان، فضلا عن الدعم الأميركي والأوروبي لأنقرة.

وتبرز أيضا عوامل أخرى، مثل اعتراف طالبان بقدرات تركيا في المجالات الفنية والإدارية والاقتصادية، والطابع الإسلامي والسني لحكومة الرئيس رجب طيب أردوغان، وحاجة الحركة الماسة للحصول على اعتراف دولي. وجميع هذه المقومات تهيئ تركيا لتكون لاعبا مهما ومؤثرا في المشهد الأفغاني.

ويضيف مصعب أن طالبان "ترى في تركيا حليفا يمكنه الحد من نفوذ إيران في أفغانستان، خاصة مع وجود توترات مع طهران حول المياه والقضايا الحدودية". ويختم قائلا: "إن تعميق العلاقات بين البلدين تخدم مصالحهما، وينعكس إيجابا على المستويين الإقليمي والدولي".

مقالات مشابهة

  • ملتقى غرفة عجمان الرمضاني يجمع السفراء بالمسؤولين
  • بالفيديو.. شارع يجمع علم القوات اللبنانية وصورة قياديّ إيراني!
  • ارتفاع العجز التجاري في إستونيا
  • فى ذكراه.. قصة وفاة عادل خيري المأساوية
  • من العثمانيين إلى طالبان.. تاريخ طويل يجمع تركيا وأفغانستان
  • مستعمرون يضرمون النيران في كراج سيارات غرب رام الله
  • 600 مليار دولارٍ سنوياً أموال الزَّكاة على مستوى العالم 85% منها يجمع خلال شهر رمضان
  • الفن المقتول والرواية المبتورة
  • المسرح السياسي في الجزائر.. كيف واجه عبد القادر علولة التطرف بالفن؟
  • عرض مسرحية فرحة رمضان بساحة العرائس مجانًا احتفالًا بالشهر الكريم